تفسير المراغي - ج ٨

أحمد مصطفى المراغي

قال سعيد : فقال ابن مسعود : على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر ، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة ثم قال : هلك من غلب وحدانه أعشاره. ا ه.

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩))

الإيضاح

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) هذا نداء آخر من بعض أصحاب الأعراف لبعض المستكبرين الذين كانوا يعتزّون فى الدنيا بغناهم وقوتهم ، ويحتقرون ضعفاء المؤمنين لفقرهم وضعف عصبيتهم أو لحرمانهم من عصبية تمنعهم وتذود عنهم ، ويزعمون أن من أغناه الله وجعله قويا فى الدنيا فهو الذي يكون له نعيم الآخرة كما قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ».

ومن هؤلاء زعماء قريش وطغاتها الذين قاوموا الإسلام فى مكة واضطهدوا أهله كأبى جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل.

والسيما التي يعرفونهم بها هى سواد الوجوه ، ورزقة العيون ، وتشويه الخلق ؛ واختار أبو مسلم أنهم يعرفونهم بسيماهم الخاصة التي كانوا عليها فى الدنيا ، وقيل بسيما المستكبرين ؛ إذ قد جاء فى الأثر ما يدل على أن لمن تغلب عليهم رذيلة خاصة ـ علامة

١٦١

تدل عليهم فيعرفون بها ؛ فقد روى البخاري «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة ، وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيعرفه فيشفع له ، فلا تقبل شفاعته ، ثم يمسخه الله ذئبا منتنا ليزول عن إبراهيم خزيه» فمسخه ذئبا مناسب لحماقته ونتن الشرك.

والخلاصة ـ إنهم نادوهم قائلين لهم : ما أغنى عنكم جمعكم للمال ولا استكباركم على المستضعفين والفقراء من أهل الإيمان ، إذ لم يمنع عنكم العقاب ، ولا أفادكم شيئا من الثواب.

ثم وجّه إليهم سؤال توبيخ وتأنيب بحضرة هؤلاء المستضعفين فقيل لهم :

(أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ؟) أي وقالوا لهم مع الإشارة إلى أولئك المستضعفين الذين كانوا يضطهدونهم ويعذبونهم فى الدنيا كصهيب الرومي وبلال الحبشي وآل ياسر ، والتهكم من خزيهم وفوز من كانوا يحتقرونهم : أهؤلاء الذين حلفتم فى الدنيا إن رحمة الله لن تنالهم؟ إذ لم يعطوا فى الدنيا مثل ما أعطيتم من الأتباع والأشياع وكثرة المال.

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أي قال الله تعالى لأصحاب الأعراف بعد أن يحبسوا على الأعراف ، وينظروا إلى الفريقين ويعرفوهم بسيماهم ويقولوا ما يقولون ادخلوا الجنة لا خوف عليكم مما يكون فى مستقبل أمركم ، ولا أنتم تحزنون مما ينغّص عليكم حاضركم.

وفائدة هذه المقالة بيان أن الجزاء على قدر الأعمال ، وأن أحدا لا يسبق عند الله إلا بسبقه فى العمل ، ولا يتخلف عنده إلا بتخلفه فيه ، وليرغب السامعون فى حال السابقين ، وليعرفوا أن كل أحد يعرف فى ذلك اليوم بسيماه التي يوسم بها ، سواء أكان من أهل الخير أم من أهل الشر ، فيزيد المحسن فى إحسانه ويرتدع المسيء عن إساءته ، وليعلموا أن العصاة يوبخهم كل أحد حتى أقل الناس عملا.

١٦٢

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه مقال أهل الجنة لأهل النار ومقال أصحاب الأعراف لأهل النار ـ أردف ذلك ما قال أهل النار لأهل الجنة ـ وطلبهم منهم بعض ما عندهم من نعم الله عليهم.

الإيضاح

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) إفاضة الماء : صبه ثم استعملت فى الشيء الكثير فيقال : فاض الرزق والخير ، وأفاض عليه النعم ، وقالوا أعطاه غيضا من فيض أي قليلا من كثير ، وما رزقهم الله يشمل الطعام والأشربة غير الماء.

والمعنى ـ إن أهل النار يستغيثون بأهل الجنة ويطلبون منهم أن يفيضوا عليهم من النعم الكثيرة التي يتمتعون بها من شراب وطعام.

وعن ابن عباس «ينادى الرجل أخاه فيقول : يا أخى أغثنى فإنى قد احترقت فأفض علىّ من الماء ، فيقال : أجبه فيقول : إن الله حرمهما على الكافرين».

وعن أبي الدرداء «إن الله يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم فيستغيثون فيغاثون بالضّريع (نبات رطبه يسمى شبرقا ، ويابسه يسمى ضريعا لا تقر به دابة لنتن ريحه) لا يسمن ولا يغنى من جوع ، ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذى غصة ،

١٦٣

ثم يذكرون الشراب ويستغيثون فيدفع إليهم الحميم والصديد بكلاليب الحديد فيقطع ما فى بطونهم ويستغيثون إلى أهل الجنة ، فيقول أهل الجنة : إن الله حرمهما على الكافرين»

وهذا طلب منهم مع علمهم باليأس من إجابته ، إذ هم يعرفون دوام عقابهم وأنه لا يفتر عنهم أبدا ، ولكن اليأس من الشيء قد يطلبه كما قالوا فى أمثالهم (الغريق يتعلق بالزبد).

(قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ. الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) التحريم المنع وهو إما تحريم تكليف كتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وإما تحريم قهر كتحريم الجنة وما فيها على الكافرين فى مثل هذه الآية.

والمعنى ـ إن أهل الجنة قالوا جوابا عن هذا الاستجداء : إن الله قد حرم ماء الجنة ورزقها على الكافرين ، كما حرم عليهم دخولها ، فلا سبيل لإفاضة شىء منهما عليهم وهم فى النار ، إذ ليس لهم إلا ماؤها الحميم وطعامها من الضريع والزقوم.

وقد وصف أهل الجنة الكافرين بأنهم هم الذين كانوا السبب فى هذا المنع والحرمان ، إذ جعلوا ديدنهم أعمالا لا تزكّى الأنفس ولا تجعلها أهلا للتشريف والكرامة ، بل هى إما لهو يشغل الإنسان عن الجدّ والأعمال المفيدة ، وإما لعب لا يقصد منه فائدة صحيحة فهو كأعمال الأطفال ، وقد غرتهم الحياة الدنيا بشهواتها ولذاتها من الحرام والحلال ، أما أهل الجنة فقد سعوا لها سعيها ، وعلموا أن الدنيا مزرعة الآخرة ، ومن ثم لم يكن من قصدهم من التمتع بنعم الله إلا الاستعانة بها على ما يرضيه من إقامة الحق والعدل ، والاستعداد لحياة أبدية لا نهاية لها.

والخلاصة ـ إن الدنيا شغلتهم بزخارفها العاجلة وشهواتها الباطلة ، فعزّتهم وضرتهم ، وهى من شأنها أن تغرّ وتضر وتمرّ.

ثم ذكر عاقبة أمرهم فقال :

(فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) أي فاليوم نعاملهم معاملة الشيء المنسى

١٦٤

الذي لا يبحث عنه أحد ، كما جعلوا هذا اليوم منسيا ، والمراد من النسيان عدم إجابة دعائهم وتركهم فى النار.

(وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) أي وكما كانوا منكرين أن الآيات من عند الله إنكارا مستمرا ، ورفضوا ما جاءت به رسله ظلما وعلوا.

والخلاصة ـ فاليوم نتركهم فى العذاب كما تركوا العمل فى الدنيا للقاء الله يوم القيامة ، وكما كانوا بآيات الله وحججه التي احتج بها عليهم الأنبياء والرسل يجحدون ولا يصدّقون بشىء منها.

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣))

تفسير المفردات

الكتاب هو القرآن الكريم ، والتفصيل جعل المسائل المراد بيانها مفصولا بعضها من بعض بما يزيل اشتباهها وينظرون أي ينتظرون ، وتأويله أي عاقبته ، والحق هو الأمر الثابت ، والخسران : الغبن ، وضل عنهم ، أي غاب عنهم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أحوال أهل الجنة وأهل النار وأهل الأعراف وذكر الحوار الذي كان بين هذه الفرق الثلاثة على وجه يحمل الناظر فيها على الحذر والاحتراس والتأمل

١٦٥

فى العواقب ، لعله يرعوى عن غيه ويهتدى إلى سبيل رشده ، عقّب ذلك بذكر حال الكتاب الكريم وعظيم فضله وجليل منفعته ، وأنه حجة الله على البشر كافة ، وأنه أزاح به علل الكفار وأبطل معاذيرهم ، ثم بذكر حال المكذبين وما يكون منهم يوم القيامة من الندم والحسرة وتمنى العودة إلى الدنيا لإصلاح أعمالهم.

الإيضاح

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ ، هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي ولقد جئنا هؤلاء القوم بكتاب كامل البيان وهو القرآن ، فصلنا آياته تفصيلا على علم منا بما يحتاج إليه المكلفون من العلم والعمل ، تزكية لنفوسهم وتطهيرا لقلوبهم ، وجعلناه سبب سعادتهم فى معاشهم ومعادهم ، وهدى ورحمة لمن يؤمن به إيمانا يبعثه على العمل بما أمر به ، والانتهاء عما نهى عنه.

انظر إليه تجده قد أوضح أصول الدين العامة بما لا يطلب معه زيادة لمستزيد ، فنعى على المقلدين الأخذ بآراء من تقدمهم من آبائهم ورؤسائهم دون بحث ولا تمحيص فى مثل قوله : «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» وكرر القول ببطلان التقليد وضلال المقلدين ، وحث على النظر والاستدلال والاعتماد على البرهان فى مثل قوله : «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» وبهذا كان الإسلام دين العقل والفطرة ، وينبوع الهدى والحكمة والرحمة.

وحين وجد الناس افتنّوا فى الشرك ، وفرقوا بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية فظنوا أن الإيمان بوحدة الرب خالق الكون ـ كاف فى الإيمان ولا يضر التوجه إلى غيره من المقربين بالدعاء وطلب ما يعجز المرء عن نيله من طريق الأسباب ، ظنا منهم أن التوسل به إليه وشفاعته عنده مما يرضيه ـ أبطل هذه الشبهات ، وأزال هذه

١٦٦

التعلات وبسط ذلك كل البسط. وأطنب فيه أيّما إطناب. إلى نحو ذلك من مسائل تبصّر المرء فى دينه ودنياه. وتعرفه مبدأه ومنتهاه.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي هل ينتظرون إلا عاقبة ما وعدوا به على ألسنة الرسل من الثواب والعقاب ، أي ليس أمامهم شىء ينتظرونه فى أمره إلا وقوع تأويله وهو وقوع ما أخبر به من أمر الغيب الذي يقع فى المستقبل فى الدنيا ثم فى الآخرة مما وعد به المؤمنين من نصر وثواب ، والكافرين من خذلان وعقاب.

روى عن الربيع بن أنس أنه قال : لا يزال يقع من تأويله أمر حتى يتم تأويله يوم القيامة حين يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيتم تأويله يومئذ.

(يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) أي يأتى تأويله ونهايته يوم القيامة وتزول كل شبهة فيقول الذين نسوه من قبل أي تركوه وجعلوه كالشىء المنسى وأعرضوا عنه فلم يهتدوا به : قد جاءت رسل ربنا بالحق ، أي قد تبين أنهم قد جاءوا بما هو متحقق ثابت ، فتمارينا فيه وأعرضنا عنه حتى حق علينا الجزاء.

ثم ذكر حالهم فى ذلك اليوم وتلهفهم على النجاة فيتمنون إما شفاعة الشافعين أو رجوعهم إلى الدنيا ليصلحوا أعمالهم فقال :

(فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا ، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ؟) أي إنهم يتمنون الخلاص بكل وسيلة ممكنة ، إما بشفاعة الشفعاء ، وإما بالرجوع إلى الدنيا ليعملوا فيها غير ما كانوا يعملون فى حياتهم الأولى فيكونوا أهلا لمرضاة ربهم.

وإنما تمنّوا الشفعاء وتساءلوا عنهم ، من حيث كان من أسس الشرك أن النجاة عند الله إنما تكون بوساطة الشفعاء ، وعند ما يستبين لهم الحق الذي جاءت به الرسل وهو أن النجاة إنما تكون بالإيمان الصحيح والعمل الصالح يتمنون لو يردون إلى الدنيا ليعملوا بما أمرهم به الرسل.

(قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي هم قد غبنوا أنفسهم

١٦٧

حظوظها وباعوا نعيم الآخرة الدائم بالخسيس من عرض الدنيا الزائل ، ويومئذ يغيب عنهم ما كانوا يفترون من خبر الشفعاء ومقالاتهم التي كانوا يقولونها كقولهم فى معبوداتهم «هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ».

وخلاصة ذلك ـ إنهم قد خسروا أنفسهم بتدنيسها بالشرك والمعاصي وعدم تزكيتها بالفضائل والأعمال الصالحة ، فخسروا حظوظهم فيها.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤))

تفسير المفردات

الرب : هو السيد والمالك والمدبر والمربى ، والإله : هو المعبود الذي يدعى لكشف الضر أو جلب النفع ويتقرب إليه بالأقوال والأعمال التي يرجى أن ترضيه ، والله : اسم الخالق الخلق أجمعين ، ولا يثبت الموحّدون ربا سواه ، وأكثر المشركين يقولون إنه أكبر الأرباب أو رئيسهم وأعظم الآلهة ، وكان مشركوا العرب لا يثبتون ربا سواه ، وإنما يعبدون آلهة تقربهم إليه ، والسموات والأرض : يراد بهما العالم العلوي والعالم السفلى ، واليوم : الزمن الذي يمتاز عن غيره بما يحدث فيه كامتياز اليوم المعروف بما يحده من النور والظلام ، وامتياز أيام العرب بما كان يقع فيها من الحرب والخصام ، وليست هذه الأيام الستة من أيام الأرض وهى التي مجموع ليلها ونهارها أربع وعشرون ساعة ، فإن هذه إنما وجدت بعد خلق هذه الأرض ، فكيف يعدّ خلقها بأيام منها ، ولأن الله تعالى يقول «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» ويقول فى وصف يوم القيامة «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» والعرش لغة : كل شىء له سقف ،

١٦٨

ويطلق على هودج للمرأة يشبه عريش الكرم ، وعلى سرير الملك وكرسيه فى مجلس الحكم والتدبير ، والاستواء لغة : استقامة الشيء واعتداله ، واستوى الملك على عرشه أي ملك ، وثلّ عرشه أي هلك ، وغشّى الشيء الشيء : ستره وغطاه ، وأغشاه إياه : جعله يغشاه أي يغطّيه ويستره ، ومنه إغشاء الليل النهار ، وحثيثا أي مسرعا ، من قولهم فرس حثيث السير أي سريعه ، بأمره أي بتدبيره وتصرفه. مسخرات أي مذلّلات خاضعات لتصرفه ، منقادات لمشيئته ؛ والخلق : التقدير والمراد هنا الإيجاد بقدر ؛ تبارك الله : تعاظمت بركاته ؛ والبركة : الخير الكثير الثابت.

المعنى الجملي

علمت مما سلف من قبل أن الأسس التي عنى القرآن الكريم بشأنها هى التوحيد والنبوة والمعاد والقضاء والقدر ، وإثبات المعاد موقوف على إثبات الوحدانية لله والعلم الشامل والقدرة التامة.

ولما بسط القول فيما سلف فى أمر المعاد وبين فئات الناس فى ذلك اليوم وما يدور من حوار بين أصحاب النار وأصحاب الجنة ـ قفّى على ذلك بذكر الخلق والتكوين وبيان مقدوراته تعالى وعظيم مصنوعاته ، لتكون دليلا على الربوبية والألوهية وأنه لا معبود سواه.

الإيضاح

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) يخاطب سبحانه الناس كافة بأن ربكم واحد ؛ وهو الذي خلق السموات والأرض فى ستة أيام ودبّر أمورهما فيجب عليكم أن تعبدوه وحده ، إذ لا إله لكم غيره.

وقد جاء فى معنى الآية قوله فى سورة حم السجدة «قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ

١٦٩

فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ، وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» وقوله فى سورة الأنبياء : «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ، أَفَلا يُؤْمِنُونَ؟».

وبالتأمل فى هذه الآيات نستخلص منها الأمور الآتية :

(١) إن المادة التي خلقت منها السموات والأرض كانت دخانا أي مثل الدخان.

(٢) إن هذه المادة الدخانية كانت واحدة ثم فتق الله رتقها أي التئامها بأن فصل بعضها من بعض ، فخلق منها هذه الأرض والسموات السبع.

(٣) إن خلق الأرض كان فى يومين ، وأن تكون اليابسة والجبال الرواسي فيها وأنواع النبات والحيوان كان فى يومين آخرين تتمة أيام أربع.

(٤) إن جميع الأحياء النباتية والحيوانية خلقت من الماء.

(٥) إن اليوم الأول من أيام خلق الأرض هو الزمن الذي كانت فيه كالدخان حين فتقت من رتق المادة العامة التي خلق منها كل شىء سواء أكان ذلك بواسطة أم بدونها.

(٦) إن اليوم الثاني هو الزمن الذي كانت فيه مائية بعد أن كانت بخارية أو دخانية.

(٧) إن اليوم الثالث هو الزمن الذي تكونت فيه اليابسة ونتأت منها الرواسي فتماسكت بها.

(٨) إن اليوم الرابع هو الزمن الذي ظهرت فيه أجناس الأحياء من الماء وهى النبات والحيوان.

١٧٠

(٩) إن السماء ـ العالم العلوي بالنسبة إلى أهل الأرض ـ قد سوّيت أجرامها من مادتها الدخانية فى يومين آخرين أي زمنين شبيهين بالزمنين اللذين خلق فيهما جرم الأرض.

وما استنبط من هذه الآيات يوافق ما أقره علماء الفلك فى العصر الحديث ، فقد قالوا : إن المادة التي خلقت منها الأجرام السماوية وخلقت منها الأرض كانت سديما ، وكانت واحدة رتقا ثم انفصل بعضها من بعض ، وكانت مؤلفة من أجزاء دقيقة متحركة تجمّع بعضها إلى بعض ، بمقتضى قانون الجاذبية فتكون منها كرة عظيمة تدور على محورها واشتعلت من شدة الحركة فكانت ضياء ونورا تصحبه حرارة شديدة ، وهذه الكرة العظيمة فى عالمنا هى التي نسميها بالشمس والكواكب الدراري التابعة لها فيما نرى ونشاهد ومنها أرضنا ، انفتقت من رتقها وانفصلت من جرمها وكانت مشتعلة مثلها وتدور على محاورها.

ثم إن الأرض تحولت من طور الغازية المشتعلة إلى طور المائية بنظام مقدر فى أزمنة طويلة ، إذ كان الأكسجين والإيدروجين وهما العنصران اللذان يتكون منهما الماء يرتفعان فى الجو لخفتهما فيبردان فيكونان نحارا فماء وما زال أمرها كذلك حتى غلب عليها طور المائية.

ثم تكونت اليابسة فى هذا الماء بسبب حركة أجزاء المادة وتجمع بعضها مع بعض بنسب ومقادير مختلفة ، ثم تولدت فيها المعادن على أنواع شتى ، وما زالت تبرد قشرتها الظاهرة وتجفّ شيئا فشيئا حتى صلحت لتوالد النبات والحيوان فوجدت فيها الأحياء النباتية ثم الحيوانية.

ولا شك أن هذه الأقوال إن صحت كانت بيانا لما أجمل فى الكتاب الكريم وإن لم تصح فالقرآن لا يناقض شيئا منها ، ولكنها أقرب النظريات إلى سنن الكون وصفة عناصره البسيطة وحركتها ، وتعتبر تفصيلا لخلق العالم أطوارا بسنن ثابتة وتقدير منظم.

١٧١

وقد أرشد الكتاب الكريم إلى مثل هذه الحقائق فى نحو قوله : «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» وقوله حكاية عن رسوله نوح صلى الله عليه وسلم مخاطبا قومه : «ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً ، أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً. وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً».

فهذه الحقائق العلمية التي بينهما القرآن ولم يكن أحد من المخاطبين فى عصر التنزيل يعرفها ـ من أكبر الأدلة على إعجازه وأنه من كلام العليم الخبير بكل شىء لا من كلام البشر.

وهذا النظام والتدريج فى الخلق من الدلائل على الإرادة والاختيار والحكمة ووحدانية الخالق ، فإن ما لا نظام فيه قد يظن أن وجوده أمر اتفاقي أو من فعل الكثير لا من فعل الواحد ، فإنك ترى الفرق واضحا بين كومة من الحصى تراها فى الصحراء وبين حصن مشيد فيه جميع العدد والآلات المعدة للقتال.

وما ورد فى الأخبار مما يدل على أن هذه الأيام الستة هى من أيام دنيانا كحديث أحمد ومسلم عن أبي هريرة قال «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : «خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الرواسي يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق فى آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» فهو من الإسرائيليات التي لم يصح فيها حديث مرفوع ـ إلى أن هذا الحديث مردود من جهة متنه لمخالفته لنص كتاب الله ، ومن جهة سنده لأنه مروى عن حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وقد اختلط عقله فى آخر عمره ، ومن ثم قال الحافظ ابن كثير بعد أن أورد الحديث فى تفسيره : وفيه استيعاب الأيام

١٧٢

السبعة والله تعالى قال : «فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ فيه وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار وليس مرفوعا ا ه.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي إنه تعالى قد استوى على عرشه بعد تكوين هذا الملك يدبر أمره ويصرّف نظامه بحسب تقديره الذي اقتضته حكمته.

وفى معنى الآية قوله فى سورة يونس : «إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ».

واستواؤه تعالى على العرش : هو استقامة أمر السموات والأرض وانفراده بتدبيرهما ، والإيمان بذلك غير موقوف على معرفة حقيقة ذلك التدبير ولا معرفة صفته ولا كيف يكون ، فالصحابة رضوان الله عليهم والأئمة من بعدهم لم يشتبه أحد منهم فيه ، وقد أثر عن ربيعة شيخ الإمام مالك أنه سئل عن قوله : «اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» كيف استوى؟ فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، ومن الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التصديق.

وقال الحافظ ابن كثير : مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعى والثّورى واللّيث ابن سعد والشافعي وأحمد وإسحق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه. وقال نعيم بن حماد شيخ البخاري : من شبّه الله بخلقه كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله ـ تشبيه ، فمن أثبت ما وردت به الآثار الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عن الله النقائص فقد سلك سبيل الهدى ا ه.

(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أي إنه تعالى جعل الليل وهو الظلمة يغشى النهار وهو ضوء الشمس على الأرض أي يتبعه ويغيب على المكان الذي كان فيه ويستره

١٧٣

حال كون الطلب حثيثا أي بسرعة ، المراد أنه يعقبه سريعا كالطالب له لا يفصل بينهما شىء.

ويظهر ذلك الطلب السريع أتم الظهور بما أثبته العلم حديثا من كروية الأرض وأنها تدور على محورها حول الشمس ، فيكون نصفها مضيئا بنورها دائما ونصفها الآخر مظلما دائما ، وقد قال بهذا القول كثير من علماء الإسلام كالغزالى والرازي وابن تيمية وابن القيّم وغيرهم.

وهذه الجملة كالدليل على ما قبلها ، فإنه بعد أن أخبر عباده باستوائه على العرش وتدبيره لجميع المخلوقات ـ أراهم ذلك عيانا فيما يشاهدونه منها ليضم العيان إلى الخبر وتزول الشبه ـ إلى ما فى تعاقب الليل والنهار من المنافع العظيمة والفوائد الجليلة ، إذ بتعاقبهما الحياة وتكمل المنفعة والمصلحة.

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) أي وخلق هذه الأشياء حال كونها مذللات خاضعات لتصرفه منقادات لحكمه.

(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) أي ألا إن الله الخلق ، فهو الخالق المالك لذوات المخلوقات وله فيها الأمر أي التصرف والتدبير ، إذ هو المالك لها لا شريك له فى ملكه.

ومن هذا التدبير ما سخر له الملائكة من نظام العالم وتنفيذ سننه فى خلقه ، كما جاء فى قوله : «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» ومن ذلك الوحى الذي ينزل به الملائكة على الرسل كما جاء فى قوله : «اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ»

وفى معنى الآية قوله : «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» وقوله : «فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ» وقوله : «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» وجاءت هذه الجملة توكيدا لما قبلها لبيان أنه هو الذي خلق السموات والأرض وهو الذي دبرهما وصرفهما بحسب إرادته.

١٧٤

(تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي تعالى الله بوحدانيته وألوهيته ، وتعظم بالتفرد بربوبيته ، وأن كل ما فى هذا العالم من الخيرات الكثيرة والنعم العظيمة فهو منه ، فيجب على عباده أن يشكروه عليها ويعبدوه دون غيره مما عبدوه معه وليس له من الخلق ولا من الأمر شىء.

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦))

تفسير المفردات

التضرع : التذلل ، وهو إظهار ذل النفس من قولهم ضرع فلان لفلان وتضرّع له : إذا أظهر الذل فى معرض السؤال ، والخفية : ضد العلانية من أخفيت الشيء أي سترته ، والاعتداء : تجاوز الحدود ، ومحبة الله للعمل : ثوابه عليه ، ومحبته للعامل : رضاه عنه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه الأدلة على توحيد الربوبية ـ قفّى على ذلك بالأمر بتوحيد الإلهية بإفراده تعالى بالعبادة ، وروحها ومخّها الدعاء والتضرع له.

الإيضاح

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) أي ادعوا ربكم ومتولى أموركم حال كونكم متضرعين مبتهلين إليه مخفين دعاءكم.

وفى هذا إيماء إلى أن الدعاء فى الخفية إن لم يكن واجبا فهو مندوب على الأقل ، ويدل على ذلك وجوه :

١٧٥

(١) إنه تعالى أثنى على زكريا فقال : «إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا» أي إنه أخفاه عن العباد وأخلصه لله وانقطع به إليه.

(٢) روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فى سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم» رواه مسلم.

(٣) روى أنه عليه الصلاة والسلام قال : «دعوة فى السر تعدل سبعين دعوة فى العلانية» وقال : «خير الذكر الخفىّ ، وخير الرزق ما يكفى».

(٤) روى عن الحسن البصري أنه قال : إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل ليصلى الصلاة الطويلة فى بيته وعنده الزّور وما يشعرون به ، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعلموه فى السر فيكون علانية أبدا ، ولقد كان المسلمون يجتهدون فى الدعاء وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم ، وذلك أن الله تعالى يقول : «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» ا ه.

(٥) إن النفس شديدة الرغبة فى الرياء والسمعة ، فإذا رفع المرء صوته بالدعاء امتزج الرياء به ، فلا يبقى فيه فائدة البتة ، ومن ثم كان الأولى الإخفاء ليبقى مصونا عن الرياء.

وفصّل بعض العلماء فقال : إن التضرع بالجهر المعتدل يحسن فى حال الخلوة والأمن من رؤية الناس للداعى ومن سماعهم لصوته ، فلا جهره يؤذيهم ، ولا الفكر فيهم يشغله عن التوجه إلى الرب وحده ، أو يفسد عليه دعاءه بحب الرياء والسمعة ، ويحسن الإسرار فى حال اجتماع الناس فى المساجد والمشاعر وغيرها إلا ما ورد فيه رفع الصوت من الجميع كالتلبية فى الحج وتكبير العيدين.

١٧٦

وإذ كان الليل سترا ولباسا شرع فيه الجهر فى قراءة الصلاة ـ إلى أنه يطرد الوسواس ، ويقاوم فتور النّعاس ويعين على تدبر القرآن ، وبكاء الخشوع للرحمن ، لدى المتهجدين فى خلواتهم.

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي المتجاوزين ما أمروا به ، ونحو الآية قوله : «تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها ، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

وللاعتداء فى الدعاء مظاهر شتى :

(١) اعتداء خاص بالألفاظ كالمبالغة فى رفع الصوت والتكلف فى صيغ الدعاء.

(٢) اعتداء خاص بالمعنى وهو طلب غير المشروع من وسائل المعاصي ومقاصدها كضرر العباد وطلب إبطال سنن الله فى الخلق ، أو تبديلها كطلب النصر على الأعداء مع ترك وسائله كأنواع السلاح والعتاد ، وطلب الغنى بلا كسب ، وطلب المغفرة مع الإصرار على الذنب مع أن الله يقول «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً. وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً».

(٣) اعتداء بالتوجه فيه إلى غير الله ليشفع له عنده ، وهذا شر أنواع الاعتداء كما قال «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً» ومن طلب ذلك من غير الله فقد اتخذه إلها ، لأن الإله هو المعبود كما روى أحمد عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الدعاء هو العبادة» وروى الترمذي عن أنس مرفوعا «الدعاء مخ العبادة» وروى عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سلوا الله لى الوسيلة ، قالوا وما الوسيلة؟ قال : القرب من الله عز وجل ، ثم قرأ «يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» وابتغاء ذلك يكون بدعائه وعبادته بما شرعه على لسان رسوله دون غيره.

وقد جاءت آيات كثيرة فى الإنكار على المشركين دعاء غير الله وكونه عبادة له وشركا بالله ، ولكن مدعى العلم الذين يقولون على الله : يقولون لا بأس بدعاء

١٧٧

الأولياء والصالحين عند قبورهم والتضرع والخشوع لهم ، ويكون توسلا بهم إلى الله ليقربوهم منه بشفاعتهم ، لا عبادة لهم.

وقد علمت أن التوسل إنما هو التقرب إلى الله بما يرتضيه وبما شرعه من عبادته دون غيرها ، وآيات الكتاب الكريم صريحة فى ذلك.

نعم إن طلب الدعاء من المؤمنين مشروع من الأحياء لا من الأموات ، ويسمى ذلك توسلا لأنه قد شرعه الله كما توسل عمر والصحابة بالعباس بصلاة الاستسقاء وما بعدها من الدعاء.

وما ذم الله المشركين إلا لأنهم أشركوا مع الله غيره فى الدعاء ، وهم كانوا يؤمنون بالله وبعضهم كان يؤمن باليوم الآخر ، ولكن طرأ عليهم الشرك الذي أحبط أعمالهم ، وهكذا يحبط إيمان من أشرك من المسلمين بدعاء غير الله.

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) أي ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاح الله لها بما خلق فيها من المنافع وما هدى الناس إليه من استغلالها والانتفاع بتسخيرها لهم وامتنانه بذلك فى مثل قوله «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».

وهذا الإفساد شامل لإفساد النفوس بالقتل وقطع الأعضاء ، وإفساد الأموال بالغصب والسرقة ، وإفساد الأديان بالكفر والمعاصي ، وإفساد الأنساب بالإقدام على الزنا ، وإفساد العقول بشرب المسكر ونحوه.

والخلاصة ـ إن الإفساد شامل لإفساد العقول والعقائد والآداب الشخصية والاجتماعية والمعايش والمرافق من زراعة وصناعة وتجارة ووسائل تعاون بين الناس.

وإصلاح الله تعالى لحال البشر كان بهداية الدين وإرسال الرسل ، وتمم ذلك ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين الذي كان رحمة للعالمين ، فبه أصلحت عقائد البشر ، وهذبت أخلاقهم وآدابهم بما جمع لهم فيها من مصالح الروح والجسد ، وما شرع لهم

١٧٨

من التعاون والتراحم ، وبما حفظ لهم من العدل والمساواة ، وبما شرع لهم من الشورى المقيدة بقاعدة درء المفاسد وحفظ المصالح ، وبذا امتاز به دينهم عن بقية الأديان.

انظر إلى الأمم ذوات الحضارة والمدنية ترها أصلحت كل شىء من معدن ونبات وحيوان ، ولكنها عجزت عن إصلاح نفس الإنسان ، ومن ثم تحوّل كل ما هدوا إليه من وسائل العمران إلى إفساد نوع الإنسان ، وتعادت الشعوب وتنازعت على الملك والسلطان ، وأباحت الكفر والعصيان ، وبذل الثروة فى سبيل التنكيل بالخصوم والجناية على الأعداء ولو بالجناية على أنفسهم ، وما الحروب القائمة فى مشارق الأرض ومغاربها بين الدول الكبرى والتي أكلت الحرث والنسل وأزهقت أرواح الملايين من الناس بين حين وآخر إلا شاهد صدق على ما نقول.

وبعد أن بين فى الآية الأولى شرط الدعاء أعاد الأمر به إيذانا بأن من لا يعرف أنه محتاج إلى رحمة ربه مفتقر إليها ، ولا يدعو ربه تضرعا وخفية ولا يخاف من عقابه ولا يطمع فى غفرانه بكون أقرب إلى الإفساد منه إلى الإصلاح فقال :

(وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) الخوف توقع مكروه يحصل بعد ، والطمع توقع محبوب يحصل كذلك أي ادعوه خائفين من عقابه على مخالفتكم لشرعه المصلح لأنفسكم وأجسامكم ، طامعين فى رحمته وإحسانه فى دنياكم وآخرتكم.

ودعاء المولى حين الشعور بالعجز والافتقار إليه مما يقوّى الأمل بالإجابة ، ويحول بينها وبين اليأس إذا تقطعت الأسباب ، وجهلت وسائل النجاح.

والدعاء مخ العبادة ولبّها ، وإجابته مرجوّة متى استكملت شرائطها وآدابها ، فإن لم تكن بإعطاء الداعي ما طلبه فربما كانت بما يعلم الله أنه خير له منه.

ثم بين فائدة الدعاء وعلّل سبب طلبه فقال :

(إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي إن رحمته تعالى قريبة من المحسنين أعمالهم ، لأن الجزاء من جنس العمل كما قال «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ».

١٧٩

فمن أحسن فى عبادته نال حسن الثواب ، ومن أحسن فى الدعاء أعطى خيرا مما طلبه ، أو مثل ما طلبه.

وقد طلب الله الإحسان فى كل شىء يهدى إليه دين الفطرة ، وحرم الإساءة فى كل شىء وجعل جزاءها من جنسها كما قال : «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى». وقال صلى الله عليه وسلم «إن الله كتب الإحسان على كل شىء ، فإذا قلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة ، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» رواه مسلم. ومن هذا تعلم أنه طلب الإحسان إلى الحيوان والرفق به حين ذبحه حتى لا يتعذب ، كما حرم أكل الموقوذة وهى التي تضرب بغير محدد حتى تنحل قواها وتموت. وطلب الإحسان فى قتال الأعداء ، لأنه فى حكم الضرورات التي تقدر بقدرها ويتقّى ما يمكن الاستغناء عنه كما قال : «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها».

فقد طلب إلينا فى هذه الآية أن نضرب رقاب الأعداء حين قتالهم ، لأنه أسرع إلى قتلهم وأبعد عن تعذيبهم بمثل ضرب الرءوس وتقطيع الأعضاء ، حتى إذا ظهر لنا عليهم الغلب بالإثخان فيهم أمرنا بترك القتل وأن نعمد إلى الأسر وبعد ذلك إما أن نمن على الأسرى بالعتق ، أو نفاديهم بمن أسرمنا.

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨))

١٨٠