تفسير المراغي - ج ٨

أحمد مصطفى المراغي

فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠))

تفسير المفردات

الخرص : الحزر والتخمين ويراد به لازمه وهو الكذب ، الحجة : الدلالة المبينة للقصد المستقيم ، هلم أي أحضروا ، يعدلون أي يتخذون له مثلا وعديلا يعادله ويشاركه.

المعنى الجملي

كان الكلام فى سالف الآيات فى تفصيل أصول الإسلام من توحيد الله والنبوة والبعث ، وفى دحض شبهات المشركين التي كانوا يحتجون بها على شركهم وتكذيبهم للرسل وإنكارهم للبعث. وفى بيان أعمالهم التي هى دلائل على الشرك من التحريم والتحليل بخرافات وأوهام.

وهنا ذكر شبهة لهم مثل بمثلها كثير من الكفار ، وهم وإن لم يكونوا قالوها وأوردوها على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن الله المحيط علمه بكل شىء يعلم أنهم سيقولونها ، فذكرها ورد عليها بما يبطلها ، وكان ذلك من إخباره بأمور الغيب قبل وقوعها.

الإيضاح

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) أي سيقول هؤلاء المشركون لو شاء الله ألا نشرك به من اتخذنا من الأولياء والشفعاء من الملائكة والبشر ، وألا نعظّم ما عظمنا من تماثيلهم وصورهم ، وألا يشرك آباؤنا من قبلنا ـ لما أشركنا ولا أشركوا ، ولو شاء ألا نحرم شيئا مما حرمنا من الحرث والأنعام وغيرها ـ لما حرمنا ، ولكنه شاء أن نشرك به هؤلاء الأولياء والشفعاء ليقربونا

٦١

إليه زلفى ، وشاء أن نحرم ما حرمنا من البحائر والسوائب وغيرها فحرمناها ، فإتياننا إياها دليل على مشيئته تعالى وعلى رضاه وأمره بها.

ونحو الآية قوله : «وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» وقوله : «وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ»

وقد رد عليهم شبهتهم فقال :

(كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي ومثل ذلك التكذيب الذي صدر من مشركى مكة لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من إبطال الشرك وإثبات توحيد الله فى الألوهية والربوبية ، ومنها حق التشريع والتحليل والتحريم ـ كذب الذين من قبلهم لرسلهم تكذيبا غير مبنى على أساس من العلم.

والرسل صلوات الله عليهم قد أقاموا الحجج والبراهين العلمية والعقلية على التوحيد وغيره مما ادعوا ، وأيدهم الله بباهر الآيات ، ولكن المكذبين لم ينظروا فيها نظرة إنصاف ، بل أعرضوا عنها وأصرّوا على جحودهم وعنادهم حتى ذاقوا بأسه تعالى وأهلكهم بذنوبهم وصاروا كأمس الدابر.

ولو كانت مشيئة الله لما كانوا عليه من الشرك تتضمن رضاه عن فاعلها وأمره بها لما عاقبهم عليها تصديقا لما قال الرسل ، كذلك لو كانت أعمالهم بالجبر المخرج لها عن كونها من أعمالهم ، لما استحقوا العقاب عليها ، ولما قال إنه أخذهم بذنوبهم ، وأهلكهم بظلمهم وكفرهم ونحو ذلك مما جاء فى كثير من الآيات.

فقوله : (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) برهان دالّ على صدق الرسل فى دعواهم وبطلان شبهات المشركين المكذبين لهم.

وبعد أن ذكرهم بالبرهان الواضح أمر رسوله أن يطالبهم بدليل يثبت ما يزعمون فقال :

٦٢

(قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا؟) أي هل عندكم بما تقولون علم تعتمدون عليه وتحتجون به ، فتخرجوه لنا لنفهمه ونوازن بينه وبين ما جئناكم به من الآيات العقلية والوقائع المحكية عن الأمم قبلكم ونتبين منها الراجح من المرجوح؟

وفى هذا الاستفهام من التعجيز والتوبيخ ما لا يخفى.

ثم قّفى على ذلك ببيان حقيقة حالهم فقال :

(إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) أي إنكم لستم على شىء من العلم ، بل ما تتبعون فى عقائدكم وآرائكم فى الدين والعمل به إلا الحدس والتخمين الذي لا يستقر عنده حكم.

وبعد أن نفى عنهم درجات العلم أثبت لذاته الحجة البالغة التي لا تعلوها حجة فقال :

(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الجاهلين بعد تعجيزك إياهم عن أن يأتوا بأدنى دليل أو قول يرقى إلى أضعف درجة من العلم : إن لم يكن عندكم علم فى أمر دينكم ، فإن لله وحده أعلى درجات العلم وله الحجة البالغة على ما أراد من إحقاق الحق وإزهاق الباطل بما بينه فى هذه السورة وغيرها من الآيات البينات على أصول العقائد وقواعد التشريع الموافقة للعقول الحكيمة والفطر السليمة وسننه فى الاجتماع البشرى ، ولكن لا يهتدى بهذه الآيات إلا المستعدّ للهداية ، المحب للحق ، الحريص على طلبه ، الذي يستمع القول فيتبع أحسنه ، دون من أعرض عن النظر فيها استكبارا عنها وحسدا للمبلّغ الذي جاء بها ، وجمودا على تقليد الآباء واتباع الرؤساء.

ولو شاء سبحانه أن يهديكم بغير هذه الطريق التي أقام أمر البشر عليها وهى التعليم والإرشاد بطريق النظر والاستدلال ـ لهداكم أجمعين ـ فجعلكم تؤمنون بالفطرة كالملائكة المفطورين على الحق والخير جل شأنه كما قال سبحانه عنهم : «لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» ويجعل الطاعة فيكم بغير شعور منكم

٦٣

ولا إرادة كما يجرى الدم فى أبدانكم ، أو مع الشعور بأنها ليست من أفعالكم ، وحينئذ لا تكونون من نوع الإنسان الذي قضت الحكمة وسبق العلم بخلقه مستعدا لعمل الخير والشر والحق والباطل ، ويرجح أحدهما على الآخر بالاختيار ، والاختيار لأحدهما بمشيئته ـ لا ينفى مشيئة الله تعالى ولا يعارضها ، فإنه هو الذي شاء أن يجعله فاعلا باختياره.

ونحو الآية قوله : «وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا» وقوله : «مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ ، وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» وقوله : «وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» وقوله : «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟».

وبعد أن نفى عنهم العلم وسجل عليهم اتباع الخرص والكذب ، ليظهر لهم أنهم ليسوا على شىء يعتدّ به من العلم ـ أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يطالب مشركى قومه بإحضار من عساه يعتمدون عليه من الشهداء فى إثبات تحريم الله تعالى عليهم ما ادّعوه من المحرمات فقال :

(قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) أي أحضروا شهداءكم الذين يخبرون عن مشاهدة وعيان أن الله حرم عليكم هذا الذي زعمتم تحريمه.

والخلاصة ـ عليكم أن تحضروا من أهل العلم الذين تتلقى عنهم الأمم الأحكام الدينية وغيرها بالأدلة الصحيحة التي تجعل النظريات العلمية كأنها مشاهدات حسية من يشهد لكم بصحة ما تدّعون.

(فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي فإن فرض إحضار هؤلاء الشهود فلا تصدّقهم ولا تقبل لهم شهادة ، ولا تسلمها لهم بالسكوت عليها ، فإن السكوت على الباطل كالشهادة به.

(وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي ولا تتبع أهواء هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا المنزلة ، وبما أرشدت إليه من الآيات الكونية فى الأنفس والآفاق.

٦٤

(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي والذين هم مع جهلهم واتباعهم للأهواء لا يؤمنون بالآخرة حتى يحملهم الإيمان بها على سماع الدليل والحجة إذ ذكّروا بها ، ويشركون بربهم ويتخذون له مثلا وعدلا يشاركه فى جلب الخير والنفع ودفع الضر ، إما استقلالا وإما بحمله الرب على ذلك وتأثيره فى عمله وإرادته.

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣))

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه لعباده جميع ما حرّم عليهم من الطعام ، وذكر حجته البالغة على المشركين الذين حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه عليهم ودحض شبهتهم التي احتجوا بها على شركهم بربهم وافترائهم عليه.

ذكر فى هذه الآيات أصول المحرمات فى الأقوال والأفعال ، وأصول الفضائل وأنواع البر.

٦٥

الإيضاح

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يتبعون أهواءهم فيما يحللون وما يحرمون لأنفسهم وللناس : أقبلوا إلىّ أيها القوم أقرأ لكم ما حرم ربكم عليكم فيما أوحاه إلىّ ، وهو وحده الذي له حق التحريم والتشريع ، وأنا مبلغ عنه بإذنه وقد أرسلنى بذلك.

وخص التحريم بالذكر مع أن الوصايا أعم ؛ لأن بيان المحرمات يستلزم حل ما عداها ، وقد بدأها بأكبر المحرمات وأعظمها وأشدها إفسادا للعقل والفطرة ، وهو الشرك بالله ، سواء أكان باتخاذ الأنداد له أو الشفعاء المؤثّرين فى إرادته ، أو بما يذكّر بهم من صور وتماثيل وأصنام وقبور ، أو باتخاذ الأرباب الذين يتحكمون فى التشريع فيحللون ويحرمون فقال :

(١) (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) أي ومما أتلوه عليكم فى بيان هذه المحرمات وما يقابلها من الواجبات ـ ألا تشركوا بالله شيئا من الأشياء وإن عظمت فى الخلق كالشمس والقمر والكواكب ، أو فى القدر كالملائكة والنبيين والصالحين ، فإن عظمتها لا تخرجها عن كونها مخلوقة لله ، مسخّرة له بقدرته وإرادته : «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً».

ويلزم هذا أن تعبدوه وحده بما شرعه لكم على لسان رسوله لا بأهوائكم ولا بأهواء أحد من الخلق أمثالكم.

(٢) (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي وأحسنوا بالوالدين إحسانا تاما كاملا لا تدخرون فيه وسعا ، ولا تألون فيه جهدا ، وهذا يستلزم ترك الإساءة وإن صغرت ، فما بالك بالعقوق الذي هو من أكبر الكبائر وأعظم الآثام ، وقد جاء فى القرآن غير مرة قرن التوحيد والنهى عن الشرك بالأمر بالإحسان إلى الوالدين.

وكفى دلالة على عظيم عناية الشارع بأمر الوالدين أن قرنه بعبادته وجعله

٦٦

ثانيها فى الوصايا ، وأكده بما أكده به فى سورة الإسراء ، كما قرن شكرهما بشكره فى سورة لقمان فى قوله : «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» وما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال : «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أىّ العمل أفضل؟ قال : الصلاة لوقتها قلت ثم أىّ؟ قال : بر الوالدين. قلت ثم أىّ؟ قال : الجهاد فى سبيل الله»

والمراد ببرهما احترامهما احترام المحبة والكرامة ، لا احترام الخوف والرهبة ، لأن فى ذلك مفسدة كبيرة فى تربية الأولاد فى الصغر ، وإلجاء لهم إلى العقوق فى الكبر ، وإلى ظلم الأولاد لهم كما ظلمهم آباؤهم ، وليس لهما أن يتحكما فى شئونهم الخاصة بهم ، ولا سيما تزويجهم بمن يكرهون ، أو منعهم من الهجرة لطلب العلم النافع أو لكسب المال والجاه إلى نحو ذلك :

(٣) (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) أي ومما وصاكم به ربكم ألا تقتلوا أولادكم الصغار لفقر يحل بكم ، فإن الله يرزقكم وإياهم أي يرزقهم تبعا لكم ، وجاء فى سورة الإسراء : «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» وسر اختلاف الأسلوبين وتقديم رزق الأولاد هناك على رزق الوالدين على عكس ما هنا ـ أن ما هناك متعلق بالفقر المتوقع فى المستقبل الذي يكون فيه الأولاد كبارا كاسبين ، وقد يصير الوالدون فى حاجة إليهم لعجزهم عن الكسب بالكبر ، ففرّق فى تعليل النهى فى الآيتين بين الفقر الواقع والفقر المتوقع فقدم فى كل منهما ضمان رزق الكاسب ، للإيماء إلى أنه تعالى جعل كسب العباد سببا للرزق ، لا كما يتوهم بعضهم فيزهد فى العمل بشبهة كفالته تعالى لرزقهم.

(٤) (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي ولا تقربوا ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال كالزنا وقذف المحصنات سواء منه ما فعل علنا وما فعل سرا.

٦٧

وقيل الظاهر ما تعلق بأعمال الجوارح ، والباطن ما تعلق بأعمال القلوب كالكبر والحسد والتفكير فى تدبير المكايد الضارة وأنواع الشرور والمآثم.

وقد روى عن ابن عباس فى تفسير الآية أنه قال : كانوا فى الجاهلية لا يرون بأسا بالزنا فى السر ويستقبحونه فى العلانية ، فحرم الله الزنا فى السر والعلانية ، أي فى هذه الآية وما أشبهها.

وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة قال : ما ظهر منها ظلم الناس ، وما بطن منها الزنا والسرقة ، أي لأن الناس يأتونهما فى الخفاء. وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لا أحد أغير من الله» من أجل ذلك حرم الفواحش : ما ظهر منها وما بطن» رواه البخاري ومسلم.

(٥) (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها بالإسلام أو بالعهد بين المسلمين وغيرهم كأهل الكتاب المقيمين بيننا بعهد وأمان ، وقد جاء فى الحديث : «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» وروى الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم : «من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله ، فلا يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسين خريفا».

وقوله إلا بالحق إيماء إلى أن قتل النفس قد يكون حقا لجرم يصدر منها كما جاء فى الحديث : «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأمور ثلاثة : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق».

والخلاصة ـ إن قتلها بالحق هو أمر الشارع بإباحة قتلها كقتل القاتل عمدا أو قتل الزاني المحصن.

(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الوصية أن يعهد إلى إنسان بعمل خير أو ترك شر ، ويقرن ذلك بوعظ يرجى تأثيره ؛ أي إنه سبحانه وصاكم بذلك ليعدّكم لأن تعقلوا الخير والمنفعة فى فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ، إذ هو مما تدركه العقول بأدنى تأمل.

٦٨

وفى هذا تعريض بأن ما هم عليه من الشرك وتحريم السوائب وغيرها مما لا تعقل له فائدة ، ولا تظهر فيه لذوى العقول الراجحة مصلحة.

(٦) (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي ولا تقربوا مال اليتيم إذا وليتم أمره ، أو تعاملتم به ولو بواسطة وليه أو وصيه إلا بالفعلة التي هى أحسن فى حفظ ماله وتثميره ، ورجحان مصلحته ، والإنفاق منه على تربيته وتعليمه ما به يصلح معاشه ومعاده.

والنهى عن القرب من الشيء أبلغ من النهى عنه ، فإن الأول يتضمن النهى عن الأسباب والوسائل المؤدية إليه ، وعن الشبهات التي هى مظنة التأويل ، فيبتعد عنها ، المتّقى ويستسيغها الطامع فيه إذ يراها بالتأويل من الوجوه الحلال التي لا تضرّ به أو يرجح نفعها على ضررها ، كأن يأكل شيئا من ماله حين يعمل عملا له فيه ربح ولولاه ماربح.

(حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) والأشدّ مبلغ الرجل الحنكة والمعرفة ، ولبلوغه طرفان ، أدناهما الاحتلام الذي هو مبدأ سن الرشد والقوة التي يخرج بها عن كونه يتيما أو سفيها أو ضعيفا ، ونهايته سن الأربعين ؛ والمراد هنا الأول كما قال الشعبي ومالك وآخرون :

ويكون ذلك عادة بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة.

أي احفظوا مال اليتيم ولا تسمحوا له بتبذير شىء من ماله وإضاعته أو الإسراف فيه حتى يبلغ ، فإذا بلغ فسلموه إليه ، وهذا نظير قوله : «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ».

والخلاصة ـ إن المراد النهى عن كل تعدّ على مال اليتيم وهضم لحقوقه من الأوصياء وغيرهم حتى يبلغ سن القوة بدنا وعقلا ، إذ قد دلت التجارب على أن الحديث العهد بالاحتلام يكون ضعيف الرأى قليل الخبرة بشئون المعاش يخدع كثيرا فى المعاملات.

٦٩

وقد كان الناس فى الجاهلية لا يحترمون إلا القوة ، ولا يعرفون الحق إلا للأقوياء ، ومن ثم بالغ الشارع فى الوصية بالضعيفين : المرأة ، واليتيم.

والقوة التي يحفظ بها المرء ماله فى هذا العصر هى اتزان الفكر ، والرشد العقلي والأخلاق بكثرة المران والتجارب فى المعاملات ، لكثرة الفسق والحيل ووجود أعوان السوء الذين يوسوسون إلى الوارثين ويزينون لهم الإسراف فى اللذات والشهوات على جميع ضروبها حتى لا يتركوهم إلا وهم فقراء ، وقلما يستيقظون من غفلتهم إلا إذا بلغوا سن الكهولة التي يكمل فيها العقل ويفقهون تكاليف الحياة ويهتمون فيها بأمر النسل.

وقد شرط الشارع الحكيم لإيتاء اليتامى أموالهم بلوغ سن الحلم وظهور الرشد فى المعاملات المالية بالاختبار كما سلف فى سورة النساء من قوله : «وَابْتَلُوا الْيَتامى» الآية.

(٧) (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أي وأتموا الكيل إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم ، وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون أو لغيركم فيما تبيعون ، فليكن كل ذلك وافيا تاما بالعدل ، ولا تكونوا من أولئك المطففين الذين وصفهم الله بقوله : «الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ».

والخلاصة ـ أن الإيفاء يكون من الجانبين : حين البيع ، وحين الشراء ، فيرضى المرء لغيره ما يرضاه لنفسه. وقوله : (بِالْقِسْطِ) يدل على تحرى العدل فى الكيل والميزان حال البيع والشراء بقدر المستطاع.

(لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي إن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا ما يسعها فعله ، بأن تأتيه بلا عسر ولا حرج ، فهو لا يكلف من يبيع أو يشترى الأقوات ونحوها أن يزنها أو يكيلها بحيث لا تزيد حبة ولا مثقالا ، بل يكلفه أن يضبط الوزن والكيل له أو عليه سواء بحيث يعتقد أنه لم يظلم بزيادة ولا نقص يعتد بهما عرفا.

٧٠

والقاعدة الشرعية : أن التكليف إنما يكون بما فى وسع المكلف بلا حرج ولا مشقة عليه ، ولو اتبع المسلمون هذه الوصية وعملوا بها لاستقامت أمور معاملاتهم وعظمت الثقة والأمانة بينهم ، ولكن وا أسفا فسدت أمورهم وقلّت ثقتهم بأنفسهم ، ووثقوا بغيرهم لاتباعهم هذه الوصية وأمثالها.

وقد قص علينا الكتاب الكريم قصص من طفّفوا الكيل والميزان فأخذهم ربهم أخذ عزيز مقتدر بما كان من ظلمهم ، كقوم شعيب وقد حكى الله عنهم ما قال لهم نبيهم شعيب : «وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان : «إنكم وليتم أمرا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم».

(٨) (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي وعليكم أن تعدلوا فى القول إذا قلتم قولا فى شهادة أو حكم على أحد ، ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة منكم ، إذ بالعدل تصلح شئون الأمم والأفراد ، فهو ركن ركين فى العمران ، وأساس فى الأمور الاجتماعية ، فلا يحل لمؤمن أن يحابى فيه أحدا لقرابة ولا غيرها ، فالعدل كما يكون فى الأفعال كالوزن والكيل يكون فى الأقوال.

ونحو الآية قوله : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ» وقوله : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ».

(٩) (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أي وأوفوا بعهد الله ، وهذا شامل لما يأتى :

 (ا) ما عهده الله تعالى إلى الناس على ألسنة الرسل.

(ب) ما آتاهم من العقل والوجدان والفطر السليمة كما قال : «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ» وقال : «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ».

(ج) ما عاهده الناس عليه كما قال : «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ» وقال :

«أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ».

٧١

(د) ما عاهد الناس عليه بعضهم بعضا كما قال فى وصف المؤمنين : «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا».

فمن آمن برسل من رسله فقد عاهد الله حين الإيمان به أن يمتثل أمره ونهيه ، وما شرعه للناس ووصاهم به فهو مما عهده إليهم ، وما التزمه الإنسان من عمل البر بنذر أو يمين فهو عهد عاهد عليه ربه كما قال تعالى ناعيا على المنافقين سوء فعلهم : «وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ، فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ» الآية ، وكذلك من عاهد السلطان وبايعه على الطاعة فى المعروف ، أو عاهد غيره على القيام بعمل مشروع ، وجب عليه الوفاء إذا لم يكن من قبيل المعصية.

روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منها كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر».

(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) التذكر يطلق حينا على تكلف ذكر الشيء فى القلب أو التدرج فيه بفعله المرة إثر الأخرى ، وحينا على الاتعاظ والتدبر كما قال تعالى : «وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ» وقال : «سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى».

والخلاصة ـ إن ذلك الذي تلوته عليكم من الأوامر والنواهي وصاكم الله به رجاء أن يذكره بعضكم لبعض فى التعليم والتواصي الذي أمر الله به فى مثل قوله : «وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» لما فيه من مصالح ومنافع كتدارك النسيان والغفلة من كثرة الشواغل الدنيوية ، أو رجاء أن يتعظ به من سمعه أو قرأه.

(١٠) (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أي وإن هذا القرآن الذي أدعوكم إليه وأدعوكم به إلى ما يحييكم ، هو صراطى ومنهاجى

٧٢

الذي أسلكه إلى مرضاة الله ونيل سعادة الدنيا والآخرة ، حال كونه مستقيما لا يضل سالكه ، ولا يهتدى تاركه ، فاتبعوه وحده ، ولا تتبعوا السبل الأخرى التي تخالفه وهى كثيرة ، فتتفرق بكم عن سبيله ، بحيث يذهب كل منهم فى سبيل ضلالة ينتهى بها إلى الهلكة ، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال.

والخلاصة ـ إن هذا صراطى مستقيما لا عوج فيه ، فعليكم أن تتبعوه إن كنتم تؤثرون الاستقامة على الاعوجاج وترجحون الهدى على الضلال.

أخرج أحمد والنسائي وأبو الشيخ والحاكم عن عبد الله بن مسعود قال : «خط رسول الله خطا بيده ثم قال : هذا سبيل الله مستقيما ، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)».

وروى أحمد والترمذي والنسائي مرفوعا : «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما ، وعن جنبتى الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : أيها الناس هلمّوا ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا ، وداع يدعو من جوف الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال له : ويحك لا تفتحه ، فإنك إن تفتحه تلجه ؛ فالصراط الإسلام ، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتّحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من جوف الصراط واعظ الله فى قلب كل مسلم».

وجعل الصراط المستقيم واحدا ، والسبل المخالفة متعددة ، لأن الحق واحد والباطل وهو ما خالفه كثير ، فيشمل الأديان الباطلة سواء أكانت وضعية أو سماوية محرفة أو منسوخة.

ونهى عن التفرق فى صراط الحق وسبيله ، لأن التفرق فى الدين الواحد وجعله مذاهب يتشيع لكل منها شيعة وحزب ينصرونه ويتعصبون له ويخطئون من خالفه ويرمون أتباعه بالجهل والضلال ـ سبب لإضاعته ، إذ كل شيعة تنظر فيما يؤيد

٧٣

مذهبها ويظهرها على مخالفيها ، ولا يهمها إثبات الحق وفهم النصوص ، والحق لا يكون وقفا على عالم معين ولا على أتباعه ، بل كل باحث يخطىء ويصيب ، وذلك ما دل عليه العقل وأثبته الكتاب والسنة والإجماع.

ولما كان اتباع الصراط المستقيم وعدم التفرق فيه يجمع الكلمة ويعز أهل الحق كان التفرق فيه سبب ضعف المتفرقين وذلهم وضياع حقهم.

روى ابن جرير عن ابن عباس فى قوله : «وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ» قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبرهم أنه إنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات.

(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) التقوى اسم لكل ما يتقى من الضرر العام والخاص مهما يكن نوعه وقد ذكرت فى القرآن فى سياق الأوامر والنواهي المختلفة من عبادات ومعاملات وآداب وعشرة وزواج ، وتفسر فى كل موضوع بما يناسبه.

أي ذلك الأمر باتباع صراط الحق المستقيم ، والنهى عن سبل الضلالات والأباطيل ، وصاكم ربكم به ليهيئكم لاتقاء كل ما يشقي ويردى فى الدنيا والآخرة ، ويوصلكم إلى السعادة العظمى والحياة الصالحة.

وقال الرازي : ختمت الآية الأولى بقوله : لعلكم تعقلون ، والثانية بقوله : لعلكم تذكرون ، لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك وقتل الأولاد وقربان الزنا وقتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها ، فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها ، وأما حفظ أموال اليتامى عليهم وإيفاء الكيل والعدل فى القول والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به ، فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان.

وقال أبو حيان : ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف ، وقد أمر

٧٤

سبحانه باتباعه ونهى عن اتباع غيره من الطرق ، ختم الآية الثالثة بالتقوى التي هى اتقاء النار ، إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية.

وقد وردت أحاديث كثيرة بشأن هذه الوصايا نقلها الحفاظ الثقات ؛ فمن ذلك :

(١) ما أخرجه الترمذي وحسّنه وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود قال : من سره أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمة فليقرأ هؤلاء الآيات (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ـ إلى قوله ـ تَتَّقُونَ).

(٢) ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة ابن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أيكم يبايعنى على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ، إلى ثلاث آيات ثم قال : فمن وفى بهن فأجره على الله ، ومن انتقص منهنّ شيئا فأدركه الله فى الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخّره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه».

(٣) ما أخرجه عبد بن حميد وأبو عبيد وابن المنذر عن منذر الثوري قال : قال الربيع بن خيثم : «أيسرك أن تلقى صحيفة من محمد صلى الله عليه وسلم بخاتمه؟ قلت نعم ، فقرأ هؤلاء الآيات من آخر سورة الأنعام : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى آخر الآيات».

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى

٧٥

 مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الحجج العقلية على أصول هذا الدين ودحض شبهات المعاندين ، وقفى على ذلك بذكر الوصايا العشر فى الآيات الثلاث التي قبل هذه الآيات.

نبه هنا إلى مكانة القرآن من الهداية وإلى وجوب اتباعه ، وذكر أعذار المشركين بما يعلمون أنها لا تصلح لهم عذرا عند الله ، وافتتح هذا التنبيه والتذكير بذكر ما يشبه القرآن فى التشريع ويسير على نهجه فى الهداية ، وهو كتاب موسى عليه السلام الذي اشتهر عند مشركى العرب وعرفوا بالسماع خبره.

الإيضاح

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) فى الكلام تقدير لفظ (قل) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الناس : تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ووصاكم به وهو كذا وكذا ـ ثم قل لهم وأعلمهم أننا آتينا موسى الكتاب ... إلى آخره.

وقد تكرر فى الكتاب الكريم قرنه بالتوراة لما بينهما من التشابه ، فكل منهما شريعة كاملة ، والإنجيل والزبور ليسا كذلك ، فإن أكثر الإنجيل عظات وأمثال ، وأكثر الزبور ثناء ومناجاة ـ إلى أن العرب كانوا يعلمون أن اليهود لهم كتاب يسمى التوراة ، ولهم رسول يسمى موسى ، وأنهم أهل علم ، وكان يتمنى كثير من عقلائهم لو أتيح لهم كتاب كما أوتى اليهود التوراة ، وأنه لو جاءهم كتاب لكانوا أهدى منهم ، وأعظم انتفاعا به ، لما يمتازون به من الذكاء وحصافة العقل ورجاحة الرأى.

٧٦

ولما أخبر سبحانه عن القرآن بقوله : «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ» قفى بمدح التوراة ، كما جاء مثل هذا فى قوله : «وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً ، وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا» وقوله : «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ» ثم قال : «وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ» الآية.

وهذه الوصايا العشر التي فى الآيات الثلاث ، والتي لها نظير فى سورة الإسراء ـ كانت أول ما نزل بمكة قبل تفصيل أحكام العبادات والمعاملات فى السور المدينة ، وكذلك كانت أول ما نزل على موسى من أصول دينه ، لكن وصايا القرآن أجمع للمعانى فهى تبلغ العشرات إذا فصلت.

وهذه الوصايا وما أشبهها هى أصول الأديان على ألسنة الرسل ، يرشد إلى ذلك قوله : «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى».

وليس هذا الدين المشترك الذي أوصى به هؤلاء الرسل الكرام إلا التوحيد ومكارم الأخلاق والتباعد عن الفواحش والمنكرات.

(تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي آتيناه الكتاب تماما للنعمة والكرامة على من أحسن فى اتباعه واهتدى به ، كما جاء فى قوله : «وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا» وقوله : «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً»

وقد يكون المعنى ـ آتيناه الكتاب تماما كاملا جامعا لما يحتاج إليه من الشرائع كقوله «وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ».

(وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي مفصلا لكل شىء من أحكام الشريعة عباداتها ومعاملاتها ، مدنية كانت أو حربية أو جنائية ، وهذا كقوله فى صفة القرآن : «وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ».

٧٧

(وَهُدىً وَرَحْمَةً) أي ودليلا من دلائل الهداية إلى الحق ، وسببا من أسباب الرحمة لمن اهتدى به ، فينجيه الله من الضلال ، وعمى الحيرة.

(لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أي آتيناه الكتاب جامعا لكل ما ذكر ، ليجعل قومه محل رجاء للإيمان بالله تعالى ، وموضع الفوز فى دار الكرامة ، تلك الدار التي أعدها الله لمن اهتدى بوحيه.

وبعد أن وصف التوراة بتلك الصفات وصف القرآن الكريم فقال :

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) أي وهذا القرآن الذي تليت عليكم أوامره ونواهيه ـ كتاب عظيم شأنه ، أنزلناه بواسطة الروح الأمين ، كما أنزلنا الكتاب على موسى ، وهو مبارك أي كثير الخير دينا ودنيا ، جامع لأسباب الهداية الدائمة ، وقد جاء بأكثر مما فى كتاب موسى من تفصيل لهدى البشر فى معاشهم ومعادهم.

(فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي فاتبعوا ما هداكم إليه ، واتقوا ما نهاكم عنه ، وحذركموه ، لتكون رحمته مرجوّة لكم فى الدنيا والآخرة.

(أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) الدراسة : القراءة والعلم كما جاء فى قوله : «ودرسوا ما فيه» أي علموا ما فيه ولم يأتوه بجهالة.

أي أنزلنا إليك الكتاب المرشد إلى توحيد الله ، وطريق طاعته ، وتزكية النفوس من أدران الشرك ، لئلا تقولوا يوم الحساب والجزاء معتذرين عن شرككم وإجرامكم : إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ، وهما اليهود والنصارى ، وقد كنا عن تلاوتهم للكتاب الذي أنزل عليهم غافلين ، لا ندرى ما هى لعدم فهمنا ما يقولون لأنها بلسان غير لساننا ، ولأنهم أهله دوننا ، ولأنا لم نؤمر بما فيه ، ولغلبة الأمية علينا.

(أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) أي ولئلا تقولوا : لو أنا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على هاتين الطائفتين قبلنا ، فأمرنا بما فيه ونهينا

٧٨

عما نهى عنه ، وبيّن لنا خطأ ما نحن فيه ـ لكنا أهدى منهم ، لأنا أذكى منهم أفئدة وأمضى عزيمة ، وقد حكى الله عنهم مثل هذا فى قوله : «وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ» أي من إحدى الأمم المجاورة من أهل الكتاب.

فرد الله عليهم بجواب قاطع لكل تعلّة دافع لكل اعتذار فقال :

(فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) البينة فى اللغة ما بيّن الحق ، أي فقد جاءكم كتاب مبين للحق بالحجج والبراهين فى العقائد والفضائل والآداب وأمهات الأحكام بما به تصلح أمور البشر وشئون الاجتماع ، وهو هاد لمن تدبره وتلاه حق تلاوته ؛ إذ يجذب ببلاغته وبيانه قلوب الناظرين فيه إلى الحق الذي فصله أتمّ تفصيل ، وإلى عمل الخير والصلاح الذي بين فوائده ومنافعه ، وهو رحمة عامة لمن يستضيئون بنوره ، وتنفذ فيهم شريعته ، إذ هم يكونون فى ظلها آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ، أحرارا فى عقائدهم وعباداتهم ، يعيشون فى بيئة خالية من الفواحش والمنكرات.

وبعد أن بين عظيم قدر هذا الكتاب بين سوء عاقبة من كذب به فقال :

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) صدف ، أعرض : أي وإذا كانت هذه الآيات مشتملة على الهداية الكاملة ، والرحمة الشاملة ، فلا أظلم ممن كذب بها وأعرض عنها ، أو لم يكتف بذلك ، بل صرف الناس عنها كما كان يفعل كبراء مجرمى قريش بمكة ، فقد كانوا يصدفون العرب عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحولون بينه وبينهم ، لئلا يسمعوا منه القرآن فينجذبوا إلى الإيمان.

ونحو الآية قوله : «وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ».

(سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) أي سنجزى الذين يصدفون الناس عن آياتنا ويردّونهم عن الاهتداء بها سوء العذاب بسبب ما كانوا يجرون عليه من الصّدف عنها ، إذ هم بذلك يحملون أوزارهم وأوزار من صدفوهم عن الحق ، وحالوا بينهم وبين الهداية.

٧٩

ونحو الآية قوله : «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ» أي زدناهم عذابا شديدا بصدهم الناس عن سبيل الله فوق العذاب على كفرهم بسبب إفسادهم فى الأرض بهذا الصدّ عن الحق.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨))

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أنه إنما أنزل الكتاب إزالة للعذر ، وإزاحة للعلة ، وقرن هذا الإعذار بالإنذار الشديد والوعيد بسوء العذاب.

قفى على ذلك ببيان أنه لا أمل فى إيمانهم البتة ، وفصل ما أمامهم وأمام غيرهم من الأمم وما ينتظرونه فى مستقبل أمرهم وأنه غير ما يتمنون من موت الرسل وانطفاء نور الإسلام بموته صلوات الله عليه.

الإيضاح

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) ينظرون أي ينتظرون ، والمراد بالملائكة ملائكة الموت الذين يقبضون أرواحهم ، والمراد بإتيان الله إتيان ما وعد به من النصر لأحبابه وأوعد به أعداءه من العذاب فى الدنيا كما جاء فى قوله : «فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا» الآية. وإتيان أمره هو جزاؤهم على نحو ما جاء فى قوله : «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ

٨٠