تفسير المراغي - ج ٨

أحمد مصطفى المراغي

وقد أنكر الله على من نسب إلى دينه تحليل شىء أو تحريمه من عنده بلا برهان فقال : «وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ».

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤))

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه جماع المحرمات على بنى آدم لما فيها من المفاسد والمضارّ للأفراد والمجتمع إثر بيان المباحات من الزينة والطيبات من الرزق بشرط عدم الإسراف فيها ـ ذكر هنا حال الأمم فى قبول هذه الأصول أوردها ، والسير على منهاجها بعد قبولها أو الزيغ عنها.

الإيضاح

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أي قل أيها الرسول لقومك ولغيرهم : لكل أمة أمد مضروب لحياتها مقدّر لها بحسب السنن التي وضعها الخالق لوجودها.

وهذا الأجل على ضربين : أجل لوجودها فى الحياة الدنيا ، وأجل لعزها وسعادتها بين الأمم.

(فالأول) أجل لأمة بعث فيها رسول لهدايتها فردوا دعوته كبرا وعنادا واقترحوا عليه الآيات فأعطوها مع إنذارهم بالهلاك إذا لم يؤمنوا فاستمروا فى تكذيبهم فأخذهم ربهم أخذ عزيز مقتدر ، كما حدث لقوم نوح وعاد وثمود وفرعون وإخوان لوط وغيرهم.

وهذا النوع من الهلاك كان خاصا بأقوام الرسل أولى الدعوة الخاصة بأقوامهم ،

١٤١

وقد انتهى ذلك ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه الله بقوله : «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ».

وقد مضت سنة الله فى الأمم أن الذين يقترحون الآيات لا يؤمنون بها ، ومن ثم لم يعط الله تعالى رسوله شيئا مما كانوا يقترحونه عليه.

(والثاني) أجل مقدر لحياة الأمم سعيدة عزيزة باستقلالها ومكانتها بين الأمم وهذا منوط بسنن الله فى الاجتماع البشرى وعوامل الرقى والعمران.

وأسباب انتهاء هذا الاجتماع لا تعدو مخالفة ما أرشدت إليه الآيات السالفة كإسراف فى الزينة أو إسراف فى التمتع بالطيبات ، أو باقتراف الفواحش والآثام والبغي على الناس ، أو بالتوغل فى خرافات الشرك والوثنية ، أو بالكذب على الله بإرهاق الأمة بما لم يشرعه الله لها من الأحكام.

فالأمم التي ترتكب هذه الضلالات والمفاسد يسلبها الله سعادتها ويسلط عليها من يستذلها كما قال تعالى : «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ».

وهاكم شاهد صدق على ما نقول :

إن الأمم التي كان لها شأن يذكر فى التاريخ كالرومان والفرس والعرب والترك وغيرهم ممن سلب ملكهم كله أو بعضه ـ لم يكن لذلك من سبب سوى ما أسلفنا.

وهذا الضرب من الأجل وإن عرفت أسبابه ، لا يمكن أن يحدّ بالسنين والأيام ، ولكن الله يعلم تحديده بما أوجده من الأسباب التي تنتهى بمسبباتها ، وبالمقدمات التي تترتب عليها نتائجها ، كما قال :

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) الساعة لغة : أقل مدة من الزمن أي فإذا جاء الوقت الذي وقّته الله لهلاكهم وحلول العقاب بهم لا يتأخرون عنه بالبقاء فى الدنيا أقل تأخر ، كما أنهم لا يتقدمون أيضا عن الوقت الذي جعله لهم وقتا للفناء والهلاك.

١٤٢

وفى الآية إيماء إلى أن الأمة قد تملك طلب تأخير الهلاك قبل مجيئه أي قبل أن تغلبها على إرادتها أسباب الهلاك ، بأن تترك الفواحش والآثام والظلم والبغي والإسراف المفسد للأخلاق وخرافات الشرك المفسدة للعقول وتترك البدع فى التحريم والتحليل بما لم يخاطب به المولى عباده ، بأن يقوم فيها جماعة من المصلحين ، فيرشدوها إلى تغيير ما بأنفسها من الفساد ، فيغيّر الله ما بها.

وهذا من استيخار الهلاك أو منعه عنها قبل مجىء أجلها.

وتأثير الفسق والفساد فى الأمم يشبه تأثيره فى الأفراد ، فكما أن الأطباء متفقون على أن السكر من أسباب الأمراض البدنية والعقلية التي تفضى إلى الموت ، وعلى أن تأثيره فى البدن القوىّ دون تأثيره فى البدن الضعيف ، وعلى أن القليل منه يبطىء تأثير ضرره عن تأثير ضرر الكثير منه ـ كذلك أطباء الاجتماع متفقون على أن الإسراف فى الفسق والترف مفسد للأمم ، وأن الظلم والبغي والغلوّ فى المطامع من أسباب الهلاك والدمار ، ولكن قد يكون لدى بعضها ما تقاوم به تأثير هذه الأدواء الاجتماعية كالنظام ومراعاة سنن الاجتماع حتى فى إخفاء الظلم وإتقان الوسائل والأسباب فى إلباس العدل وإبراز إفسادها فى صورة الإصلاح وإيجاد أنصار من المظلومين يساعدون فى بقاء هذا الظلم ، وإقناع الكثير منهم بأن هذا خير لهم وأبقى ، غير أن كل هذا لا يمنع انتقام الله منهم ، وإنما يؤخره على مقتضى سننه فى عباده ، ولا يمنعه عنهم إلا الرجوع إلى الحق والاعتدال والصلاح والإصلاح.

والأجل المقدّر بمقتضى نظام الخلق هو الذي يسميه العلماء بالعمر الطبيعي ؛ فالطبيب إذا فحص الجسم ورأى أعضاءه الرئيسية ومقدار مناعتها أمكنه أن يقدر له مدة معينة من الحياة إذا عاش بنظام واعتدال بحسب ما وضعه الله من السنن ، فإذا هو قتل أو غرق قبل انتهاء العمر المقدر له يقال مات قبل انتهاء عمره الطبيعي أو التقديري ولكن مات بأجله الحقيقي عند الله.

١٤٣

وما ورد من أن الدعاء وصلة الرحم يطيلان العمر ، فإنما ذلك بالنسبة للأجل التقديري أو الطبيعي الذي هو مظهر سنن الله فى الأسباب والمسببات ، فإن الدعاء الذي منشؤه قوة الإيمان بالله والرجاء فى معونته وتوفيقه للمؤمن فيما يعجز عن أسبابه ، من أسباب طول العمر ، وكذلك صلة الرحم من أهم أسباب هناء العيش ، وهناؤه من أهم العوامل فى إطالة العمر.

كما دلت التجارب على أن الهموم والأكدار خصوصا ما كان منها داخليا كقطيعة الأرحام واليأس من روح الله ومعونته مما يضعف قوى النفس ويهرم الجسم قبل إبّان هرمه ، وقد عرف هذه الحقيقة ذلك الشاعر الحكيم حين قال :

والهمّ يخترم الجسيم نحافة

ويشيب ناصية الصبى ويهرم

ومثلها فى ذلك قلة الغداء الذي يحتاج إليه البدن أو كثرته ، والإسراف فى كل لذة ، والسكنى فى الأمكنة التي لا يدخلها ضوء الشمس ولا يتخللها الهواء بالقدر الذي يقتل الجراثيم.

والأمم العريقة فى المدنية والحضارة والعالمة بالسنن الإلهية فى الصحة والسقم ، والقوة والضعف ، تحصى دائما عدد المرضى والموتى وتضع لذلك نسبا حسابية تعرف بها متوسط الآجال فى كل منها.

وكذلك قد ثبت ثبوتا لا ريب فيه أن من أسباب قلة الوفيّات تحسين وسائل المعيشة والاعتدال فيها ، وتوقى الأمراض باجتناب أسبابها المعروفة قبل وقوعها ومعالجتها بعد حدوثها.

وكل ما يقع فالعلم الإلهى قد سبق به وكتاب الله وسنة رسوله يؤيدان ذلك أتم التأييد.

وخلاصة معنى الآية ـ إن لكل أمة أجلا لا يتأخرون عنه إذا جاء ، ولا يتقدمون عليه أيضا ، فيهلكوا قبل مجيئه.

ونحو الآية قوله : «ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ».

١٤٤

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر جلت أسماؤه أن لكل أمة أجلا لا تعدوه ـ حكى هنا ما خاطب به كل أمة على لسان رسولها وبيّنه لها من أصول الدين الذي شرعه لهدايتها وتكميل فطرتها ، وأرشدها إلى أنها إن كانت مطيعة تتقى الله فيما تأتى وتذر ، وتصلح أعمالها فلا يحصل لها فى الآخرة خوف ولا حزن ، وإن هى تمردت واستكبرت وكذبت الرسل كانت عاقبتها النار ، وبئس القرار.

الإيضاح

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي يا بنى آدم إن يأتكم رسل من أبناء جنسكم من البشر يتلون عليكم آياتي التي أنزلها عليكم لبيان ما آمركم به من صالح الأعمال وترك ما أنهاكم عنه من الشرك والرذائل وقبيح الأعمال ـ فمن اتقى منكم ما نهيته عنه وأصلح نفسه بفعل ما أوجبته عليه فلا خوف عليهم من عذاب الآخرة ، ولا هم يحزنون حين الجزا على ما فاتهم.

وحكمة كون الرسول منهم أنه أقطع لعذرهم وأظهر فى الحجة عليهم ، إذ معرفتهم بأحواله تبين لهم أن المعجزات التي ظهرت على يديه إنما هى بقدرة الله لا بقدرته إلى ما فى ذلك من حصول الألفة ، فالجنس يألف الجنس ويركن إليه ، ومن ثم قال : «وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً».

١٤٥

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) والاستكبار عن قبول الآيات : رفضها كبرا وعنادا لمن جاء بها كما حدث من رؤساء قريش حين استكبروا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم إماما لهم ، إذ رأوا أنفسهم أحق بالرياسة منه ، لأنهم أكثر منه مالا وأعز نفرا.

والمعنى ـ إن الذين كذبوا بآياتنا المنزلة على أحد من رسلنا واستكبروا عن اتباع من جاء بها حسدا له على الرياسة وتفضيلا لأنفسهم عليه ، أو لقومهم على قومه فأولئك أصحاب النار يخلدون فيها أبدا.

والخلاصة ـ إن جميع الرسل قد بلّغوا أممهم أن اتقاءهم لما يفسد فطرتهم من الشرك والمعاصي ، وإصلاح أنفسهم بالطاعة يوجب الأمن وعدم الخوف مما يتوقع وعدم الحزن على ما وقع منهم فى الدار الأولى ، وأن تكذيب ما جاءوا به من الآيات والاستكبار عن اتباعها يترتب عليه المكث فى نار جهنم خالدين فيها أبدا كفاء ما فعلوا من التمرد وعصيان أوامر الديان.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩))

١٤٦

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فى الآية السابقة عاقبة المكذبين بآياته المستكبرين عن قبولها والإذعان لها ـ ذكر هنا أن من أشدهم ظلما من يتقولون على الله الكذب ، فينسبون إليه ما لم يقله ـ كمن يثبت الشريك لله سواء كان صنما أو كوكبا ، أو يضيف إليه أحكاما باطله ، أو يكذّب ما قاله كمن ينكر أن القرآن نزل من عند الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

الإيضاح

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله بأن أوجب على عباده من العبادات ما لم يوجبه ، أو حرم عليهم من الدين ما لم يحرمه ، أو عزا إلى دينه أحكاما لم تنزل على رسله.

(أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) المنزلة عليهم سواء أكان بالقول أو بما هو أدل منه كالاستهزاء بها أو الاستكبار عن اتباعها أو بتفضيل غيرها عليها بالعمل بها.

(أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) المراد بالنصيب هنا ما قدر لهم من خير أو شر وسعادة أو شقاء ، والمراد من الكتاب كتاب المقادير الذي كتب الله فيه نظام العالم كله ، ومنها أعمال الاحياء الاختيارية وما يبعث عليها من الأسباب والدواعي وما يترتب عليها من المسببات كالسعادة والشقاء والصحة والمرض إلى نحو ذلك.

والمعنى ـ إن هؤلاء المفترين يصيبهم نصيبهم مما كتب لهم وقدر من الأرزاق والآجال ، فهم مع ظلمهم وافترائهم على الله لا يحرمون مما قدر لهم إلى انقضاء آجالهم. ونحو الآية قوله تعالى : «كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ» وقوله : «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ».

١٤٧

(حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) الرسل هنا هم الملائكة الموكلون بالتوفى أي قبض الأرواح من الأجساد ، أي إنهم ينالهم نصيبهم الذي كتب لهم مدة حياتهم حتى إذا ما انتهى بانتهاء آجالهم وجاءتهم رسلنا يقبضون أرواحهم.

(قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؟) أي سألهم رسل الموت حين التوفى على سبيل الزجر والتوبيخ : أين الشركاء الذين كنتم تعبدونهم فى الدنيا من دون الله لقضاء الحاجات ودفع المضرات؟ فلتدعوهم لينجوكم مما أنتم فيه من شدة وعذاب.

(قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) ضلو : أي غابوا وذهبوا ، لا ندرى أين مكانهم ، أي غابوا عنا فلا نرجو منهم النفع ولا دفع الضر.

(وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أي واعترفوا على أنفسهم بأنهم كانوا بدعائهم إياهم وعبادتهم لهم كافرين ، إذ هم قد زعموا أنهم عنده تعالى كأعوان الأمراء والسلاطين ، وحاش لله أن يتخذ الأعوان والمساعدين ، فالله غنى بعلمه المحيط وقدرته الكاملة عن أن يحتاج إلى الأعوان ، فإنما يحتاج إليها من يجهل أمور الناس ويعجز عن معرفة أحوالهم.

وخلاصة هذا ـ زجر الكافرين عما هم عليه من الكفر وحملهم على النظر والتأمل فى عواقب أمورهم ، والتحذير من التقليد الذي سيرديهم فى الهاوية.

(قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) أي تقول ملائكته بأمره يوم القيامة لهؤلاء الكافرين : ادخلوا بين أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس ، أي أمم تقدم زمانهم على زمانكم.

وفى هذا إيماء إلى أنه تعالى لا يسوق الكفار بأجمعهم إلى النار دفعة واحدة ، بل يدخلهم فوجا فيكون منهم سابق ومسبوق ، ويشاهد الداخل من الأمة فى النار من سبقه.

(كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) أي كلما دخلت جماعة منهم فى النار ورأت ما حل

١٤٨

بها من الخزي والنكال ـ لعنت أختها فى الدين والملة ، إذ هى قد ضلت باتباعها والاقتداء بها فى كفرها كما قال : «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً».

والخلاصة ـ إن المشركين يلعنون المشركين ، واليهود تلعن اليهود ، والنصارى تلعن النصارى ، وهكذا القول فى سائر الديانات الضالة كالمجوس والصابئة.

(حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ : رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) اداركوا ، أي تلاحقوا وأدرك بعضهم بعضا واستقر معه ، وضعفا أي مثلا أي حتى إذا تتابعوا واجتمعوا كلهم فيها ، قالت أخرى كل منهم وهم أتباعهم وسفلتهم لأولاهم منزلة وهم القادة والرؤساء : ربنا هؤلاء أضلونا عن الحق باتباعنا لهم وتقليدنا إياهم فيما كانوا عليه من أمر الدين وسائر أعمالنا ، فأعطهم ضعفا من عذاب النار لإضلالهم إيانا فوق العذاب على ضلالهم فى أنفسهم حتى يكون عذابهم ضعفين : ضعفا للضلال وضعفا للإضلال.

ومعنى قوله لأخراهم أي فى شأنهم ولأجل ضلالهم ، وليس المراد أنهم ذكروا هذا القول لأولاهم ، لأنهم ما خاطبوهم ، بل خاطبوا الله جلت قدرته بهذا الكلام.

(قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) أي يقول الله تعالى لهم : لكل منهم ضعف من العذاب بإضلاله فوق عذابه على ضلاله ، ولكنكم لا تعلمون عذابهم ، فإن العذاب روحى ونفسى ، والأول أنكى وأشد ألما ، فالرئيس العزيز فى قومه إذا دخل السجن مع السّفلة وأوشاب الناس لا يكون ألمه كألمهم ، وإن كان يشركهم فيما يأكلون ويشربون وفى جميع ما يعملون ، إذ يشعر بعذاب النفس وقهر الذل مما لا يشعر به الآخرون ، وإن كانوا يظنون أن عقوبتهما واحدة فى ألمها كما هى فى صورتها.

ونحو الآية قوله فى الآية الأخرى : «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ».

١٤٩

(وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي إذا كان الأمر كما ذكرتم من أننا أضللناكم فما كان لكم علينا أدنى فضل تطلبون به أن يكون عذابكم دون عذابنا مع أن الذنب واحد وقد اعترفتم بتلبسكم بالضلال المقتضى له ، فذوقوا العذاب بكسبكم له مهما يكن سببه.

وقد جاء فى سورة الصافات : «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ. قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ. قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ. فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ. فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ. فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ».

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١))

تفسير المفردات

المراد بالآيات هنا : الآيات الدالة على أصول الدين وأحكام الشرع كالأدلة على وجود الله ووحدانيته ، والأدلة على النبوة والبعث يوم القيامة ، والجمل : هو البعير البازل أي الذي طلع نابه ، وسمّ الخياط : ثقب الإبرة ، وأصل الإجرام : قطع الثمرة من الشجرة ، ثم استعمل فى كل إفساد كإفساد الفطرة بالكفر وما يترتب على ذلك من الخرافات والمعاصي ، والمهاد : الفراش ، والغواشي : واحدها غاشية ، وهى ما يغشى الشيء أي يغطّيه ويستره كاللحاف ونحوه.

١٥٠

المعنى الجملي

هذا من تتمة ما سلف من وعيد الكفار وجزاء المكذبين بالقرآن المستكبرين عن الإيمان ، بين به أنهم خالدون فى النار ، وأنهم يلاقون فيها من الشدائد والأهوال ما لا يدرك العقل حقيقة كنهه ، وأن هذا كفاء ظلمهم لأنفسهم واستكبارهم عن طاعة ربهم واتباع أوامره.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) أي إن الذين كذبوا بأدلتنا ولم يتبعوا رسلنا وتكبروا عن التصديق بما جاءوا به ، وأنفوا من الانقياد لها لا تفتح لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم أبواب السماء ، ولا يصعد لهم فى حياتهم قول ولا عمل ، لأن أعمالهم خبيثة ، وإنما يرفع إلى الله الكلم الطيب والعمل الصالح كما قال : «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ».

(وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) العرب تضرب المثل لما لا يكون بنحو قولهم : لا أفعله حتى يشيب الغراب ، وحتى يبيض القار ، وحتى يدخل الجمل فى سم الخياط ، وهم يريدون بذلك أنهم لا يفعلونه أبدا ، والمراد هنا أن هؤلاء لا يدخلون الجنة بحال.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أي ومثل هذا الجزاء نجزى به كل من صار الإجرام وصفا لهم ـ لامن أجرموا جرما بثورة غضب أو نزوة شهوة ـ ثم لا يلبثون أن يندموا على ما فرط منهم كما قال تعالى فى وصف المؤمنين : «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» وقال أيضا : «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) أي لهم من نار جهنم فرش من تحتهم ، ولهم من فوقهم منها لحف تعطّيهم ، والمراد أنها محيطة بهم مطبقة عليهم كما قال :

١٥١

«إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ» وقال : «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» وقال : «لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ».

(وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي ومثل هذا الجزاء نجزى به الظالمين لأنفسهم وللناس ، والآيتان تدلان على أن المجرمين والظالمين الراسخين فى صفتى الإجرام والظلم هم الكافرون كما قال : «وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ» والمؤمنون لا يكونون كذلك بحال.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣))

تفسير المفردات

الوسع : ما يقدر عليه الإنسان حال السعة والسهولة ، لا حال الضيق والشدة ، والنزع : قلع الشيء من مكانه ، والغل : الحقد من عداوة أو حسد ، أورثتموها ، أي صارت إليكم بلا منازع كما يصير الميراث إلى أهله.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه وعيد أهل الكفر والمعاصي ـ أردفه وعد أهل الطاعات وقد جرت سنة القرآن بالجمع بينهما ، فيبدأ بأحدهما لمناسبة سياق الكلام قبله ثم يقفوه بالآخر.

١٥٢

الإيضاح

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ـ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ـ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي والذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به من وحيه وتنزيله وشرائع دينه وعملوا ما أمرهم به واجتنبوا ما نهاهم عنه ـ هم أهل الجنة دون سواهم ، وهم يخلدون فيها أبدا لا يخرجون منها ولا يسلبون نعيمها.

ومعنى قوله : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أننا لا نفرض على المكلف إلا ما يكون فى وسعه وما لا يشق عليه أداؤه ولا يضيق به ذرعا ـ وقد جاءت هذه الجملة أثناء الكلام للتنبية إلى أن العمل الصالح الذي يوصل إلى الجنة سهل غير صعب ، وميسور لا عسر فيه ولا مشقة.

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي وأذهبنا ما كان فى قلوب هؤلاء الذين ذكرت صفتهم من حقد وضغن مما يكون عادة فى الدنيا. فهم لا يدخلون الجنة وفى قلوبهم أدنى عداوة أو بغضاء مما يكون من أسباب تنغيص النعيم فيها ، حال كون الأنهار تجرى من تحتهم فيرونها وهم فى غرفات قصورهم تتدفق فى جنانها وبساتينها ، فيزدادون حبورا وسرورا لا تشوب صفاءهم شائبة كدر.

روى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال : بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعض من بعض ظلاماتهم فى الدنيا ، فيدخلون الجنة وليس فى قلوب بعضهم على بعض غلّ».

وروى عن قتادة أن عليا كرم الله وجهه قال : إنى لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم «وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً».

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) أي وقالوا شاكرين لله بألسنتهم معبّرين عن غبطتهم وبهجتهم : الحمد لله الذي هدانا فى الدنيا

١٥٣

للإيمان الصحيح والعمل الصالح الذي كان جزاؤه هذا النعيم ، وما كان من شأننا ولا مقتضى فكرنا أن نهتدى إليه بأنفسنا لو لا أن هدانا الله إليه بتوفيقه إيانا لاتباع رسله ومعونته لنا عليها ورحمته الخاصة بنا ـ إلى هدايته التي فطرنا عليها وهداية ما خلق لنا من المشاعر والعقل.

(لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) أي إنهم قالوا حين رأوا ما وعدهم به الرسل عيانا لقد جاءت رسل ربنا بالحق ، وهذا مصداق ما وعدنا به فى الدنيا على التوحيد وصالح العمل.

(وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ونادتهم الملائكة قائلين لهم : تلكم هى الجنة التي وعدتم بوراثتها جزاء صالح أعمالكم.

أخرج ابن جرير عن السّدى قال : ليس من مؤمن ولا كافر إلا وله فى الجنة والنار منزل مبين ، فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ودخلوا منازلهم رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ، ثم يقال : يا أهل الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ، فيقتسم أهل الجنة منازلهم.

وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل فى الجنة ومنزل فى النار ، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله ، فذلك قوله : «أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ».

وفى الآية دلالة واضحة على أن الجنة تنال بالعمل ، وفى معناها آيات وأحاديث كثيرة.

أما حديث أبي هريرة الذي رواه الشيخان «لن يدخل أحدا عمله الجنة ـ قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدّنى الله بفضله ورحمته» فيراد منه أن عمل الإنسان مهما كان عظيما فلا يستحق به الجنة لذاته لو لا رحمة الله وفضله ، حين جعل هذا الجزاء العظيم على ذلك العمل القليل ، فدخول الجنة بالعمل دخول بفضل

١٥٤

الله ورحمته ، ومن ثم قال بعده «فسدّدوا وقاربوا» أي لا تبالغوا ولا تغلوا فى دينكم ولا تتكلفوا من العمل ما لا طاقة لكم به.

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧))

تفسير المفردات

الوعد خاص بما كان فى الخير ، أو يشمل الخير والشر وهو الصحيح ، والوعيد خاص بالشر أو السوء ، فتسمية ما كان لأهل النار وعدا إما من قبيل التهكم أو للمشاكلة ، والتأذين : رفع الصوت بالإعلام بالشيء ، واللعنة : الطرد والإبعاد مع الخزي والإهانة ، وصدّ عن الشيء : أعرض عنه ، وعوجا : أي ذات عوج أي غير مستوية ولا مستقيمة حتى لا يسلكها أحد ، والعوج (بفتح العين) مختص بالمرئيات (وبكسر العين) مختص بما ليس بمرئىّ كالرأى والقول ، والحجاب هو السور الذي بين الجنة والنار كما قال فى سورة الحديد : «فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» والأعراف واحدها عرف (بزنة قفل) وهو أعلى الشيء وكل مرتفع من الأرض وغيرها ، ومنه عرف الديك والفرس

١٥٥

والسحاب ، والسيما والسيمياء : العلامة ، وصرفت أي حوّلت. والتلقاء : جهة اللقاء ، وهى جهة المقابلة ، يقال فلان تلقاء فلان إذا كان حذاءه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه وعيد الكفار وثواب أهل الإيمان ـ عقب ذلك ببيان بعض ما يكون بين الفريقين فريق أهل الجنة وفريق أهل السعير من المناظرة والحوار بعد استقرار كل منهما فى داره.

وفيها دليل على أن الدارين فى أرض واحدة يفصل بينهما سور لا يمنع إشراف أهل الجنة وهم فى أعلى عليين على أهل النار وهم فى هاوية الجحيم ، وأن بعضهم يخاطب بعضا بما يزيد أهل الجنة عرفانا بقيمة النعمة ، ويزيد أهل النار حسرة وشقاء على ما كان من التفريط فى جنب الله.

وهذا التخاطب لا يقتضى قرب المكان على ما هو معهود فى الدنيا ، فعالم الآخرة عالم تغلب فيه الروحانية على ظلمة الكثافة الجسدية ، فيمكن الإنسان أن يسمع من بعيد المسافات ، ويرى من أقاصى الجهات.

وإن ماجدّ الآن من المخترعات والآلات التي يتخاطب بها الناس من شاسع البلاد وتفصل بينهما ألوف الأميال إما بالإشارات الكتابية كالبرق ـ التلغراف اللاسلكى والسلكى ـ وإما بالكلام اللساني كالمسّرة ـ التليفون اللاسلكى ـ والسلكى ليقرّب هذا أتم التقريب ، ويزيدنا فهما له.

وقد تم لهم الآن أن يروا صورة المتكلم بالتليفون مطبوعة على الآلة التي بها الكلام وأن ينقلوا الصور من أقصى البلدان إلى أقصاها بهذه الآلة (التليفزيون).

الإيضاح

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟) أي إن أصحاب الجنة حين استقرارهم فى الجنة واستقرار

١٥٦

أهل النار فى النار ـ إذا ما وجهوا أبصارهم إليهم يسألونهم سؤال افتخار على حسن حالهم وسؤال تهكم وتذكير بجناية أهل النار على أنفسهم بتكذيب الرسل ، وسؤال تقرير لهم بصدق ما بلّغهم الرسل من وعد ربهم لمن آمن واتقى بجنات النعيم قائلين لهم : قد وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة رسله من النعيم والكرامة حقا لا شبهة فيه ، وها نحن أولاء : نستمتع بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ـ فهل وجدتم ما أوعدكم ربكم من الخزي والنكال حقا؟

(قالُوا نَعَمْ) أي وجدنا ما أوعدنا به ربنا حاكما بلّغنا على ألسنة الرسل.

(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) أي فكان ردف السؤال والجواب وقيام الحجة عليهم ـ أن أذّن مؤذن قائلا : لعنة الله على الظالمين لأنفسهم الجانين عليها بما أوجب حرمانها من النعيم المقيم ، وهذا المؤذن إما مالك خازن النار ، وإما ملك غيره يأمره الله بذلك.

ثم بين المراد من الظالمين فقال :

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي إنهم هم الذين يعرضون عن سلوك سبيل الله الموصلة إلى مرضاته وثوابه ، ويمنعون الناس عن سلوكها ، ويبغونها معوجّة حتى لا يسلكها أحد.

وبغى الظالمين وطلبهم اعوجاج السبيل يجىء على ضروب شتى :

(١) تدسية أنفسهم بالظلم العظيم وهو الشرك فيشوبون التوحيد بشوائب الوثنية فى العبادة والدعاء ويشركون مع الله غيره على أنه شفيع عنده ووسيلة إليه ، وهو ما نهى الله عنه بقوله : «وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ» وقوله تعالى «حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ».

(٢) ظلمهم لها بالابتداع ، إذ يبغونها عوجا بما يزيدون فى الدين من البدع المحدثات التي لم يرد بها كتاب ولا سنة ، ومستندهم فى ذلك تأويلات جدلية ومحاولات

١٥٧

للتوفيق بين الدين والفلسفة فى الاعتقاديات ، أو زيادات فى العبادات والشعائر كحفل الموالد وترتيلات الجنائز وأذكار المآذن ، أو تحريم ما لم يحرمه الله من الطيبات من الرزق ، أو تحليل ما حرم الله كبناء المساجد على القبور وإيقاد المصابيح والشموع وغيرها عليها.

(٣) ظلمهم لها بالزندقة والنفاق ، إذ يبغونها عوجا بالتشكيك فيها بضروب من التأويل يقصد بها بطلان الثقة بها والصد عنها.

(٤) ظلمهم لها فى الأحكام فيبغونها عوجا بترك الحق ، وإقامة ميزان العدل ، والمساواة بين الناس بالقسط.

(٥) ظلمهم لها بالغلوّ فيها بجعل يسرها عسرا وسعتها ضيقا بزيادتهم على ما شرعه الله من أحكام العبادات والمحظورات والمباحات ، مما نزل فى كتابه وصح من سنة رسوله.

(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) وهم على ضلالهم وإضلالهم كافرون بالآخرة كفرا متأصلا فى نفوسهم ، فلا يخافون عقابا على جرمهم ، ولا ذما ولو ما على إنكارهم يوم البعث والجزاء.

والخلاصة ـ إنهم جمعوا بين الصد عن سبيل الله وبغيها عوجا ، وإنكار البعث والجزاء.

(وَبَيْنَهُما حِجابٌ) أي وبين الفريقين فريقى أهل الجنة وأهل النار حجاب يفصل كلا منهما من الآخر ويمنعه من الاستطراق إليه.

وهذا الحجاب هو السور الذي سيأتى ذكره فى سورة الحديد بقوله : «يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ، قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً ، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» الآية.

١٥٨

(وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) أي وعلى أعالى ذلك السور رجال يرون أهل الجنة وأهل النار جميعا قبل الدخول فيها ، فيعرفون كلا منهما بسيماهم التي وصفهم الله بها فى نحو قوله : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ».

وهؤلاء الرجال هم طائفة من الموحدين قصرت بهم سيئاتهم عن الجنة ، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار ، جعلوا هناك حتى يقضى بين الناس ، فبينماهم كذلك إذ يطلع عليهم ربهم فيقول : قوموا ادخلوا الجنة فإنى قد غفرت لكم ، أخرجه أبو الشيخ والبيهقي وغيرهما عن حذيفة ، وفى رواية عنه :

«يجمع الله الناس ثم يقول لأصحاب الأعراف : ما تنتظرون؟ قالوا ننتظر أمرك فيقال : إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها ، وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوها بمغفرتى ورحمتى».

(وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي ونادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة قائلين لهم : سلام عليكم ، وهذا السلام إما تحية ودعاء وإما إخبار بالسلامة من المكروه والنجاة من العذاب ، هذا إن كان قبل دخول الجنة ، فإن كان بعدها فهو تحية خالصة تدخل فى عموم قوله تعالى «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً».

(لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) أي نادوهم مسلّمين عليهم حال كونهم لم يدخلوها بعد وهم طامعون فى دخولها ، لما بدا لهم من يسر الحساب.

وقد جاء فى الآثار أن الناس يكونون فى الموقف بين الخوف والرجاء ، لا تطمئن قلوب أهل الجنة حتى يدخلوها.

روى أبو نعيم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : لو نادى مناديا أهل الموقف ادخلوا النار إلا رجلا واحدا لرجوت أن أكون ذلك الرجل ، ولو نادى. دخلوا الجنة إلا رجلا واحدا لخشيت أن أكون ذلك الرجل.

١٥٩

(وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي وكلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى ألا يجعلهم مثلهم ، والمقصود من الآية الإنذار والتخويف ليتبصر المرء فى عاقبة أمره ، فيفوز بالثواب المقيم فى جنات النعيم.

وفى التعبير بصرف الأبصار وتحويلها إيماء إلى أنهم يوجهون أبصارهم إلى أصحاب الجنة بالقصد والرغبة ويلقون إليهم السلام ، ويكرهون رؤية أهل النار ، فإذا حوّلت أبصارهم إليهم عن غير قصد ولا رغبة ، بل بصارف يصرفهم إليها ، قالوا ربنا لا تجعلنا معهم حيث يكونون ، وفى ذلك من استعظام حال الظالمين ، واستفظاع مآلهم وشناعة أمرهم ما لا يخفى.

وعن سعيد بن جبير أن ابن مسعود رضي الله عنه قال «يحاسب الله الناس يوم القيامة ، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ، ثم قرأ قول الله «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ» الآيتين ، ثم قال : إن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح. ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف ، فوقفوا على الصراط ، ثم عرض أهل الجنة وأهل النار ، فإذا نظروا إلى أهل الجنة قالوا : سلام عليكم ، وإذا صرفت أبصارهم إلى يسارهم رأوا أهل النار فقالوا (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) تعوّذوا بالله من منازلهم. قال : «فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نورا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ، ويعطى كل عبد يومئذ نورا وكل أمة نورا ، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة. فلما رأى أهل الجنة ما لقى المنافقون قالوا «رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا» وأما أصحاب الأعراف فإن النور كان فى أيديهم فلم ينزع من أيديهم ، فهنالك يقول الله تعالى (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) فكان الطمع دخولا».

١٦٠