تفسير المراغي - ج ٧

أحمد مصطفى المراغي

وروى مسلم عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم ثم قال : ذرونى ما تركتكم ، فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)»

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أي يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله : لا تسألوا عن أشياء من أمور الدين ودقائق التكاليف ، أو من الأمور الغيبية أو الأسرار الخفيّة أو غير ذلك مما يحتمل أن يكون إظهارها سببا للمساءة فيما بشدة التكاليف وكثرتها ، وإما بظهور حقائق تفضح أهلها.

(وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) أي وإن تسألوا عن جنس تلك الأشياء التي من شأنها أن يكون إبداؤها مما يسوءكم حين ينزّل القرآن فى شأنها أو حكمها لأجل فهم ما نزّل إليكم ، فإن الله بيديه لكم على لسان رسوله.

قال الحافظ ابن كثير : أي لا تستأنفوا السؤال عنها ، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق ، وقد ورد فى الحديث : «أعظم المسلمين جرما من سأل عن شىء لم يحرّ لم فحرم من أجل مسألته» ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها بينت الكم حينئذ لاحتياجكم إليها.

وخلاصة ذلك ـ تحريم السؤال عن الأشياء التي من شأن إبدائها أن يسوء السائلين إلا فى حال واحدة وهى أن يكون قد نزل فى شأنها شىء من القرآن فيه إجمال وأردتم السؤال عن بيانه ليظهر لكم ظهورا لا مراء فيه كما وقع فى مسألة تحريم الخمر بعد نزول آية البقرة.

٤١

(عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي إن هذه الأشياء مما نهيتم عن السؤال عنها ، لأنها مما عفا الله عنها بسكوته فى كتابه وعدم تكليفكم إياها فاسكتوا عنها أيضا ، ومما يؤيد هذا حديث أبي ثعلبة الخشني قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحدّ حدودا فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها».

وقد يكون المعنى ـ عفا الله عما كان من مسألتكم قبل النهى فلا يعاقبكم عليها لسعة مغفرته وحلمه ، فيكون هذا كقوله فى الآية الأخرى «عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ» وقوله : «إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ».

(قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) أي قد سأل هذه المسائل (أي أمثالها) قوم من قبلكم ثم أصبحوا بعد إبدائها كافرين بها ، فإن من أكثر الأسئلة عن الأحكام الشرعية من الأمم السالفة لم يعملوا بما بين لهم منها ، بل فسقوا عن أمر ربهم وألقوا شرعهم وراءهم ظهريا استثقالا للعمل به ، وأدّى ذلك إما إلى استنكاره ، وإما إلى جحود كونه من عند الله ، وسواء أكان هذا أم ذاك فهو كفران به ، انظر إلى قوم صالح فإنهم بعد أن سألوا الآيات وأجيبوا إلى ما طلبوا لم يؤمنوا بما أوتوا بل كفروا فاستحقوا الهلاك فى الدنيا قبل عذاب الآخرة.

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤))

٤٢

تفسير المفردات

البحيرة ـ الناقة التي يبحرون أذنها أي يشقونها شقا واسعا ، وكانوا يفعلون بها ذلك إذا نتجت خمسة أبطن وكان الخامس أنثى كما روى عن ابن عباس.

والسائبة ـ الناقة التي تسيّب بنذرها لآلهتهم فترعى حيث شاءت ، ولا يحمل عليها شىء ، ولا يجزّ صوفها ولا يحلب لبنها إلا لصيف.

والوصيلة ـ الشاة التي تصل أخاها ، فقد كانوا إذا ولدت الشاة ذكرا كان لآلهتهم ، وإذا ولدت أنثى كانت لهم ، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم.

والحامى ـ الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن ، فيقولون حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى.

المعنى الجملي

بعد أن نهى فى الآية السابقة عن تحريم ما أحل الله بالنذر أو بالحلف باسم الله تنسكا وتعبدا مع اعتقاد إباحته فى نفسه ، وعن الاعتداء فيه ، ونهى أن يكون المؤمن سببا لتحريم شىء لم يكن الله قد حرمه ، أو شرع حكم لم يكن الله قد شرعه ، بأن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شىء مما سكت الله عنه عفوا وفضلا.

ناسب بعد هذا أن يبين ضلال أهل الجاهلية فيما حرموه على أنفسهم وما شرعوه لها بغير إذن من ربهم وما قلد فيه بعضهم بعضا على جهلهم ، كما بين بطلان التقليد ومنافاته للعلم والدين.

٤٣

الإيضاح

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) أي ما بحر الله بحيرة ، ولا سيّب سائمة ، ولا وصل وصيلة ، ولا حمى حاميا ، أي ما شرع ذلك ولا أمر به وما جعله دينا لهم ، وهذا رد وإبطال لما كان يفعله أهل الجاهلية فى جاهليتهم.

(وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) إذ يفعلون ما يفعلون ويزعمون أن الله يأمرهم بهذا ، وأول من سنّ لأهل الشرك تلك السنن الرديئة ، وغيّر دين الله دين الحق وأضاف إليه أنه هو الذي حرم ما حرموا وأحل ما أحلوا افتراء على الله الكذب واختلاقا عليه ـ وهو عمرو بن لحىّ الخزاعىّ ، فهو الذي غيّر دين إبراهيم وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامى.

أخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكتم بن الجون «يا أكتم عرضت علىّ النار ، فرأيت فيها عمرو بن لحىّ ابن قمعة ، بن حنذف يجرّ قصبه (القصب : المعى وجمعه الأقصاب) فى النار ، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك ، فقال أكتم أخشى أن يضرنى شبهه يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ، إنك مؤمن وهو كافر ، إنه أول من غيّر دين إسماعيل وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامى».

(وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أنهم يفترون على الله الكذب بتحريم ما حرموا على أنفسهم ، وأن ذلك من أعمال الكفر ، بل يظنون أنهم يتقربون به إليه ولو بالوساطة. لأن آلهتهم التي يسيبون باسمها السوائب ويتركون لها ما حرموه على أنفسهم ، ليست إلا وسطاء بينهم وبين الله بزعمهم ، تشفع لهم عندهم وتقربهم إليه زلفى.

والعبرة من هذا أن كل مبتدع فى الدين بتحريم طعام أو غيره ، وتسييب عجل لسيد البدوي أو سواه ، وسنّ ورد أو حزب يضاهى به المشروع من شعائر الدين ، ونحو ذلك من العبادات التي لم تؤثر عن الشارع ، زاعما أنه جاء بما يتقرب به لله تعالى

٤٤

وينال به رضاه ، فقد ضاهى بعمله عمل عمرو بن لحىّ ، لأن الله لا يعبد إلا بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلا عبادة ولا تحريم إلا بنص ، وليس لأحد أن يزيد أو ينقص برأى ولا قياس.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله فى القرآن من الأحكام المؤيدة بالحجج والبراهين ، وإلى الرسول المبلغ لها والمبين لمجملها فاتبعوه فيها ، أجابوا من يدعونهم إلى ذلك حسبنا ما وجدنا آباءنا يعملون به ، ونحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة. فرد الله عليهم قولهم :

(أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ؟) أي أيكفيهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الشرائع ولا يهتدون سبيلا إلى المصالح ، سواء أكانت دينية أم دنيوية ، ولا يعرف ما يكفى الأفراد والأمم إلا بالعلم الصحيح الذي يميز به بين الحق والباطل ، فأولئك قوم أميون يتخبطون فى ظلمات من الوثنية وخرافات من معتقدات الجاهلية ، فمن وأد للبنات إلى سلب ونهب وإغارات من بعضهم على بعض ، ومن قتال تشتجر فيه الرماح ، إلى عداوة وبغضاء تملأ السهول والبطاح ، ومن ظلم لليتامى والنساء إلى تفنن فى الشعوذة وضروب السحر والكهانة.

ونحو الآية قوله تعالى : «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ؟».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

المعنى الجملي

بعد أن نعى سبحانه على المشركين ما هم عليه من جهل وعناد ، وطغيان وفساد ، وأنهم لم ينتفعوا بإعذار ولا إنذار ، بل بقوا مصرّين على جهلهم ، سادرين فى ضلالهم

٤٥

أمر المؤمنين بأن يهتموا بإصلاح أنفسهم بالعلم النافع والعمل الصالح ، وأبان لهم أنهم إذا أصلحوا أنفسهم ، وقاموا بما أوجب الله عليهم من علم وعمل وتعليم وإرشاد فلا يضيرهم بعد ذلك ضلال من ضل وحاد عن الصراط السوي ، وسار سادرا فى غلواء الجهل والتقليد ، وتنكب عن جادة الحق.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) أي احفظوا أنفسكم من المعاصي ، وانظروا فيما يقرّبها من ربها ، ويخلّصها من عقابه ، ولا يضرّكم ضلال غيركم إذا أنتم اهتديتم «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى».

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إليه وحده رجوعكم ورجوع من ضل عما اهتديتم إليه فينبئكم عند الحساب بما كنتم تعملون فى الدنيا ويجزيكم به.

روى ابن كثير «أن أبا بكر قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) وإنكم تضعونها على غير موضعها ، وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب».

وروى الترمذي عن أبي أمية الشيباني قال : «أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت ما تصنع فى هذه الآية؟ قال أيّة آية؟ قلت قول الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قال أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحّا مطاعا ، وهوى متّبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوامّ ، فإن من ورائكم أياما الصابر فيهن مثل القابض على الجمر ، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم».

٤٦

وروى ابن جرير عن ابن عقال قال : قيل لابن عمر لو جلست فى هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ، فإن الله قال (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) فقال ابن عمر : إنها ليست لى ولا لأصحابى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ألا ليبلغ الشاهد الغائب» فكنا نحن الشهود وأنتم الغيّب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم».

والخلاصة ـ إن الرواة من السلف متفقون على أن المؤمن لا يكون مهتديا إذا أصلح نفسه ولم يهتم بإصلاح غيره بأن يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر وأن ذلك فرض لاهوادة فيه.

ولكن هذه الفريضة تسقط إذا فسد الناس فسادا لا يرجى معه تأثير الوعظ والإرشاد ، أو فسادا يؤدى إلى إيذاء الواعظ المرشد ، بأن يعلم أو يظن ظنا قويا بأن لا فائدة من نصحه ، أو بأنه سيؤذى إذا هو أمر بمعروف أو نهى عن منكر ، ويحرم عليه ذلك إذا أدى إلى الوقوع فى التّهلكة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ

٤٧

تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨))

تفسير المفردات

الشهادة : قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة ، وضربتم فى الأرض : سافرتم ، وتحبسونهما : تمسكونهما وتمنعونهما من الانطلاق والهرب ، وارتبتم : شككتم فى صدقهما فيما يقران به ، ومن الآثمين : العاصين ، وعثر من العثور على الشيء : وهو الاطلاع عليه من غير سبق طلب له ، وأعثره عليه : وقفه عليه وأعلمه به من حيث لم يكن يتوقع ذلك.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السالفة أن المرجع إليه بعد الموت ، وأنه لا بد من الحساب والجزاء يوم القيامة ـ أرشدنا إثر ذلك إلى الوصية قبل الموت وأنه تجب العناية بالإشهاد عليها حتى لا تضيع على مستحقيها.

أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال : «كان تميم الداري وعديّ بن بدّاء رجلين نصرانيين يتّجران إلى مكة فى الجاهلية ويطيلان الإقامة بها ، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم حوّلا متجرهما إلى المدينة ، فخرج بديل مولى عمرو بن العاص تاجرا حتى قدم المدينة ، فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل ، فكتب وصية بيده ثم دسها فى متاعه وأوصى إليهما ، فلما مات فتحا متاعه فأخذا منه شيئا ثم حجراه كما كان ، وقدما المدينة على أهله فدفعا متاعه ففتح أهله متاعه فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به ، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه فقالوا هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا ، فقالوا لهما هذا كتابه بيده ، قالوا ما كتمنا له شيئا ، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ

٤٨

أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ـ إلى قوله إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما فى دبر صلاة العصر با لله الذي لا إله إلا هو ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا ، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا ، ثم ظهر معهما إناء من فضة منقوش مموّه بالذهب فقال أهله هذا من متاعه ، قالا نعم ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا فكرهنا أن نكذب نفوسنا ، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل البيت أن يحلفا على ما كتما وغيّبا ويستحقانه».

ثم إن تميما الداري أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول صدق الله ورسوله ، أنا أخذت الإناء ، ثم قال يا رسول الله إن الله يظهرك على أهل الأرض كلها فهب لى قرية عبنون من بيت لحم وهى القرية التي ولد فيها عيسى ، فكتب له بها كتابا ، فلما قدم عمر الشام أتاه تميم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر : أنا حاضر ذلك فدفعها إليه.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي الشهادة المشروعة بينكم فى ذلك هى شهادة اثنين من رجالكم من ذوى العدل والاستقامة يشهدهما الموصى على وصيته ، فيشهدان بذلك عند الحاجة ، وقوله منكم أي من المؤمنين.

(أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي أو شهادة اثنين آخرين من غير المسلمين إن كنتم مسافرين ونزلت بكم مقدمات الموت وعلاماته وأردتم الإيصاء ، ولا يخفى ما فى الآية من تأكيد الوصية والإشهاد عليها.

(تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) المراد بالصلاة صلاة العصر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلّف عديا وتميما بعدها ، ولأن العمل قد جرى عليه ، فكان التحليف فيه

٤٩

هو المعروف ، ولأنه هو الوقت الذي يقعد فيه الحكام للفصل فى المظالم والدعاوى ، إذ يكون الناس قد فرغوا من معظم أعمال النهار ، وروى عن ابن عباس أن الشهيدين إذا كانا غير مسلمين ، فالمراد بالصلاة صلاة أهل دينهما.

(فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي وتستقسمون الشاهدين وتطلبون حلفهما على الوصية ، إن شككتم فى صدقهما فيقسمان ، أما الأمين فيصدق بلا يمين.

(لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي يقسمان بقولهما لا نشترى بيمين الله ثمنا ولو كان المقسم له من أقاربنا : أي لا نجعل يمين الله كالسلعة التي تبذل لأجل ثمن ينتفع به فى الدنيا.

ونحو الآية قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ».

والخلاصة ـ أن يقول الحالف : إنه يشهد لله بالقسط ولا يصدّه عن ذلك ثمن يبتغيه لنفسه ، ولا مراعاة قريب له إن فرض أن فى إقراره وقسمه نفعا له ـ أي ولو اجتمعت هاتان الفائدتان.

(وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) أي ويقولان فى يمينهما أيضا : ولا نكتم الشهادة التي أوجبها الله وأمر أن تقام له كما قال «وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ».

(إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) أي إنا إذا فعلنا ذلك واشترينا بالقسم ثمنا أو راعينا به قريبا بأن كذبنا فيه لمنفعة لأنفسنا أو لذوى قرابتنا ، أو كتمنا شهادة الله كلا أو بعضا لكنا من المتحملين للإثم المستحقين للجزاء عليه.

فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان) أي فإن اتفق وحصل الاطلاع على أن الشهيدين الحالفين استحقا إثما بكذب فى الشهادة أو بالخيانة أو بكتمان شىء من التركة فى حال ائتمانهما عليها أو كتمان فى الشهادة ـ فالواجب حينئذ أن تردّ اليمين إلى الورثة بأن يقوم رجلان آخران

٥٠

مقامهما من أولياء الميت الوارثين له وهذان الرجلان الوارثان ينبغى أن يكونا هما الأوليين بالميت أي الأقربين الأحقين بإرثه إن لم يمنع من ذلك مانع.

وعلى هذا فالأوليان فاعل استحق ومفعوله محذوف يقدّر بنحو قولنا ما أوصى به أو ما تركه : أي من الورثة الذين استحق الأوليان من بينهم ما أوصى به.

(فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا) المراد بالشهادة اليمين كما فى قوله تعالى : «فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ» أي فيحلفان با لله لأيماننا على خيانة الشهيدين اللذين حلفا على وصية ميتهما أحق وأصدق من أيمانهما ، وأنهما ما اعتديا عليهما بتهمة باطلة.

(إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي ويقولان فى يمينهما إنا إذا اعتدينا الحق فحلفنا مبطلين كاذبين ـ لنكونن من الظالمين لأنفسهم بتعريضها لسخط الله وانتقامه.

ثم بين سبحانه الحكمة فى شرع هذه الشهادة وهذه الأيمان فقال :

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أي ذلك الذي شرعناه من تكليف المؤتمن على الوصية أن يقوم على مرأى من الناس ويشهد بعد الصلاة ويقسم الأيمان المغلظة ، أدنى الطرق وأقربها إلى أن يؤدى الشهداء الشهادة على وجهها بلا تبديل ولا تغيير ، تعظيما لله ورهبة من عذابه ورغبة فى ثوابه أو خوفا من الفضيحة التي تعقب استحقاقهما الإثم فى الشهادة برد أيمان الورثة بعد أيمانهم تكون مبطلة لها ، إذ من لم يمنعه خوف الله وتعظيمه أن يكذب لضعف دينه يمنعه خوف الخزي والفضيحة بين الناس.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي واتقوا الله وراقبوه فى أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبة ، وأن تخونوا من ائتمنكم ، واسمعوا ما يقال لكم وما توعظون به سمع إجابة وقبول لهذه الأحكام وغيرها ، فإن لم تتقوا كنتم فاسقين عن أمر الله مطرودين من هدايته مستحقين لعقابه.

٥١

وقد استنبط العلماء من هاتين الآيتين فوائد وأحكاما نذكر أهمها فيما يلى :

(١) الحديث على الوصية وعدم التهاون فى أمرها فى سفر أو حضر.

(٢) الإشهاد عليها لتثبيت أمرها والرجاء فى تنفيذها.

(٣) بيان أن الأصل فى الشاهدين عليها أن يكونا مؤمنين موثوقا بعدالتهما.

(٤) بيان أن إشهاد غير المسلمين على الوصية جائز مشروع ، لأن مقصد الشارع منها إذا لم يمكن أداؤه على وجه الكمال فلا يترك البتة.

(٥) شرعية اختيار الأوقات التي تؤثّر فى قلوب الشهود ومقسمى الأيمان رجاء أن يصدقوا ويبرّوا فيها.

(٦) التغليظ على الحالف بصيغة اليمين بأن يقول فيه ما يرجى أن يكون رادعا للحالف عن الكذب.

(٧) إن الأصل فى أخبار الناس وشهاداتهم أن تكون مصدّقة مقبولة ، ومن ثمّ شرط فى تحليف الشاهدين الارتياب فى خبرهما.

(٨) شرعية تحليف الشهود إذا ارتاب الحكام والخصوم فى شهادتهم ، وهو الذي عليه العمل الآن فى أكثر الأمم وقد حتمته القوانين الوضعية لكثرة ما يقع من شهادة الزور.

(٩) شرعية رد اليمين إلى من قام الدليل على ضياع حق له بيمين صار حالفها خصما له.

(١٠) إذا احتيج إلى قيام بعض الورثة فى أمر يتعلق بالتركة فأولاهم بذلك أقربهم إليه.

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي

٥٢

عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))

تفسير المفردات

روح القدس : هو ملك الوحى الذي يؤيد الله به الرسل بالتعليم الإلهى والتثبيت فى المواطن التي من شأن البشر أن يضعفوا فيها ، والكتاب : كل ما يكتب ، والحكمة : العلم الصحيح الذي يبعث الإنسان على نافع العمل مع الفقه لأسرار ما يعمل ، والتوراة : ما أوحاه الله إلى موسى من الشرائع والأحكام ، والإنجيل : ما أوحاه إلى عيسى ،

٥٣

والخلق : التقدير أي جعل الشيء بمقدار معين ، ويستعمل فى إيجاد الله الأشياء بتقدير معين فى علمه ، والأكمه : من ولد أعمى ، وقد يطلق على من عمى بعد الولادة أيضا ، والسحر : تمويه وتخييل به يرى الإنسان الشيء على غير حقيقته ، والحواريون واحدهم حوارىّ وهو من أخلص سرا وجهرا فى المودّة ، وحواريو الأنبياء : المخلصون لهم ، والمائدة : الخوان الذي عليه الطعام أو الطعام نفسه ، ويستطيع أي يطيع ويرضى : والعيد ، تارة يراد به الفرح والسرور ، وتارة يراد به الموسم الديني أو المدني الذي يجتمع له الناس فى يوم معين من السنة للعبادة أو لأمر من أمور الدنيا ، وآية منك : أي علامة على صدقى فى دعوى نبوتى.

الإيضاح

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ؟) أي اذكر أيها الرسول يوم يجمع الله الرسل فيقول ما ذا أجبتم؟ أي أىّ إجابة أجبتم؟ أإجابة إيمان وإقرار؟ أم إجابة إنكار واستكبار؟ فهو سؤال عن نوع الإجابة لا عن الجواب ما ذا كان ، والمراد من سؤال توبيخ أممهم وإقامة الحجة على الكافرين منهم.

وهذا السؤال للرسل من وادي سؤال الموءودة فى قوله تعالى «وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» فى أن كلا منهما وجه فيه السؤال إلى الشاهد دون المتهم للتوبيخ والإنكار على الفعل ، وليوم القيامة مواقف ، فى بعضها يشهد الرسل على أممهم ، وفى بعض آخر يسأل الله الأمم كما يشاهد لدى قضاة التحقيق ، فقد يسأل الخصم حينا والشهود حينا آخر ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى : «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ».

ومن قبل أن الله تعالى يسأل كلا من الفريقين عما هو أعلم به ، وكان الرسل صلوات الله عليهم على علم يقينى بما سئلوا عنه ـ كان جوابهم الآتي الدال على نفى العلم عن أنفسهم وتفويضه إلى علام الغيوب فى أول عهدهم بالسؤال ـ لأحد أمرين :

٥٤

أو لهما ما اختاره ابن عباس من أنهم قالوا ذلك لنقصان علمهم بالنسبة إلى علمه تعالى ، فالله يعلم ما أظهروا وما أضمروا وهم لا يعلمون إلا ما أظهروا ، فعلمه أنفذ من علمهم. وثانيهما أن ما يفاجئهم من هول ذلك اليوم. وفزعه يذهلهم عن الجواب ، إذ ينسون أكثر الأمور ، وهنالك يقولون لا علم لنا ، فإذا عادت إليهم قلوبهم يشهدون لأممهم ونقل هذا عن الحسن ومجاهد والسّدّى ، وذلك فى قوله تعالى : (قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

خلاصة هذا على رأى ابن عباس أن المراد نفى علم الإحاطة والشمول الخاص بالله تعالى بدليل قولهم أنت علام الغيوب أي كثير العلم بكثرة المعلومات.

وبعد أن ذكر سؤال الرسل وجوابهم إجمالا بين سؤال واحد منهم بالتفصيل وجوابه لإقامة الحجة على من يدعون اتباعه ، ولكن قدم قبل هذا ما خاطب به هذا الرسول من بداية نعمته عليه وآياته التي كانت سببا فى فتنة الناس به فقال :

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) أي اذكر إنعامى عليك وعلى والدتك حين تأييدى إياك بروح القدس وتكليمك الناس فى المهد بما يبرىء أمك من قول الآثمين الذين أنكروا عليها أن يكون لها غلام من غير زوج يكون أبا له ، وذلك قوله : «إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبارَكاً» وكهلا حين بعثت فيهم رسولا تقيم عليهم الحجة بما ضلوا فيه عن الصراط السوي.

وفائدة هذا القصص تنبيه النصارى الذين كانوا عصر التنزيل إلى قبح مقالتهم وسوء معتقدهم ، لأن طعن سائر الأمم كان مقصورا على الأنبياء ، وطعن هؤلاء تعدى إلى جلال الله وكبريائه ، إذ وصفوه بما لا يليق به من اتخاذ الزوجة والولد.

(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي واذكر نعمتى عليك بتعليمك وتوفيقك لقراءة الكتب والعلم النافع لك فى الدين والدنيا ولا سيما التوراة والإنجيل

٥٥

(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ، فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) أي واذكر نعمتى عليك إذ تجعل قطعة من الطين مثل هيئة الطير فى شكلها ومقادير أعضائها فتنفخ فيها بعد ذلك فتكون طيرا بإذن الله وتكوينه ، فأنت تفعل التقدير والنفخ ، والله هو الذي يكوّن الطير.

وفى قوله بإذنى إشارة إلى أن المسيح لم يعط هذه القوة دائما بحيث جعل السبب الروحي مطردا كالأسباب الجسمانية ، بل كانت هذه الآية كغيرها لا تقع إلا بإذن من الله وتأييده.

(وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ، وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) جاء فى كتب العهد الجديد أنه أبرأ كثيرا من العمى والبرص وأحيا ثلاثة أموات :

(١) ابن أرملة وحيد كانوا يحملونه على النعش ، فلمس النعش وأمر الميت أن يقوم منه فقام ، فقال الشعب : قد قام فينا نبى عظيم وافتقد الله شعبه إنجيل لوقا.

(٢) ابنة رئيس ماتت ودعاه لإحيائها فجاء بيته وقال للجمع تنحّوا فإن الصبية لم تمت لكنها نائمة فضحكوا عليه ، فلما أخرج الجمع دخل وأمسك بيدها فقامت الصبية ـ إنجيل متى.

(٣) عازر الذي كان يحبه جدا ويحب أختيه مريم ومرثا كما يحبونه ؛ ففى إنجيل يوحنا أنه كان مات فى بيت عنيا ووضع فى مغارة فجاء المسيح وكان له أربعة أيام فرفع عينيه إلى فوق وقال : (أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لى ، وأنا علمت أنك فى كل حين تسمع لى ، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتنى) وما قال هذا : صرخ بصوت عظيم لعازر هلمّ خارجا ، فخرج الميت إلخ. وتعيين كل فعل بالإذن للدلالة على أنه ما وقع شىء منها إلا بمشيئة الله وقدرته وتيسيره.

(وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي واذكر نعمتى عليك حين كففت عنك بنى إسرائيل

٥٦

فلم يتمكنوا من قتلك وصلبك ، وقد كانوا أرادوا ذلك ، وقال الكافرون منهم ما هذا إلا ساحر ، وما جاء به من البينات لم يكن إلا سحرا ظاهرا ، وليس من جنس ما جاء به موسى ، على أنه متله أو أظهر منه.

والخلاصة ـ أنهم لا يعتدّون بما جاء على يديه من الآيات وخوارق العادات ، ولا يؤمنون به وإن جاء بآيات أخرى ، إذ لم يكن طعنهم لشبهات تتصل بها بل كان عنادا ومكابرة ، ومن ثم ادّعوا أن السحر صنعته ، والتمويه وقلب الحقائق دأبه وعادته.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ، قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) الوحى فى اللغة : الإشارة السريعة الخفية ، والإعلام بالشيء بسرعة وخفاء ، والمراد به هنا ما يلقيه الله فى نفوس الأحياء من الإلهام كما فى قوله : «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً» وقوله «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ» وهكذا ألقى الله فى قلوب الحواريين الإيمان به وبرسوله عيسى عليه السلام ، أي واذكر نعمتى عليك حين ألهمت الحواريين أن يؤمنوا بك وقد كذبك جمهور بنى إسرائيل وجعلتهم أنصارا لك يؤيدون دعوتك وينشرون شريعتك ، وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا آمنا أي با لله وبرسوله عيسى عليه السلام وأشهدوا الله على أنفسهم أنهم مسلمون أي مخلصون فى إيمانهم مذعنون لأوامره وتاركون لنواهيه.

ثم ذكر كلاما منقطعا عما قبله ليبين ما جرى بينه عليه السلام وبين قومه عقب حكاية ما صدر من الحواريين من المقالة المعدودة من نعم الله عليه ، فقال :

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) أي اذكر للناس وقت قول الحواريين لعيسى : يا عيسى هل يرضى ربك ويختار أن ينزل علينا مائدة من السماء إذا نحن سألناه أو سألته ذلك؟

وفسر بعضهم الاستطاعة بمعنى القدرة وقالوا إن هذا السؤال لا يصدر عن مؤمن صحيح الإيمان وأجابوا عن ذلك بعدة أجوبة :

٥٧

(١) إن هذا السؤال لأجل اطمئنان القلب بإيمان العيان لا للشك فى قدرة الله على ذلك ، كما سأل إبراهيم صلى الله عليه وسلم رؤية كيفية إحياء الموتى ليطمئن قلبه بإيمان الشهادة والمعاينة مع إقراره بإيمانه بذلك الغيب.

(٢) إنه سؤال عن الاستطاعة بحسب الحكمة الإلهية أي هل ينافى الحكمة أن ينزل علينا مائدة من السماء ، فإن ما ينافى الحكمة لا يقع وإن كان مما تتعلق به القدرة كعقاب المحسن على إحسانه وإثابة الظالم على ظلمه.

(٣) إن المراد هل تستطيع سؤال ربك.

(قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي قال لهم عيسى اتقوا الله أن تقترحوا عليه أمثال هذه المقترحات التي كان سلفكم يقترحها على موسى ، لئلا تكون فتنة لكم فإن من شأن المؤمن الصادق ألا يجرب ربه باقتراح الآيات.

وقد يكون المعنى ـ اتقوا الله وقوموا بما يوجبه الإيمان من العمل والتوكل عليه تعالى عسى أن يوفقكم إلى ذلك.

(قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي قالوا نطلبها لفوائد :

(١) إننا نريد أن نأكل منها لأننا محتاجون إلى الطعام ، فإن الجوع قد غلبنا ولا نجد طعاما آخر.

(٢) إننا إذا شاهدنا نزولها ازداد اليقين وقويت الطمأنينة ، إذ ينضم علم المشاهدة باللمس والذوق والشم إلى علم السمع منك وعلم النظر والاستدلال.

(٣) أن نكون من الشاهدين على هذه الآية عند بنى إسرائيل الذين لم يحضروها ، أو من الشاهدين لله بكمال القدرة ولك بالنبوة ، وبذا يؤمن المستعد للإيمان ويزداد الذين آمنوا إيمانا.

(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي إن عيسى عليه السلام

٥٨

لما علم صحة قصدهم وأنهم لا يريدون تعجيزه ولا اقتراح آية ـ دعا الله بهذا الدعاء وناداه بالاسم الكريم الدال على الألوهية والقدرة والحكمة إلى نحو أولئك من صفات الكمال ، ثم باسم الرب الجامع لمعنى الملك والتدبير والتربية والإنعام.

أي يا الله يا مالك أمرنا ومتولى تربيتنا أنزل علينا مائدة سماوية يراها هؤلاء المقترحون بأبصارهم وتتغذي بها أبدانهم ، وتكون عيدا خاصا بنا معشر المؤمنين دون غيرنا بأول من آمن منا وآخر من آمن ، واجعلها علامة من لدنك ترشد القوم إلى صحة دعوتى وصدق نبوتى ، وارزقنا منها ومن غيرها ما به تتغذى أجسامنا ، فأنت خير الرازقين ترزق من تشاء بغير حساب.

ومن محاسن هذا الدعاء أنه أخر ذكر الفائدة المادية للمائدة عن ذكر فائدتها الدينية الروحية ، بعكس ما فعله الحواريون ، إذ قدموا الأكل على غيره من الفوائد الأخرى.

(قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) أي وعد الله عيسى بإنزال المائدة مرة أو مرارا لكنه رتب شرطا على هذا الوعد فقال :

(فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي إن من يكفر منكم بعد نزول هذه الآية التي اقترحتموها ، وجاءت بطريق لا لبس فيه ولا شك ، فإنى أعذبه عذابا شديدا لا أعذب مثله أحدا من سائر كفار العالمين ، لأن عقاب المخطئ أو الكافر يكون بقدر تأثير الخطيئة أو الكفر فى نفسه ، والبعد فيه عن الشبهة والعذر ، وأي شبهة أو عذر لمن يرى الآيات من رسوله تترى ، ثم يقترح آية خاصة تشترك فى العلم بها حواسه جميعا وينتفع بها فى دنياه قبل آخرته ، فيعطى ما طلب ، ثم ينكص بعد ذلك كله على عقبيه ويكون من الكافرين.

وللعلماء فى الطعام الذي نزل فى المائدة آراء : فقيل هو خبز وسمك ، وقيل خبز ولحم ، وقيل كان ينزل عليهم طعاما أينما ذهبوا كما كان ينزل المنّ على بنى إسرائيل كما رواه ابن جرير عن ابن عباس.

٥٩

وجاء فى إنجيل يوحنا أنه كان يطعم الألوف فى عيد الفصح من خمسة أرغفة وسمكتين ـ أكل منها أول ذلك الجمع كآخره.

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

المعنى الجملي

كان الكلام قبل هذه الآيات فى تعداد النعم التي أنعم بها سبحانه على عيسى ، وفى إلهامه للحواريين الإيمان به وبرسوله ، وفى طلب الحواريين من عيسى إنزال مائدة من السماء ثم طلب عيسى من ربه إجابة مطلبهم ، وإخبار الله تعالى بأنه أجابهم إلى ما طلبوا.

٦٠