تفسير المراغي - ج ٨

أحمد مصطفى المراغي

القرية ، والقرية هنا تصلح لأن يراد بها القوم أنفسهم ، وأن يراد بها المكان لأنه يهلك كما يهلك أهله ، والبيات : الإغارة على العدو ليلا والإيقاع به على غرّة ، والبأس : العذاب والقائلون : هم الذين ينامون استراحة وسط النهار أي حين القائلة يقال : قال يقيل قيلا وقيلولة ، والدعوى : ما يدعيه الإنسان ، وتطلق على القول أيضا.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فيما سلف أنه أنزل الكتاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لينذر به الناس ويكون موعظة وذكرى لأهل الإيمان ، وأنه طلب إليه أن يأمر الناس باتباع ما أنزل إليهم من ربهم وألا يتبعوا من دونه أحدا يتولونه فى أمر التشريع ـ أردف هذا التخويف من عاقبة المخالفة لذلك ولما يتبعه من أصول الدين وفروعه ، والتذكير بما حل بالأمم قبلهم بسبب إعراضهم عن الدين وإصرارهم على أباطيل أوليائهم.

الإيضاح

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) أي وكثير من القرى أهلكناها لعصيانها رسلها فيما جاءوها به من عند ربها ، وكان هلاكها إما حين البيات ليلا كقوم لوط ، وإما حين القائلة وهم آمنون نهارا كقوم شعيب ، وكلا الوقتين وقت دعة واستراحة لم تكن تنتظر فيه كل منهما هلاكا ولا عذابا ، فلا يجمل بالعاقل أن يأمن غدر الليالى ولا خدع الأيام ولا يغتر بالرخاء فيعدّه علامة على أنه مستحق له فهو مظنة الدوام.

وفى ذلك تعريض بغرور كفار قريش بقوتهم وثروتهم وعزهم وعصبيتهم ، وأن ذلك من دلائل رضا الله عنهم كما قال تعالى حكاية عنهم : «وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ».

١٠١

(فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي فما كان دعاؤهم واستغاثتهم حين جاءهم العذاب إلا أن اعترفوا بظلمهم فيما كانوا عليه ، وشهدوا ببطلانه ، تحسرا وندامة وطمعا فى الخلاص ولكن أنى ينفع الندم ، وقد أزفت الآزفة ، ليس لها من دون الله كاشفة؟.

وفى الآية من العبرة ـ أن كل مذنب يقع عليه عقاب ذنب فعله فى الدنيا ، يعترف بجرمه ويندم على ما قرط منه إذا هو علم أنه سبب العقاب ، وقلما يشعر المرء بعقاب فى الدنيا على الذنوب ، لأنه يأتى على التراخي غالبا فالأمراض التي تتولد من شرب الخمر كأمراض القلب والكبد والجهاز التناسلى وضعف النسل واستعداده للأمراض إلى نحو ذلك من الأمراض الجسدية والعقلية تحصل ببطء ، وقلما يعرفها غير الأطباء ؛ ومن ثم لا يشعر بها السكارى وإنما يشعرون بما يعقب الشرب من صداع وغثيان يسهل عليهم احتماله وترجيح لذة النشوة عليه.

إلى أنه لو علمها بعد فقلما يفيد علمه بها شيئا بعد بلوغ تأثيرها هذه الدرجة فى السكر حتى تحمله على التوبة ، إذ داء الخمار يزمن ، وحب السكر يضعف الإرادة.

وعقاب الأفراد على الذنوب فى الدنيا لا يطرد ، كما يطرد فى الأمم ، فعقابها فى الدنيا على ما تجترح ـ حتم لا شبهة فيه ، ولكن له آجال ومواقيت أطول مما يكون فى الأفراد ، ويختلف باختلاف أحوال الأمة فى القوة والضعف ، فأمة نشأ فيها الظلم والطغيان وعدمت الثقة بين أفرادها واختل نظام الأمن فيها وكثر فيها الفسق والفجور ـ تسوء حالها وتنحلّ قواها وتتفكك روابط الألفة والمودة بين أفرادها وتضعف منعتها ، فتحسب أهلها جميعا وقلوبهم شتى ، ولا يزال أمرها يأخذ فى التدهور والفساد حتى يستولى عليها العدو القاهر ويمتص ثروتها ويجعل أهلها أذلة مستضعفين ، وقلما تشعر أمة بعاقبة ذنوبها قبل وقوع العقوبة ، كما لا يجديها نفعا أن يقول حكماؤها : يا ويلنا إنا كنا ظالمين. وربما عمها الجهل ، وران على قلوبها الفساد ، فلا تشعر بأن ما حل بها إنما كان جزاء وفاقا ، ونكالا من الله على ما قدمت من عمل ، واقترفت من إثم ،

١٠٢

فترضى باستذلال الغاصب كما رضيت من قبل بما اجترحت من الآثام والذنوب ؛ وقد يكون ذلك سبيلا لا نقراضها بما يعقبه الفسق والفجور من قلة النسل ، ولا سيما إذا فشا الزنا والسكر ، أو تبقى فيها بقية تدّغم فى الكثرة الغالبة ، فلا تعد أمة على سبيل الاستقلال ، وربما توالت عليها المصايب والآثام حتى تضيق بها ذرعا فتطلب لها مخرجا وترجع إلى الوراء لتبحث عن أسبابها فلا تجدها إلا فى أنفسها كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى : «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ».

وإذا أرادت لها علاجا وتمنت لها دواء من دائها الدوىّ وتلفتت يمنة ويسرة سرا وعلانية لم تجده إلا ما وصفه الكتاب الكريم : «إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» ولن يكون ذلك إلا بالإقلاع عما ترتكب من الجرائم والتوبة الصادقة والعمل الطيب الذي به تصلح القلوب وتستقيم الأمور ، وهاكم ما قاله العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم حين توسل به عمر والصحابة بتقديمه لصلاة الاستسقاء لما انقطع الغيث وعم الجدب : اللهم إنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ، ولا يرفع إلا بتوبة.

وفى هذا عبرة أيّما عبرة للشعوب الإسلامية التي ثلّت عروشها ، وخوت صروح عظمتها ، وقد كانت أجدر بهدى القرآن ، ولكن أنى لها بذلك ، وقد هجره الخاصة وتبعهم العامة ، إذ جهلوا أحكامه وحكمه ، حتى لقد بلغ الأمر بنابتتها ، ألا ترى سببا لركود ريحها إلا اتباع القرآن والعمل بهذا الدين «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً».

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩))

١٠٣

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه الرسل فى الآية السالفة بالتبليغ وأمر الأمم بالقبول والمتابعة ، وذكّرهم بعذاب الأمم التي عاندت الرسل فى الدنيا ـ قفّى على ذلك بذكر العذاب الآجل يوم القيامة ، وأنه فى ذلك اليوم يسأل كل إنسان عن عمله.

الإيضاح

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) الذين أرسل إليهم : هم جميع الأمم الذين بلغتهم دعوة الرسل ، فيسأل تعالى كل فرد منهم فى الآخرة عن رسوله إليه وعن تبليغه لآياته ، ويسأل المرسلين عن تبليغهم وإجابة أقوامهم لهم وعما عملوا من إيمان وكفر؟ وقد فصل هذا الإجمال فى آيات أخرى كقوله : «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟» وقوله : «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ» وقوله فى سورة الحجر : «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ».

قال ابن عباس : نسأل الناس عما أجابوا المرسلين ، ونسأل المرسلين عما بلّغوه والمراد بالسؤال حينئذ تقريع الكفار وتوبيخهم.

ولا مخالفة بين هذه الآية التي تثبت السؤال العام وبين قوله تعالى : «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ» وقوله : «وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» لأن ليوم القيامة مواقف متعددة والسؤال والجواب والاعتذار يكون فى بعضها دون بعض.

١٠٤

وقال الرازي : إنهم لا يسألون عن الأعمال لأن الكتب قد أحصتها ، لكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال وعن الصوارف التي صرفتهم عنها ا ه. يريد أنهم يسألون عن الموانع التي حالت بينهم وبين عمل ما طلب منهم عمله ، أو فعل ما طلب إليهم تركه.

(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) القصّ تتبع الأثر إما بالعمل كما فى قوله حكاية عن أم موسى «وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ» وإما بالقول كما فى قوله : «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ».

أي فلنقصن على الرسل وعلى أقوامهم الذين أرسلوا إليهم كل ما وقع من الفريقين قصصا بعلم منا محيط بكل ما كان منهم ، فلا يعزب عنا مثقال ذرة ، وقد روى عن ابن عباس أنه يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون.

(وَما كُنَّا غائِبِينَ) عنهم فى وقت من الأوقات ولا حال من الأحوال ، بل كنا معهم نسمع ما يقولون ونبصر ما يعملون ، ونحيط علما بما يسرون وما يعلنون ، كما قال تعالى : «وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ ، وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً».

وفى هذا إيماء إلى أن السؤال لم يكن للاستعلام والاستبانة لشىء مجهول عنه تعالى ، بل للإعلام والإخبار بما حدث منهم توبيخا لهم وتأنيبا على إهمالهم.

وهذا القصص هو الذي يكون به الحساب ويتلوه الجزاء ، وقد دل عليه الكتاب الكريم فى مواضع عدة ، ودلت عليه السنة ؛ فمن ذلك ما رواه ابن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالإمام راع يسأل عن الناس ، والرجل راع يسأل عن أهله ، والمرأة تسأل عن بيت زوجها ، والعبد يسأل عن مال سيده»وما رواه المقدام قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لا يكون رجل على قوم إلا جاء يقدمهم يوم القيامة ، بين يديه راية يحملها وهم يتبعونه ، فيسأل عنهم ويسألون عنه» وما رواه الترمذي عن أبي برزة الأسلمى مرفوعا :

١٠٥

«لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم عمل به ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه؟» وروى الحاكم وابن ماجه حديث شدّاد بن أوس مرفوعا : «الكيّس من دان ـ حاسب ـ نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانى».

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) الوزن عمل يراد به تعرف مقدار الشيء بالميزان والقسطاس وقد يطلق كل من الميزان والقسطاس على العدل كقوله : «اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ» وقوله فى الرسل : «وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ».

أي والوزن فى ذلك اليوم الذي يسأل الله فيه الرسل والأمم ، ويقص عليهم كل ما كان منهم ـ هو الحق أي الذي تعرف به حقائق الأمور وما يستحقه كل أحد من ثواب وعقاب.

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي فمن رجحت موازين أعماله بالإيمان وكثرة الحسنات ؛ فأولئك هم الفائزون بالنجاة من العذاب ، والحائزون للنعيم فى دار الثواب.

(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) أي ومن خفت موازين أعماله بسبب كفره وكثرة ما اجترح من السيئات ، فأولئك الذين خسروا أنفسهم ، إذ حرموها السعادة التي كانت مستعدة لها لو لم يفسدوا فطرتها بالكفر والمعاصي وإصرارهم على ذلك إلى نهاية أعمارهم.

والخلاصة ـ إن المؤمنين على تفاوت درجاتهم فى الأعمال هم المفلحون ، فمن مات مؤمنا فهو مفلح وإن عذّب على بعض ذنوبه بمقدارها ، وإن الكافرين على تفاوت دركاتهم هم فى خسران عظيم.

وهناك فريق ثالث استوت حسناتهم وسيئاتهم وهم أصحاب الأعراف وسيأتى ذكرهم بعد.

١٠٦

وقد اختلف العلماء فى الوزن والموازين ، هل المراد بها ظهور العدل التام فى تقدير الجزاء على الأعمال التي تصلح الأنفس وتزكيها أو تفسدها وتدسّيها ؛ بذلك قال مجاهد والضحاك والأعمش ، أو أن هناك وزنا حقيقيا حكمته إظهار علم الله تعالى بأعمال عباده وعدله فى جزائهم عليها ، وبهذا قال الجمهور. قال أبو إسحاق الزجاج : أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة ، وأن الميزان له لسان وكفّتان ويميل بالأعمال.

وقال القرطبي : التي توزن هى الصحائف التي تكتب فيها الأعمال.

والحق أن التي توزن هى الأعمال ؛ فقد أخرج أبو داود والترمذي عن جابر مرفوعا : «توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات ، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة دخل الجنة ، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة دخل النار ، قيل ومن استوت حسناته وسيئاته؟ قال أولئك أصحاب الأعراف».

والذي عليه المعول فى الإيمان بعالم الغيب : أن كل ما ثبت من أخباره فى الكتاب والسنة فهو حق لا ريب فيه ، فنؤمن به ولا نحكّم رأينا فى كيفيته ، فنؤمن بأن فى الآخرة وزنا للأعمال بميزان يليق بعالم الآخرة توزن به الأعمال والإيمان والأخلاق ، ولا نبحث عن صورته وكيفيته.

وإذا كان العلم الحديث كشف موازين للحر والبرد واتجاه الرياح والأمطار ، أفيعجز القادر على كل شىء عن وضع موازين للأعمال النفسية والبدنية التي سماها الدين الحسنات والسيئات ، بما تحدثه فى الأنفس من الأخلاق والصفات الثابتة فيها؟

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠))

١٠٧

تفسير المفردات

مكناكم فى الأرض ، أي جعلنا لكم فيها أمكنة تتبوءونها وتتمكنون من الإقامة فيها ، والمعايش واحدها معيشة : وهى ما تكون به العيشة والحياة الجسمانية الحيوانية من المطاعم والمشارب وغيرها ، وهى ضربان :

(١) ما يحصل بخلق الله ابتداء كالثمار وغيرها.

(٢) ما يحدث بالا كتساب.

وكلاهما إنما يحصل بفضل الله وإقداره وتمكينه ، فيكون الكل إنعاما من الله ، وذلك مما يوجب طاعته.

المعنى الجملي

بعد أن بين فيما سلف أن واضع الدين هو الله فيجب اتباعه دون ما يأمر به غيره من الأولياء والشفعاء ، وقفّى على ذلك بذكر عذاب الدنيا بقوله : وكم من قرية أهلكناها ، وذكر عذاب الآخرة بقوله : فلنسألن الذين أرسل إليهم ، وبقوله : والوزن يومئذ الحق.

أردف ذلك بذكر نعمه على عباده بتمكينهم فى الأرض وخلق أنواع المعايش فيها ، مع بيان أن كثرة النعم توجب عليهم الطاعة له.

الإيضاح

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) أي ولقد جعلنا لكم فيها أوطانا تتبوءونها وتستقرون فيها وجعلنا لكم فيها معايش تعيشون بها أيام حياتكم من مطاعم ومشارب نعمة منى عليكم ، وإحسانا منى إليكم ، وأنشأنا لكم فيها ضروبا شتى من المنافع التي تعيشون بها عيشة راضية : من نبات وأنعام وطير وسمك ومياه عذبة وأشربة مختلفة الطعوم والروائح ، ووسائل مختلفة للتنقل والارتحال من جهة إلى أخرى تتقدم بتقدم العلم

١٠٨

والاختراع من طيارات وسيارات وقطر ريّة وسفن بحرية ، وسبل متعددة لمداواة المرضى بالعقاقير المختلفة على يد نطس الأطباء إلى نحو ذلك.

وكل ذلك يقتضى منكم الشكر الكثير ولكن الشكر من العباد قليل كما قال : «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» ومن ثم عقّب هذا بقوله :

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي وأنتم قليلو الشكر على هذه النعم التي أنعمت بها عليكم ، لا كثيروه كثرة تناسب كثرة الانتفاع بها فقد عبدتم سواى ، واتخذتم الأولياء والشفعاء من دونى.

وشكر النعمة يكون بمعرفة المنعم بها ثم حمده والثناء عليه بما هو له أهل ، ثم التصرف فيها بما يحبه ويرضاه ، وتحقيق الأغراض التي أسداها لأجلها.

فهذه النعم المعيشية ما خلقت إلا لحفظ الحياة الجسمانية للأفراد والجماعات ، والاستعانة بذلك على حفظ الحياة الروحية التي بها تزكو الأنفس ، وتستعد للحياة الأخرى الأبدية التي فيها النعيم المقيم والسعادة المستقرة إلى غير نهاية.

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ

١٠٩

 شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨))

تفسير المفردات

الخلق : التقدير ، يقال خلق الخياط الثوب : أي قدّره قبل قطعه ، وخلق الله الخلق : أوجدهم على تقدير أوجبته الحكمة ، والهبوط : الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه أو من منزلة إلى ما دونها ، فهو إما حسى وإما معنوى ، والتكبر : جعل الإنسان نفسه أكبر مما هى عليه ، والصغار : الذلة والهوان ، وأنظره : أخره ، والإغواء : الإيقاع فى الغواية : وهى ضد الرشاد ، وذأم الشيء : عابه ، ودحر الجند العدو ، طرده وأبعده.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه عباده فى الآية السابقة بنعمه عليهم بالتمكين فى الأرض وخلق أنواع المعايش فيها ـ قفّى على ذلك ببيان أنه خلق النوع الإنسانى مستعدا للكمال وأنه قد تعرض له وسوسة من الشيطان تحول بينه وبين هذا الكمال الذي يبتغيه.

الإيضاح

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) الخطاب لبنى آدم أي ولقد خلقنا مادة هذا النوع من الصلصال والحمأ المسنون أي من الماء والطين اللازب ، فمنه خلق الإنسان الأول ، ثم جعلنا من تلك المادة صورة بشر سوىّ قابل للحياة.

وقد يكون المعنى ـ إنا قدرنا إيجادكم تقديرا ثم صورنا مادتكم تصويرا ، وذلك شامل لخلق آدم وخلق مجموع الناس ، إذ أن كل فرد يقدر الله خلقه ثم يصور المادة التي يخلقه منها فى بطن أمه.

(ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) أي وبعد أن سويناه ونفخنا فيه من روحنا

١١٠

وصار مستعدا لأن يكون خليفة فى الأرض ، وعلمناه الأسماء كلها ، قلنا لجماعة الملائكة اسجدوا لآدم.

(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي فسجد الملائكة جميعا إلا إبليس فإنه أبي واستكبر ، وهو من الجن لا منهم.

وهذا السجود سجود تكريم وتعظيم من الله لآدم لا سجود عبادة ، فقد قامت الدلائل القاطعة على أنه لا معبود إلا الله وحده.

(قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) لا هنا مزيدة للتأكيد بدليل قوله فى آية أخرى : «ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ» أي قال له تعالى : ما منعك من امتثال أمرى ، فرفضت أن تسجد لآدم مع الساجدين.

وقد تكون (لا) غير زائدة والمنع بمعنى الحمل والاضطرار ، وعليه فالمعنى ـ ما حملك ودعاك إلى ألا تسجد.

وخلاصة ذلك ـ أي شىء عرض لك فحملك على ألا تكون مع الملائكة فى امتثال أمرى بالسجود؟.

ثم ذكر سببا يبرر به امتناعه عن السجود.

(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أي إن الذي حملنى على ذلك أنى خير منه ؛ إذ أنك خلقتنى من النار وخلقته من الطين ، والنار خير من الطين وأشرف ، والشريف لا يعظّم من دونه ولو أمره بذلك ربه.

ولا شك أن فى هذا ضروبا من الجهالة وأنواعا من الفسوق والعصيان تتجلى لك فيما يلى :

(ا) اعتراضه على مولاه وخالقه بما تضمنه جوابه.

(ب) احتجاجه عليه بما يؤيد به اعتراضه ، والمؤمن المذعن لأمرر به يعلم أن لله الحجة البالغة ، والحكمة الكاملة ، فيما يفعل ويأمر وينهى.

١١١

(ح) إنه جعل امتثال الأمر موقوفا على استحسانه له وموافقته لهواه ، وهذا رفض لطاعة الخالق وترفّع عن مرتبة العبودية ، والمرءوس فى الدنيا إذا لم يطع أمر الرئيس إلا فيما يوافق هواه ، صار الأمر فوضى والعاقبة وخيمة ، فلا يصلح عمل ولا يتم الفوز والنجاح.

وقد روى أبو نعيم فى الحلية عن جعفر الصادق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال الله تعالى له اسجد لآدم قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين» قال جعفر : فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله يوم القيامة بإبليس.

(د) استدلاله على خيريته بالمادة التي منها التكوين ، وخيرية الموادّ بعضها على بعض أمور اعتبارية تختلف فيها الآراء ولا تثبت بالبرهان ، إلى أن كثيرا من الموادّ النفسية خسيسة الأصل ، ألا ترى أن أصل المسك الدم ، والماس من (الكربون) الذي هو أصل الفحم ، إلى أن الملائكة خلقوا من النور وهو قد خلق من النار ، والنور خير من النار ، وهم قد سجدوا امتثالا لأمر ربهم.

(ه) إن جميع الأحياء النباتية والحيوانية التي فى هذه الأرض إما من الطين مباشرة أو بالواسطة وهى خير ما فيها ، وليس للنار شىء من هذه المزايا ولا ما يقرب منها.

(ز) إنه قد جهل ما خص به آدم من استعداده العلمي والعملي أكثر من سواه ، ومن تشريفه بأمر الملائكة بالسجود له ، فكان بذلك أفضل منهم ، وهم أفضل من إبليس بعنصر الخلقة وبالطاعة لربهم.

وكل ما قدمنا مبنى على أن الأمر بالسجود أمر تكليف ، وأنه قد وقع حوار بين الله وإبليس.

ويرى كثير من العلماء أن القصة بيان لغرائز البشر والملائكة والشيطان ، إذ جعل الملائكة وهم المدبرون لأمور الأرض بإذن ربهم ـ مسخرين لآدم وذريته ، وجعل هذا النوع مستعدا للانتفاع بالأرض كلها بعلمه بسنن الله فيها وعمله بهذه السنن ، فالانتفاع بمائها وهوائها ومعادنها ونباتها وحيوانها وكهربائها ونورها ، وبذلك ظهرت

١١٢

حكمة الله تعالى وآياته فيها ؛ كما اصطفى بعض أفراده وخصهم بوحيه ورسالته وجعلهم مبشرين بدينه وهديه ، وجعل الشيطان عاصيا متمردا على الإنسان وعدوا له وجعل النفوس البشرية وسطا بين النفوس الملكية المفطورة على طاعة الله تعالى وإقامة سننه فى صلاح الخلق ، وبين روح الجن الذين يغلب على شرارهم (وهم الشياطين) التمرد والعصيان.

كما أنه تعالى آتى الإنسان إرادة واختيارا إن شاء صعد إلى أفق الملائكة ، وإن أراد هبط إلى أفق الشياطين.

(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها) أي اهبط من الجنة التي خلقك الله فيها وكانت على مرتفع من الأرض حين كانت قريبة العهد بالظهور فى وسط الماء ، فخير ما يصلح منها لسكنى الإنسان مرتفعاتها.

وقيل هى جنة الجزاء التي أسكنه الله فيها بعد خلقه فى الأرض ، ويرشد إلى هذا ما جاء فى سورتى البقرة وطه من أمره بالهبوط وأمر آدم وزوجه بذلك بعد قوله : «اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ».

(فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) أي فما ينبغى لك أن تتكبر فى هذا المكان المعدّ للكرامة والتعظيم.

(فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي فاخرج من هذا المكان ، فإنك من ذوى الذلة والهوان ، وقد أظهر حقيقتك الامتحان ، ودل على أنك من الأشرار لا الأخيار.

وفى هذا إيماء إلى أنه تعالى جازاه بضد ما أراد ، فقد أراد أن يرفع نفسه عن منزلتها فجوزى بالهبوط منها إلى ما دونها ، وجاء فى بعض الآثار : «إن الله تعالى يحشر المتكبرين يوم القيامة فى أحقر الصور ، إذ يطؤهم الناس بأرجلهم ، كما أنه يبغّضهم إلى الناس فى الدنيا ، فيحتقرونهم ولو فى أنفسهم».

(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي قال رب أمهلنى إلى يوم يبعث آدم وذريته فأكون أنا وذريتى أحياء ما داموا أحياء ، وأشهد انقراضهم وبعثهم.

١١٣

وقد أراد بذلك أن يجد فسحة فى الإغواء فيأخذ بالثأر ، ثم هو مع ذلك ينجو من الموت إذ لا موت بعد البعث.

(قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي قال سبحانه : إنى أجبتك إلى ما طلبت ، لما فى ذلك من الحكمة التي أنا بها عليم.

وظاهر الآية يدل على أنه تعالى جعله من المنظرين إلى يوم يبعثون ، لكن جاء فى سورة الحجر : «قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ» فهذا يدل على أن النظرة إلى وقت النفخة الأولى بالصور ، وهى النفخة التي يموت فيها أهل الأرض جميعا دفعة واحدة ، لا إلى وقت النفخة الثانية وهى التي بها يبعثون ، وورد أن بينهما أربعين سنة.

والنفخة الأولى تسمى نفخة الفزع لقوله تعالى فى سورة النمل : «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ» ونفخة الصعق لقوله فى سورة الزمر : «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ».

روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن هذه الآية : من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا؟ قال : هم شهداء الله عز وجل ، أي هم حججه على خلقه بحسن سيرتهم واستقامتهم فى الدنيا وهم يشهدون فى الآخرة بضلال كل من خالف هديهم وسنتهم ، ويدخل فى هؤلاء النبيون والصديقون ، فكل نبى شهيد على قومه كما قال تعالى : «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» وكذلك كل صدّيق شهيد.

والخلاصة ـ إن إبليس يموت عقب النفخة الأولى التي يتلوها حراب هذه الأرض كما قال فى سورة الحاقة : «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً».

١١٤

ولا يبقى إلى يوم البعث ، إلا إذا قلنا إن يوم البعث ويوم القيامة يطلقان تارة على ما يشمل زمن مقدماتهما ، وتارة أخرى على زمن الغاية وحدها.

(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) صراط الله المستقيم : هو الطريق الذي يصل سالكه إلى السعادة التي أعدها سبحانه لمن زكّى نفسه بهدى الدين الحق الذي يكمّل الفطرة كما جاء فى الخبر : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه».

أي قال إبليس : فبإغوائك إياى من أجل آدم وذريته ، أقسم لأقعدنّ لهم على صراطك المستقيم ، فأصدنهم عنه وأقطعنّه عليهم بأن أزيّن لهم طرقا أخرى أشرعها لهم من جوانب هذا الطريق حتى يضلّوا عنه ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :

(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي ثم لا أدع جهة من الجهات الأربع إلا هاجمتهم منها مترصّدا لهم كما يقعد قطّاع الطريق للسابلة.

وخلاصة ذلك ـ لأسوّلنّ لهم ولأصلنهم قدر المستطاع ، وقد ضرب لذلك المثل بحال العدو يأتى عدوه من أي جهة أمكنته ويفترص الفرصة إذا سنحت له.

(وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) أي ولا تجد أكثرهم مطيعين لك ، شاكرين لنعمك عليهم ، فى عقولهم ومشاعرهم ومعايشهم وفى كل ما يهديهم إلى تكميل فطرتهم من تعاليم رسلك لهم ، بل الأقلون منهم هم الذين يتبعون ذلك ، وقد قال إبليس ذلك عن ظن فأصاب لقوله تعالى : «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»

وروى عن ابن عباس فى تفسير الجهات الأربع : من بين أيديهم أي أشككهم فى آخرتهم ، ومن خلفهم أي أرغبهم فى دنياهم ، وعن أيمانهم أي أشبه عليهم أمر دينهم ، وعن شمائلهم أي أستنّ لهم المعاصي ، ولا تجد أكثرهم شاكرين أي موحدين ؛ وفى رواية أخرى عنه من بين أيديهم ـ أي من قبل الدنيا ، ومن خلفهم أي من قبل الآخرة ، وعن أيمانهم أي من قبل حسناتهم ، وعن شمائلهم أي من قبل سيئاتهم.

١١٥

والرواية الثانية تخالف الأولى فى تفسير ما بين الأيدى : هل المراد منه ما هو حاضر أو ما هو مستقبل ، وفى تفسير الخلف : هل المراد منه ما يتركه المرء ويتخلف عنه وهو الدنيا ، أو هو ما وراء حياته الحاضرة وهو الآخرة ، واللفظ محتمل لكلا التأويلين.

روى أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات : «اللهم احفظني من بين يدىّ ومن خلفى وعن يمينى وعن شمالى ومن فوقى ، وأعوذ بك أن أغتال من تحتى».

(قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً) أي قال اخرج من الجنة وأنت مذموم مهان من الله وملائكته ومطرود من جنته.

(لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) أي أقسم إن من يتبعك من بنى آدم فيما تزيّنه له من الشرك والفجور ، ويصدق ظنك عليه ليكونن معك فى جهنم دار العذاب ، ولأملأنها منك وممن تبعك منهم أجمعين.

وفى قوله منهم إشارة إلى أن الملء يكون من بعضهم ، فإن بعض من يتبعه فى بعض المعاصي من المؤمنين الموحدين يغفر الله لهم ويعفو عنهم.

ونحو الآية قوله فى سورة ص : «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ».

وقد استثنى فى سورتى الحجر وص من إغوائه عباده المخلصين ، فقال فى الأولى : «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» وقال فى الثانية : «قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ».

وقد علمت أن المراد من هذا بيان طبيعة البشر وطبيعة الشيطان واستعدادهما واختيارهما فى أعمالهما كما هو رأى بعض العلماء ، وأيد ذلك الحافظ ابن كثير.

١١٦

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥))

تفسير المفردات

أصل الوسوسة : الصوت الخفي المكرر ، ومنه قيل لصوت الحلي وسوسة ، ووسوسة الشيطان للبشر : ما يجدونه فى أنفسهم من الخواطر الرديئة التي تزيّن لهم ما يضرهم فى أبدانهم أو أرواحهم ، وروى الشيء : غطّى وستر ، والسوءة : ما يسوء الإنسان أن يراه غيره من أمر شائن وعمل قبيح؟ وإذا أضيفت إلى الإنسان أريد بها عورته الفاحشة ، لأنه يسوءه ظهورها بمقتضى الحياء الفطري. من الخالدين : أي الذين

١١٧

لا يموتون أبدا ، وقاسمهما : أي أقسم وحلف لهما ، ودلّى الشيء تدلية : أرسله إلى أسفل رويدا رويدا ، والغرور : الخداع بالباطل ، طفقا : أي أخذا وشرعا ، يخصفان : أي يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة من قولهم : خصف الإسكافي النعل : إذا وضع عليها مثلها.

المعنى الجملي

لا يزال الحديث متصلا فى الكلام فى النشأة الأولى للبشر وفى شياطين الجن ، وقد ذكرت تمهيدا لهداية الناس بما يتلوها من الآيات فى وعظ بنى آدم وإرشادهم إلى ما به تكمل فطرتهم ، وفى ذلك امتنان عليهم وذكر لكرامة أبيهم.

الإيضاح

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) الجنة : هى التي خلق فيها آدم ، فآدم خلق من الأرض فى الأرض.

وقد تكررت هذه القصة فى سبعة مواضع من الكتاب العزيز ، ولم يرد فى موضع منها أن الله رفعه إلى الجنة التي هى دار الجزاء ، وإن كان الجمهور على أنها جنة الجزاء على الأعمال. ويردّه أنه كلّف فيها ألا يأكل من تلك الشجرة ، ولا تكليف فى دار الجزاء ، ولأنه نام فيها ، وأخرج منها ، ودخل عليه إبليس ، ولا نوم فى الجنة ، ولا خروج بعد الدخول ، ولا يمكن دخول الشيطان فيها بعد الطرد والإخراج.

والآية تدل على أن آدم كان له زوج فى الجنة ، وفى التوراة (إن الله ألقى على آدم سباتا انتزع فى أثنائه ضلعا من أضلاعه ، فخلق منه حواء امرأته ، وأنها سميت امرأت لأنها من امرئ أخذت) وليس فى القرآن ما يدل على هذا ، وما روى من ذلك مأخوذ من الإسرائيليات ، وما روى فى الصحيحين عن أبي هريرة من قوله صلى الله عليه وسلم

١١٨

«فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج» فهو من باب التمثيل على حد قوله : «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» والدليل على ذلك قوله بعد : «فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم بزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء خيرا» فإنه لا شك أن المراد منه ـ لا تحاولوا تقويم النساء بالشدة والغلظة فى المعاملة.

(فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) أي فكلا من ثمارها من أي مكان أردتما.

(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) النهى عن قرب الشيء أبلغ أثرا من النهى عن الشيء نفسه ، إذ أنه يقتضى البعد عن موارد الشبهات التي تغرى به كما جاء فى الحديث : «ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه».

وقد أبهم سبحانه هذه الشجرة ، ولو كان فى تعيينها خير لنا لعيّنها ، وقد علل القرآن النهى عنها ، بأنهما إذا اقتربا منها كانا من الظالمين لأنفسهما بفعلهما ما يعاقبان عليه ولو بالحرمان من رغد العيش وما يعقبه من التعب والمشقة.

(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) أي زين لهما ما يضرهما ويسوءهما إذا هما رأيا ما يؤثران ستره وألا يرى مكشوفا ، والأرجح أن هذه الوسوسة كانت بأن تمثل الشيطان لآدم وزوجه وكلمهما.

(وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) أي وقال لهما فيم وسوس به : ما نهاكما ربكما عن الأكل من هذه الشجرة إلا لأحد أمرين كراهة أن تكونا بالأكل منها كالملكين فيما أوتى الملائكة من الخصائص والمزايا : كالقوة وطول البقاء وعدم التأثر بتأثيرات الكون المؤلمة المتعبة ، أو كراهة أن تكونا من الخالدين فى الجنة ، أي الذين لا يموتون البتة.

والخلاصة ـ إنه أوهمهما أن الأكل من هذه الشجرة إما أن يعطى الآكل صفات الملائكة وغرائزهم ، أو يقتضى الخلود فى الحياة.

وفى الآية إيماء إلى تفضيل الملائكة على آدم ، وخصصه بعضهم بملائكة السماء

١١٩

والعرش والكرسي من العالين والمقرّبين ، دون ملائكة الأرض المسخرين لتدبير أمورها وإحكام نظامها.

(وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) أي وأقسم إنه ناصح لهما فيما رغبهما فيه من الأكل من الشجرة ، وأكد ذلك بأشد المؤكدات وأغلظها ، إذ كان عندهما محل الظّنة فى نصحه ، لأن الله أخبرهما أنه عدو لهما.

(فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) أي فما زال يخدعهما بالترغيب فى الأكل من هذه الشجرة والقسم على أنه ناصح لهما حتى أسقطهما وحطهما عما كانا عليه من سلامة الفطرة وطاعة البارئ لهما بما غرهما به وزين لهما ، وقد اغترا به وانخدعا بفسمه وصدّقا قوله اعتقادا منهما أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا.

ويرى بعض العلماء أن الغرور كان بتزيين الشهوة ، فإن من غرائز الشر وطبائعهم كشف المجهول والرغبة فى الممنوع ، فقد نفخ الشيطان فى نار هذه الشهوات الغريزية وأثار النفس إلى مخالفة النهى حتى نسى آدم عهد ربه ، ولم يكن له من قوة العزم ما يكفه عن متابعة امرأته ، ويعتصم به من تأثير شيطانه كما قال فى سورة طه ، «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» وجاء فى الصحيح عن أبي هريرة : «ولو لا حواء لم تخن أنثى زوجها» أي لأنها هى التي زينت له الأكل من الشجرة ، وقد فطرت المرأة على تزيين ما تشتهيه للرجل ولو بالخيانة له.

(فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي فلما ذاقا ثمرة الشجرة ظهرت لكل منهما سوءته وسوءة صاحبه وكانت مستورة عنهما ، فدبت فيها شهوة التناسل بتأثير الأكل من الشجرة ، فنبهتهما إلى ما كان خفيا عنهما من أمرها ، فخجلا من ظهورها وشعرا بالحاجة إلى سترها ، وشرعا يلزقان ويربطان على أبدانهما من ورق أشجار الجنة العريض ما يسترها.

١٢٠