تفسير المراغي - ج ٧

أحمد مصطفى المراغي

الإيضاح

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) أي ولو ترى أيها السامع ما يحل بأولئك المكذبين من الفزع والهول حين تقفهم ملائكة العذاب على النار مشرفين عليها من أرض الموقف ، وندمهم على كفرهم وحسرتهم على ما فرط منهم فى جنب الله وتمنيهم ما لا سبيل للحصول عليه ـ لرأيت ما لا يحيط به الوصف ولا يقدر على التعبير عنه اللسان ، ولا يبلغ تصويره البيان ، ولو أوتى المتكلم بلاغة سحبان.

ثم ذكر ما يحدث منهم حينئذ فقال :

(فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي يقول هؤلاء المشركون بربهم إذا حبسوا على النار : ليتنا نرد إلى الدنيا حتى نتوب ونعمل صالحا ولا نكذب بآيات الله وحججه التي نصبها دلالة على وحدانيته وصدق رسله ، بل نكون من المصدقين به وبرسله ومن المتبعين لأمره ونهيه.

والخلاصة ـ إنهم حين عاينوا الشدائد والأهوال بسبب تقصيرهم تمنّوا الردّ إلى الدنيا ليسعوا فى إزالة ذلك التقصير ويتركوا التّكذيب بالآيات ويعملوا صالح العمل.

وتمنى هذا الرد إلى الدنيا بناء على جهلهم بأنه محال ، أو أنهم مع علمهم باستحالته لا مانع من تمنيه على سبيل التحسر ، لأنه يصح أن يتمنى ما لا يكون.

ثم بين أن هذا التمني لم يكن لتغير حالهم،بل لأنه بدا لهم ما كان خفيا عنهم فقال :

(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) أي بدا لهم سوء عاقبة ما كانوا يخفونه من الكفر والسيئات ونزل بهم عقابه فتبرموا وتضجروا وتمنّوا الخلاص منه بالرد إلى الدنيا وترك ما أفضى إليه من التكذيب بالآيات وعدم الإيمان ، كما يتمنى الموت من أنهكه المرض وأضناه الداء العضال لأنه ينقذه من الآلام لا لأنه محبوب فى نفسه ولا مرجوّ لذاته.

بيان هذا أنه إذا جاء ذلك اليوم الذي تبلى فيه السرائر وتنكشف جميع الحقائق ، وتشهد على الناس الأعضاء والجوارح ، وتتمثل لكل فرد أعماله النفسية والبدنية

١٠١

فى كتابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها كما تتمثل الوقائع مصوّرة فى آلة الصور المتحركة (فلم السينما) :

فكل أحد يظهر له فى الآخرة ما كان خافيا عليه من خير فى نفسه وشر «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» أي فهى لا تخفى على أنفسكم فضلا عن خفائها على ربكم.

والخلاصة ـ إنه تعالى بين لنا أن تمنى أولئك الكفار لما تمنّوا لا يدل على تبدل حقيقتهم ، بل بدا لهم ما كان خافيا عليهم من أحوالهم بإخفائهم إياه على الناس أو عليهم «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» فتمنوا الخروج مما حاق بهم ، ولكن الحقيقة لا تتغير ، وإنما يكون للنفوس أطوار وأحوال.

ثم بين أنهم كاذبون فى هذا الندم فقال :

(وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الكفر والنفاق والكيد والمكر والمعاصي فإن ذلك من أنفسهم ، ثابت فيها لخبث طينتهم وسوء استعدادهم ، ومن ثم لا ينفعهم مشاهدة ما شاهدوا ولا سوء ما رأوا.

(وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما تضمنه تمنيهم من الوعد بترك التكذيب بآيات الله ، وبالكون من المؤمنين بالله ورسوله ، فلو ردوا إلى الدنيا لرد المعاند المستكبر منهم مشتملا بكبره وعناده ، والمنافق مرتدا بمكره ونفاقه ، والشهواني ملوّثا بشهواته القابضة على زمامه.

وأما ما ظهر لهم إذ وقفوا على النار من حقيقة ما جاء به الرسول ، فما مثله إلا مثل ما يلوح لهم فى الدنيا من الآيات والعبر ، فهم يكابرون فيها أنفسهم ، ويغالطون عقولهم ووجداناتهم.

ألا ترى شارب الخمر والمقامر يريان ما حل بغيرهما من الشقاء فيظهران الندم على ما فرط منهما ويتوبان ويعزمان على ألا يعودا إلى مثل ما عملا ، ثم لا يلبثان أن يرجعا سيرتهما الأولى خضوعا لما اعتادا وألفا ، وترجيحا للذة العاجلة على المنفعة الآجلة.

١٠٢

ومن هذا يستبين لك أن الطريقة المثلى لتعويد الناس الفضيلة ، هى حملهم عليها بالعمل والمران وحسن التلقين والتعليم كما يمرّن الأطفال الصغر والرجال على أعمال الجندية ، ولا ينبغى أن يسمح للأحداث بإطاعة شهواتهم واتباع أهوائهم ، ظنا أن هذا يعوّدهم الحرية والاستقلال فيهديهم ذلك إلى الحق والفضيلة ، إذ قلما يوجد من يتبع شهواته فى الصغر ثم يعدل عن ذلك فى الكبر بعد أن يصير طبيعة وعادة.

فما مثل تربية الأطفال على الآداب والفضائل إلا مثل تربيتهم على النظافة ومراعاة القوانين الصحية فإنا نعوّدهم ذلك فى الصغر ثم هم يعرفون فوائد ذلك فى الكبر.

(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) أي لو ردوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما نهوا عنه من الكفر وسيء الأعمال ، ولأنكروا البعث والحساب والجزاء ، وقالوا لا ثواب ولا عقاب فى الدار الآخرة.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢))

تفسير المفردات

الساعة فى اللغة : الزمن القصير المعين ، ثم أطلق على الوقت الذي ينقضى به أجل هذه الحياة ويخرب العالم وما يتبع ذلك من البعث والحساب ، سمى بذلك لسرعة

١٠٣

الحساب فيه كأنه ساعة ، وبغتة : فجأة ، يقال بغته إذا هجم عليه من غير شعور ، والحسرة الغم على ما فات والندم عليه كأنّ المتحسر قد انحسر وانكشف عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكب ، والتفريط : التقصير ممن قدر على الجد والتشمير ، من الفرط وهو السبق ومنه الفارط والفرط وهو الذي يسبق المسافرين لإعداد الماء لهم ، والأوزار جمع وزر (بالكسر) وهو الحمل الثقيل ، ووزره (بزنة وعده) حمله على ظهره ثم أطلق فى الدين على الإثم والذنب كأنه لثقله على صاحبه كالحمل الذي يثقل الظهر ، واللعب : الفعل الذي لا يقصد به فاعله مقصدا صحيحا من تحصيل منفعة أو دفع مضرة كأفعال الصبيان التي يتلذذون بها ، واللهو : ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه ، وقد يسمى كل ما به استمتاع لهوا ، ويقال لهوت بالشيء ألهو به لهوا وتلهيت به إذا تشاغلت وغفلت به عن غيره.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فى الآيات السالفة إنكارهم فى الدنيا للبعث والجزاء ـ بين هنا حالهم فى الآخرة يوم يكشف عنهم الغطاء ، فيتحسرون ويندمون على تفريطهم السابق وغرورهم بذلك المتاع الزائل ، ثم أردفه ذكر حقيقة الدنيا مقابلا بينها وبين الآخرة وموازنا بين حاليهما لدى المتقين والغاصين.

الإيضاح

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) أي ولو ترى هؤلاء الضالين المكذبين حين تقفهم الملائكة فى الموقف الذي يحاسبهم فيه ربهم ، ويمسكونهم إلى أن يحكم الله فيهم بما يشاء ـ لهالك أمرهم واستبشعت منظرهم ورأيت ما لا يحيط به وصف.

وجعلهم موقوفين على ربهم لأن من تقفهم الملائكة وتحبسهم فى موقف الحساب امتثالا لأمر الله فيهم كما قال : «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» يكون أمرهم مقصورا عليه لا يتصرف فيهم غيره : «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ».

١٠٤

(قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ) أي حينئذ يقول لهم ربهم : أليس هذا الذي أنتم فيه من البعث هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب؟ لا باطل كما كنتم تزعمون.

(قالُوا بَلى وَرَبِّنا) أي قالوا بلى هو حق لا يحوم حوله الباطل ، وقد أكدوا اعترافهم باليمين فشهدوا بذلك على أنفسهم أنهم كانوا كافرين.

(قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) عبر بالذوق عن ألم العذاب للإشارة إلى أنهم يجدونه وجدان الذائق فى قوة الإحساس به أي إذا كان الأمر كما اعترفتم فذوقوا العذاب الذي كنتم به تكذبون بسبب كفركم الذي دأبتم عليه واتخذتموه شعارا لكم لا تتركونه.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) أي قد خسر أولئك الكفار الذين كذبوا بما وعد الله به ـ كل ما ربحه وفاز به المؤمنون من ثمرات الإيمان فى الدنيا كرضا الله وشكره حين النعمة ، والصبر والعزاء وقت المصيبة ، ومن ثمرات الإيمان فى الآخرة من الحساب اليسير والثواب العظيم ، والرضوان الأكبر والنعيم المقيم ، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وما سبب هذا إلا أن إنكار البعث والجزاء يفسد الفطرة البشرية ويفضى إلى الشرور والآثام ، فإن الاعتقاد بأن لا حياة بعد هذه الحياة يجعل همّ الكافرين محصورا فى الاستمتاع بلذات الدنيا وشهواتها البدنية والنفسية كالجاه والرياسة والعلو فى الأرض ولو بالباطل ، ومن كانوا كذلك كانوا شرا من الشياطين يكيد بعضهم لبعض ويفترس بعضهم بعضا لا يصدهم عن الشر إلا العجز ولا تحكم بينهم إلا القوة.

وشاهدنا على ذلك أن أرقى أهل الأرض فى الحضارة والعلوم والفلسفة هم الذين يقوّضون صروح المدنية بمدافعهم ودباباتهم وطياراتهم وبكل ما أوتوا من فن واختراع ، ويهلكون الحرث والنسل ويخرّبون العامر من المدن ودور الصناعات بمنتهى القسوة والشدة ، ويهلكون ملايين الأنفس ما بين قتيل وجريح دون أن تستشعر قلوبهم

١٠٥

عاطفة رحمة ولا رأفة ، ولو كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر وما فيه من الحساب والجزاء لما انتهوا فى الطغيان إلى هذا الحد الذي نراه الآن.

(حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أي كذبوا إلى أن جاءتهم الساعة مباغتة مفاجئة «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» وقد ورد فى الكتاب والسنة أن الله تعالى أخفى علمها على كل أحد حتى الرسل والملائكة.

(قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) أي قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وأصرّوا على هذا التكذيب حتى إذا جاءتهم منيّتهم وهى بالنسبة إليهم مبدأ الساعة ومقدمات القيامة ، مفاجئة لهم من حيث لم يكونوا ينظرونها ولا يعدّون العدّة لمجيئها ، قالوا يا حسرتنا على تفريطنا فى الحياة الدنيا التي كنا نزعم أن لا حياة بعدها.

(وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) أي وهم يحملون ذنوبهم وخطاياهم كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وفى ذلك إيماء إلى أن عذابهم ليس مقصورا على الحسرة على ما فات وزال ، بل يقاسون مع ذلك تحمل الأوزار الثقال ، وإشارة إلى أن تلك الحسرة من الشدة والهول بحيث لا تزول ولا تنسى بما يكابدونه من صنوف العقوبات.

روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدى أن الأعمال القبيحة تتمثل بصورة رجل قبيح يحمله صاحبها يوم القيامة والصالحة بصورة رجل حسن يحمله صاحبها يوم القيامة.

والخلاصة ـ إنهم ينادون الحسرة التي أحاطت بهم أسبابها وهم فى أسوإ حال بما يحملون من أوزارهم على ظهورهم.

وقدبين الله تعالى سوء تلك الحال التي تلابسهم حينما يلهجون بذلك المقال فقال :

(أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي ما أسوأ تلك الأثقال التي يحملونها يوم القيامة على ظهورهم.

١٠٦

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي وما هذه الحياة الدنيا التي قال الكفار إنه لا حياة غيرها إلا لهو ولعب ، فهى دائرة بين عمل لا يفيد فى العاقبة كلعب الأطفال ، وعمل له فائدة عاجلة سلبية كفائدة اللهو وهو دفع الهموم والآلام ، ومن ثم قال بعض الحكماء : إن جميع لذات الدنيا سلبية إذ هى إزالة للآلام ، فلذة الطعام فى إزالة ألم الجوع ، وبقدر هذا الألم تعظم اللذة فى إزالته ، ولذة شرب الماء هى إزالة العطش وهكذا.

وفى الآية وجه آخر ، وهو أن متاع هذه الدنيا متاع قليل ، قصير الأجل لا ينبغى أن يغتر به العاقل ، فما هو إلا كلعب الأطفال قصير المدة ، فإن الطفل سريع الملل لكل ما يقدّم إليه من أصناف اللعب ، أو أن زمن الطفولة قصير كله غفلة ، أو كلهو المهموم فى قصر مدته ، على كونه غير مقصود لذاته.

(وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الكفر والمعاصي ، لخلو لذاتها من المضار والآلام وسلامتها من التقضي والانصرام ، من هذه الدار للمشركين المنكرين للبعث الذين لا حظ لهم من حياتهم إلا التمتع الذي هو من قبيل اللعب فى قصر مدته وعدم فائدته ، أو من قبيل اللهو فى كونه دفعا لألم الهم والكدر.

والخلاصة ـ إن نعيم الآخرة خير من نصيم الدنيا ، فالبدنى منه أعلى وأكمل من نعيم الدنيا فى ذاته وفى دوامه وثباته وفى كونه إيجابيا لا سلبيا ، وفى كونه غير مشوب ولا منغّص بشىء من الآلام ، وفى كونه لا يعقبه ثقل ولا مرض ولا إزالة أقذار ، والروحاني منه كلقاء الله ورضوانه وكمال معرفته يجلّ عنه الوصف والتحديد ولا شبيه له فى نعيم الدنيا.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أتغفلون عن هذا فلا تعقلون أن الحياة الدنيا لعب ولهو وأنتم ترون من يموت ، ومن تنوبه النوائب ، وتفجعه الفواجع؟ ففى ذلك مزدجر عن الركون إليها ، واستعباد النفوس لها ، ودليل على أن لها مدبرا يلزم الخلق عبادته وعدم إشراك غيره معه فى ذلك التدبير والنظام وإخلاص العبادة والطاعة له.

١٠٧

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥))

تفسير المفردات

الحزن : ألم يحلّ بالنفس عند فقد محبوب ، أو امتناع مرغوب ، أو حدوث مكروه ولا سبيل لعلاجه إلا التسلي والتأسى كما قالت الخنساء :

ولو لا كثرة الباكين حولى

على إخوانهم لقتلت نفسى

وما يبكون مثل أخى ولكن

أسلّى النفس عنه بالتأسى

وكذّبه : رماه بالكذب ، والجحود والجحد : نفى ما فى القلب إثباته أو إثبات ما فى القلب نفيه ، ويقال جحده حقه وبحقه ، وكلمات الله : هى وعده ووعيده ، ومن ذلك وعده للرسل بالنصر ووعيده لأعدائهم بالغلب والخذلان كقوله : «كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» وقوله : «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» والنبأ : الخبر ذو الشأن العظيم ، وكبر على فلان الأمر أي عظم عنده وشق عليه وقعه ، والإعراض : التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه أو احتقارا له ، واستطعت الشيء : صار فى طوعك منقادا لك باستيفاء الأسباب التي تمكنك من فعله ، والابتغاء : طلب ما فى طلبه كلفة ومشقة من البغي وهو تجاوز الحد

١٠٨

ويكون فى الخير كابتغاء رضوان الله وهو غاية الكمال ، وفى الشر كابتغاء الفتنة وهو غاية الضلال ، والنفق : السرب فى الأرض ، وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج ، والسلم : المرقاة من السلامة ، لأنه الذي يسلمك إلى مصعدك ، وتذكيره أفصح من تأنيثه ، والآية : المعجزة ، والجهل هنا : ضد العلم ، وليس كل جهل عيبا ، لأن المخلوق لا يحيط بكل شىء علما ، وإنما يذم الإنسان بجهل ما يجب عليه علمه ، ثم بجهل ما ينبغى له ويعدّ كمالا فى حقه إذا لم يكن معذورا فى جهله.

المعنى الجملي

نزلت هذه السورة فى دعوة مشركى مكة إلى الإسلام ومحاجتهم فى التوحيد والنبوة والبعث ، وكثر فيها حكاية أقوالهم بلفظ (وَقالُوا) ـ (وَقالُوا) نحو : «وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ـ وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» إلى نحو ذلك ـ وتلقين الرسول صلى الله عليه وسلم الرد عليهم مع إقامة الحجة والبرهان بلفظ (قُلْ) ـ (قُلْ) نحو : «قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ـ قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ».

بعد هذا الحجاج كله ذكر فى هذه الآيات تأثير كفرهم فى نفس النبي صلى الله عليه وسلم وحزنه مما يقولون فى نبوته وما يراه منهم من الإعراض عن دعوته ، وسلاه على ذلك ببيان سنته سبحانه فى الرسل مع أقوامهم وأن كثيرا منهم كذبوا فصبروا حتى جاءهم النصر المبين ، وخذل الله أعداءهم الكافرين.

روى ابن جرير عن السدّى أن الأخنس بن شريق وأبا جهل التقيا ، فقال الأخنس لأبى جهل : يا أبا الحكم أخبرنى عن محمد : أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيرى ، قال أبو جهل : والله إن محمدا لصادق وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصىّ باللواء والسقاية والحجابة والنّدوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله هذه الآية.

١٠٩

الإيضاح

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) القول الذي يحزنه منهم هو ما كانوا يقولونه فيه وفى دعوته ونبوته من تكذيب وطعن وتنفير للعرب منه.

قال ابن كثير : يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم فى تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه قد أحطنا علما بتكذيبهم لك وحزنك وأسفك عليهم كما جاء فى قوله : «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» ووفى قوله «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً».

ثم بين أن هذا التكذيب منشؤه العناد والجحود لإخفاء الدليل فقال :

(فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي لا يتهمونك بالكذب فى نفس الأمر ، ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدودهم.

روى سفيان الثوري عن على قال : قال أبو جهل للنبى صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به ، فأنزل الله (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ).

وروى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد المدني أن النبي صلى الله عليه وسلم لقى أبا جهل فصافحه ، فقال له رجل : ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟ فقال والله إنى لأعلم إنه لنبى ، ولكن متى كنا لبنى عبد مناف تبعا؟ وتلا أبو يزيد : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ).

والخلاصة ـ إنهم لا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إلى افتراء الكذب ، ولا يجدونه كاذبا فى خبر يخبر به بأن يتبين أنه غير مطابق للواقع ، وإنما يدّعون أنّ ما جاء به من أخبار الغيب التي من أهمها البعث والجزاء كذب غير مطابق للواقع ، ولا يقتضى ذلك أن يكون هو الذي افتراه ، فإن التكذيب قد يكون للكلام دون المتكلم الناقل له.

وذكر الرازي فى نفى التكذيب مع إثبات الجحود أربعة أوجه :

١١٠

(١) إنهم ما كانوا يكذبونه فى السر ولكنهم كانوا يكذبونه فى العلانية ويجحدون القرآن والنبوة.

(٢) إنهم لا يقولون له إنك كذاب ، لأنهم جرّبوه الدهر الطويل فلم يكذب فيه قط ، ولكنهم جحدوا صحة النبوة والرسالة واعتقدوا أنه تخيّل أنه نبى وصدّق ما تخيله فدعا إليه.

(٣) إنهم لما أصروا على التكذيب مع ظهور المعجزات القاهرة وفق دعواه كان تكذيبهم تكذيبا لآيات الله المؤيدة له أو تكذيبا له سبحانه فكأن الله قال له : إن القوم ما كذبوك ولكن كذبونى ، وذلك أن تكذيب الرسول كتكذيب المرسل المصدق له بتأييده على حد : «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ» :

(٤) إن المراد أنهم لا يخصونك بالتكذيب ، بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا ويقولون فى كل معجزة إنها سحر ، فكأنّ الخلاصة إنهم لا يكذبونك على التعيين ولكن يكذبون جميع الأنبياء والرسل.

ثم لفت نظر رسوله لأن يقتدى بالرسل قبله فى الصبر على التكذيب فقال :

(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) أي إن الرسل الذين أرسلوا قبلك ، قد كذبتهم أقوامهم فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم لهم إلى أن نصر الله الرسل بالانتقام من أعدائهم المكذبين لهم.

ونظير هذه الآية قوله : «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ».

وقوله : «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ...» الآية.

وفى الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بعد تسلية ، وإرشاد له إلى سننه تعالى فى الرسل والأمم ، وقد صرح بوجوب الصبر على هذا الإيذاء فى قوله : «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» وقوله :«َاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً».

وقد دلت التجارب على أن التأسى يهوّن المصاب ويفيد شيئا من السلوى ، ومن

١١١

هذا تعلم حكمة تكرار التسلية بأمثال هذه الآية مع الأمر بالصبر المرة بعد المرة ، لأن الحزن والأسف اللذين كانا يعرضان له صلى الله عليه وسلم من شأنهما أن يتكررا بتكرر سببهما وبتذكره.

وفى الآية بشارة للرسول صلى الله عليه وسلم مؤكدة للتسلية بأن الله سينصره على المكذبين الظالمين من قومه ، وعلى كل من يكذبه ويؤذيه من أمة الدعوة ، كما أن فيها إيماء إلى حسن عاقبة الصبر ، فمن كان أصبر كان حقيقا بالنصر إذا تساوت بين الخصمين وسائل الغلب والقهر.

ثم أكد هذا النصر بقوله :

(وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي إن ذلك النصر قد سبقت به كلمة الله ، فى مثل قوله «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» وكلمات الله لا يمكن أن يبدّلها مبدّل ، فنصر الرسل حتم لا بد منه. والتبديل جعل شىء بدلا من شىء آخر. وتبديل الكلمات والأقوال نوعان :

(١) تبديل ذاتها بجعل قول مكان قول وكلمة مكان أخرى ، ومن هذا قوله تعالى : «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ».

(٢) تبديل مدلولها ومضمونها كمنع نفاذ الوعد والوعيد أو وقوعه على خلاف القول الذي سبق.

ثم أكد سبحانه عدم التبديل بقوله :

(وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أي ولقد جاءك ذلك الذي أشير إليه من خبر التكذيب والصبر والنصر من نبأ المرسلين الذي قصصناه عليك من قبل ؛ فقد روى أن سورة الأنعام نزلت بين سور الشعراء والنمل والقصص وهود والحجر المشتملة على نبأ المرسلين بالتفصيل.

وكما وعد الله رسله بالنصر وعد المؤمنين به نحو قوله : «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» وفى قوله «وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ».

١١٢

فما بالنا نرى كثيرا ممن يدّعون الإيمان فى هذا الزمان غير منصورين ، فلا بد إذا من أن يكونوا فى إيمانهم غير صادقين ، ولأهوائهم متبعين ، ولسنته فى أسباب النصر جاهلين ، فالله لا يخلف وعده ولا يبطل سننه ، بل ينصر المؤمن الصادق الذي يتحرّى الحق والعدل فى حربه لا الظالم الباغي من خلقه ، والذي يقصد إعلاء كلمة الله ونصر دينه كما جاء فى قوله : «وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ، إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» وقوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ».

(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) من الآيات التي اقترحوها عليك ليؤمنوا فأتهم بها.

ذاك أنهم كانوا يقترحون الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم وكان يتمنى لو آتاه الله بعض ما طلبوا حرصا على هدايتهم ، وأسفا وحزنا على إصرارهم على غوايتهم ، لكن الله يعلم أن أولئك المقترحين الجاحدين لا يؤمنون وإن رأوا من الآيات ما يطلبون وفوق ما يطلبون.

والخلاصة ـ وإن كان إتيانك بآية مما اقترحوا يدحض حجتهم ويكشف شبهتهم فيؤمنون عن بينة وبرهان ، فإن استطعت أن تبتغى لنفسك نفقا تطلبه فى الأرض فتذهب فى أعماقها ، أو سلما فى جو السماء ترقى فيه إلى ما فوقها ، فتأتيهم بآية مما اقترحوا عليك فأت بما يدخل طوع قدرتك من ذلك ، كتفجير ينبوع لهم من الأرض أو تنزيل كتاب تحمله من السماء وقد كانوا طلبوا ذلك كما حكى الله عنهم بقوله : «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ـ إلى قوله ـ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» وقد أمره الله أن يجيبهم عن ذلك بقوله عقب هذا : «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً؟» أي وليس ذلك فى قدرة البشر وإن كان رسولا فالرسل لا يقدرون على شىء مما يعجز عنه البشر ولا يستطيع إيجاده غير الخالق.

وخلاصة ذلك ـ إنك لن تستطيع الإتيان بشىء من تلك الآيات ولا ابتغاء

١١٣

السبل إليها فى الأرض ولا فى السماء ، ولا اقتضت مشيئة ربك أن يؤتيك ذلك ، لعلمه أنه لن يكون سببا لما تحبه من هدايتهم

ثم أكد عدم إيمانهم فقال :

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) أي ولو شاء الله تعالى جمعهم على ما جئت به من الهدى لجمعهم عليه ؛ إما بأن يجعل الإيمان ضروريا لهم كالملائكة ، وإما بأن يخلقهم على استعداد واحد للحق والخير لا متفاوتى الاستعداد مختلفى الاختيار باختلاف العلوم والأفكار والأخلاق والعادات ، ولكنه شاء أن يجعلهم على ما هم عليه من الاختلاف والتفاوت وما يترتب على ذلك من أسباب الاختيار.

(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي إذا عرفت سننه تعالى فى خلق الإنسان وأنه لا تبديل لخلق الله ، فلا تكونن من الجاهلين لسننه فى ذلك ، فتتمنى ما تراه حسنا نافعا وإن كان حصوله ممتنعا لكونه مخالفا لتلك السنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية.

وخلاصة ذلك ـ لا تكونن بالحرص على إسلامهم والميل إلى الإتيان بمقترحاتهم من الجاهلين بدقائق شئونه تعالى فى خلقه.

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لانُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧))

تفسير المفردات

أجاب الدعوة : إذا أتى مادعى إليه من قول أو عمل ، وأجاب الداعي واستجاب له واستجاب دعاءه : إذا لبّاه وقام بما دعاه إليه.

والقرآن الكريم استعمل أفعال الإجابة فى المواضع التي تدل على حصول المسئول

١١٤

كله بالفعل دفعة واحدة ، واستعمل أفعال الاستجابة فى المواضع المفيدة لحصول المسئول بالتهيؤ والاستعداد كقوله : «الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ» إذ الآية نزلت فى وقعة حمراء الأسد بعد وقعة أحد فالمرد أنهم تهيئوا للقتال ، أو المفيدة للدلالة على حدوث الفعل بالتدريج كاستجابة دعوة الدين التي تبدأ بالنطق بالشهادتين ثم بباقي أعماله بالتدريج.

والاستجابة من الله يعبر بها فى الأمور التي تقع فى المستقبل ويكون من شأنها أن تقع بالتدريج كاستجابة الدعاء بالوقاية من النار بالمغفرة وتكفير السيئات وإيتاء ما وعد به المؤمنين فى الآخرة كما قال «فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ» الآية.

والسمع والسماع : يطلق على إدراك الصوت ، وعلى فهم ما يسمع من الكلام وهو ثمرة السمع ، وعلى قبول ما يفهم والعمل به وهذا ثمرة الثمرة ، والمراد بالموتى هنا : الكفار الراسخون فى الكفر المطبوع على قلوبهم الميئوس من سماعهم سماع تدبر تتبعه الاستجابة للداعى. والبعث : لغة إنارة الشيء وتوجيهه يقال بعثت البعير أي أثرته من مبركه وسيّرته إلى المرعى ونحوه ، ولو لا : كلمة تفيد الحث على حصول ما بعدها ، والآية لمعجزة المخالفة لسنن الله فى خلقه.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه فى الآية السابقة أنه لو شاء لجمع الناس على الهدى ، ولكنه لم يشأ أن يجعل البشر مفطورين على ذلك ، ولا أن يلجئهم إلجاء بالآيات التي تقسرهم على ذلك ، بل اقتضت حكمته أن يكون البشر متفاوتين فى الاستعداد مختارين فى تصرفاتهم وأعمالهم ، ومنهم من يختار الهدى على الضلال ، ومنهم من يستجب العمى على الهدى.

ذكر هنا أن الأولين هم الذين ينظرون فى الآيات ويفقهون ما يسمعون من الحجج والبينات ، وأن الآخرين لا يفقهون ولا يسمعون ، فهم والأموات سواء.

١١٥

الإيضاح

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) أي إنما يستجيب لله ولرسوله الذين يسمعون كلام الله سماع فهم وتدبر فيعقلون الآيات ويذعنون لما عرفوا بها من الحق ، لسلامة فطرتهم وصفاء نفوسهم وطهارة قلوبهم ، دون الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ؛ كالمقلدين الذين لا يفكرون فى الأشياء بعقولهم ، ودون الذين قالوا سمعنا وعصينا من المستكبرين الجاحدين ، فهؤلاء وهؤلاء من موتى القلوب وأبعد الناس عن الانتفاع بما يسمعون.

(وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أي والذين لا ترجى استجابتهم لأنهم كالموتى لا يسمعون السماع النافع ، يترك أمرهم إلى الله فهو الذي يبعثهم بعد موتهم ، ويرسلهم إلى موقف الحساب فينالون ما يستحقون على كفرهم وسىء أعمالهم ، فلا تبخع نفسك عليهم حسرات ، إذ ليس فى استطاعتك هدايتهم ولا إرجاعهم إلى محجة الرشاد.

ثم ذكر شيئا من عنادهم الدال على عظيم جحودهم فقال :

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي وقال الظالمون لأنفسهم الذين يجحدون بآيات ربهم ويعاندون رسوله إليهم : هلا أنزل عليه آية من ربه من الآيات التي اقترحناها عليه وجعلناها شرطا لإيماننا به.

(قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي قل لهم أيها الرسول إن الله تعالى قادر على تنزيل آية مما اقترحوا إذا اقتضت الحكمة تنزيلها ، لا ما تتعلق شهواتهم بتعجيز الرسول بطلبها ، فقد مضت سنة الله بأن إجابة المعاندين إلى ما اقترحوا لم تكن سببا للهداية فى أمة من الأمم ، بل كانت سببا فى عقاب المعاجزين للرسل بعذاب الاستئصال ، وتنزيل الآية لا يكون خيرا لهم بل هو شر لهم ولكن أكثرهم لا يعلمون شيئا من حكم الله تعالى فى أفعاله ولا من سنته فى خلقه.

والخلاصة ـ إن طلبهم للآية أو الآيات مع وجود هذه الآيات البينات إنما هو محاولة تعجيز الرسول لا أنه هو الدليل الذي يوصلهم إلى صدقه.

١١٦

يرشد إلى ذلك قوله تعالى : «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» وقوله : «وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ».

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩))

تفسير المفردات

الدابة : كل ما يدب على الأرض من الحيوان ، والدبّ والذبيب المشي الخفيف والطائر : كل ذى جناح يسبح فى الهواء وجمعه طير كراكب وركب ، والأمم واحدها أمة : وهى كل جماعة يجمعهم أمر كدين واحد أو زمان واحد أو مكان واحد أو صفات وأفعال واحدة ، والتفريط فى الأمر التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت ، يقال فرّطه وفرّط فيه ، والكتاب هنا : هو اللوح المحفوظ. وقيل القرآن ، والحشر : الجمع والسّوق :

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه فيما سلف أنه قادر أن ينزل الآيات إذا رأى من الحكمة والمصلحة إنزالها ، ولا ينزلها للتشهى والهوى كما يراه المقترحون من أولئك الضالين المكذبين ـ ذكر ما هو كالدليل على ذلك ، فأرشد إلى عموم قدرته تعالى وشمول علمه وتدبيره ، وأن كل ما يدب على وجه الأرض أو يطير فى الهواء فهو مشمول بفضله ورحمته ، فلو كان فى إظهار هذه المعجزات مصلحة للمكلفين لفعلها ، ولا متنع أن يبخل بها ، إذ أنكم ترون أنه لم يبخل على شىء من الحيوان بمنافعها ومصالحها.

١١٧

الإيضاح

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أي لا يوجد نوع من أنواع الأحياء التي تدب على الأرض ولا من أنواع الطير التي تسبح فى الهواء إلا وهى أمم مماثلة لكم أيها الناس ؛ وقد أثبت الإخصائيّون الباحثون فى طباع الحيوان الذين تفرغوا لدرس غرائزها وأعمالها أن النمل مثلا يغزو بعضه بعضا وأن المنتصر يسترقّ المنكسر ويسخّره فى حمل قوته وبناء قراه ، إلى نحو أولئك من الأعمال التي تخصه ؛ وقد حرصت الأمم المتدينة على تحريم اصطياد بعض أنواع الحيوان ، فإذا رأت بعض ما يصاد من الطير وغيرها قلّ فى بلادها وخشى انقراضه منها حرمت صيده.

وخص دواب الأرض بالذكر لأنها هى التي يراها المخاطبون عامة ويدركون فيها معنى المماثلة ، دون دواب الأجرام السماوية القابلة للحياة الحيوانية التي أعلمنا الله بوجودها فى قوله : «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ ، وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ» وهذا من أخبار الغيب التي دل العلم الحديث على صدقها ؛ فقد أثبت الباحثون من علماء الفلك أن بعض الكواكب كالمرّيخ فيه ماء ونبات فلا بد أن يكون فيه أنواع من الحيوان ، بل فيه أمارات على وجود عالم اجتماعي صناعى كالإنسان. منها ما يرى على سطحه بالمرقب (التلسكوب) من جداول منظمة وخلجان وجبال ووديان إلى نحو أولئك.

وهذه الآية الكريمة ونحوها ترشدنا إلى البحث فى طباع الأحياء ليزداد علما بسنن الله وأسراره فى خلقه ونزداد بآياته فيها إيمانا وحكمة وكمالا وعلما ونعتبر بحال المكذبين بها الذين لم يستفيدوا مما فضلهم الله به على الحيوان فكانوا أضل من جميع أنواعه التي لا تجنى على نفسها ما يجنيه الكافر على نفسه.

(ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) فسر ابن عباس الكتاب هنا بأم الكتاب : وهو اللوح المحفوظ ، وهو خلق من عالم الغيب أثبت الله تعالى فيه مقادير الخلق ما كان

١١٨

منها وما يكون بحسب السنن الإلهية ، وقيل الكتاب هنا علم الله المحيط بكل شىء ، شبه بالكتاب لكونه ثابتا لا ينسى ، وقيل هو القرآن أي ما تركنا فى القرآن شيئا من ضروب الهداية التي نرسل من أجلها الرسل إلا بيناه فيه فقد ذكرت فيه أصول الدين وأحكامه وحكمها والإرشاد إلى استعمال القوى البدنية والعقلية التي سخرها الله للانسان.

قال الحافظ ابن كثير ما فرطنا فى الكتاب من شىء أي الجميع علمهم عند الله لا ينسى واحدا من جميعها من رزقه سواء كان بريا أو بحريا كقوله : «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها ، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» أي مفصح بأسمائها وأعدادها ونظامها وحاصر لحركاتها وسكناتها.

(ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أي ثم يبعث أولئك الأمم من الناس والحيوان يوم القيامة ويساقون مجتمعين.

وروى ابن جرير عن ابن عباس : أن المراد بحشر البهائم موتها كما ورد فى الحديث «من مات فقد قامت قيامته».

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) أي والكافرون الذين كذبوا بآياتنا المنزلة على وحدانيتنا وصدق ما جاء به رسولنا ـ تكذيب جحود واستكبار أو تكذيب جمود على تقليد الآباء ـ صمّ لا يسمعون دعوة الحق والهدى سماع قبول ، بكم لا ينطقون بما عرفوا من الحق ، وهم يتخبطون فى تلك الظلمات الحالكة ، ظلمة الوثنية ، وظلمة تقليد الجاهلية ، وظلمة الجهل والأمية.

(مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) أي من تعلقت مشيئته بإضلاله يضله كما أضل هؤلاء الذين استحبوا العمى على الهدى.

وإضلاله إياهم جاء على مقتضى سننه فى البشر ، أن يعرض المستكبر عن دعوة من يراه دونه وإن ظهر له أنه الحق ، وأن يعرض المقلد عن النظر فى الآيات والدلائل التي تنصب لبيان بطلانها وإثبات خلافها مادام مغرورا بها مكبرا لمن جرى من الآباء عليها.

١١٩

(وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي ومن يشأ هدايته يجعله على طريق مستقيم هو طريق الحق الذي لا يضل سالكه ، بأن يوفقه لاستعمال سمعه وبصره وعقله ، استعمالا يعرف به الحق ويعرف به الخير ، ويعمل به بحسب سننه تعالى فى الارتباط بين الأعمال البدنية والعقائد النفسية.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥))

تفسير المفردات

أرأيتكم أي أخبرونى ، وهو أسلوب يذكر للتعجيب والتنبيه إلى أن ما يذكر بعده غريب عجيب تقوم به الحجة على المخالف ، يكشف أي يزيل ما تدعونه إلى كشفه إن شاء ، والبأساء : تطلق على الحرب والمشقة ، والبأس : الشدة فى الحرب ، والعذاب الشديد ، والقوة ، والشجاعة ، والضراء من الضر ضد النفع ، والتضرع : إظهار الضراعة والخضوع بتكلف ، والأخذ بالبأساء والضراء : إنزالهما بهم ، مبلسون : أي

١٢٠