تفسير المراغي - ج ٨

أحمد مصطفى المراغي

وجاء فى حديث البخاري مرفوعا«فانتدب لها رجل ذو عزه ومنعة فى قومه كأبى زمعة» لأنهم لما اتفقوا عليه ورضوا به صاروا كأنهم فعلوه جميعا.

وفى ذلك تهويل وتفظيع لأمرهم ، وأن أضراره ستصيبهم جميعا ، ومثل هذا من الأعمال ينسب إلى الأمة فى جملتها ، وتعاقب عليه جميعها كما قال : «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً».

(وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي وتمردوا وتجبروا عن اتباع الحق الذي بلّغهم صالح إياه ، وهو ما سلف ذكره.

روى أحمد والحاكم عن جابر قال : «لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال : لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح ، وكانت الناقة ترد من هذا الفجّ وتصدر من هذا الفج ، فعتوا عن أمر ربهم ، وكانت تشرب يوما ويشربون لبنها يوما ، فعقروها فأخذتهم صيحة أخمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان فى حرم الله ـ وهو أبو رغال ـ فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه».

(وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الوعد يكون فى الخير والشر أي قالوا له : ائتنا بما وعدتنا به من عذاب الله ونقمته ، إن كنت رسولا إلينا ، وتدّعى أن وعيدك تبليغ عنه ، فالله ينصر رسله على أعدائه ، فعجّل ذلك لنا.

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) وفى سورة هود «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ» وفى سورة حم السجدة «فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ» وفى سورة الذاريات «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ» والمراد بالجميع الصاعقة ، فإن لنزولها صيحة شديدة القوة ترجف من هولها الأفئدة وتضطرب الأعصاب ، وربما اضطربت الأرض وتصدع ما فيها من بنيان.

وقد علم أن سبب حدوثها اتصال كهربائية الأرض بكهربائية الجو التي يحملها

٢٠١

السحاب ، فتحدث صوتا كالصوت الذي يحدث باشتعال قذائف المدافع ، وهذا الصوت هو المسمى بالرعد.

وتحدث الصاعقة تأثيرات عظيمة كصعق الناس والحيوان وهدم المبانى أو تصديعها وإحراق الشجر ونحو ذلك ، وقد هدى العلم إلى الطريق فى اتقاء أضرارها بالمباني العظيمة بوضع ما يسمونه (مانعة الصواعق).

وقد يجوز أن الله سبحانه جعل هلاكهم فى وقت ساق فيه السحاب المشبع بالكهرباء إلى أرضهم بحسب السنن المعروفة ، وقد يجوز أن الله قد خلق تلك الصاعقة لأجلهم على سبيل خرق العادة ، وأيهما كان قد وقع ، فقد صدق الله رسوله وحدث ما أنذرهم به.

(فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي لم يلبثوا أن سقطوا مصعوقين جثثا هامدة حين نزلت بهم الصيحة فى أرضهم.

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) أي قال لهم صالح بعد أن جرى عليهم ما جرى مغتما متحسرا كما يقول المتحسر على من مات جانيا على حياته بالتفانى فى شهواته : ألم أنهك عما يوردك ريب المنون. ألم أحذرك تلك العاقبة الوخيمة التي لم تتداركها قبل وقوعها ، فماذا أفعل ، إذ فضلت لذة الساعات والأيام ، على عيش هنىء يدوم عشرات الأعوام.

وروى مثل هذا مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم من ندائه بعض قتلى قريش ببدر بعد دفنهم فى القليب (البئر غير المبنية).

«يا فلان بن فلان ، وفلان بن فلان : أيسرّكم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟. قال راوى الحديث أبو طلحة الأنصاري : قال عمر : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟

٢٠٢

أو فيها ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسى بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» رواه البخاري وغيره من طريق قتادة عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه ، ثم قال : قال قتادة أحياهم الله حتى أسمعهم قوله صلى الله عليه وسلم توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما ا ه. قال العلماء ومثل هذا مما اختص به الأنبياء وبهذا الحديث ونحوه مما ورد من حياة الأنبياء والشهداء فى البرزخ ، يستدل زوار الأضرحة والقبور الذين يدعون أصحابها لقضاء حاجاتهم ويقولون : إن كل من دعا ميتا من الصالحين يسمع منه ويقضى حاجته ، قياسا على ذلك ، مع علمهم بأن الأمور الغيبية يقتصر فيها على ما سمع عن الأنبياء ولا يدخلها باب القياس.

قصص لوط عليه السلام

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤))

تفسير المفردات

لوط : هو لوط بن حاران ابن أخى إبراهيم عليه السلام ، ولد فى (أور الكدانيين) فى الطرف الشرقي من جنوب العراق وكانت تسمى أرض بابل ، وكان قد سافر بعد موت والده مع عمه إبراهيم صلى الله عليه وسلم إلى ما بين النهرين وكان يسمى جزيرة

٢٠٣

قورا ، وهناك كانت مملكة أشور ، ثم أسكنه إبراهيم شرقى الأردن لجودة مراعيها ، وكان فى ذلك المكان المسمى بعمق السديم بقرب البحر الميت أو بحر لوط ، قرى خمس ، سكن لوط فى إحداها المسماة بسدوم ، وكانت تعمل الخبائث ولا يوجد الآن ما يدل على موضعها بالتحديد ، وبعض الناس يقول : إن البحر قد غمرها ولا دليل لهم على ذلك.

الإيضاح

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ؟) أي واذكر لوطا حين قال لقومه موبّخا لهم : أتفعلون تلك الفعلة التي بلغت الغاية فى القبح والفحش.

(ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) أي ما عملها أحد قبلكم فى أي زمان ، بل هى من مبتدعاتكم فى الفساد ، فأنتم فيها أسوة وقدوة ، فتبوءون بإثمها وإثم من اتبعكم فيها إلى يوم القيامة.

وفى هذا بيان لأن ما اجترحوه من السيئات مخالف لمقتضيات الفطرة ، ومن ثم لم تتطلع إليه نفوس أحد من البشر قبلهم ، إلى ما فيه من مخالفة لهدى الدين.

(إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) يراد بالإتيان الاستمتاع الذي عهد بمقتضى الفطرة بين الزوجين ، وداعيته الشهوة وقصد النسل.

وقد سجل عليهم هنا أنهم يبتغون الشهوة وحدها ، فهم أخس من سائر أفراد الحيوان ، لأن الذكور منها تطلب الإناث بدافع الشهوة والنسل الذي يحفظ النوع ، ألا ترى أن الطيور والحشرات تبدأ حياتها الزوجية ببناء الأعشاش فى أعلى الأشجار أو الوكن فى قلل الجبال أو الأحجار فى باطن الأرضين ، ولكن هؤلاء المجرمين لا غرض لهم إلا إرضاء شهواتهم ، ومن يقصد اللذة وحدها دون النسل أسرف فيها وانقلب نفعها ضرا وصار خيرها شرا.

وفى هذا مزيد تقريع وتوبيخ لهم كأن ذلك لا ينبغى أن يصدر من أحد.

٢٠٤

وفى قوله : من دون النساء ، إيماء إلى أنهم تجاوزوا النساء اللاتي هن محل الاشتهاء عند ذوى الفطر السليمة إلى غيرهن.

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي إنكم لا تأتون هذه الفاحشة ثم تندمون على ما فعلتم ، بل أنتم قوم مسرفون فيها وفى سائر أعمالكم ولا تقفون فيها عند حد الاعتدال ، وقد جاء فى سورة النمل : «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» أي أنتم ذوو سفه وطيش ، وفى سورة العنكبوت «أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ».

وفى كل هذا دليل على أنهم كانوا مسرفين فى لذاتهم ، متعدين حدود العقل والفطرة ، لا يعقلون ضرر ما يفعلون بجنايتهم على النسل والصحة والآداب العامة ، فهم لو عقلوا ذلك لاجتنبوها ، ولو كان لديهم شىء من الفضيلة لا نصرفوا عنها.

(وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي وما كان جواب قومه عن هذا الإنكار وتلك النصيحة شيئا من الحجج المقنعة أو الأعذار المسكنة لثورة الغضب ، بل كان جوابهم الأمر بإخراجه هو ومن آمن معه من قريتهم ، وما حجتهم على تبرير ما عزموا عليه إلا أن قالوا إن هولاء أناس يتطهرون ويتنزهون عن مشاركتهم فى فسوقهم ورجسهم ، فلا سبيل إلى معاشرتهم ولا مساكنتهم ، لما بينهم من الفوارق فى الصفات والأخلاق.

وهذا الجواب منهم يدل على منتهى السخرية والتهكم ، والافتخار بما كانوا فيه من القذارة ، كما يقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظوهم : أبعدوا عنا هذا المتقشف ، وأريحونا من هذا المتزهد.

وقد بلغ من قحتهم وفجورهم أن يفعلوا الفاحشة ويفخروا بها ويحتقروا من يتنزه عنها ، وهذا أسفل الدركات ، ولا يهبط إليه إلا من لا يؤمن بالله واليوم الآخر.

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) يقال غبر أي بقي ، وغبر : ذهب

٢٠٥

وهلك ، أي فأنجيناه وأهل بيته الذين آمنوا معه إلا امرأته ، فإنها لم تؤمن به ، بل خانته بولاية قومه الكافرين ، فكانت من جماعة الهالكين أو الباقين الذين نزل بهم العذاب فى الدنيا ، وبعده عذاب الآخرة.

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) الإمطار حقيقة فى المطر مجاز فيما يشبهه فى الكثرة من خير وشر مما يجىء من السماء أو من الأرض أي وأرسلنا عليهم مطرا عجيبا أمره وهو الحجارة التي رجموا بها ، وجاء فى سورتى هود والحجر إنها حجارة من سجيل مسوّمة أي معلمة ببياض فى حمرة.

وقد يكون سبب إمطار الحجارة عليهم إرسال إعصار من الريح حمل تلك الحجارة وألقاها عليهم ، أو أن تلك الحجارة من بعض النجوم المحطّمة التي يسميها علماء الفلك الحجارة النيزكية وهى بقايا كوكب محطم تجذبه الأرض إليها إذا صار بالقرب منها ، وهى تحترق غالبا من سرعة الجذب وشدته ، وهى الشهب التي ترى بالليل ، فإذا سلم منها شىء من الاحتراق ووصل إلى الأرض ساخ فيها وكان لسقوطه صوت شديد ، وقد وجد الناس بعض هذه الحجارة ووضعوها فى دور الآثار.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أي فانظر أيها المعتبر هذا القصص وتأمله حق التأمل ، لتعلم عقاب الأمم على ذنوبها فى الدنيا قبل الآخرة.

وهذا العقاب أثر طبيعى لذلك ، فإنك ترى الترف والفسق يفسدان أخلاق الأمم ويذهبان ببأسها ويفرّقان كلمتها ويجعلانها شيعا وأحزابا متعادية ، فيسلط الله عليها من يستذلها ويسلبها استقلالها ، ويسخرها لمنافعه ، ولا يزال بها هكذا حتى تنقرض وتكون من الهالكين.

وقد يكون هلاكها بسنن الله فى الأرض من إرسال الجوائح كالزلازل والمواد المصطهرة التي تقذفها البراكين من الأرض ، أو بالأوبئة والأمراض الفتاكة ، أو بالثورات والفتن والحروب ونحو ذلك مما يكون سببا فى انقراض الأمم وفنائها

٢٠٦

وخلاصة القول فى تحريم هذه الفاحشة :

(١) إنها مفسدة للشبان بالإسراف فى الشهوات.

(٢) إنها مفسدة للنساء اللواتى ينصرف أزواجهن عنهم ويقصرون فيما يجب عليهن من إحصانهن.

(٣) قلة النسل فإن من لوازم ذلك الرغبة عن الزواج والرغبة فى إتيان الأزواج فى غير مأتى الحرث.

وفى الحياة الزوجية الشرعية إحصان كل من الزوجين للآخر بقصر لذة الاستمتاع عليه وجعل ذلك وسيلة للحياة الوالدية التي تنمو بها الأمة ويحفظ بها النوع البشرى من الزوال.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧))

تفسير المفردات

يقال بخسه حقه أي نقصه ، والإفساد : شامل لإفساد نظام الاجتماع بالظلم وأكل أموال الناس بالباطل ، وإفساد الأخلاق والآداب : بارتكاب الإثم والفواحش ،

٢٠٧

وإفساد العمران بالجهل وعدم النظام ، وإصلاحها : هو إصلاح حال أهلها بالعقائد الصحيحة والأعمال الصالحة المزكّية للأنفس ، والأعمال المرقية للعمران المحسّنة لأحوال المعيشة ، والصراط : الطريق ، وتوعدون : تخوّفون الناس. وروى عن ابن عباس أنهم كانوا يجلسون فى الطريق فيقولون لمن أتى إليهم إن شعيبا كذاب ، فلا يفتنّنكم عن دينكم ، فكثّركم أي بما بارك فى نسلكم.

المعنى الجملي

شعيب نبى من أنبياء العرب ، وفى التوراة إن اسمه رعوئيل ؛ فقد جاء فى سفر الخروج أن حمى موسى كان يدعى رعوئيل.

(رعو : صديق ، وئيل : الله) أي صديق الله أي الصادق فى عبادته ، وفى موضع آخر من سفر الخروج إن موسى كان يرعى غنم يثرون حميه كاهن مدين ، ويثرون لقب وظيفته ، وهو من نسل إبراهيم.

وفى الفصل الخامس من سفر التكوين إن زوجة إبراهيم قطورة ولدت له ستة أولاد منهم مدان أو مدين أو مديان (معناه خصام) وكانت أرضهم تمتد من خليج العقبة إلى موآب وطور سينا ، وفى رواية إنها كانت تمتد من شبه جزيرة سينا إلى الفرات.

وقال الآلوسى : ومدين وسمع مديان علم لابن إبراهيم الخليل عليه السلام ثم سميت به القبيلة.

الإيضاح

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) نقدم مثل هذا فى قصة صالح عليه السلام ، ولكن هناك بيّن الآية

٢٠٨

بأنها الناقة ، ولم يذكر هنا ولا فى أي سورة أخرى آية معينة لشعيب عليه السلام ، ولكن لا بد أن تكون له آية تدل على صدقه ، وتقوم بها الحجة عليهم.

فقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما من الأنبياء نبى إلا أعطى من الآيات ما مثلها آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلىّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» أي إن كل نبى مرسل أعطاه الله من الآيات الدالة على صدقه وصحة دعوته ما شأنه أن يؤمن البشر على مثله.

والبينة كل ما يتبين به الحق ، فتشمل المعجزات الكونية والبراهين العقلية ، والأمم القديمة لم تكن تدعن إلا لخوارق العادات.

وبعد أن أتى شعيب صلوات الله عليه بالمعجزات القاطعة للعذر ومكابرة الحق رتب على ذلك قوله :

(فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) وقد ثنى بالأمر بإيفاء الكيل والميزان إذا باعوا ، والنهى عن بخس الناس أشياءهم إذا اشتروا بعد أن أمرهم بتوحيد الله ، لأن ذلك كان فاشيا فيهم أكثر من سائر المعاصي ومن ثم اهتم به كما اهتم لوط بنهي قومه عن الفاحشة السوءى التي كانت فاشية فيهم ، فقد كانوا من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس أو وزنوا عليهم لأنفسهم ما يشترون من المكيلات والموزونات يستوفون حقهم أو يزيدون عليه وإذا كالوهم أو وزنوهم ما يبيعون لهم يخسرون الكيل والميزان أي ينقصونه فيبخسونهم أشياءهم وينقصونهم حقوقهم.

والبخس يشمل نقص المكيل والموزون وغيرهما من المبيعات كالمواشى والأشياء المعدودة ، ويشمل البخس فى المساومة والغش والحيل التي تنتقص بها الحقوق ، وفى الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل.

٢٠٩

وقد فشاكل من هذين النوعين فى هذا العصر ، فكثير من التجار باخسون مطففون فيما يبيعون وما يشترون ، وكثير من المشتغلين بالعلوم والآداب والسياسة بخّاسون لحقوق بنى جلدتهم ، مدّعون للتفوق عليهم ، منكرون لما خص الله به سواهم من المزايا والخصائص حسدا عليهم وبغيا.

وقد روى أن قوم شعيب كانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه ويقولون هذه زيوف فيقطعونها ثم يشترونها منه بالبخس أي بالنقصان.

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) أي إنه تعالى أصلح حال البشر بنظام الفطرة ومكّنهم فى الأرض ، بما آتاهم من القوى العقلية وقوة الجوارح ، وبما أودع فى خلق الأرض من سنن حكيمة ، وقوانين مستقيمة ، وبما بعث به الرسل من المكملات لنظام الفطرة من آداب وأخلاق ونظم فى المعاملات والاجتماع ، وبما أرشد إليه المصلحين من العلماء والحكماء الذين يأمرون بالقسط ، ويهدون الناس إلى ما فيه صلاحهم فى دينهم ، والعاملين من الزراع والصناع والتجار أهل الأمانة والاستقامة الذين ينفعون الناس فى دنياهم.

فعليكم ألا تفسدوا فيها ببغى ولا عدوان على الأنفس والأعراض والأخلاق بارتكاب الإثم والفواحش ، ولا تفسدوا فيها بالفوضى وعدم النظام وبث الخرافات والجهالات التي تقوّض نظم المجتمع ، وقد كانوا من المفسدين للدين والدنيا كما يستفاد من هذه الآية وما بعدها.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ذلكم الذي تقدم من الأمر والنهى خير لكم فى دينكم ودنياكم ، فإن ربكم لا يأمر إلا بالنافع ولا ينهى إلا عن الضار.

وإنما يكون ذلك خيرا لكم إن كنتم مؤمنين بوحدانية الله وبرسوله وبما جاءكم من شرع وبما آتاكم به من هدى ، فالإيمان يقتضى الامتثال والعمل بما جاء به الرسول من عند الله وإن خالف النفس والهوى.

٢١٠

والمؤمن الموحّد لا يخضع إلا لربه ، وإنما يطيع رسوله لأنه مبلّغ عنه كما قال : «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ» وفى حديث أحمد بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إنما أنا بشر مثلكم ، إذا أمرتكم بشىء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشىء من رأيى فإنما أنا بشر».

هذا ، والبشر لم يصلوا فى عصر من العصور إلى عشر ما وصلوا إليه فى هذا العصر من العلم بالمنافع والمضار ومعرفة المصالح والمفاسد فى المعاملات والآداب ، ومع هذا فإن العلم وحده لم يغنهم شيئا ، فكثرت فى البلاد الجرائم من قتل وسلب وإفساد زرع وفسق وفجور ونحو ذلك مما كان سببا فى تدهور نظم المجتمعات.

فخير وسيلة لإصلاح الأمم تربية. الأحداث والنابتة تربية دينية بإقناعهم بمنافع الفضائل كالصدق والأمانة والعدل ، وإقناعهم بمضار الرذائل ، لأن الوازع النفسي أقوى من الوازع الخارجي.

(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً) أي ولا تقعدوا بكل طريق تخوّفون من آمن بالقتل ، وقد روى عن ابن عباس أن بلادهم كانت خصبة وكان الناس يمتارون منهم ، فكانوا يقعدون على الطريق ويخوفون الناس أن يأتوا شعيبا ويقولون لهم إنه كذاب فلا يفتننكم عن دينكم.

وقد رتب سبحانه هذه الأوامر والنواهي بحسب الترتيب الزمنى ، فوجهت الدعوة أولا إلى أقرب الناس فى بلده ، ثم إلى الأقرب فالأقرب من الذين يزورون أرضهم ، وقد كان الأقربون دارا هم الأبعدين استجابة له ، وحين رأوا غيرهم يقبل دعوته ويهتدى بها شرعوا يصدون الناس عنه فلا يدعون طريقا توصل إليه إلا قعد بها من يتوعد سالكيها إليه ، ويصدونهم عن سبيل الله التي يدعوهم إليها ، ويطلبون بالتمويه والتضليل أن يجعلوا استقامتها عوجا ، وهداها ضلالا.

٢١١

والخلاصة ـ إنه نهاهم عن أشياء ثلاثة :

(١) قعودهم على الطرقات التي توصل إليه مخوّفين من يجيئه ليرجع عنه قبل أن يراه ويسمع دعوته.

(٢) صدهم من وصل إليه وآمن به بصرفه عن الثبات على الإيمان والاستقامة على الطريق الموصلة إلى سعادة الدارين.

(٣) ابتغاؤهم جعل سبيل الله المستقيمة معوجّة بالطعن وإلقاء الشبهات المشككة فيها أو المشوهة لها ، وهم بعلمهم هذا ارتكبوا ضلالتين : التقليد والعصبية للآباء والأجداد ، وضلالة الغلو فى الحرية الشخصية التي أباحت لهم الطعن فى الأديان حتى بلغوا فى ذلك حد الطغيان.

(وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) أي وتذكروا الزمن الذي كنتم فيه قليلى العدد فكثركم الله بما بارك فى نسلكم ، واشكروا له ذلك بعبادته وحده ، واتباع وصاياه فى الحق ، والإعراض عن الفساد فى الأرض. وقد روى أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله فى نسلها البركة والنماء فكثروا.

وقد يكون المعنى ـ إذ كنتم مقلين فقراء فجعلكم مكثرين موسرين ـ أو المراد : إذ كنتم أذلة قليلى العدد فأعزكم بكثرة العدد والعدد.

(وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) من الأمم والشعوب المجاورة لكم كقوم نوح وعاد وثمود ، وكيف أهلكهم الله بفسادهم وبغيهم فى الأرض ، فاعتبروا بما حل بهم ، واحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم.

(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) ، حكم الله بين عباده ضربان :

(١) حكم شرعى يوحيه إلى رسله ، وعليه جاء قوله فى سورة المائدة بعد الأمر بالوفاء بالعقود وإحلال بهيمة الأنعام : «إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ».

٢١٢

(٢) حكم فعلى يفصل فيه بين الخلق بمقتضى سننه فيهم كقوله فى آخر سورة يونس : «وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ».

والمعنى ـ وإن كان جماعة منكم صدقوا بالذي أرسلت به من إخلاص العبادة لله وترك معاصيه من ظلم الناس وبخسهم فى المكاييل والموازين ، واتبعونى فى كل ذلك ، وجماعة أخرى لم يصدّقونى وأصروا على شركهم وإفسادهم ـ فاصبروا على قضاء الله الفاصل بيننا وبينكم ؛ وهو خير من يفصل ، وأعدل من يقضى ، لتنزهه عن الباطل والجور ، وليعتبر كفاركم بعاقبة من قبلهم وسيحل بهم مثل ما حل بأولئك بحسب السنن التي قدرها العليم الحكيم ، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا.

اللهم وفقنا للسير على سنن العدل والرشاد ، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

وكان الفراغ من مسودة هذا الجزء فى الثامن عشر من رجب المعظم سنة ثنتين وستين وثلاثمائة هجرية.

وصل ربنا على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٢١٣

فهرست

أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

المستهزءون بالقرآن.............................................................. ٥

الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.......................................... ٩

الأصل فى عبادة الأوثان......................................................... ١٥

حكم ترك التسمية حين الذبح................................................... ١٦

حكم ما يذبح لدى استقبال أمير أو وزير......................................... ١٧

جرت سنة الله أن يكون فى كل عاصمة زعماء مجرمون............................. ٢٠

عذاب الأمم بذنوبها فى الدنيا مطرد دون عذاب الأفراد............................. ٢٤

أثبتت السنة الاتصال بين الإنسان والأرواح الشريرة كما أثبتت وجود الجراثيم الميكروبات ٢٩

الإسلام وضع مبدأ الشورة فى مهام الأمور......................................... ٣٢

الجن عالم غيبى لا نعرف عنه إلا ما ورد به النص.................................. ٣٣

هلاك الأمم يكون بما يغلب عليها من العصيان والفسوق............................ ٣٥

أنار العلم فى هذا العصر أمر البعث وقربه إلى العقول............................... ٣٩

حكم العرب فى التحليل والتحريم................................................ ٤٣

تحريم التشريع لا يكون إلا لله.................................................... ٥١

أحلت لنا ميتتان ودمان......................................................... ٥٧

ما حرم من الأنعام عقوبة على بنى إسرائيل........................................ ٥٨

٢١٤

الوصايا العشر التي أمر الرسول بتلاوتها على المشركين.............................. ٦٦

تمادى المشركين فى تكذيب الرسول وعدم الاعتداد بما معه من الآيات................ ٨٠

أهل الكتاب فرقوا دينهم وجعلوه شيعا............................................ ٨٣

أسباب التفرق فى الدين فى هذه الأمة............................................. ٨٤

من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها................ ٨٦

الدين القيم هو ملة إبراهيم لا ما يدعيه أهل الكتاب والمشركون..................... ٨٩

المؤمن حياته لله ومماته لله........................................................ ٩٠

سعادة الناس وشقاؤهم بأعمالهم فحسب.......................................... ٩٢

إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث........................................ ٩٣

بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للدين داخل فيما أنزل علينا..................... ١٠٠

الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت....................................... ١٠٦

معاذير إبليس فى عدم سجوده لآدم عليه السلام.................................. ١١١

هل الجنة التي هبطها آدم بستان أو هى جنة الجزاء................................ ١١٣

الشيطان أو هم آدم وزوجه أن الأكل من الشجرة يقتضى الخلود.................. ١١٩

العقاب أثر طبيعى للذنب...................................................... ١٢٢

فعل الجنة فى أرواح البشر كفعل الميكروبات فى الأجسام.......................... ١٢٦

معاذير المشركين فى عمل الفاحشة.............................................. ١٢٩

وجوب الزينة للعبادة.......................................................... ١٣٣

الدين يورث أهله سعادة الدنيا والآخرة......................................... ١٣٦

أصبح المسلمون من أجهل الشعوب لسنن الله فى الأكوان.......................... ١٣٧

الاجتهاد خاص بالقضاء لا بأصول الدين وعباداته................................ ١٤٠

الأجل المقدر بمقتضى نظام الخلق هو العمر الطبيعي............................... ١٤٣

٢١٥

ينزع الغل والحسد من قلوب أهل الجنة.......................................... ١٥٣

يعرف المجرمون بسيماهم يوم القيامة............................................ ١٦١

يغاث المجرمون بالضريع الذي لا يسمن ولا يغنى من جوع......................... ١٦٣

الأيام الستة التي كانت حين الخلق.............................................. ١٧٠

السموات والأرض كانتا سديما................................................. ١٧١

ما ورد فى الخلق من الإسرائيليات لا يعول عليه................................... ١٧٢

الدعاء خفية أفضل من الدعاء جهرا............................................ ١٧٥

الاعتداء فى الدعاء على ضروب................................................ ١٧٧

طلب الله الإحسان فى كل شىء................................................ ١٨٠

أسماء الرياح لدى العرب...................................................... ١٨١

الحياة فى عرف العرب ولدى علماء الطبيعة...................................... ١٨٤

استدل العلماء على نظام مناوبات الري بقوله تعالى : لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ١٩٩

أسباب رجفة قوم صالح....................................................... ٢٠١

نادى النبي صلى الله عليه وسلم بعض قتلى قريش ببدر بعد دفنهم فى القليب........ ٢٠٢

ما فعله قوم لوط لم يفعله أخس أنواع الحيوان.................................... ٢٠٤

الفسق والفجور يفسدان أخلاق الأمم.......................................... ٢٠٦

السبب فى تحريم فاحشة قوم لوط............................................... ٢٠٧

نهى شعيب قومه عن ثلاثة أشياء............................................... ٢١٢

حكم الله بين عباده ضربان.................................................... ٢١٢

٢١٦