تفسير المراغي - ج ٧

أحمد مصطفى المراغي

(إِسْحاقَ) الضحاك ، وأنه ولد وكانت سن أبيه مائة واثنتي عشرة سنة ، وسن أمه تسعا وتسعين سنة ، وأنه عاش ثمانين ومائة سنة.

(وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) أي وهدينا جده نوحا إلى مثل ما هدينا له إبراهيم وذريته ، فآتيناه النبوة والحكمة وهداية الخلق إلى طريق الرشاد.

والمراد بذلك أن نسب إبراهيم من أشرف الأنساب ، إذ قد رزقه الله أولادا مثل إسحاق ويعقوب وجعل أنبياء بنى إسرائيل من نسلهما ، وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين كنوح وإدريس وشيث ، فهو كريم الآباء شريف الأبناء.

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً ، وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ).

الضمير فى ذريته يعود إلى إبراهيم ، لأن الكلام فى شأنه بذكر ما أنعم الله عليه من فضل ، وإنما ذكر نوحا لأنه جده فهو كما قدمنا يرشد إلى فضل الله عليه فى أصوله وفروعه ، ولأن الله جعل الكتاب والنبوة فى نسلهما معا كما جاء فى سورة الحديد :

«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ» أي وهدينا من ذريته داود وسليمان إلخ. وقد ذكر الله فى هذه الآيات أربعة عشر نبيا لم يرتبهم بحسب أزمانهم ولا بحسب فضلهم ، لأن الكتاب قد أنزل ذكرى وموعظة للناس لا تاريخا تفصل وقائعه مرتبة بحسب وجودها.

وقد التمس بعض العلماء حكمة لهذا الترتيب فقال : إن الله تعالى جعل الأنبياء ثلاثة أقسام يجمع بين كل قسم منها معنى مشترك :

(١) داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون ، وأولئك قد آتاهم الله الملك والإمارة والحكم والسيادة مع النبوة والرسالة ، فداود وسليمان كانا ملكين غنيين ، وأيوب كان أميرا غنيا محسنا ، ويوسف كان وزيرا عظيما وحاكما متصرفا ، ولكن هذين ابتليا بالضراء فصبرا كما ابتليا بالسراء فشكرا ، وموسى وهرون كانا حاكمين ولم

١٨١

يكونا ملكين ، وقد ذكرهم القرآن على طريق الترقي فى هدى الدين ؛ فأفضلهم موسى وهرون ثم أيوب ويوسف ثم داود وسليمان ، وقوله وكذلك نجزى المحسنين أي بالجمع بين نعم الدنيا والرياسة وبين هداية الدين وإرشاد الخلق.

(٢) زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ، وهؤلاء كانت لهم ميزة الزهد والإعراض عن لذات الدنيا والرغبة عن زينتها وسلطانها ، ومن ثم خصهم بوصف الصالحين وإن كان كل نبى صالحا ومحسنا.

(٣) إسماعيل واليسع ويونس ولوطا ، وهؤلاء لم يكن لهم من ملك الدنيا ما كان للقسم الأول ، ولا من المبالغة فى الزهد ما كان للقسم الثاني ، وقد قفّى على ذكرهم بالتفضيل على العالمين الذي جعله الله لكل نبى على عالمى زمانه ، فمن كان منهم منفردا فى قوم كان أفضلهم على الإطلاق وإن وجد نبيان أو أكثر فى قوم كانوا أفضلهم وربما كانوا متفاضلين فى أنفسهم ، فإبراهيم أفضل من لوط المعاصر له وموسى أفضل من أخيه هرون الذي كان وزيره ، وعيسى أفضل من ابن خالته يحيى صلوات الله عليهم أجمعين ا ه.

(وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) أي وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم لا كلهم ، إذ أن بعض هؤلاء الأقربين لم يهتد بهدى ابنه أو أبيه أو أخيه ، ألا ترى إلى أبى إبراهيم وابن نوح قال تعالى : «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ، فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ».

(وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يقال اجتبى فلان فلانا لنفسه إذا اختاره واصطفاه ، واجتباء الله العبد : تخصيصه إياه بفيض إلهى يحصل له منه أنواع من النعم بلا سعى منه كما يحدث للأنبياء والصديقين والشهداء : أي فضلنا كلا على العالمين واخترناهم وهديناهم إلى الصراط المستقيم.

(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي ذلك الهدى الذي هدى به من تقدم ذكرهم من الأنبياء والرسل فوفقوا به لإصابة الدين الحق الذي به رضا ربهم

١٨٢

وشرف الدنيا وكرامة الآخرة ـ هو هدى الله الخاص وتوفيقه ولطفه الذي يوفق به من يشاء حتى ينيب إلى طاعته ، ويخلص العمل له ، ويقر بالتوحيد ، ويرفض الأوثان والأصنام.

والهداية ضربان : ضرب ليس لصاحبه سعى فيه ولا هو مما ينال بالكسب وهو النبوة وهو ما أشير إليه بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم : «وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى». وضرب آخر ينال بالكسب والاستعداد مع اللطف الإلهى والتوفيق لنيل المراد.

ثم ختم سبحانه الآية بنفي الشرك وتقرير التوحيد فقال :

(وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ولو أشرك أولئك المهديون بربهم فعبدوا معه غيره لبطل أجر أعمالهم التي يعملونها ، إذ توحيد الله تعالى هو المزكّى للأنفس ، فضده وهو الشرك منتهى النقص والفساد المدسّى لها والمفسد لفطرتها ، فلا يبقى معه فائدة لعمل آخر يترتب عليه نجاتها وفلاحها به.

(أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) المراد بالكتاب ما ذكر فى القرآن من صحف إبراهيم وموسى وزبور داود وإنجيل عيسى ، والحكم : العلم والفقه فى الدين. وكل نبى آتاه الله العلم الصحيح والفقه فى أمور الدين وشئون الإصلاح وفهم الكتاب الذي تعبده به سواء أنزله عليه أم أنزله على غيره واختصّ بعضهم بإيتائه الحكم صبيا كيحيى وعيسى أي بإعطائه ملكة الحكم الصحيح فى الأمور.

وأما الحكم بمعنى القضاء والفصل فى الخصومات فلم يعطه إلا بعض الأنبياء.

أي إن أولئك الأنبياء الذين ذكرت أسماؤهم أوتوا الحكم والقضاء بين الناس لفصل الخصومات ، وذلك مستلزم للعلم والفقه وتكون هذه العطايا الثلاث مرتبة بحسب درجات الخصوصية ، فبعض النبيين أوتى الثلاث كإبراهيم وموسى وعيسى وداود ، قال تعالى حكاية عن إبراهيم «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً» فهو قد دعا هذا الدعاء وهو رسول عليهم بعد محاجة قومه ، وقال حكاية عن موسى : «فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ» وقال عز اسمه : «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ

١٨٣

فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» وقال فى داود وسليمان معا : «وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً».

ومنهم من أوتى الحكم والنبوة كالأنبياء الذين كانوا يحكمون بالتوراة ، ومنهم من لم يؤت إلا النبوة فقط.

والخلاصة ـ إن كل من أوتى الكتاب أوتى الحكم والنبوة ، وكل من أوتى الحكم ممن ذكر كان نبيا ، وما كل نبى منهم كان حاكما ولا صاحب كتاب منزل ، وهذه هى مراتب الفضل بينهم صلوات الله عليهم.

(فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) أي فإن يكفر هؤلاء المشركون من أهل مكة بالكتاب والحكم والنبوة ـ فقد وكلنا برعايتها ، ووفقنا للإيمان بها وتولى نصر الداعي إليها قوما كراما ليسوا بكافرين بها ، فمنهم من آمن بها ومنهم من سيؤمن عند ما يدعى إليها.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس فى قوله : «فإن يكفر بها هؤلاء» يعنى أهل مكة ، فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين يعنى أهل المدينة والأنصار ا ه.

والذي عليه المعول ـ أن الموكلين بها هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلقا ، فإن المهاجرين قد كانوا أول من آمن بها وكانوا بعد الهجرة فى المقدمة فى كل عمل وجهاد ولكن الأنصار هم المقصودون بالذات ، لأن القوة والمنعة لم تكن إلا بهم ، ومن ثم قال : «لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ» والأنصار لم يكونوا عند نزول هذه السورة مؤمنين.

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الهدى ضد الضلال. ويطلق شرعا على الطريق الموصل إلى الحق وهو الطريق المستقيم الذي نطلبه فى صلاتنا وعلى سلوك ذلك الطريق والاستقامة فى السير عليه.

أي إن أولئك الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرت أسماؤهم فى الآيات السالفة ، والذين وصفهم الله بإيتائهم الكتاب والحكم والنبوة ـ هم الذين هداهم الله هداية كاملة ،

١٨٤

فبهداهم دون ما يخالفه من أعمال غيرهم ، اقتد أيها الرسول فيما يتناوله كسبك وعملك مما بعثت به من تبليغ الدعوة وإقامة الحجة والصبر على التكذيب والجحود وإيذاء أهل العناد ومقلدى الآباء والأجداد وإعطاء كل حال حقها من مكارم الأخلاق وأحاسن الأعمال ، كالصبر والشكر والشجاعة والحلم والزهد والسخاء والحكم بالعدل قال تعالى : «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ» وقال : «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ».

والخلاصة ـ إن الله تعالى أمره بالاقتداء بهم فى الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة من الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم ـ وقد كان مهتديا بهداهم كلهم فكانت مناقبه وفضائله الكسبية أعلى من مناقبهم وفضائلهم ، لأنه اقتدى بها كلها فاجتمع له من الكمال ما كان متفرقا فيهم ـ إلى ما أوتيه دونهم ، ومن ثم شهد له ربه بما لم يشهد به لأحد منهم فقال «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ».

وكذلك فضائله الموهوبة هى فيه أظهر وأعظم ، فبعثته عامة للناس أسودهم وأحمرهم وبه ختمت النبوة والرسالة ، وكمال الأشياء فى خواتيمها صلوات الله عليهم أجمعين.

(تنبيه) ذكر بعض العلماء أن الأنبياء المرسلين الذين ذكروا فى القرآن ويجب الإيمان بهم تفصيلا خمسة وعشرون هم الثمانية عشر الذين ذكرت أسماؤهم فى هذه الآيات ، والسبعة الآخرون هم آدم أبو البشر وإدريس ولوط وصالح وشعيب وخاتم الجميع محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام.

وليس فى القرآن نص قطعى صريح فى رسالة آدم عليه السلام ، بل مفهوم قوله : «إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ» أن نوحا أول نبى مرسل أوحى الله إليه رسالته وشرعه ، وكذلك حديث الشفاعة. عن أنس بن مالك قال :

١٨٥

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك فيقولون لو استشفعنا على ربنا فأراحنا من مكاننا هذا ، فيأتون آدم فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلّمك أسماء كل شىء فاشفع لنا إلى ربك حتى تريحنا من مكاننا هذا ، فيقول لهم آدم لست هناكم ـ ويذكر ذنبه الذي أصابه فيستحى من ربه عز وجل ـ ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله إلى الأرض فيأتون نوحا ...» إلخ.

والخلاصة ـ إن الآية تدل على أن أول رسول شرع الله على لسانه الأحكام والحلال والحرام هو نوح عليه السلام.

ويرى بعض العلماء أن آدم كان على هدى من ربه ربّى عليه أولاده وبشرهم بالثواب وأنذرهم بالعقاب ، وهذه هداية من جنس هداية الله للنبيين والمرسلين التي بلّغوها أقوامهم ، ولا ندرى كيف هدى الله تعالى آدم إليها ، فإن طرق الهداية متعددة ، وقد تكون هى هداية الفطرة.

ونوح ومن بعده أرسلوا إلى من فسدت فطرتهم فأعرضوا عما دعوا إليه ، وهذه هى الرسالة الشرعية التي يسمى من جاء بها رسولا دون الأولى.

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أي قل أيها الرسول لمن بعثت إليهم : لا أسألكم على هذا القرآن الذي أمرت أن أدعوكم إليه وأذكّركم به أجرا من مال ولا غيره من المنافع ، كما أن جميع من قبلى من الرسل لم يسألوا أقوامهم أجرا على التبليغ والهدى ، وقد تكرر هذا الأمر له صلى الله عليه وسلم فى سور متعددة كقوله : «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى».

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) أي ما هو إلا تذكير وموعظة لإرشاد العالمين كافة لا لكم خاصة ، وفى هذا تصريح بعموم بعثته صلوات الله عليه للناس جميعا أسودهم وأحمرهم.

١٨٦

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢))

تفسير المفردات

قدر الشيء ومقداره : مقياسه الذي يعرف به ، ويقال قدره يقدره : إذا قاسه ، والقدر والقدرة والمقدار : القوة أيضا ، والقدر : الغنى واليسار والشرف ، قراطيس : واحدها قرطاس وهو ما يكتب فيه من ورق أو جلد أو غيرهما ، البركة : الزيادة والسعة ، ومبارك : بارك الله فيه بما فضل به ما قبله من الكتب فى النظم والمعنى ، وأم القرى : مكة ، وسميت بذلك لأنها قبلة أهل القري ، أو لأنهم يعظمونها كالأم ، أو لأن فيها أول بيت وضع للناس.

الإيضاح

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) أي ما عرفوه حق معرفته ، فإن منكرى الوحى الذين يكفرون برسل الله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ما عرفوا الله حق معرفته ، ولا عظموه حق تعظيمه ولا وصفوه حق صفته ، ولا آمنوا بقدرته على إفاضة ما شاء من علمه بما يصلح به الناس من الهدى والشرائع

١٨٧

على من شاء من البشر بواسطة الملائكة أو بتكليمه إياهم بدون واسطة وهم قد أنكروا الوحى وجهلوا فضل البشر وقالوا ما أنزل الله على أحد منهم شيئا.

ومن عرف حكمة الله البالغة ، ورحمته الواسعة ، وعلمه المحيط بكل شىء ، ونظر فى آياته فى الأنفس والآفاق ، وعلم أنه أحسن كل شىء خلقه ، وخلق الإنسان مستعدا للصعود إلى أعلى عليين ، والهبوط إلى أسفل سافلين ، وجعل كماله أثرا لعلومه وأعماله الكسبية التي عليها مدار حياته الدنيوية والأخروية ـ علم أن الإنسان مهما ارتقت معارفه لا يمكن أن يصل إلى الكمال الذي يؤهله لنيل السعادة الأبدية إلا إذا اهتدى بهدى النبيين والمرسلين ، فإن إرسالهم وإنزال الوحى عليهم وإرشادهم للناس سبب لكل ارتقاء إنسانى فى حياتيه الجسمانية والروحية فبذلك تذهب الضغائن والأحقاد من القلوب ، ويزول الخلاف والشقاء بين الناس ، ويعيشون فى وفاق ووئام ، علما منهم بأن هناك سلطة عليا ترقب أعمالهم ، وتحاسبهم على النقير والقطمير ، فى ذلك اليوم العبوس القمطرير ، وتجزى كل نفس بما كسبت ، لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب.

ثم لقن الله رسوله الردّ على منكرى الوحى والرسالة من مشركى قريش ، إثر بيان كون ذلك من شئونه تعالى ومن مقتضى نظام حياة البشر وقد كانوا يعلمون أن اليهود هم أصحاب التوراة المنزلة على موسى فقد أرسلوا إلى المدينة وفدا زعيماه النضر بن الحرث وعقبة بن أبي معيط ليسألوا الأحبار عما يعلمون عن محمد وصفته ، لأنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ما ليس عند غيرهم من علم الأنبياء ، فلما أتوا إلى أولئك الأحبار سألوهم عنه فأنكروا معرفته ، وبذا يكون الاحتجاج عليهم بإنزال التوراة على موسى احتجاجا ملزما لهم ودافعا لإنكارهم فقال :

(قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) أي قل لقومك الذين لم يقدروا الله حق قدره «إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» و «قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً؟ ـ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ

١٨٨

مُوسى نُوراً» انقشعت به ظلمات الشرك الذي ورثه بنو إسرائيل عن المصريين ، وهدى للناس الذين جاء لتبليغ رسالته إليهم فأخرجهم من الضلال إلى نور الحق وصاروا خلقا آخر اعتصم بالحق والعدل ـ حتى اختلفوا فيه ونسوا حظّا مما ذكّروا به واتبعوا أهواءهم وجعلوه قراطيس يبدونها عند الحاجة ، فإذا استفتى الحبر من أحبارهم فى مسألة له هوى فى إظهار حكم الله فيها كتب ذلك الحكم فى قرطاس وأظهره للمستفتى ولخصومه ويخفون كثيرا من أحكام الكتاب وأخباره إذا كان لهم هوى فى إخفائها.

وسبب هذا أن الكتاب كان بأيديهم ولم يكن فى أيدى العامة نسخ منه ، وهذا الإخفاء لنصوص الوقائع غير ما نسيه متقدمو اليهود من الكتاب بضياعه عند تخريب بيت المقدس وإجلاء اليهود إلى العراق وهو ما أشار إليه تعالى بقوله : «فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» وقد أخفى أحبار اليهود حكم الرجم بالمدينة وأخفوا ما هو أعظم من ذلك وهو البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وكتمان صفاته عن العامة وتحريفها إلى معان أخرى للخاصة ، فلقّن الله رسوله أن يقرأ هذه الآية على مسمع من اليهود وغيرهم بالخطاب لهم فيقول : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً).

(وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) قال مجاهد هذا خطاب للعرب ، وفى رواية عنه للمسلمين ومآلهما واحد فإن ما علمه العرب من علوم القرآن وحكمه وهدايته قد أدّوه إلى سائر المسلمين من غيرهم فكانت فائدته عامة لجميع من أظلهم الإسلام بظله.

وفى ذلك امتنان منه سبحانه على الرسول وقومه وسائر المسلمين بإتيانهم هذا الكتاب الكريم الذي بسط فيه أصول العقائد مؤيدة بالدلائل ، وتمم به مكارم الأخلاق وأمهات الفضائل ، وجعل فيه من العبادات ما يزكّى النفوس ويطهرها ، ومن المعاملات ما فيه المنافع للأفراد والجماعات ، وأوجب فيه المساواة بين الأجناس والديانات ، فلا يحابى مسلم لإسلامه ، ولا يظلم كافر بكفر.

وبعد أن بيّن سبحانه إنكار المنكرين للوحى بعبارة تدل على جهلهم وترشد إلى البرهان لمكذب لدعواهم وشفعه بأمر الرسول أن يسألهم ذلك السؤال الذي أفحمهم وألقمهم

١٨٩

حجرا ـ لقنه الجواب الذي كان يجب أن يجيبوا به لو أنصفوا وذلك قوله :

(قُلِ اللهُ ، ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) أي قل لهم أيها الرسول : الله أنزله على موسى ، ثم دعهم بعد هذا البيان المؤيد بالحجة والبرهان ، فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم بآيات الله حال كونهم يلعبون كما يلعب الصبيان.

وفى أمر الرسول بالجواب عما سئلوا عنه إيماء إلى أنهم لا ينكرونه ، لما فى ذلك من المكابرة وما فى الاعتراف من الخزي إذا هم أقروا بما يجحدون من الحق.

وبعد أن ذكر أنه أنزل الكتاب على موسى بين أنه أنزل القرآن على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال :

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي وهذا القرآن كتاب عظيم القدر أنزلناه على خاتم رسلنا كما أنزلنا من قبله التوراة على موسى ، وقد باركنا فيه ، فجعلناه كثير الخير ، دائم البركة والمنفعة ، يبشر بالثواب والمغفرة ، ويزجر عن القبيح والمعصية ، مصدقا لما تقدمه من كتب الأنبياء فى الجملة ، لا بكل ما يعزى إليها على وجه التفصيل. وقد ذكر فيه بعضها بأسمائها ، والصحف مضافة إلى أصحابها ، ونعى على بعض أهلها تحريفهم لها ونسيانهم حظا منها.

(وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) أي ولتنذر به عذاب الله وبأسه أهل مكة ومن حولهم من بلاد العالم جميعا كما روى عن ابن عباس.

وجعلت حولها لأن الناس فى جميع بقاع الأرض القريبة من مكة والبعيدة منها يصلّون وهم متوجهون إلى البيت الحرام فيها.

وقد ثبت عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فى آيات كثيرة كقوله تعالى فى هذه السورة : «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» أي وكل من بلغه ووصلت إليه هدايته ، وقوله فى سورة الفرقان : «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» وقوله فى سورة سبأ : «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً».

١٩٠

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي ومن كان يؤمن بقيام الساعة والمعاد إلى الله فى الآخرة ويصدق بالثواب والعقاب فإنه يؤمن بهذا الكتاب الذي أنزلناه إليك ويقرّبه سواء أكان من أهل الكتاب أم من غيرهم إذ بلغتهم دعوته ، لأنهم يجدون فيه أكمل الهداية إلى السعادة العظمى فى تلك الدار ، وما مثلهم إلا مثل قوم ساروا فى الفيافي والقفار وضلوا الطريق حتى إذا كادوا يهلكون قابلهم الدليل الخرّيت العالم بخفاياها ، والخبير بذرعها ومعرفة مسالكها ، فأرشدهم إلى ما فيه نجاتهم وخلاصهم من هلاك محقق إذا هم اتبعوا مشورته ، وسلكوا سبيله ، فقبلوا نصحه وكانوا من الفائزين وأما الذين ينكرون البعث والجزاء فلا حاجة لهم إلى هدايته.

وفى هذا تصريح بسبب إعراض الجمهرة من أهل مكة عن هذا الكتاب الذي فيه سعادتهم ، وتنبيه إلى أنهم لما لم يعتقدوا فى البعث والجزاء امتنعوا عن قبول هذا الدين ، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

(وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) فيؤدونها في أوقاتها ، ويقيمون أركانها وآدابها ، وخصت الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات ، لأنها عماد الدين ، وأسس العبادات والمقوّية للإيمان ، وكمال الإذعان ، والمحافظة عليها تدعو إلى القيام بسائر العبادات المفروضة ، وترك جميع المحرمات ، ومحاسبة النفس على لذاتها وشهواتها.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ

١٩١

ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤))

تفسير المفردات

الافتراء : اختلاق الكذب ، وافتراء الكذب على الله : الاختلاق عليه والحكاية عنه ما لم يقله ، أو اتخاذ الأنداد والشركاء ، والغمرات : واحدها غمرة ، وهى الشدة ، واليوم : الزمن المحدود والمراد به هنا يوم القيامة الذي يبعث الله فيه الناس للحساب والجزاء ، والهون (بالضم) والهوان الذل ، ومنه قوله : «أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ» والهون (بِالْفَتْحِ) اللين والرفق ، ومنه قوله : «الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً» وفرادى : واحدهم فرد ، وخولناكم أعطيناكم ، والترك وراء الظهر : يراد به عدم الانتفاع بالشيء ، والبين الصلة ، والمسافة الحسية أو المعنوية الممتدة بين شيئين أو أشياء ، ويضاف إلى المثنى كقوله : «فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ» والجمع كقوله : «أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ» ولا يضاف إلى المفرد إلا إذا كرر نحو : «هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» وضل عنكم أي غاب عنكم.

المعنى الجملي

بعد أن بيّن سبحانه أن القرآن كتاب من عند الله ، وردّ على الذين أنكروا إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم لأنه بشر ، بأن مثله مثل التوراة التي يعترفون بإنزالها على موسى وهو بشر.

قفّى على ذلك بوعيد من كذب على الله وادعى النبوة والرسالة ، أو ادعى أنه قادر على الإتيان بمثل هذا القرآن ، وهذا الوعيد يتضمن الشهادة بصدق النبي صلى الله عليه وسلم.

١٩٢

ذلك أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر إذا لم يكن له بد من الإيمان بأن القرآن من عند الله ، ومن الاهتداء به ، فأكمل الناس إيمانا بالدار الآخرة وما فيها من الجزاء وهو محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعرّض نفسه لمنتهى الظلم الذي يستحق عليه أشد العذاب.

الإيضاح

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله كالذين قالوا ما أنزل الله على بشر من شىء ، أو جعل لله شريكا أو ولدا.

(أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) كمسيلمة الكذاب الذي ادّعى النبوة باليمامة ، والأسود العنسي الذي ادعى النبوة باليمن ، وطليحة الأسدى الذي ادعى النبوة فى بنى أسد ، ونحوهم من كل من ادعى ذلك أو يدعيه فى أي زمان كان.

(وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) أي ومن ادّعى أنه قادر على إنزال مثل ما أنزل الله على رسوله كمن قال من المشركين : «لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا» فقد أثر عن النضر بن الحارث أنه كان يقول : إن القرآن أساطير الأولين ، وإنه شعر لو نشاء لقلنا مثله.

ثم ذكر تعالى جدّه وعيده للظالمين لشدة جرمهم وعظيم ذنبهم فقال :

(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ثم لكل من سمعه أو قرأه ، أي ولو تبصر إذ يكون الظالمون ـ سواء منهم من ذكروا فى الآية أو غيرهم ـ فى غمرات الموت وهى سكراته وما يتقدمها من شدائد وآلام تحيط بهم كما تحيط غمرات الماء بالغرقى ـ لرأيت ما لا سبيل إلى وصفه ، ولا قدرة للبيان على تجلّى كنهه وحقيقته.

(وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) لقبض أرواحهم الخبيثة بالعنف والضرب كما قال : «فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ».

١٩٣

ثم حكى سبحانه أمر الملائكة لهم على سبيل التهكم والتوبيخ حين بسط أيديهم لقبض أرواحهم.

(أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) أي أخرجوا أنفسكم مما هى فيه إن استطعتم ، أو أخرجوها من أبدانكم.

قال صاحب الكشاف : هذا تمثيل لفعل الملائكة فى قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ليعنّفه عليه فى المطالبة ولا يمهله ويقول له : أخرج مالى عليك الساعة ، ولا أريم ـ لا أبرح ـ مكانى حتى أنزعه من أحداقك.

ويرى بعضهم أنه لا داعى للعدول عن الحقيقة إلى التمثيل ، فربما تمثّل الملائكة للبشر بمثل صورهم ، وتخاطبهم بمثل كلامهم ، فهى إذا ممكنة على الحقيقة فلا معدل عنها.

(الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) أي تقول لهم الملائكة وقت الموت : اليوم تلقون عذاب الذل والهوان جزاء ظلمكم لأنفسكم بسبب ما كنتم تقولون مفترين على الله غير الحق كقول بعضهم ما أنزل الله على بشر من شىء ، وقول بعض آخر : إنه أوحى إليه ولم يوح إليه شىء ، وإنكار طائفة لما وصف الله به نفسه من الصفات ، واتخاذ أقوام له البنين والبنات ، واستكبار آخرين عن الاعتراف بما أنزل الله من الآيات ، احتقارا لمن أكرمه الله بإظهارها على يده ولسانه.

ثم ذكر سبحانه ما يقوله لهم يوم القيامة بعد ذكر ما تقول لهم ملائكة العذاب فقال :

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي ولقد جئتمونا وحدانا منفردين عن الأنداد والأوثان والأهل والإخوان ، مجردين من الخدم والأملاك والأموال ، كما خلقناكم أول مرة من بطون أمهاتكم حفاة عراة غلفا ؛ ولا منافاة بين هذه الآية وبين قوله : «وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» لأن المراد لا يكلمهم تكليم تكريم ورضا.

(وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ) أي إن ما كان شاغلا لكم من المال والولد والخدم والحشم والأثاث والرياش عن الإيمان بالرسل ، والاهتداء بما جاء ولم ينفعكم كما

١٩٤

كنتم تتوهمون ، فهو لم يغن عنكم شيئا ولم يمكنكم الافتداء به أو ببعضه من عذاب الآخرة.

(وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) أي وما نبصر معكم شفعاءكم من الملائكة والصالحين من البشر ، ولا تماثيلهم وقبورهم ، وقد زعمتم فى الدنيا أنهم شركاء لله تدعونهم ليشفعوا لكم عنده ويقرّبوكم إليه زلفى بتأثيرهم فى إرادته وحملهم إياه على ما لم تتعلق به إرادته فى الأزل.

وفى هذه الجملة والتي قبلها هدم لقاعدتين من قواعد الوثنية وهما الفداء والشفاعة.

(لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) أي لقد تقطع ما كان بينكم من صلات النسب والملك والولاء والصداقة.

(وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي وغابت عنكم شفاعة الشفعاء ، وتقريب الأولياء وأوهام الفداء ، وقد علمتم بطلان غروركم واعتمادكم على غيركم.

والخلاصة ـ إن آمالكم قد خابت فى كل ما تزعمون وتتوهمون فلا فداء ولا شفاعة ، ولا ما يغنى عنكم من عذاب الله من شىء.

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ

١٩٥

مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩))

تفسير المفردات

الفلق والفرق والفتق : الشق ، والحب : الحنطة وغيرها مما يكون فى السنبل والأكمام ، والنوى واحدها نواة : وهى ما يكون فى داخل التمر والزبيب ، والإصباح : الصبح ، يقال أصبح الرجل : دخل فى وقت الصباح ، والسكن : السكون ، وما يسكن فيه من مكان كالبيت وزمان كالليل ، وما يسكن الإنسان ويطمئن إليه استئناسا به من زوج أو حبيب ، والحساب (بالكسر) والحسبان (بالضم) استعمال العدد فى الأشياء والأوقات ؛ والمستقر : موضع القرار والإقامة كما قال : «لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ» والمستودع : موضع الوديعة ، وهى ما يتركه المرء عند غيره ليأخذه بعد ، والفقه : النظر فى عمق الشيء وباطنه ، خضرا أي نباتا غضا أخضر ، متراكبا : أي بعضه فوق بعض ، والنخل والنخيل واحدهما نخلة ، والطلع : أول ما يطلع أي يظهر من زهرها قبل أن ينشق عنه غلافه ، والقنوان واحدها قنو : وهو العذق الذي يكون فيه الثمر وهو من النخل كالعقود من العنب والسنبلة من القمح ، ودانية : أي قريبة التناول ، مشتبها وغير متشابه : أي متشابها فى بعض الصفات وغير متشابه فى بعض آخر ، وينعه أي حين يينع ويبدو صلاحه وينضج.

المعنى الجملي

بعد أن أثبت سبحانه أمر التوحيد ، ثم أردفه بتقرير أمر النبوة والبعث وذكر مسائل لها ملابسات لهذه الأصول ، عاد هنا وفصّل طائفة من آيات التكوين تدل أوضح الدلالة على وحدانيته تعالى وقدرته ، وعلمه وحكمته ، وبيان سننه فى خلقه وحكمه

١٩٦

فى الإحياء والإماتة والأحياء والأموات ، وتقديره وتدبيره لأمر النيرات فى السموات ، وإبداعه فى شئون النبات.

الإيضاح

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) أي إن الله فالق ما تزرعون من حب الحصيد ونوى الثمر ، وشاقه بقدرته وتقديره بربط الأسباب بمسبباتها كجعل الحب والنوى فى التراب وإرواء التراب بالماء.

وفى ذلك إيماء إلى كمال قدرته ، ولطيف صنعه ، وبديع حكمته.

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي يخرج الزرع من نجم وشجر وهو متغذّ نام من الميت وهو ما لا يتغذى ولا ينمى من التراب ، والحب والنوى وغيرهما من البذور ، ويخرج الحيوان من البيضة والنطفة.

وعلماء المواليد يزعمون أن فى أصول الأحياء حياة ، فكل ما ينبت من الحب والنوى فهو ذو حياة كامنة ، إذ أنه لو عقم بالصناعة لا ينبت ، واصطلاحهم لا نسيغه اللغة ، إذ أنها لا تجعل الحي إلا الجسم النامي المتغذى بالفعل ، وهذه أقل مراتب الحياة عندهم ، ويليها مراتب أخرى أعلاها مرتبة الإحساس والقدرة والإرادة والعلم والعقل والحكمة والنظام ، وفوق كل هذه المراتب حياة الخالق التي هى مصدر كل حياة وحكمة ونظام فى الكون.

(وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) كالحب والنوى من النبات ، والبيضة والنطفة من الحيوان ، قال الزجاج : يخرج النبات الغض الطري الخضر من الحب اليابس ، ويخرج اليابس من النبات الحي النامي ، وقال ابن عباس يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر. والكافر من المؤمن كما فى ابن نوح.

قال الطبيب التقى عبد العزيز إسماعيل باشا طيب الله ثراه : قيل فى تفسير ذلك كإنشاء الحيوان من النطفة ، والنطفة من الحيوان ، ولكن النطفة حيوانات حية ،

١٩٧

وكذلك خلق الحيوان من النطفة فهو خلق حى من حى فلا تنطبق عليه الآية الكريمة على هذا التفسير ، والله أعلم.

والتفسير الحقيقي ـ هو إخراج الحي من الميت كما يحصل يوميا من أن الحي ينمو بأكل أشياء ميتة ؛ فالصغير مثلا يكبر جسمه بتغذية اللبن أو غيره ، والغذاء ميت ، ولا شك أن القدرة على تحويل الشيء الميت الذي يأكله إلى عناصر وموادّ من نوع جسمه بحيث ينمو جسمه ، هو أهم علامة تفصل الجسم الحي من الجسم الميت وقد كتب علماء الحيوان فقالوا : إن النعجة مثلا تتغذى بالنبات وتحوّله إلى لحمها ، وهذه أهم علامة تدل على أنها حية ، وكذا الطفل يتغذى باللبن الميت ويحوله إلى جسمه الحي.

وأما إخراج الميت من الحي فهو الإفرازات مثل اللبن : (وإن شئت فلحوم الحيوانات أيضا والنباتات ، فإن اللبن سائل ليس فيه شىء حى ، بخلاف النطفة فإن فيها حيوانات حية ، وهذه تخرج من الحيوان الحي ، وهكذا ينمو الحي من الميت ويخرج الميت من الحي والله أعلم بمراده) ا ه.

(ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي ذلكم المتصف بكامل القدرة وبالغ الحكمة هو الله الخالق لكل شىء المستحق للعبادة وحده لا شريك له ؛ فكيف تصرفون عن عبادته وتشركون به من لا يقدر على شىء من ذلك كفلق نواة وحبة وإيجاد نخلة وسنبلة.

(فالِقُ الْإِصْباحِ) فلق الصبح : هو فلق ظلمة الليل وشقّها بعمود الصبح الذي يبدو فى جهة مطلع الشمس من الأفق مستطيلا ، ولا يعتد به حتى تنفشع الظلمة عنه من أمامه وعن جانبيه حتى تزول.

(وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) أي وجعله يستريح فيه المتعب من العمل بالنهار ويسكن فيه ، والسكون يعم سكون الجسم وسكون النفس بهدوء الخواطر والأفكار.

والليل وقت السكون ، لأنه لا يتيسر فيه من الحركة وأنواع الأعمال ما يتيسر فى النهار ، لما خص به الليل من الإظلام والنهار من الإبصار.

وأكثر الأحياء من الإنسان والحيوان تترك العمل والسعى في الليل وتأوى إلى

١٩٨

مساكنها للراحة التي لا تتم ولا تكمل إلا بالنوم الذي تسكن فيه الجوارح والخواطر ببطلان حركتها الإرادية ، كما تسكن به الأعضاء سكونا نسبيا ، فتقلّ نبضات القلب. ويقل إفراز خلايا الجسم للسوائل والعصارات التي تفرزها ، ويبطىء التنفس ويقل ضغط الدم فى الشرايين ، ولا سيما أول النوم ويضعف الشعور حتى يكاد يكون مفقودا ، ويستريح الجهاز العصبي لتستريح جميع الأعضاء.

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) أي والشمس والقمر يجريان بحساب وعدد ، لبلوغ أمدهما ونهاية آجالهما ، ويدوران لمصالح الخلق التي جعلا لها ، فطلوعهما وغروبهما وما يظهر من تحولاتهما واختلاف مظاهرهما ـ كل ذلك يجرى بحساب كما قال : «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ» وقال : «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» وقد جمع الله فى هذه الآية ثلاث آيات سماوية ، كما جمع فيما قبلها ثلاث آيات أرضية :

فالآية الأولى فلق الصبح والتذكير به للتأمل فى صنع الله بإفاضة النور الذي هو مظهر جمال الوجود ، ومبدأ زمن تقلب الأحياء فى القيام والقعود ، ومضيّهم إلى ما يسّروا له من الأعمال ، وما لله فى ذلك من حكم وأسرار.

والآية الثانية جعل الليل سكنا ، وذلك نعمة من الله ليستريح الجسم ، وتسكن النفس ، وتهدأ من تعب العمل بالنهار ، قال تعالى : «وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

والآية الثالثة جعل الشمس والقمر حسبانا ، وذلك فضل من الله عظيم ، فإن حاجة الناس إلى معرفة حساب الأوقات لعباداتهم ومعاملاتهم وتواريخهم لا تخفى على أحد منهم.

وعلماء الفلك متفقون على أن للأرض حركتين ، حركة تتم فى أربع وعشرين ساعة وعليها مدار حساب الأيام ، وحركة تتم فى سنة ، وبها يكون اختلاف الفصول ، وعليها مدار حساب السنة الشمسية.

١٩٩

(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي هذا الفعل العالي الشأن ، البعيد المدى فى الإبداع والإتقان ـ هو تقدير الخالق الغالب على أمره فى تنظيم ملكه ، بما اقتضاه واسع علمه ، وعظيم قدرته وحكمته ، ليس فيه جزاف ولا اختلاف : «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ».

ثم ذكر سبحانه آية أخرى من آيات التكوين العلوية وقرنها بذكر فائدتها فقال :

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) المراد بالنجوم هنا ما عدا الشمس والقمر من النيّرات ، لأنه الظاهر من سياق الكلام ، ولأنه المعهود فى الاهتداء به.

وكانت العرب أيام بداوتها تؤقت بطلوع النجوم فتحفظ أوقات السنة بالأنواء وهى نجوم منازل القمر فى مطالعها ومغاربها.

وكان اهتداؤهم بالنجوم على ضربين :

(١) معرفة الوقت من الليل أو من السنة.

(٢) معرفة المسالك والطرق والجهات.

والمراد بالظلمات ظلمة الليل وظلمة الأرض أو الماء وظلمة الخطأ والضلال.

والمعنى ـ والله هو الذي جعل لكم النجوم أدلة فى البر والبحر إذا ضللتم الطريق أو تحيرتم فلم تهتدوا فيها ليلا ، فبها تستدلون على الطرق فتسلكونها وتنجون من الخطأ والضلال فى البر والبحر.

والخلاصة ـ إنه تعالى ذكّرنا ببعض فضله فى تسخير هذه النيرات التي نراها صغيرة بعد أن ذكّرنا ببعض فضله فى الشمس والقمر اللذين يريان كبيرين فى أعين الناس.

وقد جدّت فى هذا العصر المراصد الفلكية ، واستحدثت آلات لتقريب الأبعاد وتحليل النور ، فعلم الشيء الكثير من سرعة الكواكب وأبعادها ، ومعرفة مساحتها وكثافتها والمواد المؤلفة منها ، إلى نحو ذلك مما كان مجهولا من قبل ، فثبت لعلماء الفلك أن النجوم تعد بالملايين ، لكنهم لم يتمكنوا إلى الآن إلا من معرفة أبعاد بعض مئات منها ، لأن باقيها أبعد من أن يعرف اختلاف فى مواقعه.

٢٠٠