تفسير المراغي - ج ٨

أحمد مصطفى المراغي

والخلاصة ـ إن الشيطان لما وسوس لهما بقوله : ما نهاكما ربكما إلخ ولم يقبلا منه ما قال ـ لجأ إلى اليمين كما دل على ذلك قوله : وقاسمهما ، فلم يصدقاه أيضا ، فعدل بعد ذلك إلى الخداع كما أشار إلى ذلك بقوله : فدلاهما بغرور أي إنه شغلهما بتحصيل اللذات فجعلاها نصب أعينهما ونسيا النهى كما يدل على ذلك قوله : «فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً».

وقد عاتبه الله على تركه التحفظ والحيطة والتدبر فى عواقب الأمور فقال :

(وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ؟) أي وناداهما ربهما معاتبا لهما وموبّخا لهما وقال : ألم أنهكما عن أن تقربا هذه الشجرة وأقل لكما إن الشيطان ظاهر العداوة لكما ، فإن أطعتماه أخرجكما من الجنة حيث العيش الرغد إلى حيث الشقاء فى العيش والتعب والنصب فى الحياة.

ونحو الآية قوله فى سورة طه : «فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى».

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي قالا ربنا إننا ظلمنا أنفسنا بطاعتنا للشيطان ومعصيتنا لأمرك وقد أنذرتنا ، وإن لم تغفر لنا ما ظلمنا به أنفسنا وترحمنا بالرضا عنا وتوفيقنا إلى الهداية وترك الظلم ، وبقبول توبتنا إذا نحن أنبنا إليك ، وإعطائنا من فضلك فوق ما نستحق ـ لنكونن من الخاسرين لأنفسنا وللفوز والفلاح بتزكيتها.

والخلاصة ـ إن الظفر بالمقصود والفوز بالسعادة لا ينالهما بمغفرتك ورحمتك إلا من ينيب إليك ويتبع سبيلك ، ولا ينالهما من يصرّ على ذنبه ويحتج على ربه كما فعل الذي أبي واستكبر فكان من الخاسرين.

ونحو الآية قوله فى سورة البقرة : «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».

١٢١

(قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) يرى كثير من سلف الأمة أن هذا الخطاب لآدم وحواء ، وإبليس عليه اللعنة ، أي اهبطوا من هذه الجنة بعضكم عدو لبعض أي إن الشيطان عدو للإنسان ، فعلى الإنسان ألا يغفل عن عداوته ولا يأمن وسوسته وإغواءه كما جاء فى قوله : «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ».

وهذا الإخراج من ذلك النعيم عقاب على تلك المعصية التي بها ظلما أنفسهما ، وقد قضت به سنة الله فى الخلق ، إذ جعله أثرا طبيعيا للعمل السيء مترتبا عليه ، أما العقاب الأخروى على عصيان الرب فقد غفره الله له بالتوبة التي أذهبت أثره من النفس وجعلتها محلا لاصطفائه كما قال فى سورة طه : «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى».

(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي ولكم فى الأرض استقرار وبقاء إلى زمن مقدر فى علم الله وهو الأجل الذي به تنتهى فيه أعماركم وتقوم فيه القيامة ، كما أن لكم فيها متاعا تنتفعون به فى معيشتكم.

ونحو الآية قوله : «وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ».

ثم فصل هذا القول المجمل :

(قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) أي فى هذه الأرض التي خلقتم منها تحيون مدة العمر المقدّر لكل منكم وللنوع بأسره ، وفيها تموتون حين انتهائه ، ومنها تخرجون بعد موتكم كلكم ، وحين ما يريد المولى أن يبعثكم من مرقدكم للنشأة الآخرة.

ونحو الآية قوله تعالى فى سورة طه : «مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى».

١٢٢

مغزى هذا القصص

قص الله سبحانه علينا خبر النشأة الأولى ليرشدنا إلى ما فطرنا عليه ، وإلى ما يجب علينا من شكره وطاعته ، ويبين لنا أنه خلق الإنسان ليكون خليفة فى الأرض ، وجعله مستعدا لعلم كل شىء فيها وتسخير ما فيها من القوى لمنافعه وليهدينا إلى أنه كان فى نشأته الأولى فى جنة النعيم وراحة البال ، وقد جعله مستعدا للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبه إلى الحق والخير ، والأرواح الشيطانية التي تجذبه إلى الباطل والشر ، وعاقبة التأثر الأول سعادة الدارين ، ونتيجة الثاني الشقاء فيهما ، وهو أيضا محتاج إلى الوحى لإرشاده وهدايته.

فعلينا أن نعرف غرائزنا ونربّى أنفسنا على أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده ولا نعبد معه أحدا سواه ، ولا ننساه فنسى أنفسنا ونغفل عن تزكيتها ونتركها كالريشة فى مهابّ أهواء الشهوات ووساوس شياطين الضلالات.

وعلينا أن نعرف أن آدم لم يكن نبيا ورسولا عند بدء خلقه ولا موضعا للرسالة فى ذلك الحين ، بل أنكر بعضهم أن يكون رسولا مطلقا ، وقال إن أول الرسل نوح عليه السلام كما تدل على ذلك الآيات الواردة فى الرسل والأحاديث الصحيحة ، وما ورد فى هذه القصة من التفسير بالمأثور فأكثره مدخول مأخوذ من الإسرائيليات عن زنادقة اليهود الذين دخلوا فى الإسلام للكيد له ، وكان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره من الإسرائيليات فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد له من أصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعرف بالرأى.

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦)

١٢٣

 يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧))

تفسير المفردات

الريش : لباس الحاجة والزينة ، ولباس التقوى : ما يلبس من الدروع والجواش والمغافر وغيرها مما يتّقى به فى الحرب ، والفتنة : الابتلاء والاختبار ، من قولهم : فتن الصائغ الذهب أو الفضة إذا عرضهما على النار ليعرف الزّيف من النّضار ، والقبيل : الجماعة كالقبيلة ، وقيل القبيلة : من كان لهم أب واحد ، والقبيل أعم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أنه أمر سبحانه آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض وجعل الأرض مستقر لهما ، وذكر أن الشيطان عدو لهما ـ ذكر هنا أنه أنزل له ولبنيه كل ما يحتاجون إليه فى دينهم ودنياهم كاللباس الذي يسترون به عوراتهم ويتخذونه للزينة ، واللباس الذي يستعملون فى الحرب كالمغافر والجواشن ونحوها فعليكم أن تشكروه تعالى على هذه المنن العظام ، وتعبدوه وحده لا شريك له.

الإيضاح

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) نادى الله بنى آدم وامتن عليهم بما أنعم عليهم من اللباس على اختلاف درجاته وتعدد أنواعه ، من الأدنى الذي يستر العورة عن أعين الناس إلى الأعلى من أنواع الحلل التي تشبه ريش الطير فى وقاية البدن من الحر والبرد ، إلى ما فيها من الزينة والجمال.

١٢٤

والخلاصة ـ إنه يقول : يا بنى آدم ، بقدرتنا قد أنزلنا عليكم من سمائنا لتدبير أموركم لباسا يوارى سوءاتكم ، وريشا تتزينون به فى المجالس والمجتمعات ، وهو أعلى اللباس وأكمله ، وما دون ذلك وهو ما يقى الحر والبرد.

ومعنى إنزال ما ذكر من السماء ـ إنزال مادته من القطن والصوف والوبر والحرير وريش الطير وغيرها مما ولدته الحاجة وافتنّ الناس فى استعماله ، بعد أن تعلموا وسائل صنعه بما أوجد فيهم من الغرائز والصفات التي بها غزلوا ونسجوا وحاكوا ذلك على ضروب شتى وخاطوه على أشكال لا حصر لها ولا عد ، ولا سيما فى هذا العهد الذي رقيت فيه الصناعات إلى أقصى مدى وأبعد غاية.

ولا شك أن امتنانه علينا بلباس الزينة دليل على إباحتها والرغبة فى استعمالها ، فالإسلام دين الفطرة وليس فيه ما يخالف ما تدعو إليه الحاجة.

وحب الزينة من أقوى غرائز البشر الدافعة لهم إلى إظهار سنن الله فى الخليقة.

(وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) المشهور من كلام التابعين أن لباس التقوى لباس معنوى لاحسى ، فقد قال ابن زيد : لباس هو التقوى وعن ابن عباس : إنه الإيمان والعمل الصالح ، فإنهما خير من الريش واللباس. وروى عن زيد بن على بن الحسين : أنه لباس الحرب كالدّرع والمغفر والآلات التي يتّقي بها العدو ، واختاره أبو مسلم الأصفهانى ، ويدل عليه قوله تعالى : «سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ. وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ».

(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي ذلك الذي تقدم ذكره من النعم بإنزال الملابس من آيات قدرته ودلائل إحسانه وفضله على بنى آدم.

وهذه النعم تؤهلهم لتذكّر ذلك الفضل والقيام بما يجب عليهم من الشكر ، والابتعاد من فتنة الشيطان وإبداء العورات أو الإسراف فى استعمال الزينة إلى نحو ذلك.

١٢٥

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) من سنن العربية تكرار النداء فى مقام التذكير والوعظ : أي لا تغفلوا يا بنى آدم عن أنفسكم فتمكنوا الشيطان من وسوسته لكم والتحيل فى خداعكم وإيقاعكم فى المعاصي ، كما وسوس لأبويكم آدم وحواء فزّين لهما معصية ربهما فأكلا من الشجرة التي نهاهما عنها ، وكان ذلك سببا فى خروجهما من الجنة التي كانا يتمتعان بنعيمها ، ودخولهما فى طور آخر يكابدان فيه شقاء المعيشة وهمومها.

(يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) أي إنه أخرجهما من الجنة وكان سببا فى نزع ما اتخذاه لباسا لهما من ورق الجنة لأجل أن يريهما سوءاتهما.

وفى ذلك إيماء إلى أنهما كانا يعيشان عريانين ، لأنه ليس فى الأرض ثياب تصنع ، وليس هناك إلا أوراق الأشجار ، وعلماء الماديّات والآثار يحكمون حكما جازما بأن البشر قبل اهتدائهم إلى الصناعات كانوا يعيشون عراة ، ثم اكتسوا بورق الشجر وجلود الحيوان التي يصطادونها ، ولا يزال المتوحشون منهم إلى الآن يعيشون كذلك.

(إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) أي إن إبليس وجنوده من شياطين الجن يرونكم ولا ترونهم ، والضرر إذا جاء من حيث لا يرى كان خطره أشد ، ووجوب العناية باتقائه أعظم ، كما يرى ذلك فى بعض الأوبئة التي ثبت وجودها فى هذا العصر بالمجهر (التليسكوب) فإنها تنفذ إلى الأجسام بنقل الذباب أو البعوض أو مع الطعام أو الشراب أو الهواء ، فتتوالد وتنمو بسرعة ، وقد تسبّب للإنسان أمراضا مستعصية العلاج كالحمى الصفراء (الملاريا) والتيفود والتيفوس والسل والسرطان إلى نحو أولئك.

وفعل جنة الشياطين فى أرواح البشر كفعل هذه الجنة التي يسميها الأطباء (الميكروبات) فى الأجسام ، فكلاهما يؤثر من حيث لا يرى فيتقّى ، والثانية تتقى بالأخذ بنصائح الأطباء واستعمال الوسائل العلاجية الواقية.

١٢٦

والوقاية منها ضربان :

(١) اتخاذ الأسباب التي تمنع مجيئها من الخارج كالذى تفعله الحكومات فى المحاجر الصحية فى الثغور ومداخل البلاد.

(٢) تقوية الأبدان بالأغذية الجيدة والنظافة التامة لتقوى على مقاومة هذه الجنّة والفتك بها إذا وصلت إليها ، كما يتقى وصول العثّ إلى الصوف بمنع وصول الغبار إليه أو بوضع الدواء الذي يسمى (النفتالين) إذ يقتله برائحته.

والأولى تتقى أيضا بإرشاد طب الأنفس والأرواح الذي يهدى إلى الوقاية من فتك جنة الشياطين فيها بالوسوسة وتزيين الأباطيل والشرور المحرمة فى هذا الطب لضررها ، فمداخلها فى أنفسهم وتأثيرها فى خواطرهم كدخول تلك الجنّة فى أجسادهم وتأثيرها فى أعضائهم من حيث لا ترى.

والوقاية منها على ضربين :

(١) بتقوية الأرواح بالإيمان بالله وصفاته وإخلاص العبادة له والتخلق بالأخلاق الكريمة وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، فتبتعد تلك الأرواح الشيطانية عنها ولا تستطيع القرب منها.

(٢) بمعالجة هذا الوسواس بعد طروئه كما يعالج المرض بعد حدوثه بالأدوية التي تقتله وتمنع امتداد ضرره.

والخلاصة ـ إن هذه الجملة (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) جاءت تعليلا للنهى عن تمكين الشيطان مما يبغى من الفتنة ، وتأكيدا للتحذير منه وتذكيرا بشديد عداوته وضرره (والضرر إذا جاء من حيث لا يرى كان شديد الأثر عظيم الخطر).

ثم زاد فى التحذير من الشيطان وبين شديد عداوته للانسان فقال :

(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي إن سنتنا جرت بأن يكون الشياطين الذين هم شرار الجن أولياء لشرار الإنس وهم الكفار الذين لا يؤمنون بالله تعالى وملائكته إيمان إذعان تزكو به نفوسهم ، لما بينهما من التناسب والتشاكل

١٢٧

واكتساب الكفار لولاية الشياطين جاءت بسبب استعدادهم لقبول وسوستهم وإغوائهم وعدم احتراسهم من الخواطر الرديئة ، كاكتساب ضعفاء البنية للأمراض باستعدادهم لها وعدم احتراسهم من أسبابها كتناول الأطعمة والأشربة الفاسدة والوجود فى جو مملوء بالجراثيم القتالة بعدم تعرضه للشمس والنور والهواء المتجدد.

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠))

تفسير المفردات

الفاحشة : الفعلة المتناهية فى القبح ، والمراد بها هنا طواف أهل الجاهلية عراة كما ولدتهم أمهاتهم ويقولون : لا نطوف بيت ربنا فى ثياب عصيناه بها ، والقسط : الاعتدال فى جميع الأمور ، وهو الوسط بين الإفراط والتفريط ، وإقامة الشيء : إعطاؤه حقه وتوفيته شروطه كإقامة الصلاة وإقامة الوزن بالقسط ، والوجه : قد يطلق على العضو المعروف من الإنسان كما فى قوله «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» وقد يطلق على توجه القلب وصحة القصد كما فى قوله : «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً»

١٢٨

المعنى الجملي

بعد أن بين عزّ اسمه أنه جعل الشياطين قرناء للكافرين مسلّطين عليهم متمكنين من إغوائهم ـ ذكر هنا أثر ذلك التسليط عليهم ، وهو الطاعة لهم فى أقبح الأشياء مع عدم شعورهم بذلك القبح.

الإيضاح

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) أي وإذا فعل الذين لا يؤمنون بالله ممن جعلوا الشياطين أولياء لهم ـ قبيحا من الأفعال كتعرّيهم حين الطواف بالبيت ، فلامهم الناس على ذلك ، قالوا وجدنا آباءنا يفعلون كما نفعل ، فنحن نقتدى بهم ونستنّ بسنتهم ، والله أمرنا بذلك فنحن نتبع أمره فيه. وقد رد الله عن الأمر الثاني بأمر رسوله أن يدحضه بقوله :

(قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) أي إن هذا الفعل من الفحشاء والله بكماله منزه أن يأمر بها وإنما يأمر بها الشيطان كما جاء فى قوله : «الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ».

ثم ردّ عليهم الوجه الأول ووبخهم على تقليد الآباء والأجداد بقوله :

(أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟) أي إنكم باتباعكم للآباء والأجداد فى الآراء والشرائع غير المسندة إلى الوحى تقولون على الله ما لا تعلمون أنه شرعه لعباده.

والخلاصة ـ إنهم فى عملهم الفاحشة استندوا إلى أمرين : أمر الله بهما ، وتقليد الآباء والأجداد ، وقد رد الله عليهما فى كل منهما ؛ فرد على الأول ببيان أن الله لا يأمر بفاحشة ، وأن الذي يأمر بذلك إنما هو الشيطان. ورد على الثاني بأن التشريع لا يعلم إلا بوحي من عنده إلى رسول يؤيده بالآيات البينات وهو لم ينزل عليهم به ، فقولهم

١٢٩

هذا إنما هو اتباع للأهواء فيما هو قبيح تنفر منه الطباع السليمة ، وتستنقصه العقول الراجحة الحكيمة.

وبعد أن أنكر عليهم أن يكونوا على علم بأمر الله فيما فعلوا ـ بين ما يأمر به من محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق والخصال بقوله لرسوله :

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أي قل لهم : إنما أمرنى ربى بالاستقامة والعدل فى الأمور كلها.

(وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي وقل لهم : أمرنى ربى بالقسط ، فأقسطوا وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ، أي أعطوا توجهكم إلى الله تعالى حقه من صحة النية وحضور القلب وصرف الشواغل عند كل مسجد تعبدونه فيه ، سواء كانت العبادة طوافا أو صلاة أو ذكرا ، وادعوه وحده مخلصين له الدين ، ولا تتوجهوا إلى غيره من عباده المكرمين كالملائكة والأنبياء والصالحين زعما منكم أنهم يشفعون لكم عند ربكم ويقربونكم إليه زلفى ، وقد جعلتم هذا من الدين افتراء على الله وقولا عليه بغير علم.

وبعد أن أبان أصل الدين ومناط الأمر والنهى فيه ـ ذكرنا بالبعث والجزاء على الأعمال فقال :

(كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) أي كما بدأكم ربكم خلقا وتكوينا بقدرته تعودون إليه يوم القيامة وأنتم فريقان :

(١) فريق هداه الله فى الدنيا ببعثة الرسل فاهتدى بهديهم وأقام وجهه له وحده فى العبادة ودعاه مخلصا له الدين لا يترك به أحدا.

(٢) فريق حق عليهم الضلالة لاتباعهم إغواء الشيطان وإعراضهم عن طاعة بارئهم.

وكل فريق يموت على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه ، وإنما حقت على

١٣٠

الفريق الثاني الضلالة ، لأنهم اقترفوا أسبابها فوجدت نتائجها ومسبباتها ، لا أنها جعلت غرائز لهم فكانوا عليها مجبورين ، يرشد إلى ذلك قوله :

(إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي إنهم حين أطاعوا الشياطين فيما زيّنوا لهم من الفواحش والمنكرات ، فكأنهم ولّوهم أمورهم من دون الله الذي يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر ، وهم مع عملهم هذا يحسبون أنهم مهتدون فيما تلقّنهم الشياطين من الشبهات ، كجعل التوجه إلى غير الله والتوسل إليه فى الدعاء مما يقربهم إلى الله زلفى ، قياسا على الملوك الجاهلين الذين لا يقبلون الصفح عن مذنب إلا بوساطة بعض المقربين عنده.

والكثير من أهل الضلال يحسبون أنهم مهتدون ، وهم ما بين كافر جحود للحق كبرا وعنادا كأعداء الرسل فى عصورهم وحاسديهم على ما آتاهم الله من فضله كما حكى سبحانه عن فرعون وملئه «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا» وكالكبراء من قريش أمثال أبي جهل والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث فى جميع كثير منهم وهم الذين قال الله فيهم : «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ» وهؤلاء هم الأقلون عددا ـ وكافر بالتقليد واتباع نزغات الشيطان ، أو باتباع الآراء الخاطئة والنظريات الفاسدة ، وهم الذين قال الله فيهم : «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» وهؤلاء هم جمهرة الناس فى جميع الأمم.

وذهب كثير من العلماء إلى أن من بذل جهده فى البحث والنظر فى الحق ، ثم اتبع ما ظهر له أنه الحق بحسب ما وصلت إليه طاقته ، وكان مخالفا فى شىء منه لما جاءت به الرسل ـ لا يدخل فى مدلول هذه الآية ونحوها ، بل يكون معذورا عند الله لقوله تعالى : «لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها».

١٣١

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السالفة أنه أمر عباده بالعدل فى كل الأمور واتباع الوسط منها ـ طلب إلينا أن نأخذ الزينة فى كل مجتمع للعبادة ، فنستعمل الثياب الحسنة فى الصلاة والطواف ونحو ذلك ، كما أباح لنا أن نأكل ونشرب مما خلق الله بشرط ألا نسرف فى شىء من ذلك.

أخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال : كان الناس يطوفون بالبيت عراة ويقولون : لا نطوف فى ثياب أذنبنا فيها ، فجاءت امرأة فألقت ثيابها فطافت ووضعت يدها على قبلها وقالت :

اليوم يبدو بعضه أو كله

فما بدا منه فلا أحلّه

فنزلت هذه الآية.

الإيضاح

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) الزينة ما يزين الشيء أو الشخص ، وأخذها التزين بها ، والمراد بالزينة هنا الثياب الحسنة كما يدل على ذلك سبب نزول الآيات ، وأقلّ هذه الزينة ما يدفع عن المرء أقبح ما يشينه بين الناس وهو ما يستر عورته ، وهو الواجب لصحة الصلاة والطواف ، وما زاد على ذلك من التجمل بزينة اللباس عند الصلاة ولا سيما صلاة الجمعة والعيد فهو سنة لا واجب.

١٣٢

ويرى بعض العلماء وجوب الزينة للعبادة عند كل مسجد بحسب عرف الناس فى تزينهم فى المجامع والمحافل ، ليكون المؤمن حين عبادة ربه مع عباده المؤمنين فى أجمل حال لا تقصير فيها ولا إسراف.

أخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه ، فإن الله عز وجل أحق من تزيّن له ، فإن لم يكن له ثوبان فليتّزر إذا صلى ، ولا يشتمل أحدكم فى صلاته اشتمال اليهود».

وأخرج الشافعي وأحمد والبخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لا يصلين أحدكم فى الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شىء».

وعلى الجملة فالزينة تختلف باختلاف حال الإنسان فى السعة والضيق ، فمن عنده ثوب واحد يستر جميع بدنه فليستر به جميع بدنه وليصلّ به ، فإن لم يستر إلا العورة كلها أو الغليظة منها وهى السوءتان فليستر به ما يستره ، ومن وجد ثوبين أو أكثر فليصلّ بهما.

وهذا الأمر بالزينة عند كل مسجد أصل من الأصول الدينية والمدنية عند المسلمين وكان سببا فى تعليم القبائل المتوحشة القاطنة فى الكهوف والغابات أفرادا وجماعات لبس الثياب عند دخولها فى حظيرة الإسلام ، وكانوا قبل ذلك يعيشون عراة الأجسام رجالا ونساء حتى ذكر بعض المنصفين من الإفرنج أنّ لانتشار الإسلام فى إفريقية منّة على أوربا بنشرة للمدنية بين أهلها ، إذ ألزمهم ترك العرى وأوجب لبس الثياب فكان ذلك سببا فى رواج تجارة المنسوجات.

وبهذا نقل الإسلام أمما وشعوبا كثيرة من الوحشية إلى الحضارة الراقية.

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أي خذوا زينتكم عند المساجد وأداء العبادات ، وكلوا واشربوا من الطيبات ، ولا تسرفوا فيها ، بل عليكم بالاعتدال فى جميع ذلك ، لأن الله الخالق لهذه النعم لا يحب المسرفين فيها ، بل يعاقبهم على هذا الإسراف بمقدار ما ينشأ عنه من المضارّ والمفاسد ، لأنهم قد خالفوا سنن الفطرة وجنوا

١٣٣

على أنفسهم فى أبدانهم وأموالهم ، وجنوا على أسرهم وأوطانهم ، إذ هم أعضاء فى جسم الأسرة والأمة.

روى النسائي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا فى غير مخيلة (كبر وإعجاب بالنفس) ولا سرف ، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمه على عبده».

وعن ابن عباس أنه قال : كل ما شئت ، واشرب ما شئت ، والبس ما شئت إذا أخطأتك اثنتان : سرف أو مخيلة.

والإسراف : تجاوز الحد فى كل شىء ، والحدود منها :

(١) طبيعى كالجوع والشّبع والظمأ والرّىّ ، فمن أكل إذا أحس بالجوع أو كف عن الأكل إذا شعر بالشبع وإن كان يستلذ الاستزادة ، أو شرب إذا شعر بالظمأ واكتفى بما يزيله ولم يزد على ذلك لم يكن مسرفا فى أكله وشربه ، وكان طعامه وشرابه نافعين له.

(٢) اقتصادى وهو أن تكون النفقة على نسبة معينة من دخل الإنسان بحيث لا تستغرق كسبه.

(٣) شرعى فإن الشارع حرم من الطعام الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ، وحرم من الشراب الخمر ، وحرم من اللباس الحرير الخالص ، أو الغالب على الرجال دون النساء ، وحرم الأكل والشرب فى أوانى الذهب والفضة وعدّه من السرف المنهىّ عنه ، فهذه الأشياء لا يباح استعمالها إلا لضرورة تقدر بقدرها.

والمعول عليه فى الإنفاق فى كل طبقة عرف المعتدلين فيها ، فمن تجاوز طاقته مباراة لمن هم أغنى منه وأقدر كان مسرفا ، وكم جرّ الإسراف إلى خراب بيوت عامرة ولا سيما فى المهور وتجهيز العرائس وحفل العرس والمأتم و (الزار).

ثلاثة تشقى بها الدار

العرس والمأتم والزار

وهذا السرف كبير الضرر عظيم الخطر على الأمم أكثر من ضرره على الأفراد

١٣٤

ولا سيما فى البلاد التي تأنى إليها أنواع الزينة من البلاد الأجنبية عنها ، إذ تذهب الثروة إلى غير أهلها ، وربما ذهبت إلى من يستعين بها على استذلالهم والعدوان عليهم.

 والخلاصة ـ إن الطعام والشراب من ضرورات الحياة الحيوانية ، ولكن ضل فى ذلك فريقان :

(ا) فريق البخلاء والغلاة فى الدين تركوا الأكل والشرب من الطيبات المستلذة ، إما بخلا وشحا أو تحرجا وتأثما ، إما دائما أو فى أوقات مخصوصة من السنة.

(ب) فريق المترفين الذين أسرفوا فى اللذات البدنية وجعلوها جلّ همهم ، فهم يأكلون ويشربون ويتمتعون كما تتمتع الأنعام ، وليس لهم غاية يقفون عندها ، أو نهاية ينتهون إليها.

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) إخراج الله للزينة خلق موادها وتعليم طرق صنعها بما أودع فى فطرهم من حبها والميل إلى الافتنان فى استعمالها ، إذ خلقهم مستعدين لإظهار آياته فى جميع ما خلق فى هذا العالم الذي يعيشون فيه ، بما أودع فى غرائزها من الميل إلى البحث فى كشف المجهول والاطلاع على خفايا الأمور ، فهم لا يدعون شيئا عرفوه بحواسهم أو عقولهم حتى يبحثوه من طرق شتى وأوجه لا نهاية لها ، ولن تنتهى بحوثهم مادام الإنسان على ظهر البسيطة.

وغريزة حب الزينة وحب التمتع بالطيبات كانت من أهم الأسباب فى اتساع أعمال الفلاحة والزراعة ورقىّ ضروب الصناعة ، واتساع وسائل العمران ، ومعرفة سنن الله وآياته فى الأكوان ، وهما لا يذمّان إلا بالإسراف فيهما والغفلة عن شكر المنعم بهما.

والخلاصة ـ إن الدين لم يحرمهما إلا إذا كانا عائقين عن الكمال الروحي والكمال الخلقي ، وإنه لم يجعل تركهما قربة إلى الله كما جرى على ذلك الوثنيون من البراهمة وغيرهم وقلّدهم فى ذلك بعض المسلمين وصاروا يبثون فى الأمم الإسلامية تعاليم تقضى

١٣٥

بأن روح الدين ومخ العبادة فى التقشف وحرمان النفس من التمتع بلذات الحياة ، وقد بين الله وجه الصواب فى ذلك بقوله لرسوله :

(قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي قل أيها الرسول لأمتك : إن الزينة والطيبات من الرزق للذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويشاركهم فيها غيرهم تبعا لهم وإن لم يستحقها مثلهم ، وهى خالصة لهم يوم القيامة.

وقصارى ذلك ـ إن الدين يورث أهله سعادة الدنيا والآخرة جميعا كما يدل على ذلك قوله : «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى» وقوله : «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً».

ذاك أن المؤمن يزداد علما وإيمانا بربه وشكرا له كلما عرف شيئا من سننه وآياته فى نفسه أو فى غيرها من الكائنات ، ومن أهم أركان الشكر استعمال النعمة فيما وهبها المنعم لأجله من شكر الجوارح كشكر اللسان بالثناء عليه وشكر سائر الأعضاء كذلك ؛ ففى حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي والحاكم «الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر» والسر فى هذا أن الأكل والشرب من الطيبات بدون إسراف هما قوام الحياة والصحة ، وهما الدعامتان اللتان يتوقف عليهما القيام بجميع الأعمال الدينية والدنيوية من عقلية وبدنية ، ولهما التأثير العظيم فى جودة النسل الذي به يكثر سواد الأمة.

والملابس الجيدة النظيفة لها فوائد :

(١) حفظ الصحة.

(٢) كرامة من يتجمل بها فى نفوس الناس.

(٣) إظهار نعمة الله على لابسها ، والمؤمن يثاب بنيته على كل ما هو محمود من هذه الأمور بالشكر عليها.

روى أبو داود عن أبي الأحوص قال : «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

١٣٦

فى ثوب دون فقال : ألك مال؟ قلت نعم : قال من أىّ المال؟ قلت قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال : فإذا آتاك الله فلير أثر نعمته عليك وكرامته لك».

وأخرج الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده».

وقد كانت العرب تحرم زينة اللباس فى الطواف تعبدا ، وتحرّم الادّهان ونحوه حال الإحرام بالحج كذلك ، وتحرم من الأنعام والحرث ما ذكر فى سورة الأنعام ، وحرم أهل الكتاب كثيرا من الطيبات.

فجاء الدين الإسلامى الجامع بين مصالح الدنيا ومصالح الآخرة والمطهّر للنفوس والمهذب للأخلاق ، فأنكر هذا التحكم المخالف لسنن الفطرة وبين أن هذا التحريم لم يكن إلا من وساوس الشيطان ولم يوح به الله إلى أنبيائه ورسله المصطفين الأخيار.

(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي إن هذا التفصيل لحكم الزينة والطيبات الذي ضل فيه كثير من الأمم والأفراد ما بين إفراط وتفريط ـ لا يعقله إلا الذين يعلمون سنن الاجتماع وطبائع البشر ومصالحهم ، ونحن قد فصلناه على لسان هذا النبي الأمى الذي لم يكن يعرف شيئا من تاريخ البشر فى أطوار بداوتهم وأطوار حضارتهم قبل أن ننزلها عليه ، فكان ذلك آية دالة على نبوته ، إذ ما كان لمثله أن يعلمها إلا بالوحى من عندنا ، ولو لا الكتاب الكريم لما خرجت العرب من ظلمات الوثنية والجهالة إلى ذلك النور الذي صلحت به وأصلحت أمما كثيرة بالدين والفنون والآداب وما أحيت من علوم الأوائل.

ولكن وا أسفا قد أضحى المسلمون من أجهل الشعوب بسنن الله فى الأكوان وبالعلوم والمعارف اللازمة لتقدم الحضارة والمدنية ، وأصبحوا فى مؤخرة الأمم وصاروا مضرب الأمثال فى التأخر والخمول والكسل ، وبذا استكانوا وذلوا وصاروا أفقر الأمم وأضعفهم وأقلهم خدمة لدينهم ، وخالفوا ما رسمه لهم ذلك الدين من أن لهم زينة

١٣٧

الدنيا وطيباتها وسعادتها وملكها ، وأن عليهم أن يشكروا الله على ما يؤتيهم من ذلك ، وأن عليهم أن يقوموا بما يرضيه من اتباع الحق والعدل وكل ما تقتضيه خلافتهم فى الأرض.

ولقد بلغ الجهل بكثير منهم أن ظن و (بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أن دين الإسلام هو سبب ضعف المسلمين وجهلهم وذهاب ملكهم ، ولكن كتاب الله وسنة رسوله وتاريخ هذه الأمة شاهد صدق على فساد هذه القضية وتزييف تلك الدعوى ، فليس لها من دعائم تستند إليها ، وتقف بها على رجليها.

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣))

تفسير المفردات

الفواحش : واحدها فاحشة ، وهى الخصلة التي يقبح فعلها لدى أرباب الفطر السليمة والعقول الراجحة ، ويطلقونها أحيانا على الزنا والبخل والقذف بالفحشاء والبذاء المتناهي فى القبح. والإثم لغة : القبيح الضار ، وهو شامل لجميع المعاصي كبائرها كالفواحش وصغائرها كالنظر بشهوة لغير الحليلة ، والبغي : تجاوز الحد : وقد قالوا بغى الجرح : إذا تجاوز الحد فى الفساد ، ومنه قوله تعالى : «فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ».

المعنى الجملي

بعد أن أنكر ـ تقدست أسماؤه ـ فى الآية السالفة على المشركين وغيرهم من أرباب الملل الأخرى تحريم زينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق ـ ذكر هنا

١٣٨

أصول المحرمات التي حرمها على عباده لضررها ، وجميعها من الأعمال الكسبية لا من المواهب الخلقية ، ليستبين للناس أن الله لم يحرم على عباده إلا ما هو ضار لهم.

الإيضاح

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين وغيرهم ممن ظلموا أنفسهم وافتروا على الله الكذب فزعموا أن الله حرم على عباده ما أخرج لهم من الطيبات كما حرم عليهم الزينة : ما حرم ربى فى كتبه على ألسنة رسله إلا هذه الأنواع الست الآتية لما لها من شديد الضرر وعظيم الخطر على أنفسهم وعلى الأمة جمعاء ، ومن ثم جعل تحريمها دائما لا يباح بحال ، وهى :

(١ ـ ٢) الفواحش الظاهرة والباطنة وتقدم بيانها وشرحها فى سورة الأنعام وهى إحدى الوصايا العشر التي ذكرت هناك

(٣) الإثم أي ما يوجب الإثم والذم ـ وعطفه على ما قبله من عطف العام على الخاص.

(٤) البغي وهو الإثم الذي فيه تجاوز لحدود الحق أو اعتداء على حقوق الأفراد أو جماعاتهم ، ومن ثم قرن بالعدوان فى قوله : «تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ».

وقيد البغي بكونه بغير الحق ، لأن تجاوز الحدود المعروفة قد يكون فيما لا ظلم فيه ولا فساد ولا هضم لحقوق الأفراد والجماعات كما فى الأمور التي ليس لهم فيها حقوق أو التي تطيب أنفسهم فيها عن بعض حقوقهم فيبذلونها عن رضى وارتياح لمصلحة لهم يرجونها ببذلها.

(٥) الشرك بالله وهو أقبح الفواحش ، فلا تقوم عليه حجة من عقل ولا برهان من وحي ، وسميت الحجة سلطانا لأن لها سلطانا على العقل والقلب.

١٣٩

وفى هذا إيماء إلى أن أصول الإيمان لا تقبل إلا بوحي من الله يؤيده البرهان كما قال «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ».

كما أن فيه إرشادا إلى عظم شأن الدليل والبرهان فى الدين ، حتى كأنّ من جاء بالبرهان على الشرك يصدق ، وهذا من فرض المحال مبالغة فى فضل الاستدلال كما قال «أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ».

(٦) القول على الله بغير علم ، وهو من أسس المحرمات التي حرمت على ألسنة الرسل جميعا ، إذ هو منشأ تحريف الأديان المحرفة ، وسبب الابتداع فى الدين الحق ، وقد انتشر الابتداع بين أهله وتحكمت بينهم الأهواء واتبعوا سنن من قبلهم كما جاء فى الحديث : «لتتّبعنّ سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم ؛ قلنا يا رسول الله : اليهود والنصارى؟ قال : فمن؟» رواه الشيخان ورأس البلية فى هذا الابتداع القول فى الدين بالرأى ، فما من أحد يبتدع أو يتبع مبتدعا إلا استدل على بدعته بالرأى ، وقد ظهرت مبادئ هذه البدع والأهواء فى القرون الأولى قرون العلم بالسنة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وما زال أمرها يستفحل حتى وصلت إلى ما نراه الآن.

وما شرع من اجتهاد الرأى فى حديث معاذ وغيره فهو خاص بالقضاء لا بأصول الدين وعباداته ، فقد أكمل الله دينه فلم يترك فيه نقصا يكمله غيره بظنه ورأيه بعد وفاة رسوله ، وليس لقاض ولا مفت أن يسند رأيه الاجتهادى إلى الله فيقول هذا حكم الله وهذا دينه ، بل يقول هذا مبلغ اجتهادي ، فإن كان صوابا فمن توفيق الله وإلهامه ، وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان.

والخلاصة ـ إنه لا ينبغى لأحد أن يحرّم شيئا تحريما دينيا على عباد الله أو يوجب عليهم شيئا إلا بنص صريح عن الله ورسوله ، ومن تهجم على ذلك فقد جعل نفسه شريكا لله ، ومن تبعه فى ذلك فقد جعله رباله ، ومن ثم كان فقهاء الصحابة والتابعين يتحامون القول فى الدين بالرأى.

١٤٠