تفسير المراغي - ج ٨

أحمد مصطفى المراغي

أنفسهم وظلموا الناس لم تبق لهم ميزة عن غيرهم تمكنهم من الفلاح والفوز وانحصر الفوز فى الأسباب المادية والأسباب المعنوية كالصبر والثبات والعدل والنظام.

ولا عجب بعد هذا أن يتغلب عليهم غيرهم ، لأن الله إنما وعدهم نصره إذا هم نصروه وأقاموا شرعه وسلكوا سبيل الحق والعدل كما قال : «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ».

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠))

٤١

تفسير المفردات

ذرأ : أي خلق على وجه الاختراع والإبداع ، لشركائنا : أي الأوثان التي يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى ، لشركائهم أي سدنة الآلهة وخدمها ، أو الشياطين الذين يوسوسون لهم ما يزين ذلك فى أنفسهم ، ويردوهم : أي يهلكوهم بالإغواء ، وليلبسوا أي يخلطوا ، حجر : أي محجور ممنوع ، كما قالوا : ذبح وطحن أي مذبوح ومطحون ، وجزاه بكذا جعله جزاء له على عمله قال تعالى : «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا» وصفهم : أي جزاء وصفهم.

المعنى الجملي

بعد أن حاجّ سبحانه المشركين وسائر العرب فى كثير من أصول الدين وكان آخرها البعث والجزاء ـ ذكر هنا بعض عبادتهم فى الحرث والأنعام والتحليل والتحريم بباعث الأهواء النفسية والخرافات الوثنية.

الإيضاح

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) أي وجعلوا لله نصيبا مما خلق من ثمر الزرع وغلته كالتمر والحبوب ونتاج الأنعام ، ونصيبا لمن أشركوا معه من الأوثان والأصنام.

(فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) أي فقالوا فى النصيب الأول هذا لله أي نتقرب به إليه ، وفى النصيب الثاني هذا لشركائنا أي لمعبوداتنا نتقرب به إليها ، وقوله بزعمهم أي بتقوّلهم الذي لا بينة لهم عليه ولا هدى من الله ، إذ جعله قربة لله يجب أن يكون خالصا له وحده لا يشرك معه غيره فيه ، وأن يكون بإذنه ، لأنه دين ، والدين لله ومن الله وحده ، فهذا زعم مخترع ، لا دين مشترع فيكون باطلا.

وقد روى أنهم كانوا يجعلون نصيب الله لقرى الضيفان ، وإكرام الصبيان ، والتصدق على المساكين ، ونصيب آلهتهم لسدنتها وقرابينها وما ينفق على معابدها.

٤٢

(فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ) أي فما عيّنوه لشركائهم لا يصرف إلى الوجوه التي جعلوها لله لا بالتصدق ولا بالضيافة ولا غيرهما ، بل يهتمون بحفظه وإنفاقه على السدنة وذبح الذبائح والقرابين عندها.

(وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) أي وما عينوه وجعلوه له فهو يحوّل أحيانا للتقرب به إليها.

(ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي قبح ما يحكمون به بإيثارهم المخلوق العاجز عن كل شىء على الخالق القادر على كل شىء وبعملهم شيئا لم يشرعه الله.

وللقبح وجوه متعددة منها :

(١) إنه اعتداء على الله بالتشريع وهو لم يأذن لهم به.

(٢) الشرك فى عبادته تعالى ، ولا ينبغى أن يشرك مع الله سواه فيما يتقرب به إليه.

(٣) ترجيح ما جعلوه لشركائهم على ما جعلوه لخالقها وخالقهم.

(٤) إن هذا حكم لا مستند له من عقل ولا هداية من شرع.

نقل على بن أبي طلحة والعوفى عن ابن عباس أنه قال فى تفسير الآية : إن أعداء ، الله كانوا إذا حرثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءا وللوثن جزءا ، فما كان من حرث أو ثمرة أو شىء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه ، وإن سقط منه شىء فيما سمى للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن ، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئا جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن ، وإن سقط شىء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوه لله ، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمى للوثن تركوه للوثن.

وكانوا يحرّمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى فيجعلونه للأوثان ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله تعالى.

ثم ذكر سبحانه من أعمال الشرك أيضا عملا لا مستند له من عقل ولا شرع فقال

٤٣

(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) أي ومثل ذلك التزيين لقسمة القرابين من الحرث والأنعام بين الله والآلهة ـ زيّن لكثير من المشركين شركاؤهم ـ سدنة الآلهة وخدمها ـ أن يقتلوا أولادهم. وكان مصدر هذا التزيين وجوها مختلفة منها :

(١) اتقاء الفقر الحاصل أو المتوقع ، وقد أشار سبحانه إلى الأول بقوله :

«وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ» وأشار إلى الثاني بقوله : «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ».

(٢) اتقاء العار بوأد البنات أي بدفنهن وهن على قيد الحياة خشية أن يكنّ سببا للعار أو السباء إذا كبرن ، أو خشية أن يقترن بأزواج دون آبائهن فى الشرف.

(٣) التدين بنحر الأولاد للآلهة تقربا إليها بنذر أو بغير نذر ، فقد كان الرجل فى الجاهلية ينذر إن ولد له كذا غلاما لينحرنّ أحدهم كما حلف عبد المطلب فى قصص طويل أشار إليه النبي صلّى الله عليه وسلم بقوله : «أنا ابن الذبيحين».

وسمى الله المزينين لهم الشرك من شياطين الإنس كالسدنة ، أو شياطين الجن شركاء وإن كانوا هم لم يسموهم لا آلهة ولا شركاء ، لأنهم لما أطاعوهم طاعة إذعان وخضوع فى التحليل والتحريم ولا يكون ذلك إلا لله ـ سماهم كذلك كما قال : «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ».

وقد حذا كثير من المسلمين حذو هؤلاء فدعوا غير الله من الموتى تضرعا وخضوعا عند قبورهم مع التقرب إليهم بالصدفات وذبائح النسك ، ولكنهم لا يسمون عبادتهم هذه شركا ولا عبادة ، بل يسمونها توسلا (والأسماء لا تغير الحقائق والأعمال) فالدعاء والتضرع أدل على الحقائق من الأسماء والتأويلات.

ثم ذكر سبحانه علة تزيين المنكرات لهم فقال :

(لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي إنهم زينوا لهم هذه المنكرات ليهلكوهم

٤٤

بالإغواء ، ويفسدوا عليهم فطرتهم ، فتنقلب عواطف ود الوالدين من رأفة ورحمة إلى قسوة ووحشية ، فينحر الوالد ولده ويدفن بنته الضعيفة بيده وهى حية.

والدين الذي لبسوه وخلطوه هو ما كانوا يدّعونه من دين إسماعيل وملة إبراهيم عليهما السلام ، وقد اختلط عليهم بما ابتدعوه من تقاليد الشرك حتى لم يعرف الأصل الذي كان يتبع من هذه الإضافات التي ضموها إليه.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) أي ولو شاء الله أن يخلق الناس مطبوعين على عبادته طبعا لا يستطيعون غيرها كالملائكة ، فلا يؤثّر فيهم إغواء ولا تجدى فيهم وسوسة ـ لفعل ، ولكن شاء أن يخلقهم مستعدين للتأثر بكل ما يرد على أنفسهم من الأفكار والآراء ، وما يشاهدون من المحسوسات ، واختيار ما يترجح عندهم أنه الخير على ما يقابله ، ومن ثم يؤثّر فى نفوسهم ما يستفيدونه بالتعليم والاختيار والمعاشرة والمخالطة ، والناس يتفاوتون فى هذا جدّ التفاوت ، فلا يمكن أن يكونوا على رأى واحد أو دين واحد.

فدعهم أيها الرسول وما ينتحلونه من شرائع ، وما يفترون من عقائد ، وعليك بما أمرت به من التبليغ ، والله هو الذي يتولى أمرهم وله سنن فى هداية خلقه لا تتغير ولا تتبدل ، ومن سننه أن يغلب الحق الباطل.

ثم ذكر نوعا ثالثا من آرائهم الفاسدة فقال :

(وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ ، وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) أي إنهم لغوايتهم وشركهم قسموا أنعامهم وزرعهم أقساما ثلاثة :

(١) أنعام وأقوات من حبوب وغيرها تقتطع من أموالهم وتجعل لمعبوداتهم تعبدا وتدينا ، ويمتنعون من التصرف فيها إلا لها ، ويقولون هى حجر أي محتجرة للآلهة لا تعطى لغيرهم.

٤٥

وقوله لا يطعمها إلا من نشاء أي لا يأكل منها إلا الرجال دون النساء. وقوله بزعمهم أي بادعائهم الباطل من غير حجة ولا برهان عليه.

(٢) أنعام حرمت ظهورها ، فلا تركب ولا يحمل عليها ، قال السدى : هى البحيرة والسائبة والحامى وقد تقدم ذكرها فى قوله : «ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ ، وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ».

(٣) أنعام لا يذكرون اسم الله عليها فى الذبح ، بل يهلّون بها لآلهتهم وحدها ، وكانوا إذا حجوا لا يحجون عليها ولا يلبّون على ظهرها.

(افْتِراءً عَلَيْهِ) أي إنهم قسموا هذا التقسيم وجعلوه من أحكام الدين ونسبوه إلى الله افتراء عليه واختلاقا له والله منه برىء ، فهو لم يشرعه لهم ، وما كان لغير الله أن يحرم أو يحلل على العباد ما لم يأذن به الله ، كما جاء فى قوله : «قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً ، قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ؟».

(سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي سيجزيهم الجزاء الذي يستحقونه وينكّل بهم شر النكال بسبب هذا الافتراء القبيح.

ثم ذكر ضربا آخر من أحكامهم فى التحريم والتحليل ينبىء عن سخفهم فقال :

(وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) المراد بالأنعام هنا البحائر أي المشقوقة الآذان ، والسوائب التي تسيّب وتترك للآلهة فلا يتعرض لها أحد ، وكانوا يجعلون لبنها للذكور ويحرمونه على الإناث ، وإذا ولدت ذكرا جعلوه خالصا للذكور لا تأكل منه الإناث ، وإذا كان ميتا اشترك فيه الذكور والإناث ، وإذا ولدت أنثى تركوها للنتاج.

(سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) يقولون وصف كلامه بالكذب ـ إذا كذب

٤٦

وعينه تصف السحر أي هى ساحرة ، وقدّه يصف الرشاقة ؛ على معنى أنه رشيق على سبيل المبالغة ، حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له ، قال أبو العلاء المعرّى :

سرى برق المعرّة بعد وهن

فبات برامة يصف الملالا

أي سيجزيهم الله تعالى جزاء وصفهم ، لأن حكمته تعالى فى الخلق وعلمه بشئونهم ، جعلت عقابهم عين ما يقتضيه وصفهم ونعتهم الروحي ، إذ لكل نفس فى الآخرة صفات تجعلها فى مكان معين سواء أكان فى أعلى عليين أم فى أسفل سافلين.

والخلاصة ـ إن منشأ الجزاء نفس الإنسان باعتبار عقائدها وسائر صفاتها التي يطبعها عليها العمل.

وقد يكون المعنى ـ سيجزيهم وصفهم لربهم بما جعلوا له من الشركاء فى العبادة والتشريع ، أو وصف ألسنتهم الكذب بما افتروا عليه فيهما كما قال تعالى : «وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ» الآية.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ ، قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أنكر سبحانه على مشركى العرب أمرين عظيمين ونعاهما عليهم ، وحكم فيهم حكما عدلا وهما :

(١) قتل أولادهم ووأد بناتهم ، وبذلك خسروا خسرانا مبينا ، فإن قتل الأولاد يستلزم خسران كل ما كان يرجى من العزة والنصرة والسرور والغبطة ، والبر والصلة ، وخسران العاطفة الأبوية ورأفتها ، واستبدال القسوة والغلظة بها ، إلى نحو أولئك من مساوى الأخلاق التي يضيق بها العيش فى الدنيا ، وبها يحل العقاب فى الآخرة.

(٢) تحريم ما رزقهم الله من الطيبات.

٤٧

وإيضاح هذا أن قد حكم سبحانه على من فعل هذين الجرمين بالخسران ، والسفاهة ، وعدم العلم ، والافتراء على الله والضلال وعدم الاهتداء.

أما الخسران فلأن الولد نعمة من الله على العبد ، فإذا سعى العبد فى زوالها فقد خسر خسرانا عظيما ، إذ هو قد استحق الذم فى الدنيا وقال الناس فيه إنه قتل ولده خوف أن يأكل طعامه ، والعقاب فى الآخرة ، لأنه ألحق أعظم أنواع الأذى بأقرب الناس محبة إليه.

وأما السفاهة ، وهى اضطراب النفس وحماقتها ، فلأنه أقدم على ضرر محقق وهو القتل خوفا من ضرر موهوم وهو الفقر.

وأما عدم العلم بما ينفع وما يضر وما يحسن وما يقبح فذلك من أقبح القبائح والمنكرات.

وأما الافتراء على الله فلأنهم جعلوه دينا يتقرّب به إليه وهو جراة عليه ، وذلك من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر.

وأما الضلال المبين فلأنهم لم يرشدوا إلى مصالح الدين ولا منافع الدنيا.

وأما عدم الاهتداء إلى شىء من الحق والصواب ، فلأنهم لم يعملوا بمقتضى العقل ولا بهدى الشرع فى منافع الدنيا وسعادة الآخرة.

وفائدة قوله : وما كانوا مهتدين ـ بيان أنهم لم يحصل لهم اهتداء قط ، والإنسان أحيانا قد يضلّ ثم يهتدى ، ولكن هؤلاء لم يحصل لهم اهتداء بحال.

أخرج البخاري عن ابن عباس قال : إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً ـ إلى قوله وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال فى الآية : هذا صنع أهل الجاهلية ، كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السّباء والفاقة ويغذو كلبه.

٤٨

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤))

تفسير المفردات

الإنشاء : إيجاد الأحياء وتربيتها وكل ما يكمل بالتدريج كإنشاء السحاب والدور والشعر ، والجنات البساتين والكروم الملتفة الأشجار ، لأنها تجنّ الأرض وتسترها ، والمعروشات : المحمولات على العرائش ، وهى الدعائم التي يوضع عليها مثل السقف من العيدان والقصب ، وغير المعروشات : ما لم يعرش منها ، والمراد أن الجنات نوعان : معروشات كالكروم ، وغير معروشات من سائر أنواع الشجر الذي يستوى على سوقه ولا يتسلق على غيره ، والأكل (بضم الهمزة والكاف) ما يؤكل ، متشابها أي فى النظر ، وغير متشابه أي فى الطعم ، والحمولة : الكبير من الإبل والبقر الذي يحمل

٤٩

عليه الناس الأثقال ، والفرش : ما يفرش للذبح من الضأن والمعز وصغار الإبل والبقر ، أو هو ما يتخذ الفرش من صوفه ووبره وشعره ؛ والخطوات واحدها خطوة (بالضم) : وهى المسافة التي بين القدمين ، ما اشتملت عليه الأرحام : هى الأجنّة.

المعنى الجملي

علمت فيما سلف أن أصول الدين التي عنى الكتاب الكريم بذكرها ، واهتم ببيانها ، وكررها المرة إثر المرة ـ هى التوحيد والنبوة والبعث والقضاء والقدر ؛ وقد بالغ سبحانه فى تقرير هذه الأصول وأتبعها بذكر آراء لهم سخيفة وكلمات فاسدة فى التحليل والتحريم ، تنبيها إلى ضعف عقولهم ، وتنفيرا للناس من اتباع آرائهم والسير على أهوائهم.

وهنا عاد إلى المقصود الأصلى وهو توحيد الله باعتقاد الألوهية ، والربوبية له وإفراده بالعبادة وحق التشريع ، إذ لا رب غيره ولا خالق سواه يعبد معه أو من دونه ، ولا شارع سواه لعبادة ولا تحليل ولا تحريم.

الإيضاح

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) أي إن ربكم أيها الناس هو الذي ابتدع البساتين والكروم الملتفة الأشجار والتي تجن الأرض وتسترها ، سواء المعروش منها وغير المعروش ، وأنشأ النخل والزرع المختلف الطعم واللون والرائحة والشكل.

والنخل وإن كان من قسم الجنات غير المعروشات ، ذكر على سبيل الانفراد لما فيه من المنافع الكثيرة ولا سيما للعرب ، فإن بسره ورطبه فاكهة وغذاء ، وتمره من أفضل الأقوات التي تدّخر ، ومن أيسرها تناولا فى السفر والحضر ، ولا يحتاج إلى طبخ

٥٠

ولا إلى معالجة ، ونواه علف لرواحلهم ، ويتخذ منه شراب لذيذ إذا نبذ فى الماء زمنا قليلا ـ إلى ما فى خوصه وليفه من الفوائد والمنافع.

وبهذه الفوائد يفضل الكرم الذي هو أقرب الشجر منه تفكها وتغذية وشربا وأشبهه به شكلا ولونا فى عنبه وزبيبه ومنافعه.

والزرع وهو النبات الذي يكون بحرث الناس ، يشمل كل ما يزرع لكنه خص بما يأتى منه القوت كالقمح والشعير ؛ وقد ذكرت هذه الأنواع على طريق الترقي من الأدنى فى التغذية واقتيات الناس إلى الأعلى والأعم ، فإن الحبوب هى التي عليها المعول فى الاقتيات.

(وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي وأنشأ الزيتون والرمان متشابها فى المنظر ، وغير متشابه فى الطعم.

(كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) أي كلوا من ثمر ذلك الذي ذكر إذا أثمر وإن لم يدرك ويينع.

وخلاصة ما سلف ـ أنه سبحانه بعد أن أعلم عباده بأنه هو الذي أنشأ لهم ما فى الأرض من الشجر والنبات الذي يستعملون منه أقواتهم ـ أعلمهم بأنه أباح ذلك كله لهم ، فليس لأحد غيره أن يحرم شيئا منه عليهم ، لأن التحريم حق لله الخالق للعباد والأقوات جميعا ، فمن ادعاه لنفسه فقد جعل نفسه شريكا له تعالى ، كما أن من أذعن لتحريم غير الله فقد أشركه معه سبحانه وتعالى.

والتحريم الذي لا يكون إلا لله هو تحريم التشريع ، أما المنع من بعض هذا الثمر لسبب غير ذلك فلا شرك فيه ، فإذا منع الطيب بعض المرضى من أكل الثمر أو الخبز لأنه يضره يكون منعا شرعيا أو تحريما لا على معنى أن الطبيب هو الذي شرع ذلك ، بل الله هو الذي حرم كل ضارّ والطبيب هو الذي عرّف المريض ضرره.

وكذلك منع السلطان من صيد بعض الطيور لمصلحة عامة كالحاجة إلى كثرته لحفظ بعض الزرع ، لأنه يأكل الحشرات المهلكة مثلا لا يكون تحريما ذاتيا بل تحريما

٥١

مؤقتا ما دام السبب والسلطان هو المكلف شرعا بصيانة المصالح ودرء المفاسد ، وليس له أن يحرم بمحض إرادته ، وإذا هو أخطأ فى اجتهاده وجب على الأمة الإنكار عليه ، ووجب عليه أن يرجع إلى الحق.

وفائدة قوله إذا أثمر ـ بيان أن أول وقت لإباحة الأكل هو وقت الإثمار ، وليس بلازم أن يدرك ويينع ، فالكرم ينتفع بثمره حصر ما فعنبا فزبيبا ، والنخل يؤكل ثمره بسرا فرطبا فتمرا ، والقمح يطحن ويؤكل خبزا أو يطبخ أو يعمل حلوى على أشكال شتى.

(وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) أي وآتوا الحق المعلوم فيما ذكر من الزرع وغيره لمستحقيه من ذوى القربى واليتامى والمساكين زمن حصاده جملة ، ويدخل فى الحصاد جنى العنب وصرم النخل.

أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله «وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ» قال ما سقط من السنبل. وقال مجاهد فيه : إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل ، فإذا دسته فحضرك المساكين فاطرح لهم ، فإذا أذريته وجمعته وعرفت كيله فاعزل زكاته ، وإذا بلغ النخل وحضرك المساكين فاطرح لهم من التفاريق والبسر ، فإذا جددته (قطعته) فحضرك المساكين فاطرح لهم منه ، فإذا جمعته وعرفت كيله فاعزل زكاته.

وعن ميمون بن مهران وزيد بن الأصمّ أن أهل المدينة كانوا إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيضعونه فى المسجد فيجىء السائل فيضر به بالعصا فيسقط منه ، فهو قوله : «وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ».

وعن سعيد بن جبير قال : كان هذا قبل أن تنزل الزكاة. الرجل يعطى من زرعه ويعلف الدابة ويعطى اليتامى والمساكين ويعطى الضّغث ، يريد أن هذا الأمر فى الصدقة المطلقة غير المعينة ، ومما يؤيد هذا أن السورة مكية والزكاة المحدودة فرضت بالمدينة فى السنة الثانية من الهجرة.

٥٢

(وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أي كلوا مما رزقكم الله من غير إسراف فى الأكل كما قال فى آية أخرى : «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» وقال : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ».

والاعتداء والإسراف : مجاوزة الحد ، والحد الذي ينهى الله عن تجاوزه إما شرعى كتجاوز الحلال من الطعام والشراب وما يتعلق بهما إلى الحرام ، وإما فطرى طبعى وهو تجاوز حد الشبع إلى البطنة الضارة.

(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) أي وأنشأ من الأنعام كبارا منها تصلح للحمل ، وصغارا مثل الفصلان الدانية من الأرض لصغر أجرامها كالفرش المفروش عليها.

(كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي كلوا من هذه الأنعام وغيرها وانتفعوا بها بسائر ضروب الانتفاع المباحة شرعا.

(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) فتحرموا ما لم يحرمه الله عليكم ، فإن ذلك إغواء منه ، والله المبدع قد أباحها لكم فليس لغيره أن يحرّم أو يحلل ، ولا أن يتعبدكم به.

ويقال لمن اتّبع آخر فى أمر وبالغ فى التأسّى به ـ اتّبع خطواته ، ولا شك أن تحريم ما أحل الله من أقبح المبالغات فى اتباع إغواء الشيطان ، لأنه اتباع له فى حرمان النفس من الطيبات ـ لا فى الاستمتاع باللذات كما هوأكثر غوايته ؛ ثم علل النهى عن اتباعه بقوله :

(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي لا تتبعوه لأنه ظاهر العداوة بينها ، لا يأمر إلا بكل قبيح يسوء فعله حالا أو استقبالا ويأمركم بالافتراء على الله بغير علم كما قال عز اسمه : «إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ».

٥٣

وبعد أن ذكر سبحانه أن الأنعام إما حمولة وإما فرش ، فصلها وقسمها ثمانية أزواج ، فإن الحمولة إما إبل وإما بقر ، والفرش إما ضأن وإما معز ، وكل من الأقسام الأربعة إما ذكر وإما أنثى ، وكل هذا لإيضاح المحالّ التي تقوّلوها على الله تعالى بالتحريم والتحليل ثم تبكيتهم بإظهار كذبهم وافترائهم فى كل محل من هذه المحال بتوجيه الإنكار إليها مفصلة فقال :

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ، قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ؟ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ، قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ؟ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) أي أنشأ سبحانه من الضأن زوجين الكبش والنعجة ، ومن المعز زوجين التيس والعنز ، وهذه الأنواع الأربعة تفصيل للفرش ، فقل لهم أيها الرسول تبكيتا وتوبيخا : أحرم الله الذكرين الكبش والتيس من ذينك النوعين أم حرم الأنثيين النعجة والعنز أم حرم ما حملت إناث النوعين أخبرونى ببينة تدل على ذلك من كتاب الله أو خبر من أنبيائه إن كنتم صادقين فى دعوى التحريم.

وكذلك أنشأ من الإبل اثنين الجمل والناقة ، ومن البقر اثنين الثور والبقرة ، فقل لهم تأنيبا وإنكارا وإلزاما للحجة. أحرم الذكرين منهما أم حرم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من ذينك النوعين؟

وخلاصة ذلك ـ إن المشركين فى الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام ، فاحتج سبحانه على إبطال ذلك ـ بأن لكل من الضأن والمعز والإبل والبقر ذكرا وأنثى ، فإن كان قد حرم منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها جراما ، وإن كان حرم جل شأنه الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراما ، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الإناث وجب تحريم الأولاد كلها ، لأن الأرحام تشتمل على الذكور والإناث.

وقصارى ذلك ـ إنه تعالى ما حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع الأربعة وإنهم كاذبون فى دعوى التحريم ، وقد فصل ذلك أتم التفصيل مبالغة فى الرد عليهم.

٥٤

ثم زاد فى الإنكار والتهكم بهم فقال :

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) أي أعندكم علم يؤثر عن أحد من رسله فتنبئونى به ، أم شاهدتم ربكم فوصاكم بهذا التحريم مشافهة بغير واسطة؟ ـ كلّا ، ما حصل هذا ولا ذاك ، فما هو إلا محض افتراء على الله يقلد فيه بعضكم بعضا بقوله إن الله حرم علينا كذا وكذا كما قال تعالى : «وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها ، قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ، أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟».

والخلاصة ـ إنكم إذ لم تؤمنوا بنبي فلا طريق لكم إلى علم ذلك بحسب ما تقولون إلا أن تشاهدوا ربكم وتتلقوا منه أحكام الحلال والحرام.

وبعد أن نفى الأمرين بالبرهان أثبت أنه افتراء على الله لإضلال عباده وهو ظلم يجنيه الإنسان على نفسه وعلى غيره ويجنى سوء عاقبته ، فقال :

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي لا أحد أظلم منكم لأنكم من هؤلاء المفترين على الله بقصد الإضلال عن جهل تام.

ونفى العلم شامل لمن يؤثر أو يعقل ويستنبط كالنظر العقلي والتجارب العملية وطرق درء المفاسد والشرور وتقدير المصالح وعمل البر والخير.

والخلاصة ـ إن فى ذلك تسجيل الغباوة عليهم وعمى البصيرة باتباعهم محض التقليد من غير عقل ولا هوى ، فإن عملهم ليس له أثارة من علم ولا قصد إلى شىء من الهدى إلى حق أو خير.

وقد وجد فى البشر ناس فكّروا وبحثوا فيما يجب عليهم لله من الشكر والعبادة واتباع الحق والعدل وفعل الخير بحسب ما يرشد إليه العقل ، وفيما ينبغى لهم أن يجتنبوه من الطعام والشراب فأصابوا فى بعض ما هدتهم إليه عقولهم وأخطئوا فى بعض ، وكانوا خير الناس للناس على حين فترة من الرسل ، كما فعل قصى ، إذ وضع للعرب سننا حسنة كسقاية الحاجّ ورفادتهم وإطعامهم ، وسن الشّورى فى مهامّ الأمور.

٥٥

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن الله لا يوفق للرشاد من افترى عليه الكذب وقال عليه الزور والبهتان ، ولا يهديه إلى الحق والعدل لا من طريق الوحى ولا من طريق العلم ، بل يصده عن استعمال عقله فيما يهديه إلى الصواب وعما فيه صلاحه عاجلا وآجلا.

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧))

تفسير المفردات

الطاعم : الآكل ، والميتة : البهيمة ماتت حتف أنفها ، والمسفوح : المصبوب السائل كالدم الذي يجرى من المذبوح ، رجس أي قذر قبيح ، الإهلال : رفع الصوت ، والمراد به الذبح باسم الأصنام ، اضطر أي أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شىء منه ، وباغ : أي طالب لذلك قاصد له ، عاد : أي متجاوز قدر الضرورة ، الذين هادوا : هم اليهود لقولهم : «إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» أي رجعنا وتبنا ، الظفر للانسان وغيره مما

٥٦

لا يصيد ، والمخلب لما يصيد ، والشحم : ما يكون على الأمعاء والكرش والكلى من المادة الدهنية ، حملت ظهورها أي علقت بها ، والحوايا : المباعر أو المرابض (مجتمع الأمعاء فى البطن) أو المصارين والأمعاء ، بأسه : أي عذابه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فى سابق الآيات أنه ليس لأحد أن يحرم شيئا من الطعام ولا غيره إلا بوحي من ربه على لسان رسله ، ومن فعل ذلك يكون مفتريا على الله معتديا على مقام الربوبية ، ومن اتبعه فى ذلك فقد اتخذه شريكا لله تعالى ، وأبان أن من هذا الافتراء ما حرّمته العرب فى جاهليتها من الأنعام والحرث.

قفّى على ذلك بذكر ما حرمه على عباده من الطعام على لسان خاتم رسله وألسنة بعض الرسل قبله.

أخرج عبد بن حميد عن طاوس قال : إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء ويستحلون أشياء فنزلت : «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً» الآية.

الإيضاح

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المفترين على الله الكذب فيما يضرهم من تحريم ما لم يحرم عليهم ، وقل لغيرهم من الناس : لا أجد فيما أوحاه إلىّ ربى طعاما محرما على آكل يريد أن يأكله ـ إلا أن يكون ميتة لم تذكّ ذكاة شرعية ، وذلك شامل لما مات حتف أنفه ، وللمنخنقة والموقوذة والنطيحة ونحوها ، أو دما مسفوحا أي سائلا كالدم الذي يجرى من المذبوح ، فلا يدخل فيه الدم الجامد كالكبد والطحال ، وفى الحديث «أحلّت لنا ميتتان السمك والجراد ، ودمان الكبد والطحال» أو لحم خنزير ، فإن كل ذلك خبيث تعافه الطباع السليمة ،

٥٧

وهو ضار بالأبدان الصحيحة ، أو فسقا أهل لغير الله به وهو ما يتقرب به إلى غيره تعبدا ويذكر اسمه عليه عند ذبحه.

(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن دفعته ضرورة الجوع وفقد الحلال إلى أكل شىء من هذه المحرمات حال كونه غير مريد لذلك ولا قاصد له ، ولا متجاوز حد الضرورة ـ فإن ربك الذي لم يحرم ذلك إلا لضرره ـ غفور رحيم ، فلا يؤاخذه بأكل ما يسد به مخمصته ويدفع عنه ضرر الهلاك.

والخلاصة ـ قل : لا أجد فيما أوحى إلىّ من أخبار الأنبياء وشرائعهم ، ولا فيما شرع على لسانى ـ أن الله حرم أىّ طعام إلا هذه الأنواع الأربعة ، وما حرمه على اليهود تحريما مؤقتا عقوبة لهم وهو ما ذكر أهمه فى الآية التالية ، ودليل التوقيت قوله فى سورة آل عمران : «وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» وقوله مخاطبا من يتبع النبي صلى الله عليه وسلم منهم : «وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» ودليل كونه عقوبة لا لذاته قوله : «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ».

وما صح من الأحاديث فى النهى عن طعام غير هذه الأنواع الأربعة فهو إما مؤقت لعارض وإما للكراهة فقط ، ومن الأول تحريم الحمر الأهلية ؛ فقد روى ابن أبي شيبة والبخاري عن ابن عمر قال : «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر» ومن الثاني ما رواه البخاري ومسلم عن أبي ثعلبة الخشني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن كل ذى ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطير».

ثم بين سبحانه ما حرمه على بنى إسرائيل خاصة عقوبة لهم لا على أنه من أصول شرعه على ألسنة رسله قبلهم أو بعدهم فقال :

٥٨

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) أي وعلى الذين هادوا دون غيرهم من أتباع الرسل حرمنا كل ذى ظفر أي ما ليس منفرج الأصابع كالإبل والنعام والإوزّ والبط كما قاله ابن عباس وابن جبير وقتاده ومجاهد.

(وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) أي إنه حرم عليهم لحم كل ذى ظفر وشحمه وكل شىء منه ، وترك البقر والغنم على التحليل لم يحرم منهما إلا الشحوم الخالصة وهى الثروب (واحدها ثرب ، وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش) وشحوم الكلى.

والخلاصة ـ ومن البقر والغنم دون غيرهما مما أحل لهم من حيوان البر والبحر حرمنا عليهم شحومهما الزائدة التي تنتزع بسهولة لعدم اختلاطها بلحم ولا عظم ، ولم نحرم عليهم ما حملت الظهور أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ، والسبب فى تخصيص البقر والغنم بهذا الحكم أن القرابين عندهم لا تكون إلا منهما ، وكان يتخذ من شحمهما الوقود للرب كما ذكر ذلك فى الفصل الثالث من سفر اللاويين فقد جاء فيه بعد التفصيل فى قرابين السلامة من البقر والغنم (كلّ الشحم للرب فريضة فى أجيالكم فى جميع مساكنهم ، لا تأكلوا شيئا من الشحم ولا الدم.

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) أي إنما حرم الله ذلك عليهم عقوبة بغيهم فشدد عليهم بذلك ، وليس ذلك بالخبيث لذاته.

ولما كان هذا النبأ عن شريعة اليهود من الأنباء التي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا قومه يعلمون منها شيئا لأميتهم ، وكان مظنة تكذيب المشركين له ، لأنهم لا يؤمنون بالوحى ومظنة تكذيب اليهود له بأن الله لم يحرم ذلك عقوبة ببغيهم وظلمهم ، أكده فقال :

(وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي وإنا لصادقون فى هذه الأخبار عن التحريم وعلته ، لأن أخبارنا صادرة عن العلم المحيط بكل شىء ، ولأن الكذب محال علينا ، لأنه نقص فلا يصدر عنا.

٥٩

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) هذا الخطاب إما لليهود وهو المروي عن مجاهد والسدى ، وإما لمشركى مكة.

فعلى الأول يكون المعنى ـ فإن كذبك اليهود وثقل عليهم أن يكون بعض شرعهم عقابا لهم على ما كان من بغيهم على الناس وظلمهم لهم ولأنفسهم ، واحتجوا على إنكار كونه عقوبة بكون الشرع رحمة من الله ـ فأجبهم بما يدحض هذه الشبهة بأن رحمة الله واسعة حقا ولكن ذلك لا يقتضى أن يرد بأسه ويمنع عقابه عن القوم المجرمين ، فإصابة الناس بالمحق والشدائد عقابا لهم على جرائم ارتكبوها ، قد تكون رحمة بهم ، وقد تكون عبرة وموعظة لغيرهم لينتهوا عن مثلها ، وهذا العقاب من سنن الله المطردة فى الأمم وإن لم يطرد فى الأفراد.

وعلى الثاني يكون المعنى ـ فإن كذبك المشركون فيما فصلناه من أحكام التحليل والتحريم فقل لهم : ربكم ذو رحمة واسعة ولا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم ، فلا تغترّوا به فإنه إمهال لكم لا إهمال لمجازاتكم.

وفى هذا تهديد لهم ووعيد إذا هم أصروا على كفرهم وافترائهم على الله بتحريم ما حرموا على أنفسهم ، كما أن فيه إطماعا لهم فى رحمته الواسعة إذا رجعوا عن إجرامهم وآمنوا بما جاء به الرسول ، فيسعدون فى الدنيا بحل الطيبات ، وفى الآخرة بالنجاة من النار ودخول الجنات.

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا

٦٠