تفسير المراغي - ج ٨

أحمد مصطفى المراغي

وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ» أي فالذين كانوا يمكرون السيئات لمقاومة إصلاح الرسل حرصا على رياستهم وفسقهم وفسادهم ، لم يكونوا يشعرون بأن عاقبة مكرهم تحيق بهم ، لجهلهم بسنن الله فى خلقه ، وهم خليقون بهذا الجهل. وأما فى الآخرة فالأمر واضح والنصوص متظاهرة على ذلك.

وهذه الجملة متضمنة لوعيد الماكرين من مجرمى أهل مكة ، وفيها وعد وتسلية للنبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.

(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧))

تفسير المفردات

الصغار والصّغر (بالتحريك) : الذل والهوان جزاء الكفر والطغيان ، وهو قلة فى الأمور المعنوية. والصّغر (بزنة عنب) قلة فى الأمور الحسية ، والصاغر : الراضي بالمنزلة الدنيّة. وشرح الصدر : توسعته ، ويراد به جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها وخلوها مما يكدرها ، والضيق (بالتشديد والتخفيف) كهين وهين : ضد الواسع. والحرج : شديد الضيق من الحرجة وهى الشجر الكثير الملتف بعضه ببعض بحيث

٢١

يصعب الدخول فيه. روى أن عمر سأل أعرابيا من بنى مدلج عن الحرجة فقال : هى الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية ، فقال عمر : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شىء من الخير. والرجس : كل ما يستقذر حسا أو عقلا أو شرعا ، أو هو ما لا خير فيه ، أو هو اللعنة فى الدنيا والعذاب فى الآخرة ، صراط ربك : أي طريقه الذي ارتضاه وسنته التي اقتضتها حكمته ، والمستقيم : ما لا اعوجاج فيه ولا زيغ ، دار السلام : هى الجنة ، أو هى دار السلامة من المنغّصات والكروب ، وليهم : أي متولى أمورهم وكافيهم كل ما يهمّهم.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه فى الآيات السابقة أن سنته فى البشر قضت بأن يكون فى كل شعب أو أمة زعماء مجرمون يمكرون بالرسل وبدعاة الإصلاح ، ويقاومون دعوتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ـ ذكر هنا أن هذه السنة تنطبق أشد الانطباق على مجرمى أهل مكة الذين تعنتوا أشد التعنت فيما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم من الآيات ، ثم ذكر بعد هذا سنة الله فى المستعدين للإيمان وغير المستعدين مع ظهور الحق فى نفسه.

وقد نزلت هذه الآية فى الوليد بن المغيرة قال : والله لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أحق بها من محمد فإنى أكثر منه مالا وولدا.

الإيضاح

(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) أي وإذا جاءت أولئك المشركين آية بينة من القرآن تتضمن صدق الرسول صلّى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربه من التوحيد والهدى قالوا لا نؤمن إلا إذا أتى على يديه من الآيات الكونية التي يؤيده الله بها ، مثل ما أوتى رسل الله كفلق البحر لموسى وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى.

٢٢

وقال ابن كثير : أي حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة كما تأتى إلى الرسل. وهذا بمعنى قوله : «وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا» الآية.

وخلاصة ذلك ـ إنهم لا يؤمنون بالرسالة إلا إذا صاروا رسلا يوحى إليهم. وقد رد الله عليهم جهالتهم وبين لهم خطأهم بقوله :

(اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه وهذا كقوله : حكاية عنهم «وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» الآية. يريدون لو لا نزل هذا القرآن على رجل عظيم مبجّل فى أعينهم من القريتين مكة والطائف ، ذلك أنهم ـ جازاهم الله بما يستحقون ـ كانوا يزدرون الرسول صلّى الله عليه وسلم بغيا وحسدا وعنادا واستكبارا كما قال تعالى : «وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ؟ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ» وهم مع ذلك كانوا يعترفون شرفه ونسبه ، وطهارة بيته ومرباه ومنشئه وكانوا يسمونه بالأمين ، فكان ينبغى أن يكون فى ذلك مقنع لهم بأنه أولى من أولئك الأكابر الحاسدين له بالرسالة ، وبكل ما فيه الكرامة ، ولكنه الحسد والبغي والتقليد. كل أولئك كان الباعث لهم على تلك الأقوال وعمل هاتيك الأفعال فى عداوته ومعاندته.

والخلاصة ـ إن الرسالة فضل من الله يمنحه من يشاء من خلقه ، لا يناله أحد بكسب ، ولا يتصل إليه بسبب ولا نسب ، ولا يعطيه إلا من كان أهلا له لسلامة الفطرة ، وطهارة القلب ، وحب الخير والحق.

ثم أوعدهم وبين سوء عاقبتهم لحرمانهم من الاستعداد للإيمان فقال :

(سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) أي سيصيب المجرمين الماكرين الذين قد قضت سنة الله أن يكونوا زعماء فى كل شعب دبّ فيه الفساد ـ عذاب شديد مكان ما تمنوه وعلّقوا به آمالهم من عز النبوة وشرف الرسالة.

٢٣

ومعنى كونه ـ من عند الله ـ أنه مما اقتضاه حكمه وعدله وسبق به تقديره ؛ فإن ما هو ثابت عند الله فى حكمه التكويني الذي دبر به نظام الخلق ، وحكمه الشرعي التكليفي الذي أقام به العدل والحق ـ يقال إنه من عند الله ، ويكون هذا جزاء لهم على استكبارهم عن الحق فى الدار الدنيا كما قال تعالى : «كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ».

وعذاب الأمم فى الدنيا بذنوبها مطرد وعذاب الأفراد لا يطرد وإن كانوا من المجرمين الماكرين. وقد عذب الله فى الدنيا أكابر مجرمى أهل مكة الذين تصدوا لإيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم والكيد له كالخمسة المستهزئين الذين سبق الكلام فيهم فقتل منهم من قتل فى بدر ، ولحق الصغار والهوان بالباقين.

ثم قفى على ذلك بالموازنة بينهم وبين المستعدين للايمان فقال :

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) أي فمن كان أهلا بإرادة الله وتقديره لقبول دعوة الإسلام الذي هو دين الفطرة ، والهادي إلى طريق الحق والرشاد وجد لذلك فى نفسه انشراحا واتساعا بما يشعر به قلبه من السرور فلا يجد مانعا من النظر الصحيح فيما ألقى إليه فيتأمله وتظهر له عجائبه وتتضح له دلالته ، فتتوجه إليه إرادته ويذعن له قلبه ، بما يرى من ساطع النور الذي يستضىء به لبّه ، وباهر البرهان الذي يتملك نفسه.

«وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن هذه الآية ، قالوا : كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال : نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح ، قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود. والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت».

٢٤

(وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) أي إن من فسدت فطرته بالشرك وتدنست نفسه بالآثام والذنوب يجد فى صدره ضيقا أيما ضيق إذا طلب إليه التأمل فيما يدعى له من دلائل التوحيد والنظر فى الآفاق والأنفس ، لما استحوذ على قبله من باطل التقاليد والاستكبار عن مخالفة ما ألفه وسار عليه الناس ، وتضعف إرادته عن ترك ما هو عليه فتكون إجابته الداعي إلى الدين الجديد ثقيلة عليه ويشعر بالعجز عن احتمالها ويكون مثله مثل من صعد فى الطبقات العليا فى جو السماء ، إذ يشعر بضيق شديد فى التنفس ، وكلما صعد فى الجو أكثر شعر بضيق أشد حتى إذا ما ارتفع إلى أعلى من ذلك شعر بتخلخل الهواء ولم يستطع سبيلا إلى البقاء فإن هو قد بقي فيها مات اختناقا.

وخلاصة ذلك ـ إن الله ضرب مثلا لضيق النفس المعنوي يجده من دعى إلى الحق وقد ألف الباطل وركن إليه ، بضيق التنفس الذي يجده من صعد بطائرة إلى الطبقات العليا من الجو حتى لقد يشعر بأنه أشرف على الهلاك وهو لا محالة هالك إن لم يتدارك نفسه وينزل من هذا الجو إلى طبقات أسفل.

سبحانك ربى نطق كتابك الكريم بقضية لم يتفهم سرها البشر ، ولم يفقه معرفة كنهها إلا بعد أن مضى على نزولها نحو أربعة عشر قرنا ، وتقدم فن الطيران الآن علّم الطيارين بالتجربة صدق ما جاء فى كتابك ، ودل على صحة ما ثبت فى علم الطبيعة من اختلاف الضغط الجوى فى مختلف طبقات الهواء ، وقد علم الآن أن الطبقات العليا أقل كثافة فى الهواء من الطبقات التي هى أسفل منها ، وأنه كلما صعد الإنسان إلى طبقة أعلى شعر بالحاجة إلى الهواء وبضيق فى التنفس نتيجة لقلة الهواء الذي يحتاج إليه ، حتى لقد يحتاجون أحيانا إلى استعمال جهاز التنفس ليساعدهم على السير فى تلك الطبقات.

وهذه الآيات وأمثالها لم يستطع العلماء أن يفسروها تفسيرا جليا لأنهم لم يهتدوا لسرها ، وجاء الكشف الحديث وتقدم العلوم فأمكن شرح مغزاها وبيان المراد منها

٢٥

بحسب ما أثبته العلم ، ومن هذا صح قولهم ؛ الدين والعلم صنوان لا عدوّان ، وهكذا كلما تقدم العلم أرشد إلى إيضاح قضايا خفى أمرها على المتقدمين من العلماء والمفسرين.

(كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي كما جعل الصدر ضيقا حرجا بالإسلام على هذا النحو فى سنة الله وتقديره بما تقدم ذكره من الأسباب ، يجعل الرجس على الذين يعرضون عن الإيمان ، فيظهر أثر ذلك فى تصرفاتهم وأعمالهم فيكون غالبا قبيحا سيئا فى ذاته أو فيما بعث عليه من قصد ونية ، لأن الإيمان الذي اجتنبوه هو الذي يصدّ عنه ويطهر الأنفس منه.

(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) أي وهذا الإسلام الذي يشرح الله له صدر من يريد هدايته ، هو صراط ربك الذي بعثك به ، وبين لك أصوله وعقائده بالبراهين الواضحة ، والبينات الظاهرة ، حال كونه مستقيما فى نظر العقول الراجحة ، والفطر السليمة بعيدا من الإفراط والتفريط ، فلا اعوجاج فيه ولا التواء ، بل هو السبيل السوىّ وما عداه من الملل والنحل فهو معوج ملتو بما فيه من زيغ وفساد وخروج عن الجادّة التي يؤيدها العقل وتستند إلى النقل كما قال علىّ كرم الله وجهه فى نعت القرآن : هو صراط الله المستقيم ، وحبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم.

(قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أي قد وضحنا آياته وفسرناها لقوم يتذكرون ما بلّغوه منها كلما عرضت الحاجة إليه فيزدادون بذلك يقينا ورسوخا فى الإيمان ، كما يزدادون موعظة تبعثهم على الإذعان والعمل الصالح.

(لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي لهؤلاء السالكين صراط ربهم المستقيم دار السلام عنده بسلوكهم صراطه الموصل إليه بما أسلفوا من عمل ، إذ هم قد اقتفوا آثار الأنبياء وطرائقهم وسلموا من الاعوجاج فوصلوا إلى دار السلام.

(وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إنه تعالى متولى أمورهم وكافيهم كل ما يعنيهم

٢٦

جزاء على صالح أعمالهم التي تزكى نفوسهم وتصلح حالهم فى الدنيا والآخرة ، فيتولى رعايتهم وتوفيقهم فى الدنيا ، وينيلهم الثواب ويدخلهم جنات النعيم بمنه وكرمه.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨))

تفسير المفردات

المعشر والنفر والقوم والرهط : الجمع من الرجال فحسب ، ولا واحد لها من لفظها ، وقال الليث : المعشر كل جماعة أمرهم واحد نحو معشر المسلمين ومعشر الكافرين ، ويطلق على الإنس والجن بدليل الآية ، واستكثر : أخذ الكثير ، يقال استكثر من الطعام : أكل كثيرا ، وأولياؤهم : هم الذين تولوهم أي أطاعوهم فى وسوستهم وما ألقوه إليهم من الخرافات والأوهام ، والاستمتاع بالشيء : جعله متاعا ، والمتاع ما ينتفع به انتفاعا طويلا ممتدا وإن كان قليلا ، وبلغنا أجلنا : أي وصلنا يوم البعث والجزاء ، والمثوى : مكان الثواء ، أي الإقامة والسكنى ، والخلود : المكث الطويل غير المؤقت بوقت.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه ما أعده من العذاب للمجرمين ، وما أعده من الثواب والنعيم فى دار السلام للمؤمنين ، إثر بيان أحوالهم وأعمالهم التي استحق بها كل منهما جزاءه.

٢٧

قفى على ذلك بذكر ما يكون قبل هذا الجزاء من الحشر وبعض ما يكون فى يومه من الحساب ، وإقامة الحجة على الكفار ، وسنة الله فى إهلاك الأمم.

الإيضاح

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي ويوم يحشر الله تعالى الإنس والجن جميعا يقول لمعشر الجن منهم : يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس أي استكثرتم من إغوائهم وإضلالهم كما قال تعالى : «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ؟».

والمراد أنهم استتبعوهم بسبب إضلالهم إياهم فحشروا معهم ، لأن المكلفين يحشرون يوم القيامة مع من اتبعوهم فى الحق والخير ، أو فى الباطل والشر.

(وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي وقال الذين تولوا الجن من الإنس فى جواب الرب تعالى : ربنا تمتع كل منا بالآخر بما كان للجن من اللذة فى إغوائنا بالأباطيل وأهواء الأنفس وشهواتها ، وبما كان لنا فى طاعتهم ووسوستهم من اللذة فى اتباع الهوى والانغماس فى اللذات ، قال الحسن البصري : وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس ا ه.

وفى الآية إيماء إلى أن كل إنسى يوسوس له شيطان من الجن بما يزيّن له من الباطل وبما يغريه من الفسق والفجور.

فهذا الخلق الخفي الذي هو من جنس الأرواح الشريرة يلابسها بقدر استعدادها للباطل والشر ويقوّى فيها داعيتهما كما تلابس جنّة الحيوان الخفية (الميكروبات) الأجساد الحيوانية فتفسد مزاجها وتصيبها بالأمراض والأدواء ، فقد أثبت الطب الحديث دخول النسم (النسم لغة : كل ما فيه روح) الحية (الميكروبات) فى الأجسام ، وعرفت الطرق والمداخل الخفية لدخولها بما استحدث من المناظير (الميكروسكوبات) التي تكبر

٢٨

الصغير حتى يرى أكبر من حقيقته بألوف الأضعاف ، فأمكن أن نعرف أن فى الأرض أنواعا من النسم الخفية تدخل الأجسام من خراطيم البراغيث أو البعوض أو القمل ، أو مع الماء والطعام ، وتنمو فيها بسرعة مدهشة فتولد ألوف الألوف ، ومتى تكاثرت ولدت الأمراض والأوبئة القاتلة ، ولو كان قد قيل : مثل هذا لأكبر أطباء لمصريين القدامى أو للهنود أو اليونان أو العرب لغدّوه نوعا من الشعوذة والسحر أو ضربا من التخيل والجنون.

وإذا كان هذا الاتصال الخفي قد ثبت فى الأجساد بعد آلاف السنين فلا عجب أن يثبت مثل ذلك فى الأرواح ، وأمرها أخفى من الأجساد ، والكتاب والسنة مليئان بهذا ، فقد جاء فى الحديث ما يدل على وجود هذه الجراثيم (الميكروبات) التي لم يثبتها الطب إلا حديثا ، وكفى بهذا معجزة لمحمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلم ودلالة على أن الله أوحى إليه بنظريات لم يثبتها العلم إلا بعد ذلك بأربعة عشر قرنا ، فقد روى أنه صلّى الله عليه وسلم قال : «تنكّبوا الغبار فإن منه تكون النسمة» وقال عمرو بن العاص : اتقوا غبار مصر فإنه يتحول فى الصدر إلى نسمة ، ولو أن هذا الأثر قيل لغير المتمدينين وفسر لهم هذا التفسير قبل اختراع المناظير لكان فتنة للناس وزادهم نفورا مما جاء به الرسول ، ولكن فى كل يوم يثبت العلم نظريات جديدة تكون نعم العون على صدق ما جاء به الرسول ، وتلقى نورا على الناس ينظرون به تلك الدرر الغوالي المبثوثة فى القرآن والحديث وآثار الصدر الأول من المسلمين.

(وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) أي ووصلنا بعد استمتاع بعضنا ببعض إلى الأجل الذي حددته لنا وهو يوم البعث والجزاء ، وقد اعترفنا بذنوبنا فاحكم فينا بما تشاء وأنت الحكم العدل.

ومقصدهم من هذا الإخبار إظهار الحسرة والندامة على ما كان منهم من التفريط فى الدنيا وتفويض الأمر إلى ربهم العليم بحالهم ، ولم يذكر هنا قول المتبوعين من الشياطين وحكاه فى آي أخرى فقال فى الفريقين «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ

٢٩

وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» وكما ذكر فى سورة البقرة كيف يتبرأ بعضهم من بعض ، وحكى فى سورة إبراهيم أقوال كل من الضعفاء التابعين من الناس وأقوال المتكبرين المتبوعين وقول الشيطان للفريقين وتنصله من استحقاق الملام وكفره بما أشركوا.

(قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أي قال الله تعالى ردا عليهم : النار منزلكم وموضع إقامتكم إقامة خلود إلا ما يشاء الله مما يخالفه ذلك ، فكل شىء بمشيئته واختياره ، فإن شاء أن يرفعه كله أو بعضه عنكم أو عن بعضكم فعل ، فله السلطان الكامل والنفوذ الأعلى ، ولكن هل يشاء ذلك؟ هذا مما يتعلق بعلمه وحده ولا يعلمه غيره إلا بإعلامه.

(إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى حكيم فيما تتعلق به مشيئته من الجزاء الذي نص عليه فى كتابه ، عليم بما يستحقه كل من الفريقين ، والبشر لا يحيطون بشىء من علمه إلا بما شاء.

روى ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : إن هذه الآية آية لا ينبغى لأحد أن يحكم على الله فى خلقه ، ولا ينزلهم جنة ولا نارا.

(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢))

٣٠

المعنى الجملي

بعد أن حكى عز اسمه عن الجن والإنس أن بعضهم يتولى بعضا ـ أردف ذلك ببيان أن ذلك يحدث بتقديره تعالى وقضائه.

الإيضاح

(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) تولية الله الناس بعضهم بعضا جعل بعضهم أنصارا وأولياء لبعض ، إما بمقتضى أمره فى شرعه ومقتضى سنّته وتقديره كما فى ولاية المؤمنين بعضهم بعضا فى الحق والخير والمعروف ، فقد أمرهم بذلك فى شرعه ونهاهم عن ضده ، وهو أيضا مقتضى الإيمان الصادق وأثره الذي لا ينفك عنه بحسب تقديره الذي مضت به سنته فى خلقه ، وإما بمقتضى سنته وتقديره فحسب وهو ولاية الكفار المجرمين والمنافقين بعضهم بعضا ، إذ هذا أثر مترتب على الاتفاق فى الاعتقاد. والأخلاق واشتراك المنفعة بحسب تقديره تعالى وسنته فى نظم الحياة البشرية ، وهو لم يأمرهم بشىء مما يتناصرون به فى الباطل والشر والمنكر ، بل نهاهم عن ذلك ، ولكن شأن الأفراد والجماعات أن يميل كل منهم إلى من كان على شاكلته ويتولاه بالتعاون والتناصر فيما هم فيه مشتركون ويناوئون من يخالفهم فى ذلك.

أي ومثل ذلك الذي ذكر من استمتاع أولياء الإنس والجن بعضهم ببعض فى الدنيا ، لما بينهم من التناسب والمشاكلة نولى بعض الظالمين بعضا لأنفسهم وللناس ، بسبب ما كانوا يكسبون باختيارهم من أعمال الظلم المشتركة بينهم.

روى عن قتادة أنه قال فى تفسير الآية : إنما يولى الله بين الناس بأعمالهم ، فالمؤمن ولىّ المؤمن من أين كان وحيث كان والكافر ولىّ الكافر من أين كان وحيثما كان وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ، ولعمرى لو عملت بطاعة الله ولم تعرف أهل طاعة الله ما ضرّك ذلك ، ولو عملت بمعصية الله وتولّيت أهل طاعة الله ما نفعك ذلك شيئا ا ه.

٣١

وروى أبو الشيخ عن منصور بن أبي الأسود قال : سألت الأعمش عن قوله تعالى (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال : سمعتهم يقولون : إذا فسد الناس أمّر عليهم شرارهم ا ه. ذاك أن الملوك يتصرفون فى الأمم الجاهلة الضالة تصرف الرعاة فى الأنعام السائمة ، فهم يتخذون الوزراء والحاشية من أمثالهم فيقلدهم جمهور الأمة فى سيىء أعمالهم ، فيغلب الفساد على الصلاح ، ويفسقون عن أمر الله فيهلكون ، أو يسلط عليهم الأمم القوية التي تستبيح حماهم وتثلّ عروشهم ويصبحون مستعبدين أذلاء بعد أن كانوا سادة أعزاء كما قال سبحانه : «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً».

 اما الأمم العالمة بسنن الاجتماع التي أمرها شورى بين زعمائها وأهل الرأى فيها ، فلا يستطيع الملوك أن يتصرفوا فيها كما يشاءون ، بل يكونون تحت مراقبة أولى الأمر فيها.

وقد وضع الإسلام هذا الدستور فجعل أمر الأمة بين أهل الحل والعقد ، وأمر الرسول بالمشاورة ، فسار على هذا النهج. وجعلت الولاية العامة ـ الخلافة ـ بالانتخاب.

واقتفى الخلفاء الراشدون خطواته وجروا على سنته ، فقال الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه فى أول خطبة له : أما بعد فإنى قد ولّيت عليكم ولست بخيركم ، فإذا استقمت فأعينونى ، وإذا زغت فقوّمونى.

وقال الخليفة الثاني على المنبر : من رأى منكم فىّ اعوجاجا فليقوّمه .. وقال الخليفة الثالث على المنبر أيام الفتنة : أمرى لأمركم تبع.

وقوله (الظَّالِمِينَ) يشمل الظالمين لأنفسهم والظالمين للناس من الحكام وغيرهم ، إذ كل من هؤلاء وأولئك يتولى من يشا كله فى أخلاقه وأعماله وينصره على من يخالفه.

ثم أجاب سبحانه عن سؤال يخطر بالبال وهو : ما حال الظالمين إذا قدموا على الله يوم القيامة؟ فأجاب بأنهم يسألون فقال :

٣٢

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ؟) أي إنهم ينادون ويسألون عن دعوة الرسل لهم ، فتقوم الحجة عليهم فيما يترتب من الجزاء على مخالفتها.

وقوله : (رُسُلٌ مِنْكُمْ) ظاهر فى أن كلا من الفريقين ـ الإنس والجن ـ قد أرسل منهم رسل إلى أقوامهم ، لكن جمهرة العلماء يقولون : إن الرسل كلهم من الإنس كما يدل عليه ظاهر الآيات الأخرى ، وقالوا إن المراد بقوله : منكم أي من جملتكم لا من كل منكم ، وهو يصدق على رسل الإنس الذين ثبتت رسالتهم إلى الإنس والجن.

والجن عالم غيبى لا نعرف عنه إلا ماورد به النص ، وقد دل الكتاب الكريم وصحيح الأحاديث على أن النبي صلّى الله عليه وسلم أرسل إليهم كقوله تعالى حكاية عن الذين استمعوا القرآن منهم أنهم قالوا : «إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى» فهذا ظاهر فى أنه كان مرسلا إليهم فنؤمن بذلك ونفوض الأمر فيما عداه إلى الله.

ثم بين سبحانه وظيفة الرسل الذين أرسلهم الله إلى الفريقين بقوله :

(يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي إنهم يتلون عليهم الآيات المبينة لأصول الإيمان وأحاسن الآداب والفضائل ، والمفصّلة لأحكام التشريع التي من ثمراتها صلاح الأعمال والنجاة من الأهوال ، وينذرونهم لقاء يوم الحشر بالإعلام بما يكون فيه من الحساب والجزاء لمن كفر بالله وجحد بآياته.

ثم أجابوا عن سؤال فهم من الكلام السابق كأنه قيل فماذا قالوا حين ذلك التوبيخ الشديد؟ فقيل :

(قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) أي شهدنا بإتيان الرسل وإنذارهم وبمقابلتنا لهم بالكفر والتكذيب. وفى هذا الجواب اعتراف صريح بكفرهم ، وإقرار بأن الرسل قد أتوهم وبلّغوهم دعوتهم إما مشافهة أو نقلا عمن سمعها منهم.

وهذا موطن من مواطن يوم القيامة ، وفى موطن آخر لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ، وفى موطن ثالث يكذبون على أنفسهم بما ينكرون من كفرهم وأنهم قدموا شيئا من السيئات والخطايا.

٣٣

ونحو الآية قوله : «قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ».

(وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي وغرتهم زينة الحياة الدنيا ومتاعها من الشهوات والأموال والأولاد وحب السلطان على الناس وعظيم الجاه ، فكفروا بالرسل عنادا وكبرا ، وفلدهم فى ذلك أتباعهم ، واغتر كل منهم بما يغتر به من التعاون مع الآخر.

وأما غرور غيرهم ممن جاء بعدهم بالدنيا ، فلما غلب عليهم من الإسراف فى الشهوات المحرمة والجاه الباطل حتى لقد أصبحت الحظوة بين الناس لذوى المال والنسب مهم اجترحوا من الموبقات وأبسلوا من المكارم والخيرات.

(وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أي وبعد أن قامت عليهم الحجة شهدوا على أنفسهم بأنهم كانوا فى الدنيا كافرين بتلك الآيات والنذر التي جاء بها الرسل حين رأوا أنه لا يجديهم الكذب ولا تنفعهم المكابرة.

والكفر بالرسل ضربان : كفر بتكذيبهم بالقول ، وكفر بعدم الإذعان النفسي الذي يتبعه العمل بحسب سنن الله فى ترتب الأعمال على الطباع والأخلاق.

(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) أي ذلك الذي ذكر من إتيان الرسل يقصون على الأمم آيات الله لإصلاح حال الأفراد والجماعات فى شئونهم الدنيوية والأخروية ، وينذرونهم يوم الحشر والجزاء ، بسبب أن الله لم يكن من سنته فى تربية خلقه أن يهلك الأمم بعذاب الاستئصال الذي أوعد به مكذبى الرسل بظلم منهم وهم غافلون عما يجب أن يقفوا به ذلك الهلاك ، بل يسبق هلاك كل أمة إرسال رسول يبلغها ما يجب أن تكون عليه من الصلاح والحق بما يفصه عليها من آيات الوحى فى عصره ، أو بما ينقله إليها من يبلغونها دعوته من بعده ، إذ من حكمة الله فى الأمم جعل ما يحل بها من عقاب جزاء على عمل استحقته به ، فيكون عقابها تربية لها وزجرا لسواها.

٣٤

والخلاصة ـ إن الله لا يظلم أحدا من خلقه ، بل هم الذين يظلمون أنفسهم ، وإن الإهانة والتعذيب تربية لهم وتأديب وزجر لغيرهم ، وإن هذا العقاب للأمم منه ما هو فى الدنيا ومنه ما هو فى الآخرة ، ومن الأول عذاب الاستئصال لمن عاندوا الرسل بعد أن جاءوهم بما اقترحوا عليهم من الآيات الكونية ، وبعد أن أنذروهم بالهلاك إذا لم يؤمنوا بها كما حصل لعاد وثمود ، وقد انقطع ذلك بانقطاع الرسل.

وهلاك الأمم يكون بما يغلب عليها من الظلم أو الفسق والفجور الذي يفسد الأخلاق ويقطع روابط المجتمع ويجعل بأس الأمة بينها شديدا.

وهذه الآية وما شاكلها من قواعد الاجتماع التي سبق أن شرح جانبا منها بعض علماء الاجتماع من المسلمين كابن خلدون ، لكن لم يستفد من ذلك من جاء بعده من علمائهم ، واستفاد منها غيرهم ، كما لم يستفيدوا من هدى القرآن ومثله العليا فى إقامة ملكهم وحضارتهم بحسب ما أرشدهم إليه من سنن الاجتماع فيمن قبلهم ، وإنهم لا يزالون غافلين عن هذا الرشاد مع حاجة العصر إلى بذل أقصى ما يكون من الجهد فى هذا المضمار ، لأن الأمم قد افتنّت فى الوصول إلى أغراضها بكل الوسائل التي يمكن أن يكفر فيها البشر ، كما هى سنة تنازع البقاء.

ولا نرى من المسلمين إلا معاذير لو تركوها لكان أحرى بهم وبما ينسبونه إلى دينهم كذبا وافتراء ، إذ يعتذرون تارة عن ضعف أممهم وتقصيرها بأن كل شىء بقضاء وقدر ، ولو سلّم لهم هذا لكان الناس مجبورين فى أعمالهم لا مختارين ، وقواعد الدين تأبى هذا ، والتكاليف الشرعية مؤسسة على غير ما يقولون.

وأين كان هذا أيام أن كان المسلمون فى أوج عزهم يكافحون وينافحون ويتغلبون على من سواهم من الأمم ويفتحون الممالك والأمصار ، وتخفق عليها بنودهم وأعلامهم

وتارة يسلون أنفسهم بأن هذا من علامات الساعة ، وأنى لهم بها؟ وهل هم أوتوا من

٣٥

العلم ما يرشدهم إلى ما يدّعون ، بل لقد بلغ الأمر بهم أن وسوس لهم الشيطان وهم يناجون أنفسهم ، أو إذا خلوا إلى شياطينهم أن قالوا إن تعاليم الإسلام أضعفنهم وأضاعت عليهم ملكهم : «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» أفليست تعاليمهم هذه هى التي شيّدت صروح المجد فى سالف العصور ، وأقامت ملكا ضم أطراف المغرب والمشرق؟

أليس أسلافهم بهذه التعاليم ثلّوا عروش الأكاسرة والقياصرة ، ودوّخوا الممالك ، وأسسوا حضارات ووضعوا قوانين لا تزال أرقى الأمم مدنية تمنح من معينها ، وتطفئ ظمأها من نميرها العذب؟

وقد التمس بعضهم هداية غير هداية القرآن ليؤسس عليها سعادة دنياه فكان كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ، فلم يتم له ما أراد وخسر دنياه وأخراه ، وذلك هو الضلال البعيد.

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي ولكل عامل فى طاعة الله أو معصيته منازل ومراتب من عمله يبلغه الله إياها ويثيبه بها ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) أي فكل عملهم يعلمه ربهم وهو محصيه عليهم ، ومجازيهم بالسيئة سيئة مثلها ويضاعف الحسنات من فضله عند لقائهم إياه ومعادهم إليه.

وفى الآية إيماء إلى أن سناط السعادة والشقاء هو عمل الإنسان ومشيئته ، فإن شاء عمل عمل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فكان من الذين سمعوا القول واتبعوا أحسنه ، فجازاه الله أحسن الجزاء ، وإن شاء تنكب عن جادّة الدين ورمى أحكامه وراءه ظهر يا وسار فى غلواء الضلال ، فكان من الأشقياء الذين كبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون.

٣٦

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥))

تفسير المفردات

يذهبكم أي يهلككم ، يستخلف ، أي ينشىء الذرية والنسل ، بمعجزين أي جاعلى من طلبكم عاجزا غير قادر على إدراككم ، والمكانة : الحال التي هم عليها ، والدار : هى الدنيا ، والمراد بالعاقبة : عاقبة الخير إذ لا اعتداد بعاقبة الشر ، لأن الله جعل الدنيا مزرعة الآخرة ، وقنطرة المجاز إليها ، وأراد من عباده أعمال الخير لينالوا حسن العاقبة.

المعنى الجملي

كان الكلام فى الآيات السالفة فى تقرير حجة الله على المكلفين الذين بلغتهم الدعوة فجحدوا بها ، وأنهم يشهدون على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين وأن سنة الله فى إهلاك الأمم فى الدنيا بجنايتها على أنفسها لا بظلم منه تعالى.

وهنا ذكر وعيد الآخرة وأنه مرتب على أعمال المكلفين لا بظلم منه سبحانه ، ولا لحاجة له تعالى إليه ، لأنه غنى عن العالمين ، بل لأنه من مقتضى الحق والعدل ، المقرونين بالرحمة والفضل.

٣٧

الإيضاح

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرحمة) أي وربك هو الغنى الكامل الغنى ، وهو ذو الرحمة الشاملة التي وسعت كل شىء ، إذ كل ما عداه فهو محتاج إليه فى وجوده وبقائه ، ومحتاج إلى الأسباب التي جعلها سبحانه قوام وجوده.

ويقال فى الخلق : هذا غنى إذا كان واجدا لأهم هذه الأسباب التي هى من فيض مولاه وهو مع ذلك محتاج إلى غيره ، انظر إلى الغنىّ ذى المال الكثير تره محتاجا إلى كثير من الناس من الزوج والخادم والعامل والطبيب والحاكم ، ومحتاجا إلى خالقه وخالق كل شىء كما قال تعالى : «يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ، وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ».

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) أي إن يشأ إذهابكم أيها الكافرون المعاندون واستخلاف غيركم بعدكم يذهبكم بعذاب يهلككم به كما أهلك أمثالكم ممن عاندوا الرسل كعاد وثمود ، ويستخلف من بعدكم ما يشاء من الأقوام فإنه غنى عنكم وقادر على إهلاككم وإنشاء قوم آخرين من ذريتكم أو ذرية غيركم يكونون أحق برحمته منكم ، كما قدر على إنشائكم من ذرية قوم آخرين.

وقد صدق الله وعده فأهلك أولئك الذين عادوا خاتم رسله كبرا وعنادا وجحدوا بما جاء به وهم يعلمون صدقه ، واستخلف فى الأرض غيرهم ممن كان كفرهم عن جهل أو تقليد لمن قبلهم ولم يلبث أن زال بالتأمل فى آيات الله فى الآفاق وفى أنفسهم ، فكانوا أكمل الناس إيمانا وإسلاما وإحسانا وهم المهاجرون والأنصار وذرياتهم وكانوا أعظم مظهر لرحمة الله للبشر حتى فى حروبهم وفتوحهم ، وشهد لهم بذلك أعداؤهم حتى قال مؤرخو الإفرنج : ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب.

وبعد أن أنذرهم عذاب الدنيا وهلاكهم فيها أنذرهم عذاب الآخرة فقال :

٣٨

(إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي إن ما توعدونه من جزاء الآخرة بعد البعث لآت لا مردّ له ، وما أنتم بمعجزين الله بهرب ولا منع مما يريد ، فهو القادر على إعادتكم كما قدر على بدء خلقكم ، وهذا دليل قد ذكره الله فى كتابه مرات كثيرة.

وقد أنار العلم فى هذا العصر أمر البعث وقرّبه إلى العقول ، فأثبت أن هلاك الأشياء وفناءها ما هو إلا تحلل موادها وتفرقها ، وأنه يمكن تركيب المواد المتفرقة وإرجاعها إلى تركيبها الأول فى غير الأحياء.

بل بلغ الأمر ببعض العلماء من الألمان أن حاولوا إيجاد البشر بطريقة صناعية علمية بتنمية البذرة التي يولد منها الإنسان إلى أن صارت علقة فمضغة ، وزعم أنه يمكن بوسائل أخرى تغذية المضغة فى حرارة كحرارة الرحم إلى أن تتولد فيها الأعضاء حتى تصير إنسانا تاما ، وقال إنه يمكن إيجاد معامل للتفريخ البشرى كمعامل تفريخ الدجاج ، ولكن الكثير من العلماء قالوا إن هذه نظريات لا يمكن إخراجها من حيز الإمكان إلى حيز الوجود بالفعل.

وإذا كان علماء المادة يحاولون الوصول إلى ذلك ولا يعدونه مستحيلا ، فهل يعجز عنه خالق البشر وخالق كل شىء : «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ».

ثم تمم الوعيد والتهديد بأمره لرسوله أن ينذرهم بقوله :

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي يا قوم اعملوا على مكانتكم وطريقتكم التي أنتم عليها ، إنى عامل على مكانتى وطريقتى التي ربانى ربى عليها وهدانى إليها وأقامنى عليها ، فسوف تعلمون بعد حين من تكون له العاقبة الحسنى فى هذه الدار بتأثير أعماله.

وفى الآية إيماء إلى أن أحوال الأمم مرتبة بحسب أعمالها ، وأن أعمالها منبعثة من عقائدها وصفاتها النفسية ، وأن عاقبة كل عمل نتيجة حتمية له ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

٣٩

قال صاحب الكشاف : اعملوا على مكانتكم ـ تحتمل وجهين ـ اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها ، يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حال : على مكانك يا فلان أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه ، إنى عامل على مكانتى التي أنا عليها.

والمعنى ـ اثبتوا على كفركم وعداوتكم فإنى ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم ، فسوف تعلمون أيّنا تكون له العاقبة المحمودة.

ثم قال : وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك فيه إنصاف فى المقال وأدب حسن مع تضمن شدة الوعد والوثوق بأن المنذر محق والمنذر مبطل ا ه.

يقصد بذلك رحمه الله ـ أن فى هذا الإنذار إحالة على المستقبل ليتم وعده لرسوله بالنصر والتأييد وليظهر صدق وعيده لأعدائه بقهرهم فى الدنيا بحيث يرونه بأعينهم ، وإذا صدق فى الدنيا صدق فى الآخرة ، وأن كلا منهما كان بإنباء الغيب ، وأن السبب الذي لأجله كانت عاقبة الرسول ومن اتبعه الحسنى فى الدنيا والآخرة واحد ، وكذلك عاقبة من ناوأه وكفر به ، وقد أشار إليه بقوله :

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي إن الظالمين لأنفسهم بالكفر بنعم الله واتخاذ الشركاء له فى ألوهيته والتوجه إليهم فيما يتقرب به إليه تعالى أو فيم لا يطلب إلا منه وهو ما خفيت على المرء أسبابه ، إذ مثل هذا لا يدعى فيه إلا الله وحده ، وما عرف سببه يجب أن يطلب من طريق السبب ، مع العلم بأن خالق الأسباب جميعها هو الله تعالى ، وحال الظالمين للناس أشد من حال الظالمين لأنفسهم ، وكلهم لا يفوزون بفلاح لا فى الدنيا ولا فى الآخرة ، وإنما يفوز به أهل الحق والعدل الذين يؤدون حقوق الله وحقوق أنفسهم ، ولا يكمل مثل هذا إلا لرسل الله وجندهم من المؤمنين.

انظر كيف نصر الله رسوله على الظالمين من قومه كأكابر مجرمى مكة المستهزئين به ثم من سائر مشركى العرب ، ثم نصر أصحابه على أعظم أمم الأرض وأقواها جندا كالرومان والفرس ، ثم نصر من بعدهم على من ناوأهم من أهل الشرق والغرب ، فلما ظلموا

٤٠