تفسير المراغي - ج ٧

أحمد مصطفى المراغي

وهم قد كانوا فى غنى عن ذلك ، وهذا شأن كثير من الناس يوقعون أنفسهم فى المشكلات بسوء صنيعهم ثم يحارون فى المخلص منها.

وذكر البخاري فى تفسير قضاء الأمر عدة وجوه :

(١) أن سنة الله قد جرت بأن أقوام الرسل إذا اقترحوا آية ثم لم يؤمنوا بها يعذبهم الله عذاب الاستئصال ، والله لا يريد أن يستأصل هذه الأمة التي بعث فيها خاتم رسله نبى الرحمة «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ».

(٢) أنهم لو شاهدوا الملك بصورته الأصلية لزهفت أرواحهم من هول ما يشاهدون.

(٣) أن رؤية الملك بصورته آية ملجئة يزول بها الاختيار الذي هو قاعدة التكليف.

(٤) أنهم اقترحوا ما لا يتوقف عليه الإيمان ، فلو أعطوه ولم يجد ذلك معهم نفعا دل ذلك على منتهى العناد الذي يستدعى الإهلاك وعدم النظرة.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١))

تفسير المفردات

الهزؤ : (بضمتين أو ضم فسكون) والاستهزاء : السخرية. والاستهزاء بالشخص : احتقاره وعدم الاهتمام بأمره ، وحاق به المكروه يحيق حيقا : أحاط به فلم يكن له منه مخلص

٨١

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف مقترحاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنهم تارة يطلبون إنزال ملك مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأخرى يطلبون إنزال ملك بالرسالة ، وكان مبنى هذه المقالة الاستهزاء ، وكان قلب الرسول يضيق بها درعا عند سماعه إياها.

ذكر هنا ما يخفف عنه ما يلاقيه منهم من سوء الأدب ومن الهزؤ والسخرية ، فأبان له أنك لست ببدع من الرسل ، فإن كثيرا منهم لاقوا من أقوامهم مثل ما لاقيت بل أشد من ذلك وأنكى ، فأنزل الله بهم من العذاب ما يستحقونه كفاء أفعالهم الشنيعة وجرأتهم على من اصطفاهم ربهم من خلقه ، ثم أمر هؤلاء المكذبين بأن يسيروا فى الأرض ليروا كيف كانت عاقبة المكذبين لأنبيائه.

الإيضاح

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أخبر الله رسوله بأن الكفار قد استهزءوا برسل كرام قبلك كما جاء فى قوله : «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» فما تراه من استهزاء كفار قريش بك ليس ببدع منهم بل هم جروا فيه على آثار أعداء الرسل قبلك وقد حل بأولئك الساخرين العذاب الذي أنذرهم إياه أولئك الرسل جزاء على سوء صنيعهم ، وفى الآية وجوه من العبرة :

(١) تعليم النبي صلى الله عليه وسلم سنن الله فى الأمم مع رسلهم.

(٢) تسلية له عن إيذاء قومه له.

(٣) بشارة له بحسن العاقبة وما سيكون له من الغلبة والسلطان ، وما سيحل بأولئك المستهزئين من الخزي والنكال ، وقد أهلكهم الله وامتنّ على نبيه بذلك

٨٢

فى سورة الحجر «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» والمشهور أنهم كانوا خمسة من رؤساء قريش هلكوا كلهم فى يوم واحد.

وخلاصة المعنى ـ هوّن عليك ما تلقى من هؤلاء المستخفين بحقك فىّ وفى طاعتى ، وامض لما أمرتك به من الدعاء إلى توحيدى والإذعان لطاعتى ، فإنهم إن تمادوا فى غيّهم نسلك بهم سبيل أسلافهم من سائر الأمم ونعجّل النقمة لهم وتحل بهم المثلات.

ولما كان ما يحل بالمستهزئين بالرسل من الهلاك بموجب سنة الله المطردة فيهم ، قد يكون موضعا للريبة والشك لديهم ، إذ هم يجهلون التاريخ ولا يأخذون خبره بالتسليم أمر الله نبيه بأن يرشدهم إلى الطريق الذي يوصلهم إلى علم ذلك بأنفسهم فقال :

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي قل لأولئك للمكذبين الجاحدين حقيقة ما جئتهم به : سيروا فى الأرض كما هو دأبكم وعادتكم وتنقلوا فى ديار أولئك القرون الذين مكناهم فى الأرض ومكنا لهم مالم نمكن لكم ثم انظروا فى أثناء رحلاتكم آثار ما حل بهم من الهلاك ، وتأملوا كيف كانت عاقبتهم بما تشاهدون من آثارهم وما تسمعون من أخبارهم ، ثم اعتبروا إن لم تنهكم حلومكم ولم تزجركم حجج الله عليكم ، واحذروا مثل مصارعهم واتقوا أن يحل بكم مثل ما حل بهم.

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ

٨٣

عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩))

تفسير المفردات

كتب على نفسه : أي أوجب إيجاب فضل وكرم ، سكن : من السكون ضد الحركة ، وفيه اكتفاء بما ذكر عما يقابله أي له ما سكن وما تحرك كما جاء فى قوله تعالى «سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» أي والبرد ، والولي : الناصر ، ومتولى الأمر : المتصرف فيه ، فاطر السموات والأرض أي مبدعهما على غير مثال سابق ، وأصل الفطر : الشّق ومنه «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» وهو يطعم ولا يطعم ، أي هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد ، يصرف عنه أي يبعد عنه ، رحمة أي بإنجائه من الهول الأكبر ، المس : أعم من اللمس فيقال مسه السوء والكبر والعذاب والتعب أي أصابه ، والضر : الألم والحزن والخوف وما يفضى إليها أو إلى أحدها ، والنفع اللذة والسرور وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما ، والخير : ما كان فيه منفعة حاضرة أو مستقبلة ، والشر : ما لا منفعة فيه البتة أو ما كان ضره أكبر من نفعه ، قال تعالى «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ» والقهر : الغلبة والإذلال ، وشهادة الشيء : حضوره ومشاهدته ، والشهادة به : الإخبار به عن علم ومعرفة واعتقاد مبنى على المشاهدة بالبصر أو بالعقل والوجدان ، والإنذار : التخويف ، واكتفى به عن ذكر البشارة

٨٤

لمناسبته للمقام أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه القرآن ووصل إليه من الأسود والأحمر ، أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن سيوجد إلى يوم القيامة ، مما تشركون أي من الأصنام.

المعنى الجملي

ذكر سبحانه فى الآية السابقة أصول الدين الثلاثة : التوحيد والبعث والجزاء ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر شبهات الكافرين على الرسالة وبين ما يدحضها ، ثم أرشد إلى سننه تعالى فى أقوام الرسل المكذبين ، وأن عاقبتهم الهلاك والاستئصال والخزي والنكال ، تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم وتثبيتا لقلبه وإعانة له على المضىّ فى تبليغ رسالته.

ثم ذكر هنا هذه الأصول الثلاثة بأسلوب آخر : أسلوب السؤال والجواب ، بهرهم فيه بالحجة ، ودلهم على واضح المحجة ، تفنّنا فى الحجاج فى المواضع الهامة ، فإن الأدلة إذا تضافرت على مطلوب واحد كان لها فى النفس قبول أيّما قبول ، وكذلك أساليب الحجاج إذا تنوعت دفعت عن السامع السأم وجعلته ينشط لسماع ما يلقى إليه ، فهو إذا لم يعقل الدليل الأول أو عمى عليه أسلوبه رأى فى الدليل الثاني ما ينير له طريق المطلوب أو رأى فى الأسلوب الثاني ما يكفيه مئونة البحث فى الدليل الأول فهو فى غنى بما يكون أمامه عن أن يبحث عن فائت أو يلجأ إلى غائب ، ومن ثم نرى الخطباء المفلقين والعلماء المبرّزين ينوّعون أساليب حجاجهم ويكثرون البرهانات على المطلوب الواحد ، ليكون ذلك أدعى إلى الإقناع وأقرب إلى الاقتناع.

الإيضاح

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟) أي قل أيها الرسول لقومك الجاحدين لرسالتك المعرّضين عن دعوتك : لمن هذه المخلوقات علويّها وسفليّها؟

٨٥

وقد كانت العرب تؤمن بأن الله خالق السموات والأرض وأن كل ما فيهما ملك وعبيد له ، كما قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ».

والمقصود من السؤال التبكيت والتوبيخ.

(قُلْ لِلَّهِ) هذا تقرير للجواب نيابة عنهم ، أو إلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه ولا خلاف بينى وبينكم فى ذلك ولا تقدرون أن تضيفوا شيئا آخر إليه. وإتيان السائل بالجواب يحسن إذا كان ما يأتى به هو عين ما يعتقده المسئول وما يجيب به إن أجاب ، وإنما يسبقه إليه ليبنى عليه شيئا من لوازمه مما يجهله المسئول أو يغفل عنه أو ينكره لجهله أو غفلته عن كونه لازما لما يعرفه ويعتقده.

ثم ذكر من صفاته ما يرعب فى طاعته فقال :

(كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) أي إن الله الذي تقرون معى بأنه مالك السموات والأرض قد أوجب على ذاته العلية الرحمة بخلقه ، إذ أفاض عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ، ومن مقتضى هذه الرحمة أن يجمعكم إلى يوم القيامة ، ذلك اليوم الذي لا شك فى مجيئه لوضوح أدلته وسطوع براهينه ، للحساب والجزاء على الأعمال ، إذ أنه وازع نفسى لا يتم تهذيب النفوس إلا به فهو يمنع الظلم وهضم الحقوق وإيذاء الناس وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، خوفا من هول ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها.

ولما كان مقتضى الرحمة والفضل أعم وأسبق من مقتضى العدل كان جزاء الظالمين المسيئين على قدر استحقاقهم ، ومنهم من يعفو الله عنه ، فالجزاء على الإساءة قد ينقص منه بالعفو والمغفرة ولا يزاد فيه ، وإنما الزيادة فى الجزاء على الإحسان : «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها».

وبيان الدين لهذا النوع من الجزاء رحمة أيضا ، فما مثله إلى مثل الحكومة العادلة تبيّن للأمة ما تؤاخذ عليه من الأعمال الضارة وما تكافئ به من يصدق فى خدمتها

٨٦

ويرقى إلى سماء العزة والكرامة ، روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله لما خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش : إن رحمتى سبقت غضبى» والمراد بالسبق هنا كثرة الرحمة وشمولها كما يقال غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثرا منه.

والخلاصة ـ إنه لما قال كتب على نفسه الرحمة ، فكأنه قيل وما تلك الرحمة؟ فقيل ليجمعنكم إلى يوم القيامة ، ذلك أنه لو لا خوف العذاب يوم القيامة لحصل الفساد فى الأرض واختلّت نظم الاجتماع وأكل القوى الضعيف ولا وازع ولا زاجر ، فصار التهديد بهذا اليوم من أسباب الرحمة.

(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) خسارة الأنفس إفساد فطرتها وعدم اهتدائها بما منحها الله من أنواع الهدايات ، فالمقلدون خسروا أنفسهم لأنهم حرموها استعمال نعمتى العقل والعلم.

أي أخصّ هؤلاء الذين خسروا أنفسهم بالتذكير والذم والتوبيخ بين من يجمعون إلى يوم القيامة ، إذ هم لخسرانهم أنفسهم فى الدنيا لا يؤمنون بالآخرة ، فهم قلما ينظرون ويستدلون ، وإن هم فعلوا قعد بهم ضعف الإرادة عن احتمال لوم اللائمين واحتقار الأهل والمعاشرين.

والخلاصة ـ إن الفوز والفلاح فى الدين والدنيا لا يتم إلا بالعلم الصحيح والعزيمة الحافزة إلى العمل بالعلم ، فمن خسر إحدى الفضيلتين فقد خسر نفسه ، فردا كان أو أمة ، فما بال من خسرهما معا.

(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي لله ما فى السموات وما فى الأرض ، وله ما سكن فى الليل والنهار ، وخص هذا بالذكر وإن كان داخلا فى عموم ما فى السموات والأرض ، تنبيها إلى تصرفه تعالى بهذه الخفايا ولا سما إذا جنّ الليل وهدأ الخلق.

٨٧

وبعد أن ذكر سبحانه تصرفه فى الخلق دقيقه وجليله كما يشاء كما هو شأن الربوبية الكاملة ، ذكر أنه هو السميع العليم أي المحيط سمعه بكل ما من شأنه أن يسمع مهما يكن خفيا عن غيره ، فهو يسمع دبيب النملة فى الليلة الظلماء ، والمحيط علمه بكل شىء «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ».

والخلاصة ـ إنه تعالى لا تدق عن سمعه دعوة داع ، أو تعزب عن علمه حاجة محتاج ، حتى يخبره بها الأولياء ، أو يقنعه بها الشفعاء.

وبعد هذا القول الذي أمر رسوله للتذكير بأنه المالك لكل شىء ، والمدبر لكل شىء إذ هو سميع لكل شىء ولا يعزب عن علمه شىء ـ أمره هنا بقول آخر لازم لما سبق ، وهو وجوب ولايته تعالى وجده والتوجه إليه دون سواه فى كل ما هو فوق كسب البشر ، والاعتماد على توفيقه فيما هو من كسبهم فقال :

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا؟) أي قل لهم : لا أطلب من غيره نفعا ولا ضرا ، لا فعلا ولا منعا ، فيما هو فوق كسبه وتصرفه الذي منحه الله لأبناء جنسه ، أما تناصر المخلوقين وتولّى بعضهم بعضا فيما هو من كسبهم العادي ، فلا يدخل فى عموم الإنكار الذي يفهم من الآية ، فقد أثنى الله على المؤمنين بأن بعضهم أولياء بعض.

وقد كان المشركون من الوثنيين ومن طرأ عليهم الشرك من أهل الكتاب يتخذون معبوداتهم وأنبياءهم وصلحاءهم أولياء من دون الله ، يتوجهون إليهم بالدعاء ويستغيثون بهم ويستشفعون بهم عند الله فى قضاء حاجاتهم من نصر على عدو وشفاء من مرض وسعة فى رزق إلى نحو أولئك.

وهذا بلا شك عبادة وشرك بالله لاعتقادهم أن حصول المطلوب من غير أسبابه العادية قد كان بمجموع إرادة هؤلاء الأولياء وإرادة الله.

ويلزم هذا أن إرادة الله ما تعلقت بفعل ذلك المطلب إلا تبعا لإرادة الولي الشافع أو المتّخذ وليا وشفيعا.

٨٨

(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه تعالى أوجدهما على غير مثال سابق ، وقد روى عن ابن عباس أنه قال : ما عرفت ما فاطر السموات والأرض؟ حتى أتانى أعرابيان يختصمان فى بثر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدعتها.

وقد كانت المادة التي خلقت منها السموات والأرض كتلة واحدة دخانية ، ففتق رتقها وفصل منها أجرام السموات والأرض ، وهذا ولا شك ضرب من الفطر والشق ، قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما».

وفى ذلك تعريض بأن من فطر السموات والأرض بمحض إرادته بدون تأثير مؤثر ولا شفاعة شافع ينبغى ألا يتوجّه إلى غيره بالدعاء ولا يستعان بسواه فى كل ماوراء الأسباب.

وقد أكد هذا المعنى وزاده تثبيتا بقوله :

(وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) أي إنه يرزق الناس الطعام وليس هو بحاجة إلى من يرزقه ويطعمه ، لأنه منزه عن الحاجة إلى كل ما سواه ، أيا كان نوعها.

وفى هذا إيماء إلى أن من اتخذوا أولياء من دونه من البشر محتاجون إلى الطعام ولا حياة لهم بدونه ، وأن الله هو الذي خلق لهم الطعام فهم عاجزون عن خلقه ، وعاجزون عن البقاء بدونه فأحرى بهم ألا يتّخذوا أولياء مع الغنىّ الرّزاق الفعال لما يريد.

وإذا كان الإنكار توجه إلى البشر فأولى به أن يتوجه إلى الأصنام والأوثان لأنها أضعف من البشر إذ قد اتفق العقلاء على تفضيل الحيوان على الجماد والإنسان على جميع أنواع الحيوان.

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أي قل لهم بعد أن استبانت لديكم الأدلة على وجوب عبادة الله وحده وعدم اتخاذ غيره وليا : إنى أمرت من ربى الموصوف بجليل الصفات أن أكون أول من أسلم إليه وانقاد لديه من تلك الأمة التي بعثت فيها ، فلا أدعو إلى شىء إلا كنت أول مؤمن به سائر على نهجه.

٨٩

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي وقيل لى بعد إسلام الوجه له : لا تكونن من المشركين الذين اتخذوا من دونه أولياء ليقربوهم إليه زلفى.

وخلاصة ذلك ـ إنى أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك.

وبعد أن أمره بهذا القول المبيّن لأساس الدين ، وبين أنه مأمور به كغيره أمره بقول آخر فيه بيان لجزاء من خالف الأمر والنهى السالفين فقال :

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي قل لهم إن فرض وقوع العصيان منى فإننى أخاف أن يصيبنى عذاب ذلك اليوم العظيم وهو يوم القيامة الذي يتجلى فيه الرب على عباده ويحاسبهم الحساب العسير على أعمالهم ويجازيهم بما يستحقون.

وفى الآية إشارة إلى أن هذا يوم لا محاباة فيه لأحد مهما كان عظيما ، وأنه لا تنفع فيه شفاعة الشافعين ، بل الأمر يومئذ لله ، فلا سلطان لغيره يتكل عليه من يعصيه ، ظنا منه أنه يخفف عنه العذاب أو ينجيه ، وإذا كان خوف النبي صلى الله عليه وسلم من العذاب على المعصية منتفيا لوجود العصمة ، فخوف الإجلال والتعظيم ثابت له فى جميع الأحوال.

(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي من يحوّل عنه هذا العذاب. فى ذلك اليوم فقد رحمه الله ، إذ أنجاه من الهول الأكبر ، ومن نجا منه فقد دخل الجنة ، والنجاة من العذاب والتمتع بالنعيم فى دار البقاء هو الفوز المبين الظاهر الذي لا فوز أعظم منه.

وقد سبق أن قلنا : إن الفوز إنما ينال بحصول مطلوبين : أحدهما سلبى وهو النجاة من العذاب والثاني إيجابى وهو الظفر بالنعيم المقيم فى الجنة.

وبعد أن بين أن صرف العذاب والفوز بالنعيم من رحمته فى الآخرة ـ بيّن أن الأمر كذلك فى الدنيا وأن التصرف فيها له وحده.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي وإن يصبك أيها الإنسان ضر كمرض وفقر وحزن وذل اقتضته سنة

٩٠

الله فلا كاشف له ولا صارف يصرفه عنك إلا هو ، دون الأولياء الذين يتّخذون من دونه ، ويتوجه إليهم المشرك بكشفه ـ وهو إما أن يكشفه عنك بتوفيقك للأسباب الكسبية التي تزيله ، وإما أن يكشفه بغير عمل منك ، بل بلطفه وكرمه ، فله الحمد على نعمه المتظاهرة التي لا حدّ لها ـ وإن يمسسك بخير كصحة وغنى وقوة وجاه فهو قادر على حفظه عليك كما قدر على إعطائه إياك ، وهو القدير على كل شىء ، أما أولئك الأولياء الذين اتخذوا من دونه فلا يقدرون على مسّك بخير ولا ضرّ.

فعلى المؤمن الصادق فى إيمانه ألا يطلب شيئا من أمور الدنيا والآخرة من كشف ضر وصرف عذاب أو إيجاد خير ومنح ثواب ـ إلا من الله تعالى وحده دون غيره من الشفعاء والأولياء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.

وهذا الطلب إما طلب بالعمل ومراعاة الأسباب التي اقتضتها سنته فى الخلق ودل عليها الشرع وهدى إليها العقل ، وإما بالتوجه إليه ودعائه كما ندب إلى ذلك كتابه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ».

وبعد أن أثبت عز اسمه لنفسه كمال القدرة أثبت لها كمال السلطان والتسخير لجميع عباده والاستعلاء عليهم ، مع كمال الحكمة والعلم المحيط بخفايا الأمور ، ليرشدنا إلى أن من اتخذ الأولياء فقد ضلّ ضلالا بعيدا فقال :

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) أي إن الرب من شأنه العزة والسلطان والعلو والكبرياء وهو الحكيم الخبير ، فلا ينبغى للمؤمن أن يتخذ وليا من عباده المقهورين تحت سلطان عزته ، المذلّلين لسنته التي اقتضتها حكمته وعلمه بتدبير الأمر فى خلقه.

وهو جلت قدرته لم يجعل من خلقه شريكا له فى التصرف ولا فى كونه يدعى معه ولا وحده لكشف ضر ولا جلب نفع كما قال تعالى «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً» وقال : «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً».

٩١

وخلاصة المعنى ـ إنه تعالى هو الغالب لعباده ، العالي عليهم بتذليله لهم ، وخلقه إياهم ، فهو فوقهم بالقهر وهم دونه ، وهو الحكيم فى تدبيره ، الخبير بمصالح الأشياء ومضارها ولا تخفى عليه خوافى الأمور ولا بواديها ، ولا يقع فى تدبيره خلل ، ولا فى حكمته.

دخل وقد ختم سبحانه هذه الأوامر القولية المبينة لحقيقة الدين وأدلته بشهادة الله لرسوله وشهادة رسوله له فقال :

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأل كفار قريش : أي شىء شهادته أكبر شهادة وأعظمها ، وأجدر أن تكون أصحها وأصدقها؟ ثم أمره بأن يجيب عن هذا السؤال بأن أكبر الأشياء شهادة هو من لا يجوز أن يقع فى شهادته كذب ولا زور ولا خطأ وذلك هو الله تعالى ، وهو الشهيد بينى وبينكم وقد أوحى إلىّ هذا القرآن من لدنه لأنذركم به عقابه على تكذيبى فيما جئت به مؤيدا بشهادته سبحانه ، وأنذر من بلغه هذا القرآن ، إذ كل من بلغه فهو مدعو إلى اتباعه حتى تقوم القيامة.

وشهادة الله بين الرسول وقومه ضربان : شهادته برسالة الرسول ، وشهادته بصدق ما جاء به ، والأول أنواع ثلاثة :

(١) إخباره بها فى كتابه بنحو قوله «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ» وقوله : «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً».

(٢) تأييده بالآيات الكثيرة التي من أعظمها القرآن ، فهو المعجزة الدائمة بما ثبت من عجز البشر عن الإتيان بسورة من مثله ، وبما اشتمل عليه من أخبار الغيب ووعد الرسول والمؤمنين بنصر الله وإظهارهم على أعدائهم.

(٣) شهادة كتبه السابقة له ، وبشارة الرسل السابقين به ، ولا نزال هذه الشهادة فى كتب اليهود والنصارى.

٩٢

والثاني ثلاثة أنواع أيضا :

(١) شهادة كتبه بذلك كقوله «شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ».

(٢) ما أقامه من الآيات فى الأنفس والآفاق مما يدل على توحيده واتصافه بصفات الكمال.

(٣) ما أودعه جل شأنه فى الفطرة البشرية من الإيمان بإله واحد له صفات الكمال وببقاء النفس.

والخلاصة ـ إن شهادته تعالى هى شهادة آياته فى القرآن ، وآياته فى الأكوان ، وآياته فى العقل والوجدان ، اللذين أودعهما فى نفس الإنسان.

أخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس مرفوعا قال : «من بلغه القرآن فكأنما شافهته به» ثم قرأ : «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ».

وأخرج ابن المنذر وابن جرير وأبو الشيخ قال : من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم.

وأخرج أبو الشيخ عن أبيّ بن كعب قال : «أنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسارى فقال لهم : هل دعيتم إلى الإسلام؟ قالوا لا ، فخلّى سبيلهم ثم قرأ : ـ وأوحى إلىّ هذا القرآن لأنذركم به ـ ثم قال خلّوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل أنهم لم يدعوا».

ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالشهادة له بالوحدانية وبالبراءة من قولهم وشهادتهم بالشرك فقال :

(أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى؟ قُلْ لا أَشْهَدُ ، قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) بدأ الجملة بالاستفهام الدال على الإنكار والاستبعاد لما تضمنته ، ثم أمر نبيه أن يجيب بأنه لا يشهد كما يشهدون ، ثم أمره بأمر آخر : بأن يشهد بنقيض ما يزعمون وبتبرأ مما يزعمون ، فيصرح بأن الإله لا يكون إلا واحدا ، ويتبرأ مما يشركون به من الأصنام والأوثان وغيرهما.

٩٣

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤))

المعنى الجملي

بين سبحانه فى الآية السابقة أن شهادة الله على صحة نبوة رسوله كافية فى تحققها ، وذكر هنا كذبهم فى ادعائهم أنهم لا يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم فهم يعرفون نبوته ورسالته كما يعرفون أبناءهم.

روى أن الكفار سألوا اليهود والنصارى عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم فأنكروا أن فى التوراة والإنجيل شيئا يدل على نبوته ، وروى أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام : أنزل الله على نبيه هذه الآية فكيف هذه المعرفة؟ قال يا عمر : لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني ، ولأنا أشد معرفة بمحمد منّى بابني ، لأنى لا أدرى ما صنع النساء ، وأشهد أنه حق من الله.

الإيضاح

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) أي إن اليهود والنصارى يعرفون أن محمدا النبي الأمى خاتم الرسل كما يعرفون أبناءهم ، لأن نعته فى كتبهم واضح ظاهر فلا يشكون فيه على حال.

ثم بين السبب فى إنكار هؤلاء المنكرين فقال :

(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي إن علة إنكار من أنكروا نبوة

٩٤

محمد صلى الله عليه وسلم من علماء اليهود كعلة من أنكروا ذلك من المشركين بعد ظهور آياتها ، بل أنكروا ما هو أظهر منها وهى وحدانية الله تعالى ـ أنهم خسروا أنفسهم فهم يؤثرون ما لهم من الجاه والمكانة والرياسة فى قومهم على الإيمان بالرسول النبي الأمى الذي يجدونه مكتوبا عندهم ، علما منهم بأنهم إذا آمنوا سلبوا الرياسة ، وجعلوا مساوين لسائر المسلمين فى سائر الأحكام والمعاملات.

وكذلك كان بعض رؤساء قريش يعزّ عليه أن يؤمن فيكون تابعا ومرءوسا ويكون مثله مثل بلال الحبشي وصهيب الرومي وغيرهما من فقراء المسلمين.

فهؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية خسروا أنفسهم لضعف إرادتهم لا لفقدان العلم والمعرفة ، لأن الله أخبر عنهم أنهم على علم ومعرفة.

وبعد أن ذكر أن إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم خسران للنفس ـ ذكر أن الافتراء على الله ظلم لها ، وقد خاب من افترى.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا ، كمن زعم أن له ولدا أو شريكا أو أن غيره يدعى معه أو من دونه أو يتّخذ وليا له يقرّبه إليه زلفى ويشفع للناس عنده ، أو زاد فى دينه ما ليس منه ، أو من كذب بآياته المنزلة كالقرآن ، أو آياته الكونية الدالة على وحدانيته أو التي يؤيد بها رسله.

وإذا كان كل من التكذيب والكذب والافتراء قد بلغ غاية القبح وصاحبه يعدّ مفتريا ظالما ، فما حال من جمع بينهما ، فكذب على الله وكذب بآياته المثبتة للتوحيد والمثبتة للرسالة؟.

ثم بين سبحانه عاقبة الظالمين وسوء منقلبهم فقال :

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي إن الظالمين عامة لا يفوزون فى عاقبة أمرهم يوم الحساب والجزاء بالنجاة من عذاب الله ولا بنعيم الجنة ، فكيف تكون عاقبة من افترى على الله الكذب وكذب بآياته فكان أظلم الظالمين.

٩٥

ثم بين أن المفترين على الله الكذب يسألون يوم القيامة سؤال توبيخ وإنكار على ما اجترحوا فقال :

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟) أي واذكر لهم أيها الرسول يوم نحشرهم جميعا على اختلاف درجاتهم فى ظلم أنفسهم وظلم غيرها ، ثم نقول للذين أشركوا منهم وهم أشدهم ظلما : أين الشركاء الذين كنتم تزعمون فى الدنيا أنهم أولياؤكم من دون الله تستعينون بهم كما يستعان به ويدعون كما يدعى ، وأنهم يقربونكم إليه زلفى ويشفعون لكم عنده ، فأين ضلوا عنكم فلا يرون معكم؟ كما جاء فى الآية الأخرى «وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ»

ثم أخبر بأنهم يوم القيامة ينكرون ذلك الشرك فقال :

(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) الفتنة هنا الشرك أي ثم لم تكن عاقبة هذا الشرك إلا أن أقسموا بالله يوم القيامة أنهم ما كانوا مشركين.

وظاهر الآيات يدل على أنهم كانوا ينكرون فى بعض مواقف الحشر شركهم بالله توهما منهم أن ذلك ينفعهم كما جاء فى هذه الآية ، ويعترفون به فى بعض آخر كما جاء فى قوله : «هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ» وفى قوله «وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً».

وروى عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية وعن قوله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) فقال : أمّا قوله (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا تعالوا لنجحد (قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً).

وقال الزجاج : تأويل هذه الآية حسن فى اللغة لا يعرفه إلا من وقف على معانى كلام العرب ، وذلك أنه تعالى بين كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين فى حبه ، فذكر أن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به وقالوا إنه دين آبائنا لم تكن إلا الجحود والتبرؤ منه والحلف على عدم التدين به ، ومثاله أن ترى إنسانا

٩٦

يحب شخصا مذموم الطريقة ، فإذا وقع فى محنة بسببه تبرأ منه ، فيقال له ما كانت محبتك (عاقبة محبتك) لفلان إلا أن تبرأت منه وتركته ا ه.

وعلى هذا فالفتنة هى شركهم فى الدنيا كما فسرها ابن عباس ، ويكون فى الكلام تقدير مضاف هو كلمة (عاقبة) كما قدمنا ذلك.

(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) هذا تعجب من كذبهم الصريح بإنكار صدور الإشراك عنهم فى الدنيا.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي انظر كيف كذبوا باليمين الفاجرة بإنكار صدور ما صدر عنهم؟ وكيف ذهب عنهم ما كانوا يفترونه من الإشراك حتى نفوا صدوره عنهم بتاتا وتبرءوا منه غاية البراءة؟.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦))

تفسير المفردات

الأكنة واحدها كنان كأسنة وسنان : وهو الغطاء ، والوقر (بِالْفَتْحِ) الثقل فى السمع ، والآية : العلامة الدالة على صدق الرسول ، يجادلونك : يخاصمونك وينازعونك ، والأساطير واحدها إسطارة وأسطورة : وهى الخرافات والترهات ، والنأى عنه : يشمل الإعراض عن سماعه ، والإعراض عن هدايته.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أحوال الكفار فى الآخرة وذكر ما يكون منهم من تلجلج واضطراب ، فتارة ينكرون شركهم بالله وأخرى يعترفون به وذكر ما يواجهون به من اللوم والتقريع على الشركاء الذين اتخذوهم أولياء وشفعاء.

٩٧

ذكر هنا ما يوجب اليأس من إيمان بعض منهم لوجود الموانع الصادّة عنه ، فمهما توالت الآيات والنذر لا تجدى معهم شيئا ، إذ الحجب كثيفة ، والأغطية سميكة ، فاختراقها عسير ، والوصول إليها فى حكم المستحيل.

قال ابن عباس : حضر عند النبي صلى الله عليه وسلم أبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث والحارث بن عامر وأبو جهل فى جمع كثير واستمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ، فقالوا للنضر يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟ فقال : والذي جعلها (الكعبة) بيته ما أدرى ما يقول إلا أنى أراه يحرك شفتيه ويتكلم بأساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية ، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى يحدّث قريشا بما يستملحونه ، قال أبو سفيان : إنى لأرى بعض ما يقول حقا ، فقال أبو جهل كلّا فأنزل الله الآية.

الإيضاح

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) أي ومن أولئك الكافرين فريق يستمع إليك إذا أنت تلوت القرآن داعيا إلى توحيد الله مبشرا منذرا.

(وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي والحال أنا قد جعلنا على قلوبهم أغطية تحول دون فقهه وفهمه ، وفى آذانهم ثقلا أو صمما يحول دون سماعه بقصد التدبر والوصول إلى ما فيه من الهداية والرشد.

وفى هذا تشبيه للحجب والموانع المعنوية بالحجب والموانع الحسية ، فالقلب الذي لا يفقه الحديث ولا يتدبره كالوعاء الذي وضع عليه الغطاء فلا يدخل فيه شىء ، والآذان التي لا تسمع الكلام سماع فهم وتدبر كالآذان المصابة بالثقل أو بالصمم ، فسمعها وعدمه سواء.

بيان هذا ـ أن الله جلت قدرته جعل التقليد الذي يختاره الإنسان لنفسه مانعا من النظر والاستدلال والبحث عن الحقائق ، فالمقلد لا يستمع إلى متكلم لمييز الحق من الباطل ، وإذا وصل إلى سمعه ما هو مخالف لما يدين به لا يتدبره ولا يراه جديرا بالموازنة بينه وبين ما عنده من عقيدة أو رأى ليختار أقربهما إلى الصحة وأجدرهما

٩٨

بالصدق وأكثرهما هداية ورشادا ؛ وأبعثهما إلى اطمئنان النفس الموصل لها إلى السعادة فى الدنيا والآخرة.

(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي وإن يروا كل آية من الآيات الدالة على صحة نبوتك وصدق دعوتك لا يؤمنوا بها ، إذ هم لا يفقهونها ولا يدركون المراد منها لوقوف أسماعهم عند ظواهر الألفاظ فحظهم كحظ الصّمّ من سماع أصوات البشر.

(حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي حتى إذا جاءوك مجادلين لك فى دعوتك قالوا : ما هذا إلا أساطير الأولين وخرافاتهم.

ذاك أنهم لم يعقلوا مما فى القرآن من أنباء الغيب إلا أنها حكايات وخرافات تسطّر وتكتب كغيرها من الأنباء والخرافات ، فلا علم فيها ولا فائدة منها ، وهذه حال من يسمع جرس الكلام ولا يتدبره ولا يفقه أسراره ، أو من ينظر إلى الشيء نظرة جملية لا يستنبط منها علما ، ولا يستفيد منها عقيدة ولا رأيا ، وما مثلهما إلا مثل من يشاهد ألعاب الصور المتحركة (السينما) مفسرة بلغة هو لا يعرفها ، فكل همه مما يرى من المناظر والكتابة لا يعدو التسلية وشغل الوقت.

فلو عقل هؤلاء قصص القرآن وتدبروا معانيها لكان لهم من ذلك آيات بينات تدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعبر ومواعط ونذر تبين سنن الله فى خلقه مع الأقوام الذين كذبوا الرسل وكان عاقبة أمرهم الدمار والنكال.

ثم بين أن أمرهم لم يقتصر على حد الضلال ، بل تعدوه إلى الإضلال وساروا فيه قدما فقال :

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) أي وأولئك المشركون المعاندون للنبى الجاحدون لنبوته ، لا يقنعون بتكذيبهم له وعدّه حديث خرافة ، بل ينهون الناس عن استماعه ، لئلا يقفوا على حقيقته فيؤمنوا به ، ويتباعدون عنه بأنفسهم إظهارا لا شمئزازهم ونفورهم منه فيكونون ناهين منتهين.

ثم ذكر أن عاقبة ذلك الوبال والنكال لهم فقال :

٩٩

(وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) أي وما يهلكون إلا أنفسهم بتعريضها لأشد العذاب وأفظعه وهو عذاب الضلال والإضلال ، وما يشعرون بذلك بل يظنون أنهم يبغون الغوائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا من معجزات القرآن وإخباره بالغيب ؛ فقد هلك جميع الذين أصرّوا على عداوته صلى الله عليه وسلم ، بعضهم فى نقم خاصة ، وبعضهم فى وقعة بدر وغيرها من الغزوات.

ويتبع هذا الهلاك الدنيوي هلاك الآخرة ، واللفظ يشملهما معا.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩))

تفسير المفردات

يقال وقف الرجل على الأرض وقوفا ، ووقف على الشيء : عرفه وتبينه ، ووقف نفسه على كذا وقفا حبسها كوقف العقار على الفقراء.

المعنى الجملي

بين الله فى الآية السابقة حال طائفة من المشركين تلقى السمع مصغية للقرآن لكن لا يدخل القلب شىء مما تسمع ، لما عليه من أكنة التقليد ، والاستنكار لكل شىء جديد ، فهم يستمعون ولا يسمعون ؛ وبين فى هاتين الآيتين بعض ما يكون من أمرهم يوم القيامة وتمنيهم العودة إلى الدنيا ليعملوا صالح العمل ويكونوا من المؤمنين حقا ثم كذبهم فيما يقولون وأنهم لو ردوا لعادوا لما كانوا فيه لفقد استعدادهم للإيمان ، وأن حالهم بلغ مبلغا لا يؤثّر فيه كشف الغطاء ورؤية الفزع والأهوال.

١٠٠