تفسير المراغي - ج ٨

أحمد مصطفى المراغي

أَمْرُ رَبِّكَ؟ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

والخلاصة ـ إنهم لا ينتظرون إلا أحد أمور ثلاثة : مجىء الملائكة أو مجىء ربك بحسب ما اقترحوا بقولهم : «لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا» وقولهم : «أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً» وقولهم : أو مجىء بعض آيات ربك غير ما ذكر كما اقترحوا بقولهم : «أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً» ونحو ذلك من الآيات العظام التي علقوا بها إيمانهم.

وفى الآية إيماء إلى تماديهم فى تكذيب آيات الله ، وعدم اعتدادهم بها وأنه لا أمل فى إيمانهم البتة.

(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) أي يوم يأتى بعض آيات ربك الموجبة للإيمان الاضطراري لا ينفع نفسا لم تكن آمنت من قبل أن تؤمن حينئذ ، ولا نفسا لم تكن كسبت فى إيمانها خيرا وعملا صالحا أن تفعل ذلك بعد مجيئها ، لبطلان التكليف الذي يترتب عليه ثواب الأعمال ، إذ التكليف يستدعى الإرادة والاختيار بالتمكن من الإيمان والكفر وعمل الخير والشر ، وبذا يكون الثواب والعقاب.

وبعض هذه الآيات قد يطلع عليه الأفراد عند الغرغرة قبل خروج الروح ، وبعضها لا يطلعون عليه إلا قبيل يوم القيامة حين مجىء أشراط الساعة.

وقد وردت أحاديث منها الصحيح ومنها الضعيف الذي لا يصلح وحده أن يكون حجة ، أن المراد ببعض الآيات هو طلوع الشمس من مغربها قبيل تلك القارعة التي ترج الأرض رجا وتبس الجبال بسا ، ويبطل هذا النظام الشمسى بحدوث حادث تتحول فيه حركة الأرض اليومية ، فيكون الشرق غربا والغرب شرقا. أخرج البخاري فى تاريخه وأبو الشيخ فى العظمة وابن عساكر عن كعب الأحبار قال : «إذ أراد الله

٨١

أن تطلع الشمس من مغربها أدارها بالقطب (يريد المحور) فجعل مشرقها مغربها ومغربها مشرقها».

وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون ، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا».

وأخرج أحمد والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض».

(قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أي قل لهم : انتظروا أيها المعاندون وما تتوقعون إتيانه ووقوعه بنا من اختفاء أمر الإسلام. إنا منتظرون وعد ربنا لنا ووعيده لكم ، ونحو الآية قوله : «فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ، قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ».

وفى هذا من التهديد والوعيد ما لا يخفى ، وهو كقوله : «وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ».

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩))

المعنى الجملي

بعد أن وصّى سبحانه هذه الأمة على لسان رسوله باتباع صراطه المستقيم ، ونهى عن اتباع غيره من السبل ، ثم ذكر شريعة التوراة المشابهة لشريعة القرآن ووصاياه ، ثم تلا ذلك تذكيره لهم ولسائر المخاطبين بالقرآن بما ينتظر آخر الزمان من الحوادث الكونية للأفراد والأمم.

٨٢

قفى على ذلك بتذكير هذه الأمة بما هى عرضة له بحسب سنن الاجتماع من إضاعة الدين بعد الاهتداء بالتفرق فيه بالمذاهب والآراء والبدع التي تجعلها أحزابا وشيعا تتعصب كل منها لمذهب أو إمام ، فيضيع الحق وتنفصم عرا الوحدة وتصبح بعد أخوّة الإيمان أمما متعادية كما حدث لمن قبلهم من الأمم.

وقد ذهب بعض مفسرى السلف إلى أن الآية نزلت فى أهل الكتاب إذ فرقوا دين إبراهيم وموسى وعيسى ، فجعلوه أديانا مختلفة ، وكل منها مذاهب تتعصب لها شيع مختلفة ، يتعادون ويتقاتلون فيه ، وذهب بعض آخر إلى أنها نزلت فى أهل البدع والفرق الإسلامية والمذاهب التي استحدثت فمزقت وحدة الأمة.

ولا مانع من الجمع بين الرأيين ، فإنه تعالى ذكر أهل الكتاب وشرعهم وأمر من استجاب لدعوة الإسلام بالوحدة وعدم التفرق كما تفرق من قبلهم ، كما جاء فى سورة آل عمران : «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ثم بين أن رسوله برىء من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كما فعل أهل الكتاب ، فهو يحذر من صنيعهم ، وينهى عن سلوك طريقهم ، فمن اتبع سنتهم فى هذا التفريق فالرسول برىء منه ، كما هو برىء من أولئك المفرقين من سالفى الأمم.

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : اختلفت اليهود والنصارى قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما بعث محمد أنزل عليه (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) الآية.

وأخرج رواة التفسير بالمأثور عن أبي هريرة فى قوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) الآية. قال هم فى هذه الأمة. وأخرج الترمذي وابن أبي حاتم والبيهقي وغيرهم عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : «يا عائش إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليست لهم توبة ، يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة إلا أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليس لهم توبة ،

٨٣

أنا منهم برىء وهم منى برءاء» وليس المراد بنفي التوبة عنهم أنهم لا تقبل لهم توبة إذا ظهر لهم خطؤهم وعرفوا بدعتهم فرجعوا وتابوا إلى ربهم ، بل المراد أنهم لا يتوبون لزعمهم أنهم على الصواب ، وسواهم على الباطل.

والخلاصة ـ إن المراد بالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أهل الكتاب ، والمقصود من براءة الرسول منهم تحذير أمته من مثل فعلهم ، ليعلم أن من فعل فعلهم وحذا حذوهم من هذه الأمة فالرسول منه برىء ، إذ ما ورد فى الكتاب والسنة من صفات الكفار وأفعالهم ليس خاصا بهم ، بل إذا اتصف المسلمون بمثل ما اتصفوا به كان حكمهم كحكمهم ، لأن الله لا يبيح للمسلمين البدع والضلالات والتفرق فى الدين لأنهم مسلمون ، فإن ذلك يكون هدما لأسس الدين ، وخروجا من سنن المهتدين.

ولدى التحقيق والبحث نجد أن أسباب التفرق فى هذه الأمة فى دينها وتبعه ضعفها فى دنياها ترجع إلى أمور :

(١) التنازع على الملك ، وقد حدث هذا من بدء الإسلام واستمر حتى وقتنا هذا.

(٢) العصبية الجنسية والنّعرة القومية فى كل شعب وقبيل ، إذ شمخ كل شعب بأنفه وأبي أن يخضع لغيره اعتقادا منه أنه أرقى الشعوب أرومة ، وأرفعها محتدا ، فأنى له أن ينقاد لسواه؟

(٣) عصبية المذاهب والآراء فى أصول الدين وفروعه ، فأرباب المذاهب من الشيعة ذمّوا بقية المذاهب الأخرى كالحنفية والشافعية ، ورجال الحديث تكلموا فى أهل القياس.

(٤) القول فى الدين بالرأى ، فإن كثيرا ممن يركن إليهم فى الفتيا واستنباط الأحكام الدينية ضعيف عن حمل السنة والتفقه فى فهم الكتاب ، فإذا عرضت له حادثه ولم يفطن إلى مأخذها من الكتاب أو السنة أفتى فيها بالرأى ، وقد يكون

٨٤

مصادما للدليل النقلى أو لفتاوى الصحابة والتابعين ـ إلى أن آراء الناس تختلف باختلاف الزمان والمكان وشئون المعيشة وأحوال الاجتماع ، فأنى تتفق الألوف الكثيرة من الشعوب المختلفة فى الأزمنة المتعاقبة؟

(٥) دسائس أعداء هذا الدين وكيدهم له ووضع كثير من الأحاديث التي نفقت لدى بعض رجال الدين واتخذوها مرجعا فى استنباط بعض الأحكام ، والدين منها براء.

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي إن الذين فرقوا دينهم فأقرّوا ببعض وكفروا ببعض كما فعلت اليهود والنصارى ، إذ تفرقوا فرقا وكفّر بعضهم بعضا ، وأخذوا بعضا وتركوا بعضا كما أخبر بذلك الكتاب الكريم بقوله : «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ».

وقوله : لست منهم فى شىء ، أي إنك بعيد من أقوالهم ومذاهبهم ، والله يتولى جزاءهم ، كما قال : (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي إنه تعالى هو الذي يجازيهم على مفارقة دينهم والتفريق له بما اقتضت به سنة الله من ضعف المتفرقين وفشل المتنازعين ، وتسليط الأقوياء عليهم ، وإذاقة بعضهم بأس بعض كما بين ذلك سبحانه بقوله : «فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» أي إنه بعد أن يعذبهم بأيديهم وأيدى أعدائهم فى الدنيا يبعثهم فى الآخرة ، ثم ينبئهم عند الحساب بما كانوا يفعلون فى الدنيا من الاختلاف والتفرق اتباعا للأهواء ثم يجازيهم على ذلك أشد الجزاء فى النار وبئس القرار.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠))

٨٥

المعنى الجملي

بعد أن بين فى السورة أصول الإيمان ، وأقام عليها البراهين ، وفنّد ما يورده الكفار من الشبهات ، ثم ذكر فى الوصايا العشر أصول الفضائل والآداب التي يأمر بها الإسلام وما يقابلها من الرذائل والفواحش التي ينهى عنها.

بين هنا الجزاء العام فى الآخرة على الحسنات وهى الإيمان والأعمال الصالحة ، وعلى السيئات وهى الكفر والفواحش ما ظهر منها وما بطن.

الإيضاح

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) أي من جاء ربه يوم القيامة بالخصلة الحسنة من خصال الطاعات التي فعلها وقلبه مطمئن بالإيمان فله عنده عشر حسنات أمثالها من عطائه غير المحدود.

وهذه العشر لا يدخل فيها ما وعد به من المضاعفة لمن يشاء على بعض الأعمال كالنفقة فى سبيله ، إذ قد وعد بالمضاعفة عليها دون قيد فى قوله : «إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ» ووعد بمضاعفة كثيرة فى قوله : «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً» ووعد بالمضاعفة سبعمائة ضعف فى قوله : «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ، وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ».

وفى هذا إشارة إلى تفاوت المنفقين وغيرهم من المحسنين فى الصفات النفسية كالإخلاص فى النية والاحتساب عند الله والإخفاء سترا على المعطى وتباعدا من الشهرة ، والإبداء لحسن القدوة ، وتحرى المنافع والمصالح ، وما يقابل ذلك من الصفات الرذيلة كالرياء وحب الشهرة الباطلة والمنّ والأذى.

٨٦

والخلاصة ـ إن العشرة تعطى لكل من أتى بالحسنة ، والمضاعفة فوقها تختلف بحسب مشيئته تعالى بما يعلم من أحوال المحسنين ، فمن بذل الدرهم ونفسه كئيبة على فقده ، لا تكون حاله كمن يبذله طيّبة به نفسه ، مسرورة بتوفيق الله على عمل الخير ونيل ثواب الآخرة.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) أي ومن جاء بالخصلة السيئة وعليها طابع الكفر ، تكنفها الفواحش والمنكرات ، فلا يجزى إلا عقوبة سيئة مثلها بحسب سننه تعالى فى تأثير الأعمال السيئة فى إفساد النفس وتدسيتها.

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الظلم النقص من الشيء كما جاء فى قوله تعالى : «كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً» أي إن كلا الفريقين فاعلى الحسنات والسيئات لا يظلم يوم الجزاء ؛ لا من الله ؛ لأنه منزّه عن الظلم عقلا ونقلا فقد روى مسلم من حديث أبى ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال : «يا عبادى ، إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا» الحديث ، ولا من غيره إذ لا سلطان لأحد من خلقه ولا كسب فى ذلك اليوم يمكنه من الظلم كما يفعل الأقوياء الأشرار فى الدنيا بالضعفاء ، وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه قال : «إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات ، فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة ، فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة ، فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة».

والمراد من كتابة الله لها أمره الملائكة بكتابتها كما ورد فى حديث أبي هريرة مرفوعا قال : «يقول الله : إذا أراد عبدى أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها ، فإن عملها فاكتبوها عليه بمثلها ، وإن تركها من أجلى فاكتبوها له حسنة ، وإن أراد

٨٧

أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف» وفى هذا الحديث بيان للسبب فى كتابة السيئة حسنة ، وأن ذلك إنما كان لمخالفة النفس بكفها عن عمل السيئة من أجل ابتغاء رضوان الله واتقاء سخطه وعذابه.

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))

تفسير المفردات

قيما ، أي يقوم به أمر الناس فى معاشهم ومعادهم ، حنيفا أي مائلا عن الأديان الباطلة ، والنسك : العبادة ، ومحياى ومماتى لله : أي وما آتيه فى حياتى وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح كله لله رب العالمين ، الوزر لغة الحمل الثقيل ، ووزره يزره حمله يحمله ، والخلائف واحدهم خليفة ، وهو من يخلف من كان قبله فى مكان أو عمل أو ملك ، والابتلاء الاختبار والامتحان.

٨٨

المعنى الجملي

لما كانت هذه السورة أجمع السور لأصول الدين مع إقامة الحجج عليها ودفع الشبه عنها ، وإبطال عقائد أهل الشرك وخرافاتهم ـ جاءت هذه الخاتمة آمرة له صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم قولا جامعا لجملة ما فصّل فيها ـ وهو أن الدين القيم والصراط المستقيم هو ملة إبراهيم دون ما يدعيه المشركون وأهل الكتاب المحرّفون ، وأنه صلى الله عليه وسلم مستمسك به معتصم بحبله يدعو إليه قولا وعملا على أكمل الوجوه ، وهو أول المخلصين وأخشع الخاشعين ، وهو الذي أكمل هذا الدين بعد انحراف جميع الأمم عن صراطه.

ثم بين أن الجزاء عند الله على الأعمال ، وأن لا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن المرجع إليه تعالى وحده ، وأن له سننا فى استخلاف الأمم واختبارها بالنعم والنقم ، وأن الله وحده ، هو الذي يتولى عقاب المسيئين ورحمة المحسنين ، فلا ينبغى الاتكال على الوسطاء ولا الشفعاء بين الله والناس فى غفران الذنوب وقضاء الحاجات كما هى عقيدة أهل الشرك أجمعين.

الإيضاح

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي قل أيها الرسول لقومك ولسائر البشر : إن ربى أرشدنى بما أوحاه إلىّ بفضله ، إلى صراط مستقيم لا عوج فيه ولا اشتباه ، يهدى سالكه إلى سعادة الدنيا والآخرة ، وهو الذي يدعوكم إلى طلبه منه حين تناجونه فتقولون : «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ».

(دِيناً قِيَماً) أي إن هذا الصراط المستقيم هو الدين الذي به يقوم أمر الناس فى معاشهم ومعادهم ، وبه يصلحون.

(مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أي الزموا ملة إبراهيم حال كونه حنيفا مائلا عن جميع ما سواه من الشرك والباطل.

٨٩

(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي إنه منزه عن الشرك وما عليه المبطلون ، وفيه تكذيب لأهل مكة القائلين إنهم على ملة إبراهيم وهم يعتقدون أن الملائكة بنات الله ، ولليهود الذين يقولون : عزير ابن الله ، وللنصارى الذين يقولون : عيسى ابن الله ، وهذا كقوله : «وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً».

هذا الدين هو دين الإخلاص لله وحده ، وهو الدين الذي بعث به جميع رسله وقرره فى جميع كتبه ، وجعله ملة إبراهيم لأنه هو النبي الذي أجمع على الاعتراف بفضله وصحة دينه مشركو العرب وأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وكانت قريش ومن لفّ لفّها من العرب يسمون أنفسهم الحنفاء مدّعين أنهم على ملة إبراهيم ، وهكذا فعل أهل الكتاب حين ادّعوا اتباعه واتباع موسى وعيسى عليهما السلام كما قال : «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) المراد بالصلاة ما يشمل المفروض منها والمستحب ، والنسك ، العبادة ، والناسك : العابد ، وكثر استعماله فى عبادة الحج ، والمراد من كون محياه ومماته لله أنه قد وجه وجهه وحصر نيته وعزمه فى حبس حياته لطاعته ومرضاته وبذلها فى سبيله ، فيموت على ذلك كما يعيش.

والآية جامعة لكل الأعمال الصالحة التي هى غرض المؤمن الموحد من حياته وذخيرته لمماته ، ويكون فيها الإخلاص لله رب العالمين.

فينبغى للمؤمن أن يوطن نفسه على أن تكون حياته لله ومماته لله ، فيتحرى الخير والصلاح والإصلاح فى كل عمل من أعماله ، ويطلب الكمال فى ذلك لنفسه رجاء أن يموت ميتة ترضى ربه ، ولا يحرص على الحياة لذاتها ، فلا يرهب الموت : فيمتنع عن الجهاد فى سبيل الله ، كما أن عليه أن يقيم ميزان العدل فيأخذ على أيدى أهل الجور ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

٩٠

وأفرد الصلاة بالذكر مع دخولها فى النسك ، لأن روحها وهو الدعاء وتعظيم المعبود وتوجه القلب إليه والخوف منه ، مما يقع فيه الشرك ممن يغلون فى تعظيم الصالحين وما يذكر بهم كقبورهم وصورهم وتماثيلهم.

والخلاصة ـ إنه لا ينبغى أن تكون العبادة إلا لله رب العباد وخالقهم ، فمن توجه إليه وإلى غيره من عباده المكرمين أو إلى غيرهم مما يستعظم من خلقه كان مشركا ، فالله لا يقبل من العبادة إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم.

(لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ ، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أي لا شريك له فى ربوبيته فيستحق أن يشركه فى العبادة ويتوجه إليه معه للتأثير فى عبادته ، وبذلك أمرنى ربى ، وأنا أول المسلمين المنقادين إلى امتثال ما أمره به ، وترك ما نهى عنه.

وفى هذا بيان إجمالي لتوحيد الألوهية بالعمل بعد بيان أصل التوحيد فى العقيدة ، ثم انتقل إلى برهانه الأعلى ، وهو توحيد الربوبية بما أمره به فقال :

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) أي أغير الله الذي خلق الخلق ورباهم ـ أطلب ربا آخر أشركه فى عبادتى له بدعائه والتوجه إليه ، لينفعنى أو يمنع الضر عنى أو ليقربنى إليه زلفى ، وهو تعالى رب كل شىء مما عبد ومما لم يعبد ـ فهو الذي خلق الملائكة والمسيح والشمس والقمر والكواكب والأصنام كما قال : «وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ».

وإذا كان الله هو الخالق والمدبر فكيف أسفّه نفسى وأكفر بربي بجعل المخلوق المربوب مثلى ربّا لى ، وجميع المشركين يعترفون بأن معبوداتهم مخلوقة لله رب العالمين وخالق الخلق أجمعين.

(وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي ولا تكسب كل نفس إثما إلا كان عليها جزاؤه دون غيرها ، ولا تحمل نفس فوق حملها حمل نفس أخرى ، بل تحمل كل نفس حملها فحسب كما قال : «لَها ما كَسَبَتْ ، وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» أي دون ما كسب أو اكتسب غيرها.

٩١

والخلاصة ـ إن الدين أرشدنا أن نجرى على ما أودعته الفطرة فى النفوس من أن سعادة الناس وشقاءهم فى الدنيا بأعمالهم ، والعمل يؤثر فى النفس التأثير الذي يزكّيها إن كان صالحا ، أو التأثير الذي يدسّيها ويفسدها إن كان سيئا ، والجزاء مبنى على هذا التأثير ، فلا ينتفع أحد ولا يتضرر بعمل غيره.

ومن كان قدوة صالحة فى عمل أو معلما له فإنه ينتفع بعمل من أرشدهم بقوله أو فعله زيادة على انتفاعه بأصل ذلك القول أو الفعل ، ومن كان قدوة سيئة فى عمل أو دالّا عليه ومغريا به ، فإن عليه مثل إثم من فعله ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله : «من سن فى الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شىء ، ومن سن فى الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شىء» رواه مسلم.

وهذه قاعدة من أصول كل دين بعث الله به رسله كما جاء فى سورة النجم : «أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى».

وهذه الوصية من أعظم دعائم الإصلاح فى المجتمع البشرى وهادمة لأسس الوثنية ، وهادية للناس جميعا إلى ما تتوقف عليه سعادتهم فى الدنيا والآخرة ، فإن العمل وحده هو وسيلة الفوز وطريق النجاة ، لا كما يزعم الوثنيون من طلب رفع الضر وجلب النفع بقوة من وراء الغيب ، وهى وساطة بعض المخلوقات الممتازة ببعض الخواص والمزايا بين الناس وربهم ، ليعطيهم ما يطلبون فى الدنيا بلا كسب ولا سعى من طريق الأسباب التي جرت بها سنته فى خلقه ، وليحملوا عنهم أوزارهم حتى لا يعاقبوا بها ، أو ليحملوا الخالق على رفعها عنهم وترك عقابهم عليها ، وعلى إعطائهم نعيم الآخرة وإنقاذهم من عذابها.

ومما ينتفع به المرء من عمل غيره ـ لأنه فى الحقيقة كأنه عمله إذ كان سببا فيه ـ دعاء أولاده ، وحجهم وتصدقهم عنه ، وقضاؤهم لصومه كما ورد فى الحديث : «إذا مات

٩٢

الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعوله» رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة.

ذاك أن الله قد ألحق ذرية المؤمنين بهم بنص الكتاب ، وصح فى السنة أن ولد الرجل من كسبه.

ومن هذا تعلم أن ما جرت به العادة من قراءة القرآن والأذكار وإهداء ثوابها إلى الأموات واستئجار القراء وحبس الأوقاف على ذلك ـ بدعة غير مشروعة ، وكذا إسقاط الصلاة ، إذ لو كان لذلك أصل فى الدين لما جهله السلف ، ولو علموه لما أهملوا العمل به.

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي ثم إن رجوعكم فى الحياة الآخرة إلى ربكم دون غيره مما عبدتم من دونه ، فينبئكم بما كنتم تختلفون فيه من أمر أديانكم المختلفة ، ويتولى جزاءكم عليه وحده بحسب علمه وإرادته القديمين ، ويضل عنكم ما كنتم تزعمون من دونه.

ونحو الآية قوله : «إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي إن ربكم الذي هو رب كل شىء هو الذي جعلكم خلائف هذه الأرض بعد أمم قد سبقت ، وفى سيرها عبر وعظات لمن ادكر وتدبر ، وكذلك هو قد رفع بعضكم فوق بعض درجات فى الغنى والفقر ، والقوة والضعف ، والعلم والجهل ، ليختبركم فيما أعطاكم أي ليعاملكم معاملة المختبر لكم فى ذلك ، ويبنى الجزاء على العمل ، إذ قد جرت سنته فى أن سعادة الناس أفرادا وجماعات فى الدنيا والآخرة أو شقاءهم فيهما تابعة لأعمالهم وتصرفاتهم.

٩٣

وجاء فى معنى الآية قوله : «وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» وقوله : «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» وقوله : «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ».

(إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه تعالى سريع العقاب لمن كفر به أو كفر بنبيه وخالف شرعه وتنكّب عن سنته ، وهذا العقاب السريع شامل لما يكون فى الدنيا من الضرر فى النفس أو العقل أو العرض أو المال أو غير ذلك من الشئون الاجتماعية ، وهذا مطرد فى الدنيا فى ذنوب الأمم ، وأكثرىّ فى ذنوب الأفراد ، ومطرد فى الآخرة بتدسية النفس وتدنيسها.

وهو سبحانه على سرعة عقابه وشديد عذابه للمشركين ، غفور للتوابين رحيم بالمؤمنين المحسنين ، إذ سبقت رحمته غضبه ، ووسعت كل شىء ، ومن ثم جعل جزاء الحسنة عشر أمثالها ، وقد يضاعفها بعد ذلك أضعافا كثيرة لمن يشاء ، كما جعل جزاء السيئة سيئة مثلها ، وقد يغفرها لمن تاب منها كما قال : «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ».

نسأله تعالى أن يغفر لنا خطيئاتنا ويستر زلاتنا بمنه وكرمه ، إنه نعم المولى ونعم النصير.

خلاصة ما اشتملت عليه السورة من العقائد والأحكام

(١) العقائد وأدلتها بالأسلوب الجامع بين الإقناع والتأثير كبيان صفات الله بذكر أفعاله وسننه فى الخلق وآياته فى الأنفس والآفاق ، وتأثير العقائد فى الأعمال ، مع إيراد الحقائق بطريق المناظرة والجدل ، أو ورودها جوابا بعد سؤال وفى أثناء ذلك يرد شبهات المشركين ويهدم هياكل الشرك ويقوّض أركانه.

(٢) الرسالة والوحى وتفنيد شبهات المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم وإلزامهم الحجة بآية الله الكبرى ، وهى القرآن المشتمل على الأدلة العقلية والبراهين

٩٤

العلمية ، وقد كان كثير من الكفار مشركين وغير مشركين يكفرون بالرسل ويستبعدون إنزال الوحى عليهم.

(٣) البعث والجزاء والوعد والوعيد بذكر ما يقع يوم القيامة من العذاب للمجرمين ، والبشارة للمتقين بالفوز والنعيم ، مع ذكر عالم الغيب من الملائكة والجن والشياطين والجنة والنار ، وقد كانت العرب كغيرها من الأمم تؤمن بالملائكة وبوجود الجن ويعتقدون بأنهم يظهرون لهم أحيانا بصورة الغيلان ويسمعون أصواتهم وعزفهم ، وأنهم يلقون الشعر فى هواجس الشعراء.

(٤) أصول الدين ووصاياه الجامعة فى الفضائل والآداب والنهى عن الرذائل ، وإذا نحن فصلنا القول فيها نرجعها إلى الأصول الآتية :

(ا) إن دين الله واحد ، فتفريقه بالمذاهب والأهواء وجعل أهله فرقا وشيعا خروج عن هدى الرسول الذي جاء به وموجب لبراءته من فاعليه.

(ب) إن سعادة الناس وشقاوتهم منوطتان بأعمالهم النفسية والبدنية ، وأن الجزاء على الأعمال يكون بحسب تأثيرها فى الأنفس ، وأن الجزاء على السيئة بمثلها ، وعلى الحسنة بعشر أمثالها فضلا من الله ونعمة ، وجزاء السيئات على الإنسان وحده ، وجزاء الحسنات له وحده فلا يحمل أحد وزر غيره.

(ح) إن الناس عاملون بالإرادة والاختيار ، ولكنهم خاضعون للسنن والأقدار ، فلا جبر ولا اضطرار ، ولا تعارض بين عملهم باختيارهم ومشيئة الخالق سبحانه ، إذ المراد من خلقه الأشياء بقدر وتقدير أنه تعالى خلقها على وجه جعل فيه المسببات على قدر الأسباب بناء على علم وحكمة ، فهو لم يخلق شيئا جزافا بغير تقدير ولا نظام يجرى عليه.

(د) إن لله سننا فى حياة الأمم وموتها ، وسعادتها وشقائها ، وإهلاكها بمعاندة الرسل والظلم والفساد فى الأرض ، وتربيتها بالنعم تارة والنقم أخرى.

(ه) إن التحليل والتحريم وسائر الشعائر التعبدية من حق الله تعالى ، فمن وضع حكما لا يستند إلى شرع الله فقد افترى إثما عظيما.

٩٥

(و) الأمر بالسير فى الأرض ، وقد تكرر ذلك فى الكتاب الكريم للنظر فى أحوال الأمم وعواقب الأقوام التي كذبت الرسل.

(ز) الترغيب فى معرفة ما فى الكون والإرشاد إلى معرفة سنن الله فيه ، وآياته الكثيرة الدالة على علمه وقدرته.

(ح) إن التوبة الصحيحة مع ما يلزمها من العمل الصالح موجبة لمغفرة الذنوب.

(ط) ابتلاء الناس بعضهم ببعض ، ليتنافسوا فى العلوم والأعمال النافعة ، وإعلاء كلمة الحق والدين ورفعة شأنه وإعزاز أهله.

٩٦

سورة الأعراف

آيها خمس ومائتان ، وهى مكية ، وقد روى أنها نزلت قبل سورة الأنعام ، وأنها نزلت مثلها دفعة واحدة ، لكن سورة الأنعام أجمع لما اشتركت فيه السورتان ، وهو : أصول العقائد وكليات الدين التي قدمنا القول فيها ، وهى كالشرح والبيان لما أوجز فى الأنعام ، ولا سيما عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وقصص الرسل قبله وأحوال أقوامهم ، وقد اشتملت سورة الأنعام على بيان الخلق كما قال : «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ» وبيان القرون كما قال : «كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ» وعلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم ، وجاءت هذه مفصلة لذلك ، فبسطت فيها قصة آدم ، وفصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣))

تفسير المفردات

(المص) هذه حروف تكتب بصورة كلمة من ذوات الأربعة الأحرف ، لكنا نقرؤها بأسماء هذه الأحرف فنقول : ألف. لام. ميم. صاد.

وحكمة افتتاح هذه السورة وأمثالها بأسماء الحروف التي ليس لها معنى مفهوم غير مسماها الذي تدل عليه ـ تنبيه السامع إلى ما سيلقى إليه بعد هذا الصوت من الكلام حتى لا يفوته منه شىء فكأنه أداة استفتاح بمنزلة ألا وها التنبيه.

٩٧

وبالاستقراء نرى أن السور التي بدئت بها وبذكر الكتاب ، هى التي نزلت بمكة لدعوة المشركين إلى الإسلام وإثبات النبوة والوحى ، وما نزل منها بالمدينة كالزهراوين البقرة وآل عمران ، فالدعوة فيه موجهة إلى أهل الكتاب ، وهكذا الحال فى السور : مريم والعنكبوت والروم وص ون ، فإن ما فيها يتعلق بإثبات النبوة والكتاب كالفتنة فى الدين بإيذاء الضعفاء لإرجاعهم عن دينهم بالقوة القاهرة ، والإنباء بقصص فارس والروم ونصر الله للمؤمنين على المشركين ، وكان هذا من أظهر المعجزات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

ويرى بعض العلماء أنها أسماء للسور ، والأسماء المرتجلة لا تعلّل ، كما يرى آخرون أن الحكمة فى ذكرها بيان إعجاز القرآن بالإشارة إلى أنه مركب من هذه الأحرف المفردة التي يتألف منها الكلام العربي ومع ذلك لا يستطيعون أن يأتوا بمثله ، ليؤديهم النظر إلى أنه ليس من كلام البشر ، بل من كلام خالق القوى والقدر ؛ والحرج : الضيق من عاقبة المخالفة ، والذكرى : التذكر النافع والموعظة المؤثرة ، وولاية الله لعباده : تولى أمورهم فبما لا يصل إليه كسبهم من هدايتهم ونصرهم على أعدائهم ، وشرعه لهم عبادته وبيان الحرام والحلال ، و (ما) فى قوله قليلا ما ـ حرف يؤكد معنى القلة ، وتذكرون : أصله تتذكرون حذفت منه إحدى التاءين.

الإيضاح

(كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي هذا القرآن كتاب أنزل إليك من عند ربك ، ووصفه بالإنزال من عنده تعالى ـ دال على عظيم قدره وقدر من أنزل إليه.

(فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي لا يضق صدرك من الإنذار به وإبلاغه من أمرت بإبلاغه إليهم ، واصبر لأمرى فيما حمّلتك من عبء النبوة كما صبر أولو العزم من الرسل فإن الله معك.

وقد كلف صلى الله عليه وسلم هداية الثقلين وكان من المتوقع أن يلقى أشد الإيذاء

٩٨

والمقاومة والطعن والإعراض ، وتلك أمور توجب ضيق الصدر كما قال فى سورة الحجر : «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ» وقال فى سورة النحل : «وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ، وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» وقال فى سورة هود : «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ، إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ».

ويراد بالنهى عن مثل هذا الأمر الطبيعي ـ الاجتهاد فى مقاومته والتسلي عنه بوعد الله ، والتأسى بمن سبقه من الرسل أولى العزم صلوات الله عليهم أجمعين.

(لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) والمراد بالمؤمنين هنا من كتب الله لهم الإيمان ، سواء أكانوا مؤمنين حين نزول هذه السورة أم لا.

والخلاصة ـ إنه أنزل إليك الكتاب لتنذر به قومك وسائر الناس ، وتذكر به أهل الإيمان ذكرى نافعة مؤثرة.

(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قل لهم أيها الرسول : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وخالقكم ومدبر أموركم ، فهو وحده الذي له الحق فى شرع الدين لكم وفرض العبادات عليكم ، وتحليل ما ينفعكم وتحريم ما يضركم ، إذ هو العليم بما فيه الفائدة أو الضر لكم.

(وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي ولا تتخذوا من أنفسكم ولا من الشياطين الذين يوسوسون لكم ـ أولياء تولونهم أموركم وتطيعونهم فيما يرومون منكم من ضلال التقاليد والابتداع فى الدين ، فيضعوا لكم أحكام الحرام والحلال زاعمين أنهم أعلم منكم ، فيجب عليكم تقليدهم ، ولا أولياء ينجونكم من الجزاء على ذنوبكم وجلب النفع لكم أو رفع الضر عنكم ، زاعمين أنهم يقربونكم إلى الله زلفى ، أو يشفعون لكم عنده فى الآخرة.

٩٩

والخلاصة ـ إن الله وحده هو الذي يتولى أمر العباد بالتدبير ، والخلق والتشريع ، وله وحده الخلق والأمر ، وبيده النفع والضر.

(قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي إنكم تتذكرون قليلا لا كثيرا ما يجب أن يعلم للرب سبحانه ، وما يحظر أن يشرك معه فيه غيره ، وقد يكون المراد قليلا ما تتعظون بما توعظون به ، فترجعون عن تقاليدكم وأهوائكم إلى ما أنزل إليكم من ربكم.

وفى هذا إيماء إلى النهى عن طاعة الخلق فى أمر الدين غير ما أنزل الله من وحيه كما فعل أهل الكتاب فى طاعة أحبارهم ورهبانهم فيما أحلوا لهم وزادوا على الوحى من العبادات ، وما حرموا عليهم من المباحات كما جاء فى قوله : «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ» فكل من أطاع أحدا فى حكم شرعى لم ينزله الله فقد اتخذه ربا.

واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من بيان الدين ـ داخل فى عموم ما أنزل إلينا على رسوله ، لأنه تعالى أمرنا باتباعه وطاعته وأخبرنا أنه مبين لما نزل إليه كما قال : «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» وقد صح فى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال : «إنما أنا بشر ، إذا أمرتكم بشىء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشىء من رأيى فإنما أنا بشر» رواه مسلم عن رافع بن خديج فى مسألة تأبير النخل (تلقيح النخلة بطلع الذكر).

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥))

تفسير المفردات

(كَمْ) اسم يفيد التكثير ، والقرية : تطلق على الموضع الذي يجتمع فيه الناس وعلى الناس معا ، وتطلق على كل منهما كما جاء فى قوله : «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ» أي أهل

١٠٠