تفسير المراغي - ج ٨

أحمد مصطفى المراغي

تفسير المفردات

الريح : الهواء المتحرك ، والرياح عند العرب أربع بحسب مهابّها من الجهات الأربع : الشّمال والجنوب ، وسميا كذلك باسم الجهة التي يهبان منها. والصّبا أو القبول وهى الشرقية وقد ينسبونها إلى نجد كما ينسبون الجنوب إلى اليمن والشمال إلى الشام. والدّبور ، وهى الغربية. والريح التي تنحرف عن الجهات الأصلية فتكون بين اثنتين منها يسمى النّكباء.

قال الراغب : كل موضع ذكر الله فيه إرسال الريح بلفظ الواحد كان للعذاب وكل موضع ذكر فيه بلفظ الجمع كان للرحمة ، وفى الخبر «إنه صلى الله عليه وسلم كان يجثو على ركبتيه حين هبوب الرياح ويقول : اللهم اجعلها لنا رياحا ولا تجعلها ريحا ، اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك».

وبشرا : مخفف بشرا واحدها بشير : كغدر جمع غدير ، والرحمة هنا المطر ، وأقلّت : رفعت ؛ قال فى المصباح : كل شىء حملته فقد أقللته ، والسحاب : الغيم واحده سحابة ، والثقال منه : المشبعة ببخار الماء ، وسقناه : سيرناه ، والبلد والبلدة : الموضع من الأرض عامرا كان أو خلاء ، وبلد ميت : أرض لا نبات فيها ولا مرعى ، والثمرات واحدها ثمرة ، والثمرة واحدة الثمر : وهو الحمل الذي تخرجه الشجرة سواء أكل أولا ، فيقال ثمر الأراك وثمر النخل والعنب ، والنكد كل شىء خرج إلى طالبه بتعسر يقال رجل نكد (بفتح الكاف وكسرها) وناقة نكداء : خفيفة الدر صعبة الحلب ، والتصريف : تبديل الشيء من حال إلى حال ، ومنه تصريف الرياح.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه تفرده بالملك والملكوت وتصرفه فى العالم العلوي والسفلى وتدبيره الأمر وحده ، وطلب إلينا أن ندعوه متضرعين خفية وجهرا ، ونهانا عن

١٨١

الإفساد فى الأرض بعد إصلاحها ، وأبان لنا أن رحمته قريب من المحسنين ـ قفّى على ذلك بذكر بعض ضروب من رحمته ، إذ أرسل إلينا الرياح وما فيها من منافع للناس ـ فبها ينزل المطر الذي هو مصدر الرزق وسبب حياة كل حى فى هذه الأرض ، وفى ذلك عظيم الدلالة على قدرته تعالى على البعث والنشور.

الإيضاح

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أي إن ربكم المدبّر لأمور الخلق ، هو الذي يرسل الرياح بين يدى رحمته : أي بين الأمطار وأمامها حال كونها مبشرات بها ، فينشىء بها سحابا ثقالا لكثرة ما فيها من الماء ، حتى إذا أقلتها ورفعتها إلى الهواء ساقها لإحياء بلد ميت قد عفت مزارعه ، ودرست مشاربه ، وأجدب أهله.

ونحو الآية قوله : «وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ».

(فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) أي فأنزلنا بالسحاب الماء ، إذ قد ثبت أنه حينما يسخن الهواء القريب من سطوح البحار وغيرها بتأثير الحرارة ، يرتفع فى الجو ويبرد لوصوله إلى منطقة باردة ، أو لا متزاجه بتيار من الهواء البارد ، فإذا برد تكاثف منه بخار الماء وتكوّن السحاب ، فالسحاب ناشىء من تكاثف بخار الماء من الهواء فى الطبقات العالية من الجو ، وهو لا يكون ثابتا فى مكان ، بل يسير فى اتجاه أفقى مدفوعا بقوة الريح ، ويتراوح بعده عن الأرض بين ميل وعشرة أميال ، ويكون معتما مشبعا بالماء إذا كان قريبا من سطح الأرض ، وهو الذي ينشأ عنه المطر لتجمع قطيرات الماء التي فيه

١٨٢

بعضها مع بعض بتأثير البرودة ، فتتكوّن قطيرات كبيرة تسقط من خلاله نحو الأرض لثقلها بحسب سنة الله فى جاذبية الثقل كما قال تعالى فى سورة الروم : «اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ ـ المطر ـ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» وفى سورة النور «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي ـ يسوق ـ سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً ـ مجتمعا ـ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» والمراد بالسماء السحاب ، إذ هى لغة : كل ما علا الإنسان وأظله.

وقد أثبت العلم ودلت المشاهدة أن سكان الجبال الشامخة يبلغون فى العلو حذاء السحاب المطر أو يتجاوزونه إلى ما فوقه فيكون دونهم كما شاهد ذلك بعض النازلين فى بعض الفنادق فى جنيف بسو يسرا.

(فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي فأخرجنا بالماء أنواع الثمار على اختلاف طعومها وألوانها وروائحها ، فتخرج كل أرض أنواعا مختلفة منها تدل على قدرة الله وعلمه ورحمته وفضله كما قال : «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ ، وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».

وبعد أن ذكّرهم بهذه الآيات قفّى على ذلك بما يزيل إنكارهم للبعث فقال :

(كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) أي ومثل هذا الإخراج لأنواع النبات من الأرض الميتة بإحيائها بالماء نخرج الموتى من الناس وغيرهم ، إذ القادر على هذا قادر على ذلك.

(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) هذا الشّبه فيزول استبعادكم للبعث بنحو قولكم «مَنْ

١٨٣

يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟» وقولكم «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» وقولكم «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ».

فأمثال هذه المقالات الدالة على إنكار خروج الحي من الميت تزول إذا أنتم تذكرتم خروج النبات الحي من الأرض الميتة ، إذ لا فارق بين حياة النبات وحياة الحيوان ، فكل منهما خاضع لقدرة الإله القادر على كل شىء.

والحياة فى عرف المخاطبين كانت تعرف بالتغذي والنمو فى النبات والحس والحركة فى الحيوان.

وما يقوله علماء الطبيعة الآن من أن الحي لا يولد إلا من حى سواء فى ذلك الحيوان والنبات ، فالنبات الذي يخرج فى الأرض الفقراء بعد سقيها بالماء لا بد أن تكون له بذور فيها حياة كامنة لا تظهر إلا بالماء ـ فمثل هذه الحياة لم يكن معروفا عند واضعى اللغة ، على أنه لا ينفى صحة خروج النبات الحي من الأرض الميتة ، إذ لو لا تغذى البذور والجذور بمواد الأرض الميتة بسبب الماء لما نبتت.

والقرآن الكريم قد حدثنا بأن الأرض تفنى بتفرق مادتها ثم يعيدها الله كما بدأها فقال «إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا. وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا» فهذه الرجة هى التي سميت فى الآيات الأخرى بالقارعة والصاخة ، إذ ربما يقرعها كوكب ويصطدم بها فتتفتت جبالها وتكون كالهباء المتفرق فى الجو المسمى بالسديم.

إعادة الموتى

جاء فى الكتاب الكريم قوله : «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» وقوله : «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» وقوله : «قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ».

١٨٤

فأثبت فى هؤلاء الآيات الإعادة وشبهها بالبدء ، وهو تشبيه فى جملة ذلك لا فى تفصيله ، فإنه كما خلق جسد الإنسان الأول خلقا ذاتيا مبتدأ ونفخ فيه الروح ـ يخلق أجسام أفراد الإنسان خلقا ذاتيا معادا ، ثم ينفخ فيها أرواحها التي كانت بها أناسىّ فى الحياة الدنيا ، فما الأجساد إلا كالسكن للأرواح.

وليس بالبعيد على خالق العالم كله أن يعيد أجساد ألوف الملايين دفعة واحدة ولا سيما بعد أن أثبت العلم أنه يمكن تحليل بعض المواد المؤلفة من عناصر مختلفة ، ثم إعادة تركيبها ، وقد كان لتقدم الإنسان فى العصر الحديث ومعرفته لكثير من ظواهر الكون أثر عظيم فى تعرفنا لكثير من أخبار عالم الغيب وسهولة إدراك العقول لها ، ومن ثم قال كثير من علماء العصر الحديث : ليس فى العالم شىء مستحيل.

ولا يراد بحشر الأجساد حشرها بأعيانها لأجل وقوع الجزاء عليها ، ألا ترى أن العلماء يقولون : إن الأجساد تتجدد فى قليل من السنين. ومع ذلك لا يعتقد أحد من القضاة أن العقاب يسقط عن الجاني بانحلال أجزاء بدنه التي زاول بها الجناية وتبدل غيرها بها ، فحقيقة الإنسان لا تتغير بهذا التبدل ، إذ ليس هذا إلا كتبدل الثياب ونحوها ، إذ المستحق للثواب والعقاب هو الروح ، لأن مبنى الطاعة والعصيان الإدراكات والإرادات والأفعال والحركات.

والخلاصة ـ إن الإنسان الحقيقي هو الذرة التي تحل فى القلب وفيها تحل الروح وتكسبها الحياة وتسرى منها إلى الهيكل الجسماني ، فهذا الهيكل هو آلة قضاء أعمال تلك الذرة فى هذا الكون واكتساب العلوم والمعارف ، وهى مع الروح الحالّ فيها هما المخاطبان بالتكليف ، وهما المعادان والمنعّمان والمعذبان إلى نحو ذلك.

وبعد أن ضرب الله إحياء البلاد بالمطر مثلا لبعث الموتى ـ ضرب اختلاف نتاج البلاد مثلا لما فى البشر من اختلاف الاستعداد لكل من الهدى والكفر والرشاد والغى فقال

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) قوله

١٨٥

والذي خبث أي والبلد الذي خبث لا يخرج نباته إلا نكدا ، وأصل النكد هو العسر الممتنع من إعطاء الخير بخلا.

والمعنى ـ إن الأرض منها الطيبة الكريمة التربة التي يخرج نباتها بسهولة وينمى بسرعة ويكون كثير الغلّة طيب الثمرة ، ومنها الخبيثة التربة كالخرّة ـ الحجرية ـ والسّبخة التي لا يخرج نباتها على قلته وخبثه إلا بعسر وصعوبة.

قال ابن عباس : هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر أي للبر والفاجر ا ه أي إنه تعالى شبههما بالأرض الخيّرة والأرض السبخة ، وشبه نزول القرآن بنزول المطر ، فالأرض الخيّرة يحصل فيها بنزول المطر أنواع الأزهار والثمار ، والأرض السبخة إن نزل عليها المطر لا تنبت من النبات إلا النذر القليل ، فكذلك الروح الطيب النقي من شوائب الجهل ورذائل الأخلاق إذ اتصل به نور القرآن ظهرت فيه أنواع الطاعات والأخلاق الحميدة ، والروح الخبيث الكدر وإن اتصل به نور القرآن لا يظهر فيه من المعارف وجميل الأخلاق إلا النذر القليل.

روى أحمد والشيخان والنسائي من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير ، أصاب أرضا فكان منها نقيّة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب التي لا تشرب ولا تنبت ـ أمسكت الماء فنفع الله بها الناس ، فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب طائفة أخرى منها إنما هى قيعان ـ أرض مستوية ـ لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه فى دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم القسم الأول وهو الذي نفع وانتفع بالهادي والمهتدى ، وفسر القسم الثالث وهو الذي لم ينفع ولم ينتفع بالجاحد وسكت عن القسم الثاني وهو الذي نفع غيره بعلمه ولم ينتفع به هو ، لأن له أحوالا كثيرة فمنه المنافقون ومنه المفرطون فى دينهم ، والمشاهدة تدل

١٨٦

على أن الطيبي الأخلاق يفعلون الخير والبر بلا تكلف ، وأن الخبيثين لا يفعلون الخير ولا يؤدون الواجب إلا نكدا بعد إلحاف أو إيذاء حين الطلب أو إدلاء إلى الحكام.

(كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) أي مثل ذلك التصريف البديع نرّدد الآيات الدالة على القدرة الباهرة ، ونكررها لقوم يشكرون نعمنا باستعمالها فيما تتم حكمتنا ، وبذا يستحقون منا المزيد ويكافئون بالثواب عليها.

وختم هذه الآية بالشكر ، إذ كان موضوعها الاهتداء بالعلم والعمل والإرشاد ، والآية التي قبلها بالتذكر لما كان موضوعها الاعتبار والاستدلال.

قصص نوح عليه السلام

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤))

تفسير المفردات

اليوم هنا : يوم القيامة ، والملأ : أشراف القوم لأنهم يملئون العيون بهجة ورواء بتأنقهم فى زيّهم وتجميل منظرهم ، والنصح : الإرشاد إلى المصلحة مع خلوص النية

١٨٧

من شوائب المكر ، والذكر : الموعظة ، وعلى رجل أي على لسانه ، منكم أي من جنسكم ، والفلك : السفينة ، وعمين واحدهم عم : وهو ذو العمى ، أو هو خاص بعمى القلب والبصيرة ، والأعمى أعمى البصر كما قال زهير :

وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكننى عن علم ما فى غد عمى

المعنى الجملي

بعد أن ذكر ـ عظمت آلاؤه ـ الإنسان ومعاده وأن مردّه إلى الله فى يوم تجازى فيه كل نفس بما كسبت ـ قفّى على ذلك بذكر قصص الأنبياء مع أممهم وإعراضهم عن دعوتهم ، ليبين للرسول أن الإعراض عن قبول دعوة الأنبياء ليس ببدع فى قومك ، بل سبق به أقوام كثيرون ، وفى ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم ـ إلى ما فيه من التنبيه إلى أن الله لا يهمل أمر المبطلين ، بل يمهلهم ، وتكون العاقبة للمتقين ، ومن العظة والاعتبار بما حل بمن قبلهم من النكال والوبال كما قال «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ».

الإيضاح

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) أقسم ربنا جل ثناؤه للمخاطبين بهذه الآية من أهل مكة ومن جاورهم من العرب بأنه سبحانه أرسل نوحا إلى قومه منذرا لهم بأسه ، ومخوّفهم سخطه ، على عبادتهم غيره ، وقد كانوا ينكرون الرسالة والوحى ، إذ ليس عندهم من علوم الرسل والأمم شىء إلا ما يتلقونه من اليهود والنصارى فى بلاد العرب والشام.

ونوح أول رسول أرسله الله إلى قومه المشركين كما هو رأى كثير من المحققين كما ثبت فى حديث الشفاعة وغيره.

(فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي فدعا من كفر منهم إلى عبادة

١٨٨

الله تعالى وحده ، إذ ليس لهم إله غيره يتوجهون إليه فى عبادتهم بدعاء يطلبون به ما لا يقدرون عليه بكسبهم ، فرهم هو الخالق لكل شىء وبيده ملكوت كل شىء ، وهو الإله الحق الذي يجب أن تتوجه إليه القلوب بالدعاء وغيره.

ثم ذكر السبب فى الأمر بعبادته وحده ، وترك أدنى شوائب الشرك ، مثبتا للبعث والجزاء فقال :

(إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إنى أخاف عليكم عذاب يوم شديد هو له وهو يوم البعث والجزاء إذا لم تمتثلوا ما أمرتكم به.

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي قال له أشراف قومه : إنا لنراك فى ضلال بيّن عن الحق بنهيك لنا عن عبادة آلهتنا : ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وهم شفعاؤنا عند الله ووسيلتنا إليه ، فببركتهم يتقبّل منا صالح أعمالنا ، ويعطينا سؤلنا ، لما كانوا عليه من الصلاح والتقوى ، ونحن لا نستطيع أن نوجه إليه دعواتنا دون وساطتهم ، لما نجترحه من السيئات التي تبعدنا عن حظيرة ذلك القدس الأعظم.

وخلاصة مقالهم ـ أنت فى غمرة من الضلال أحاطت بك ، فجعلتك لا تجد إلى الصواب سبيلا.

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي قال نوح مجيبا لهم : يا قوم لم آمركم بما أمرتكم به من توحيد الله وإخلاص الطاعة له دون الآلهة والأنداد خروجا منى عن محجة الحق ، وضلالا عن سبيل الرشاد ، ولكنى رسول من رب العالمين إليكم ، أهديكم باتباعى إلى ما يوصلكم إلى السعادة فى دنياكم وآخرتكم ، وأنقذكم من الهلاك الأبدى بالشرك بالله والمعاصي المدنسة للأنفس والمفسدة للأرواح.

ومن رحمة ربكم بكم ألا يدعكم فى عمايتكم وشرككم الذي ابتدعتموه بجهلكم حتى يبين لكم الحق من الباطل على يد رسول من لدنه يسلك بكم السبيل السوي الموصل إلى النجاة.

١٨٩

(أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) أي أرسلنى إليكم لأبلغكم ما طلب إلى تبليغه من التوحيد والإيمان واليوم الآخر والوحى والرسالة والملائكة والجنة والنار والآداب والمواعظ والأحكام العامة من عبادات ومعاملات إلى نحو ذلك.

(وَأَنْصَحُ لَكُمْ) بتحذيركم عقاب الله على كفركم به وتكذيبكم لى وردكم نصحى.

روى مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «الدين النصيحة ، قلنا لمن يا رسول؟ قال : لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».

(وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي وأنا فى هذا التبليغ وذلك النصح على علم من الله أوحاه إلىّ لا تعلمون منه شيئا ، كما أنى أعلم من الله وشئونه ما لا تعلمون فى نظام هذا العالم وما ينتهى إليه ، كما أعلم ما بعده من أمر الآخرة والحساب والجزاء ـ فإذا نصحت لكم وأنذرتكم عاقبة شرككم من إنزال العذاب بكم فى الدنيا إذا جحدتم وعاندتم ، فإنما أنصح لكم عن علم يقينى لا تعلمونه.

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر وموعظة من ربكم على لسان رجل منكم ، ليحذّركم عاقبة كفركم ويعلمكم بما أعدّ لكم من العذاب على ذلك ولتتقوا بهذا الإنذار ما يسخط ربكم عليكم بالشرك فى عبادته ، والإفساد فى أرضه ، وليعدّكم بالتقوى لرحمته التي ترجى لكل من أجاب الدعوة واتقى.

وفى قوله : على رجل منكم ، بيان لشبهتهم على الرسالة وهى أن الرسول بشر مثلهم ، فكأنهم كانوا يرون أن الاشتراك فى البشرية والصفات العامة يقتضى التساوي فى جميع الخصائص والمزايا ويمنع الانفراد بشىء منها ، والمشاهدة أكبر برهان على بطلان هذه القضية ، فالتفاوت فى الغرائز والصفات الفاضلة والاختلاف فى القوى العقلية والمعارف والأعمال الكسبية ـ جدّ عظيم فى البشر ، وليس فى الأنواع الأخرى ما يشبه الإنسان فى ذلك ـ إلى أنه لو فرض التساوي بينهم ، فهل هذا يمنع أن يختص الله

١٩٠

بعض عباده بما هو فوق المعهود فى الغرائز والمكتسب بالتعلم؟ كلا ، إنه تعالى قدير على ذلك ، وقد قضت به مشيئته ، ونفذت به قدرته.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أي فكذبه جمهورهم وأصرّوا على ذلك وخالفوا أمر ربهم ولجّوا فى طغيانهم يعمهون ، فأنجيناه من الغرق والذين سلكهم معه فى الفلك من المؤمنين : «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» وقد جاءت القصة مفصلة فى سورة هود ، قيل كانت عدتهم ثلاث عشرة : نوح وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث وأزواجهم وستة ممن كانوا آمنوا به.

(وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) أي وأغرقنا من كذب بآياتنا بالطوفان بسبب تكذيبهم ، وما كان ذلك التكذيب إلا لعمى بصائرهم الذي حال بينهم وبين الاعتبار بالآيات وفهمهم للدلائل الدالة على وحدانية الله وقدرته على إرسال الرسل وحكمته فى ذلك ، والثواب والعقاب فى يوم الجزاء ، يوم يحشر الناس لرب العالمين ، «يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنهم من شدة العذاب حيارى».

قصص هود عليه السلام

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ

١٩١

 لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢))

تفسير المفردات

الأخ هنا : الأخ فى النسب ، وتقول العرب فى أخوة الجنس يا أخا العرب ، والسفاهة : خفة العقل ، والآلاء واحدها ألى : وهى النعمة ، والرجس : العذاب ، والغضب : الانتقام ، والمجادلة : المماراة والمخاصمة ، والسلطان : الحجة والدليل ، والدابر : الآخر ، ويراد به الاستئصال أي أهلكناهم جميعا.

المعنى الجملي

أخرج ابن إسحق من طريق الكلبي قال : إن عادا كانوا أصحاب أوثان يعبدونها ـ اتخذوها على مثال ود وسواع ويغوث ونسر ، فاتخذوا صنما يقال له صمود وآخر يقال له الهتار ، فبعث الله إليهم هودا وكان من قبيلة يقال لها الخلود ، وكان

١٩٢

من أوسطهم نسبا وأصبحهم وجها ، فدعاهم إلى عبادة الله وأمرهم أن يوحّدوه ، وأن يكفوا عن ظلم الناس فأبوا ذلك وكذبوه : «وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟».

وكانت منازلهم بالأحقاف ـ الرمل ـ فيما بين عمان إلى حضرموت باليمن ، وكانوا مع ذلك قد أفسدوا فى الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله ا ه.

الإيضاح

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم فى النسب هودا ، والحكمة فى كون رسول القوم منهم أن يفهمهم ويفهم منهم ، وأن يكونوا أقرب إلى إجابة دعوتهم لمعرفتهم شمائله وأخلاقه.

(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي قال هود لهم : يا قوم أفردوا العبادة لله ولا تجعلوا معه إلها غيره.

(أَفَلا تَتَّقُونَ) ربكم وتبتعدون عما يسخطه من الشرك والمعاصي لتنجوا من عقابه؟ وجاء فى سورة هود : «أَفَلا تَعْقِلُونَ».

وقد يكون قال لهم هذا وذاك فى وقت واحد أو يكون قد قال لهم هذا مرة وذاك أخرى.

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) أي قال الملأ الذين جحدوا توحيد الله وأنكروا رسالة هود إليهم : إنا لنراك فى ضلال عن الحق والصواب بتركك ديننا وعبادة آلهتنا الذين اتخذت لهم الأمة الصور والتماثيل تخليدا لذكراهم والتقرب بشفاعتهم إلى ربنا وربهم.

ووصف الملأ هنا بالكفر دون ملأ قوم نوح ، لأن منهم من كان قد آمن.

(وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) فى قيلك إنى رسول من رب العالمين ، وفى قولهم هذا إيماء إلى تكذيبهم كل رسول ، إذ هم قد عبروا عن أصحاب هذه الدعوى بالكاذبين وجعلوه واحدا منهم.

١٩٣

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي ليس بي أىّ ضلالة عن الحق والصواب كما تدّعون ، ولكنى رسول من رب العالمين أرسلنى إليكم ، لأبلغكم رسالات ربى وأؤديها إليكم ، والله أعلم حيث يجعل رسالته ، فلا يختار لها إلا من عرفوا برجحان العقل وحصافة الرأى وكمال الصدق.

ثم بين وظيفة الرسول وحاله عليه السلام فيما بلغ فقال :

(أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) أي أبلغكم ما أرسلت به من التكاليف ، وإنى ناصح لكم فيما أبلغكموه وأدعوكم إليه ، أمين فيما أبلغ عن الله ، فلا أكذب عليه فى وحيه إلىّ.

وفى إجابة هؤلاء الأنبياء لأقوامهم بتلك الإجابة الصادرة عن الحكمة والإغضاء عما قالوا من وصفهم إياهم بالسفاهة والضلالة ـ أدب حسن وخلق عظيم وتعليم لعباده كيف يقابلون السفهاء ، وكيف يغضون عن قالة السوء التي تصدر عنهم.

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ؟) أي أكذّبتم وعجبتم أن أنزل ربكم وحيه بتذكيركم وعظتكم على ما أنتم عليه مقيمون من الضلالة على لسان رجل منكم لينذركم بأسه ويخوفكم عقابه؟

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) أي واذكروا فضل الله عليكم ونعمته ، إذ جعلكم ورثة قوم نوح وزادكم بسطة فى خلق أبدانكم ـ وقد كانوا طوال الأجسام أقوياء الأبدان ـ واتقوا الله فى أنفسكم واحذروا أن يحل بكم من العذاب مثل ما حل بهم ، فيهلككم ويبدل منكم غيركم ، سنته فيهم ؛ وقد جاء فى سورة هود والشعراء وفصلت ما يدل على ما كان لهم من قوة وجبروت وبطش شديد.

(فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي فاذكروا نعم الله وفضله عليكم ، واشكروه على ذلك بإخلاص العبادة له وترك الإشراك به ، وهجر الأوثان والأصنام

١٩٤

لعلكم تفوزون بما أعده للشاكرين لنعمه ، الراجين للمزيد منها ، وتدركون الخلود والبقاء والنعيم الأبدى فى دار القرار.

ثم ذكر ما ردوا به عليه فقال :

(قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) يقال : جاء يعلم الناس كيف يحاربون ، وذهب يقيم قواعد العمران ، على معنى شرع يفعل ذلك.

والمعنى ـ أجئتنا لأجل أن نعبد الله وحده ، ونترك ما كان يعبد آباؤنا معه من الأولياء والشفعاء وهم الوسيلة عنده ، وهم الذين يقربوننا إليه زلفى ، وهل يقبل الله عبادتنا مع ذنوبنا إلا بهم ولأجلهم.

وبعد أن استنكروا التوحيد واحتجوا عليه بما لا يصلح عقلا ولا شرعا أن يكون حجة من تقليد الآباء والأجداد استعملوا الوعيد فقالوا :

(فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فجئنا بما تعدنا به من العذاب على ترك الإيمان بك ، والعمل بما جئت به من التوحيد ، وإخلاص العبادة لله وحده ـ إن كنت صادقا فى قولك ووعيدك.

فأجابهم هود على مقالتهم بقوله :

(قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) أي قال هود لقومه : قد قضى عليكم ربكم مالك أمركم بعذاب وطرد من رحمته ، وقد كان عذابهم ريحا صرصرا ذات صوت شديد عاتية تنزع الناس من الأرض ثم ترميهم بها صرعى «كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ» أي قد قلع من منابته ، وزال من أماكنه.

(أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ؟) أي أتخاصمونني فى أسماء وضعتموها أنتم وآباؤكم الذين قلدتموهم على غير علم ولا هدى منكم ولا منهم لمسميات اتخذوها فاتخذتموها آلهة زاعمين أنها تقربكم إلى الله زلفى وتشفع عنده لكم ، ما أنزل الله من حجة ولا برهان يصدق زعمكم بأنه رضى أن تكون واسطة بينه

١٩٥

وبينكم ، وكيف وهو الواحد الأحد الذي يصمد إليه عباده فى العبادة ، وطلب مالم يمكنهم بالأسباب العادية.

والخلاصة ـ إنه هو الذي يتوجه إليه وحده ، ولا يشرك معه أحد من خلقه كما قال إبراهيم : «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

وكل ما يتعلق بعبادة الله لا يعلم إلا بوحي منه ينزله على رسله؟ إذ لا يعلم إلا من عباده المبلغين عنه.

(فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أي فانتظروا نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) إنى معكم من المنتظرين لنزوله بكم ، وفصل قضائه فينا وفيكم ، وإننى لموقن بذلك وأنتم مرتابون.

(فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) أي فلما جاء أمرنا ووقع ما وقع ـ أنجينا هودا والذين آمنوا به وبما دعا إليه من توحيد الله وهجر الأوثان ـ برحمة عظيمة منا ، واستأصلنا دابر الذين جحدوا بآياتنا ولم نبق منهم أحدا بريح صرصر عاتية : «تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ».

قصص صالح عليه السلام

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً

١٩٦

وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩))

تفسير المفردات

ثمود : قبيلة من العرب كانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى ، سميت باسم جدهم ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح ؛ وأخوّة صالح لهم : أخوة فى النسب كأخوة هود لقومه ، والبينة : المعجزة الظاهرة الدلالة ، واذكروا أي تذكروا ، وبوأكم فى الأرض أي أنزلكم فيها وجعلها مباءة لكم ، والأرض : أرض الحجر بين الحجاز والشام ، والنحت : نحر الشيء الصّلب ، والعيث والعثى : الفساد ، استكبروا : عتوا وتكبروا ، وعقروا الناقة : نحروها ، وأصل العقر الجرح ، وعقر الإبل : قطع قوائمها ، وكانوا يفعلون ذلك بها قبل نحرها لتموت فى مكانها ولا تنتقل ، وعتوا : تمردوا مستكبرين ، التمرد ، والامتناع إما عن عجز وضعف ، ومنه عتا الشيخ عتيا : إذا أسنّ وكبر ، وإما عن قوة كعتو الجبارين والمستكبرين ، ويقولون نخلة عاتية : إذا كانت عالية يمتنع جناها على من يريدها إلا بمشقة التسلق والصعود ، الرجفة : المرة من الرجف وهو الحركة والاضطراب ، يقال رجف البحر : إذا اضطربت أمواجه ورجفت

١٩٧

الأرض : زلزلت واهتزت ، ورجف القلب والفؤاد من الخوف ، ودار الرجل : ما يسكنها هو وأهله ، ويطلق على البلد وهو المراد هنا ، وجثم الناس : قعدوا لا حراك بهم ، قال أبو عبيدة : الجثوم للناس والطير كالبروك للإبل.

الإيضاح

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) أي ولقد أرسلنا إلى بنى ثمود أخاهم صالحا.

(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي قال صالح لثمود : يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له ، فما لكم من إله تعبدونه سواه.

(قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قد جاءتكم حجة وبرهان على صدق ما أقول وحقيقة ما أدعو إليه من إخلاص التوحيد له وإفراده بالعبادة دون سواه.

وفى قوله : من ربكم ، إيماء إلى أنها ليست من فعله ، ولا مما ينالها كسبه ، وهكذا سائر ما يؤيد به الله الرسل من خوارق العادات.

وهذه المقالة كانت لهم بعد نصحهم وتذكيرهم بنعم الله وتكذيبهم له كما جاء فى سورة هود من قوله : «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها» إلى آخر الآيات.

(هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) أضاف الناقة إلى الله تعظيما لشأنها ، ولأنها لم تأت بنتاج معتاد وأسباب معهودة ، ومن ثم كانت آية. وأىّ آية؟.

وإنما استشهد صالح على صحة نبوته بالناقة ، لأنهم سألوه إياها آية دالة على صدق دعوته وصحة نبوته.

ثم ذكر ما يترتب على كونها آية أنه لا ينبغى التعرض لها فقال :

(فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الأرض أرض الله والناقة ناقة الله فاتركوها تأكل ما تأكل فى أرض ربها ، وليس لكم أن تحولوا بينها وبينها ، ولا تتعرضوا لها بسوء فى نفسها ولا فى أكلها ، فإنكم إن

١٩٨

فعلتم ذلك أخذكم عذاب أليم ، وقد وصف فى سورة هود العذاب بالقريب وهو أنه يقع بعد ثلاثة أيام من مسهم إياها بالسوء ، وكذلك كان ، وجاء فى سورة القمر : «وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ».

وجاء تفسير هذا فى سورة الشعراء : «هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» أي إن الماء الذي كانوا يشربون منه قسمة بينهم وبين الناقة ، إذ كان ماء قليلا ، فكانوا يشربونه يوما وتشرب هى يوما ، وقد روى عن ابن عباس أنهم كانوا يستعيضون عن الماء يوم شربها بلبنها.

ثم ذكّرهم بنعم الله عليهم وبوجوب شكرها بعبادته تعالى وحده فقال :

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) أي وتذكروا نعم الله عليكم وإحسانه إليكم ، إذ جعلكم خلفاء لعاد فى الحضارة والعمران والقوة والبأس وأنزلكم منازلهم تتخذون من سهولها قصورا زاهية ، ودورا عالية ، بما ألهمكم من حذق فى الصناعة ، فجعلكم تضربون اللبن وتحرقونه آجرا (الطوب المحرق) وتستعملون الجص وتجيدون هندسة البناء ودقة النجارة ، وتنحتون من الجبال بيوتا ، إذ علمكم صناعة النحت ، وآتاكم القوة والجلد.

روى أنهم كانوا يسكنون الجبال فى الشتاء لما فى البيوت المنحوتة من القوة ، فلا تؤثر فيها الأمطار والعواصف ، ويسكنون السهول فى باقى الفصول للزراعة والعمل.

(فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي وتذكروا هذه النعم العظام ، واشكروها له بتوحيده وإفراده بالعبادة ، ولا تتصرفوا فيها تصرف كفران وجحود بفعل ما لا يرضى الله الذي خلقها لكم ، فما بالكم بالكفر والعثى فى الأرض بالفساد.

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ : أَتَعْلَمُونَ

١٩٩

 أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟) قد جرت سنة الله أن يكون الفقراء المستضعفون أسرع الناس إلى إجابة دعوة الأنبياء والرسل ، وإلى كل دعوة لإصلاح ، فإنه لا يثقل عليهم أن يكونوا تابعين لغيرهم ، وأن يكفر بها أكابر القوم وأغنياؤهم المترفون ، إذ يشق عليهم أن يكونوا مرءوسين لسواهم ، كما يصعب عليهم الامتناع عن الإسراف فى الشهوات ، والوقوف عند حدود الاعتدال.

وعلى هذا السنن سار الملأ من قوم صالح إذ قالوا للمؤمنين منهم : أتعلمون أن صالحا رسول من عند الله؟ ومرادهم بهذا التهكم والاستهزاء بهم.

(قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي إنا بما أرسل به صالح من الحق والهدى مصدّقون ومقرون بأنه من عند الله ، وأن الله أمر به ، وعن أمر الله دعانا صالح.

وفى جوابهم هذا دون أن يقولوا ـ نعم ، أو نعلم أنه مرسل منه ، أو إنا برسالته عالمون ـ إيماء إلى أنهم علموا بذلك علما يقينيا إذ عانيا له السلطان على عقولهم وقلوبهم وما كل من يعلم شيئا يصل علمه إلى هذه المرتبة ، بل من الناس من يعلم الشيء بالبرهان لكنه يجحده ويحاربه وهو موقن به حسدا لأهله ، أو استكبارا عنه كما قال تعالى : «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا».

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي قال الذين استكبروا عن أمر الله وأمر رسوله صالح : إنا بالذي صدقتم به من نبوة صالح وإن الذي جاء به هو الحق ـ جاحدون منكرون لا نصدق به ولا نقر.

وإنما لم يقولوا إنا بالذي أرسل به صالح كافرون ـ لأن ذلك يتضمن إثبات الرسالة فلو قالوه لكان شهادة منهم على أنفسهم بجحود الحق على علمهم به استكبارا وعنادا.

ثم ذكر ما فعلوه مما يدل على كفرهم بآيات ربهم فقال :

(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أي فعقر أولئك المستكبرون الناقة ، ونسب الفعل إليهم جميعا والفاعل واحد منهم كما جاء فى سورة القمر : «فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ»

٢٠٠