تفسير المراغي - ج ٧

أحمد مصطفى المراغي

ولا يزال الكلام فى هذه الآيات مع عيسى أيضا ، ففيها سؤال من الله على مرأى من قومه توبيخا وتقريعا لهم على افترائهم ، وإجابة من عيسى عن ذلك فيها تنصل من ذلك الذنب العظيم الذي اقترفوه بعده وهو القول بالتثليث ، ثم إخبار من الله بما ينجّى الإنسان من عذاب يوم القيامة ، مع بيان أن ما فى السموات والأرض كله مملوك له وفى قبضته يتصرف فيه بعدله وحكمته وهو القادر على كل شىء لا شريك له يمنعه إن أعطى ، أو يلزمه بالإعطاء إن منع.

الإيضاح

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؟) الخطاب فى هذه الآية للنبى صلى الله عليه وسلم ، أي واذكر أيها الرسول للناس يوم يجمع الله الرسل فيسألهم جميعا عما أجابت به أممهم ، حين يقول لعيسى اذكر نعمتى عليك وعلى والدتك ... وحين يقول له بعد ذلك : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين؟ أي يسأله أقالوا هذا القول بأمر منك أم هم افتروه وابتدعوه من عند أنفسهم؟

ومعنى قوله من دون الله أي متجاوزين بذلك توحيد الله وإفراده بالعبادة ، وذلك إما أن يكون باتخاذ إله أو أكثر مع الله تعالى وهو الشرك ، إذ عبادة الشريك المتخذ غير عبادة الله خالق السموات والأرض ، سواء اعتقد المشرك أن هذا الشريك ينفع ويضر استقلالا ، أو اعتقد أنه ينفع ويضر بإقدار الله إياه وتفويضه بعض الأمر إليه فيما وراء الأسباب أو بالوساطة عند الله أي بما له من التأثير والكرامة على النفع والضر وهذا هو الأكثر الذي كان عليه مشركو العرب عند البعثة ، كما حكاه الله عنهم فى قوله : «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ» وقوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى)».

٦١

وقل أن يوجد من المشركين من يتخذ إلها غير الله متجاوزا بعبادته الإيمان با لله الذي هو خالق الكون ومدبره ؛ فالإيمان الفطري الذي غرس فى نفوس البشر يرشد إلى أن تدبير الكون كله صادر عن قوة غيبية لا يدرك كنهها أحد ، فالموحدون أتباع الأنبياء يتوجهون بعباداتهم إلى رب هذه السلطة الغيبية وحده اعتقادا منهم أنه هو الفاعل الكامل التصرف ، وإن نسب الفعل إلى غيره فبإقدار الله إياه وتسخيره له بمقتضى سننه فى خلقه ، والمشركون يتوجهون إليه تارة وإلى بعض ما يستكبرون من خلقه تارة أخرى كالشمس والنجم والملائكة وبعض مخلوقات أخرى ، ويتوجهون أحيانا إليهما معا فيجعلون تلك المخلوقات المعظمة وسيلة إلى خالق الأكوان ومدبر الكائنات.

والخلاصة ـ إن اتخاذ إله من دون الله يراد به عبادة غيره سواء أكانت خالصة لغيره أو شركة بينه وبين غيره ولو بدعاء هذا الغير والتوجه إليه ليكون واسطة عنده.

وقد نعى الله عليهم اتخاذ المسيح إلها فى مواضع عدة من هذه السورة ، وعبادة أمه كانت معروفة فى الكنائس الشرقية والغربية ، ثم أنكرت عبادتها فرقة البر وتستانس (إصلاح المسيحية) التي جاءت بعد الإسلام بزمن طويل.

وهذه العبادة منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء على المعبود ، ومنها ما هو استغاثة واستشفاع ، ومنها ما هو صيام ينسب إليها ويسمى بصيام العذراء ، وكل أولئك يقترن بخشوع وخضوع لذكرها ولصورها وتماثيلها واعتقاد السلطة الغيبية لها وأنها تنفع وتضر فى الدنيا والآخرة إما بنفسها أو بواسطة ابنها ويسمونها (والدة الإله).

والآية ترشد إلى أنهم اتخذوها هى وابنها إلهين (والاتخاذ غير التسمية) فيصدق بالعبادة وهى واقعة حتما.

(قالَ سُبْحانَكَ) التسبيح تنزيه الله تعالى عما لا يليق به ، وأصل الكلمة من السبح والسباحة ، وهى الذهاب السريع البعيد فى البحر أو البر ومنه فرس سبوح.

أي أنزهك يا الله عن أن يكون معك إله آخر ، وبذا أثبت له التنزيه عن المشاركة فى الذات والصفات.

٦٢

ثم انتقل من هذا إلى تبرئة نفسه العالمة بالحق عن قول ما ليس بحق فقال :

(ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) أي ليس من شأنى ولا مما يصح أن يقع منى أن أقول قولا لا حق لى أن أقوله ، لأنك أيدتنى بالعصمة عن مثل هذا القول الباطل.

وهو بتنزيهه الله أوّلا أثبت أن ذلك القول الذي نسب إليه قول لا شائبة فيه من الحق وليس من شأنه ولا مما يقع من مثله.

وقد أكد هذا النفي مرة أخرى بحجة أخرى ارتقى فيها من برهان راجع إلى نفسه وهو عصمته عليه السلام إلى برهان أعلى راجع إلى ربه علام الغيوب فقال :

(إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ، تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي إن ذلك القول إن كان قد صدر منى فقد علمته ، إذ علمك واسع محيط بكل شىء ، فأنت تعلم ما أسره وأخفيه فى نفسى فكيف لا تعلم ما أظهرته ودعوت إليه وعلمه منى غيرى؟

كما أنى لا أعلم ما تخفيه من علومك الذاتية التي لا ترشدنى إليها بالكسب والاستدلال ، لكنى أعلم ما تظهره لى بالوحى بواسطة ملائكتك المقربين إليك.

(إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي لأنك أنت المحيط بالعلوم الغيبية وحدك ، ما كان منها وما سيكون وما هو كائن ، وعلم غيرك مستمد من فيضك لا من ذاته ، فهو إما أن يناله بواسطة المشاعر والحواس أو العقل ، وإما أن يتلقاه هبة منك بالوحى والإلهام.

وبعد تنزيه ربه وتبرئة نفسه وإقامة البراهين على ذلك ـ بين حقيقة ما قاله لقومه ، إذ الشهادة عليهم لا تكون تامة كاملة إلا بإثبات ما يجب أن يكونوا عليه من أمر التوحيد بعد نفى ضده ، فقال :

(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ ـ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي إنى ما قلت لهم فى شأن الإيمان وأساس الدين إلا ما أمرتنى بالتزامه اعتقادا وتبليغا لهم ، بأنك ربى وربهم وأننى عبد من عبادك مثلهم إلا أنك خصصتنى بالرسالة إليهم.

٦٣

(وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) أي وكنت قائما عليهم أراقبهم وأشهد على ما يقولون وما يفعلون ، فأقر الحق وأنكر الباطل مدة وجودى بينهم.

(فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي فلما قبضتنى إليك كنت أنت الحفيظ عليهم دونى ، لأنى إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم ، وأنت تشهد على كل شىء إذ لا يخفى عليك شىء.

وفى هذا إيماء إلى أن الله إنما عرّفه أفعال القوم ومقالتهم بعد ما قبضه إليه بقوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ).

وقد تقدم فى هذه السورة ما يثبت براءة عيسى عليه السلام من مثل هذه المقالة ، وذلك قوله : «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ، وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ».

وجاء فى إنجيل يوحنا (وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته).

ثم فوّض عليه السلام أمر الجزاء إليه تعالى فقال :

(إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن نغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) أي إن تعذب من أرسلتنى إليهم فبلّغتهم ما أمرتنى به من توحيدك وعبادتك فضلّ منهم من ضل وقالوا مالم أقله ، واهتدى منهم من اهتدى فلم يعبدوا معك سواك ، فإنهم عبادك وأنت الرحيم بهم ، ولست أنا ولا غيرى من الخلق بأرحم بهم منك ، وإنما تجزيهم بحسب علمك بما يظهرون وما يبطنون ، فأنت العليم بالمؤمن المخلص فى إيمانه ، وبمن أشرك بك غيرك أو بمن أطاعك وبمن عصاك وأنت عالم الغيب والشهادة تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون.

٦٤

وإن تغفر فإنما تغفر لمن يستحق المغفرة ، وإنك أنت العزيز الغالب على أمره ، الحكيم فى تصرفه وصنعه ، فيضع كل جزاء وكل فعل فى موضعه.

وخلاصة المعنى ـ إنك إن تعذب فإنما تعذب من يستحق التعذيب ، وإن تغفر فإنما تغفر لمن هو أهل لذلك ، ومهما توقعه فيهم من عذاب فلا دافع له من دونك ، ومهما تمنحهم من مغفرة فلا يستطيع أحد حرمانهم منها بحوله وقوته ، لأنك أنت العزيز الذي يغلب ولا يغلب ، ويمنع من شاء ما شاء ولا يمنع ، وأنت الحكيم الذي تضع كل شىء موضعه ، فلا يمكن أحدا غيرك أن يرجعك عنه.

ومن هذا تعلم أن كلام عيسى عليه السلام لا يتضمن شيئا من الشفاعة لقومه ، ومما يؤيد هذا ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى فى إبراهيم صلى الله عليه وسلم : «رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي» الآية ، وقول عيسى عليه السلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فرفع يديه إلى السماء وقال : «اللهم أمتى أمتى ، وبكى ، فقال الله عزّ وجل : يا جبريل اذهب إلى محمد ـ وربك أعلم ـ فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال ـ وهو أعلم ـ فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك فى أمتك ولا نسوءك» ، وما رواه البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ألا وإنه يجاء برجال من أمتى يوم القيامة فيؤخذ بهم ذات اليمين وذات الشمال فأقول : أصحابى ، فيقال : إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ ـ إلى قوله ـ الْحَكِيمُ) قال فيقال إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم» وما رواه أحمد والنسائي وابن مردويه «أنه صلى الله عليه وسلم قام بهذه الآية : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ

٦٥

عِبادُكَ) ... إلخ حتى أصبح يركع بها ويسجد فسأله أبوذر عن ذلك فقال : إنى سألت ربى الشفاعة فأعطانيها وهى نائلة إن شاء الله من لا يشرك با لله شيئا».

فهذه الأحاديث صريحة فى أن الشفاعة لا ينالها أحد يشرك با لله شيئا.

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) أي قال الله تعالى : إن هذا اليوم هو اليوم الذي ينفع فيه الصادقين صدقهم فى إيمانهم وفى شهاداتهم وفى سائر أقوالهم وأحوالهم.

ثم بين هذا النفع فقال :

(لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي للصادقين جنات تجرى من تحتها الأنهار فى الآخرة ثوابا من عند الله ، ورضي الله عنهم ورضوا عنه ، وهذا غاية السعادة الأبدية ، إذ لا مطلب لهم أعلى منه حتى تمتد أعناقهم إليه وتتطلع نفوسهم لبلوغه كما قال تعالى «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ».

وقوله ذلك الفوز العظيم ، أي ذلك الذي ذكر من النعيمين الجثمانى والروحاني اللذين يحصلون عليهما بعد النجاة من أهوال يوم القيامة هو الفوز البالغ الغاية ، لأن الفوز هو الظفر بالمطلوب مع النجاة من ضده أو مما يحول دونه كما قال تعالى : «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» وبعد أن بين ما لأهل الصدق عنده من الجزاء الحق فى مقعد الصدق ، بين عقبه سعة ملكه وعموم قدرته الدالين على كون ذلك الجزاء لا يقدر عليه غيره فقال :

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن الملك كله والقدرة كلها لله وحده ، وفى قوله : وما فيهن ، تعريض بأن المسيح وأمه اللذين عبدا من دون الله داخلان تحت قبضته تعالى ، إذ الملك والقدرة له وحده فلا ينبغى لأحد أن يتكل على شفاعتهما «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» وغاية ما أعطاهم الكرامة لديه والمنزلة الرفيعة من بين عباده «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ

٦٦

بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ».

«سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين» «إلمامة بما تضمنته السورة من التشريع والأحكام الاعتقادية والعملية»

أهم الأصول التي انفردت بها هذه السورة :

(١) بيان أن الله أكمل هذا الدين الذي ارتضى لهم ، وأن دين الله واحد وإن اختلفت شرائع الأنبياء ومناهجهم ، وأن هذا الدين مبنى على العلم اليقيني فى الاعتقاد والهداية فى الأخلاق والأعمال ، وأن التقليد فيه باطل لا يقبله الله ، وأن أصول الدين الإلهى على ألسنة الرسل كلهم هى الإيمان با لله واليوم الآخر والعمل الصالح ، فمن أقامها كما أمرت الرسل من أي ملة كاليهود والنصارى والصابئين فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

(٢) بيان عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالتبليغ العام ، وأنه لا يكلف إلا التبليغ فقط ، ومن حجج رسالته أنه بيّن لأهل الكتاب كثيرا مما كانوا يخفون من كتبهم مما ضاع قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومما كانوا يكتمونه من الأحكام اتباعا لأهوائهم ، وأن هذا الرسول قد عصمه الله وحفظه من أن يضره أحد أو يصده عن تبليغ رسالة ربه ، وأننا نهينا عن سؤاله عن أشياء من شأنها أن تسوء المؤمنين إذا أبديت لهم لما فيها من زيادة لتكاليف.

(٣) بيان أن الله أوجب على المؤمنين إصلاح أنفسهم أفراد وجماعات ، وأنه لا يضرهم من ضل إذا هم استقاموا على صراط الهداية ، فهو لا يضرهم لا فى دنيا ولا دين ، ومن ذلك الوفاء بالعقود التي يتعاقدون عليها فى جميع المعاملات الدنيوية ، وتحريم الاعتداء على قوم بسبب بغضهم وعداوتهم ، والتعاون على البر والتقوى كتأليف

٦٧

الجماعات العلمية والخيرية وتحريم التعاون على الإثم والعدوان ، وتحريم موالاة المؤمنين للكافرين وبيان أن ذلك من آيات النفاق.

(٤) تفصيل أحكام الطعام حلاله وحرامه ، وبيان أن التحريم منه إما ذاتى كالميتة وما فى معناها ، وإما لسبب دينى كالذى يذبح للأصنام ، وبيان أن الضرورات تبيح المحظورات.

(٥) تحريم الخمر وكل مسكر ، والميسر وهو القمار وما فى حكمه (كالمضاربات فى البورصة).

(٦) وجوب الشهادة بالقسط والحكم بالعدل والمساواة بين غير المسلمين والمسلمين ولو للأعداء على الأصدقاء وتأكيد وجوب ذلك فى سائر الأحكام.

(٧) بيان تفويض أمر الجزاء فى الآخرة إلى الله وحده ، وأن النافع فى ذلك اليوم هو الصدق.

وكان مسك ختامها ذكر الجزاء فى الآخرة بما يناسب أحكامها كلها ، وقد روى أحمد والنسائي والحاكم وصححه ، والبيهقي عن جبير بن نفير قال : حججت فدخلت على عائشة فقالت يا جبير تقرأ المائدة؟ قلت نعم ، فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه. وروى أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمر قال : آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح.

٦٨

سورة الأنعام

آيها خمس وستون ومائة ، نزلت بعد الحجر

وهى مكية إلا الآيات ٢٠ ، ٢٣ ، ٩١ ، ٩٣ ، ١١٤ ، ١٤١ ، ١٥١ ، ١٥٢ ، ١٥٣ وقد روى كثير من المحدّثين عن غير واحد من الصحابة والتابعين أن هذه السورة نزلت جملة واحدة.

مناسبة هذه السورة لما قبلها

الناظر إلى ترتيب السور كلها فى المصحف يرى أنه قد روعى فى ترتيبها الطول والتوسط والقصر فى الجملة ، ليكون ذلك أعون على التلاوة وأسهل فى الحفظ ؛ فالناس يبدءون بقراءته من أوله فيكون الانتقال من السبع الطوال إلى المئين فالمثانى فالمفصل أنفى للملل وأدعى إلى النشاط ، ويبدءون بحفظه من آخره لأن ذلك أسهل على الأطفال ولأنه قد روعى التناسب فى معانى السور مع التناسب فى مقدار الطول والقصر.

ووجه مناسبتها لآخر سورة المائدة من وجوه عدة :

(١) إن معظم سورة المائدة فى محاجة أهل الكتاب ، ومعظم سورة الأنعام.

(٢) إن سورة الأنعام قد ذكرت فيها أحكام الأطعمة المحرمة والذبائح بالإجمال ، وذكرت فى المائدة بالتفصيل وهى قد نزلت أخيرا.

(٣) إن هذه افتتحت بالحمد وتلك اختتمت بفصل القضاء وبينهما تلازم كما قال : «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ، وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».

٦٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣))

تفسير المفردات

الحمد : هو الثناء الحسن والذكر الجميل ، والظلمة : الحال التي يكون عليها كل مكان لا نور فيه ، والنور قسمان : حسى وهو ما يدرك بالبصر ، ومعنوى عقلى يدرك بالبصيرة ، والجعل : هو الإنشاء والإبداع كالخلق ، إلا أن الجعل مختص بالإنشاء التكويني كما فى هذه الآية ، والتشريعي كما فى قوله : «ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ» الآية ، والخلق عام.

ولم يذكر النور فى القرآن إلا مفردا والظلمة إلا جمعا ، لأن النور واحد وإن تعددت مصادره ، والظلمة تحدث مما يحجب النور من الأجسام غير النيرة وهى كثيرة ؛ وكذلك النور المعنوي شىء واحد ، والظلمات متعددة فالحق واحد لا يتعدد والباطل الذي يقابله كثير ، والهوى واحد والضلال المقابل له كثير ، فالتوحيد يقابله التعطيل ، والشرك فى الألوهية بأنواعه والشرك فى الربوبية بضروبه المختلفة.

وقدمت الظلمات فى الذكر على النور لأن جنسها مقدم فى الوجود فقد وجدت مادة الكون وكانت دخانا مظلما أو سديما كما يقول علماء الفلك ، ثم تكونت الشموس بما حدث فيها من الاشتعال لشدة الحركة ، وإلى هذا يشير حديث عبد الله

٧٠

ابن عمرو عند أحمد والترمذي «إن الله خلق الخلق فى ظلمة ، ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه نوره اهتدى ، ومن أخطأه ضل».

وكذلك الظلمات المعنوية أسبق وجودا ، فإن نور العلم والهداية كسبى فى البشر ، وغير الكسبي منه كالوحى ، فتلقيه كسبى ، وفهمه والعمل به كسبيان أيضا ، وظلمات الجهل والأهواء سابقة على هذا النور «وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

ويعدلون أي يعدلون به غيره ، أي يجعلون عديلا مساويا له فى العبادة والدعوة لكشف الضر وجلب النفع ، فهو بمعنى يشركون به ويتخذون له أندادا ، والأجل هو المدة المضروبة للشىء أي المقدار المحدود من الزمان وقضاء الأجل : تارة يطلق على الحكم به ، وضربه للشىء كما قضى شعيب عليه السلام أجلا لخدمة موسى له ثمانى سنوات وأجلا اختيار يا سنتين ، ويطلق أخرى على القيام بالشيء وفعله كما قال : «فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ» الآية ، وتمترون أي تشكّون فى البعث.

الإيضاح

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) أي الحمد والشكر للذى خلقكم وخلق السموات والأرض فهو المستوجب للحمد بنعمه عليكم ، لا من تعبدون من دونه وتجعلونه له شريكا من خلقه.

والمراد بالسماوات والأرض : العوالم العلوية التي يرى كثير منها فوقنا وهذا العالم الذي نعيش فيه.

وكذلك الذي أوجد الظلمات والنور. واختلف العلماء فى المراد منهما ، فمن قائل إن المقصود منهما ظلمة الليل ونور النهار وإلى هذا جنح ابن جرير وابن أبي حاتم عن

٧١

السدى ، وفى ذلك رد على المجوس (الثّنويّة) الذين زعموا أن للعالم وبين أحدهما النور وهو الخالق للخير ، والثاني الظلمة وهو الخالق للشر ، ومن قائل إن المراد منهما الكفر والإيمان وروى هذا عن ابن عباس.

(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي ثم إنهم مع ذلك يعدلون به سواه ، ويسوونه به فى العبادة التي هى أقصى غاية الشكر ، ويدعونه لكشف الضر وجلب النفع ، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.

وبعد أن وصف الخالق تعالى بما دل على توحيده واستحقاقه للحمد ـ انتقل إلى خطاب المشركين الذين عدلوا به غيره فى العبادة مذكّرا لهم بدلائل التوحيدوالبعث فقال :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) أي هو الذي خلقكم من الطين (التراب الذي يخالطه ماء) فقد خلق أباكم آدم من الطين كما خلق سائر الأحياء التي فى هذه الأرض بل خلق كل فرد من أفراد البشر من سلالة من طين ، فإن بنية الإنسان مكونة من الغذاء ومن ذلك البويضات التي فى الأنثى والحيوان المنوىّ الذي فى الذكر فكلها مكونة من الدم ، والدم من الغذاء ، والغداء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان المتولدة من النبات فالمرجع إلى النبات من الطين ، والناظر فى كل هذا يعلم جليا أن القادر على كل هذا لا يعجزه أن يعيد هذا الخلق كما بدأه عند انقضاء آجاله التي قضاها له فى أجل آخر يضر به لهذه الإعادة بحسب علمه وحكمته.

والآية ترشد إلى أنه تعالى قضى لعباده أجلين أجلا لحياة كل فرد منهم ينتهى بموته ، وأجلا لإعادتهم وبعثهم بعد موت الجميع وانقضاء عمر الدنيا.

ومعنى كونه مسمى عنده : أنه لا يعلمه غيره ، لأنه لم يطلع أحدا على يوم القيامة لا ملكا مقرّبا ولا نبيا مرسلا.

٧٢

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) أي إنه تعالى هو المتصف بهذه الصفات المعروفة المعترف له بها فى السموات والأرض ، ونظير هذا أن تقول إن حاتما هو حاتم فى طيىء وفى جميع القبائل ، أي هو المعروف بالجود المشهور به فى قومه وفى غيرهم.

(يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) هذا تقرير وتوكيد لما قبله ، لأن الذي يستوى فى علمه السر والعلانية هو الله وحده.

(وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) من الخير والشر فيحصى ذلك عليكم ليجازيكم به عند معادكم إليه.

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦))

تفسير المفردات

الآيات هنا : آيات القرآن المرشدة إلى آيات الأكوان والمثبتة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والإعراض : التولي عن الشيء ، والحق : هو دين الله الذي جاءهم به خاتم رسله من عقائد وعبادات ومعاملات وآداب ، والأنباء : ما فى القرآن من وعد بنصر الله لرسله وإظهار لدينه. ووعيد لأعدائه بخذلانهم فى الدنيا وعذابهم فى الآخرة ، والقرن من الناس : القوم المقترنون فى زمن واحد وجمعه قرون ، وقد جاء فى القرآن مفردا وجمعا

٧٣

ومكنه فى الأرض أو فى الشيء : جعله متمكنا من التصرف فيه ، ومكن له : أعطاه أسباب التمكن فى الأرض كقوله : «وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ» وقوله : «أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً؟» والسماء : المطر والمدرار : الغزير.

المعنى الجملي

بعد أن أرشد سبحانه فى الآيات السالفة إلى دلائل وحدانيته ، ودل على أنها مع ظهورها لم تمنع الكافرين من الشك ، وإلى دلائل البعث ، وأنها على شدة وضوخها لم تمنع المشركين من الشك والريب ، وإلى أن الله المتصف بتلك الصفات التي تعرفونها هو الله المحيط علمه بما فى السموات والأرض فلا ينبغى أن يشرك به غيره فيهما ، ولكن المشركين جهلوا ذلك وجوّزوا أن يكون غير الرب إلها ، بل عبدوا معه آلهة أخرى.

ذكر هنا سبب عدم اهتدائهم بالوحى ، وأنذرهم عاقبة التكذيب بالحق ولفت أنظارهم إلى ما حلّ بالأمم قبلهم حين كذبوا رسلهم لعلهم يرعوون عن غيهم ويثوبون إلى رشدهم.

الإيضاح

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي وما تنزل عليهم آية من آيات القرآن التي من جملتها تلك الآيات الناطقة بتفصيل بدائع صنع الله المنبعثة بجريان أحكام ألوهيته على جميع الكائنات ـ إلا أعرضوا عنها استهزاء وتكذيبا غير متدبرين معناها ، ولا ناظرين فى دلالتها.

ولما بين سبحانه أن شأنهم الإعراض عن الآيات المنزلة رتّب عليه قوله :

(فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) أي فبسبب ذلك الإعراض العام عن النظر فى الآيات كذبوا بالحق الذي جاءهم حين جاءهم ولم يترّيثوا ولم يتأملوا ، لأنهم سدوا على أنفسهم مسالك العلم.

٧٤

وهذا الحق الذي كذبوا به هو الدين الذي جاء به خاتم أنبيائه بما اشتمل عليه من آداب وأخلاق وعبادات ومعاملات ، إلى نحو أولئك مما فيه سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم.

ثم هددهم وتوعدهم على تكذيبهم فقال :

(فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) النبأ : الخبر العظيم أي فستكون عاقبة التكذيب أن تحلّ بهم العقوبات العاجلة التي نطقت بها الآيات وعيدا لهم من القتل والسبي والجلاء عن البلاد ووعدا لرسوله من النصر له وإظهار دينه على الدين كله.

وقد أتاهم ذلك فكان منه ما نزل بهم من القحط ، ومن الخذلان يوم بدر ، ثم تم ذلك يوم الفتح.

وبعد أن توعدهم سبحانه بنزول العذاب بهم بيّن أن هذا مما جرت به سنته فى المكذبين قبلهم فقال :

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ؟) أي ألم يعلم هؤلاء الكفار المكذبون بالحق أنا أهلكنا كثيرا من الأقوام الذين كذبوا الرسل قبلهم بعد أن أعطيناهم من التمكين والاستقلال فى الأرض وأسباب التصرف فيها ما لم نعطهم مثله ، ثم لم تكن تلك النعم بمانعة لهم من عذابنا لما استحقوه بذنوبهم وعتوهم واستكبارهم.

وذكر بعد هذا ما امتازت به تلك القرون عن كفار قريش من النعم الإلهية التي اقتضتها طبيعة بلادهم وخصب تربتها فقال :

(وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً ، وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) الإرسال تارة يكون ببعث من له اختيار كإرسال الرسل ، وتارة بالتسخير كإرسال الريح والمطر ، وتارة بترك المنع نحو «أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ» أي وسخرنا لهم الأمطار الغزيرة التي تكوّن الأنهار المترعة بالمياه ، وهديناهم إلى الاستمتاع بها بجعلها تجرى دائما تحت مساكنهم التي يبنونها على ضفافها ، أو فى الجنات والحدائق التي تتفجر خلالها

٧٥

فيتمتعون بالنظر إلى جمالها واستنبات الأشجار والثمار التي يأكلونها ، ويولدون النّعم والماشية التي تتغذى من مراعيها.

والخلاصة ـ إنهم أوتوا من البسطة فى الأجسام ، والامتداد فى الأعمال ، والسعة فى الأموال ، والاستمتاع بلذات الدنيا ما لم يؤته أهل مكة ، ولكن ذلك لم يغن عنهم شيئا فكفروا بأنعم الله ولم يؤمنوا بما جاءهم به أنبياؤهم ، بل كذبوهم فاستحقوا العقاب وإلى ذلك أشار بقوله :

(فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أي فكان عاقبة أمرهم أن أهلكنا كل قرن منهم بسبب ذنوبهم التي كانوا يجترحونها ، وأوجدنا من كل منهم قرنا آخر يعمرون البلاد ويكونون أجدر بشكران النعمة.

والذنوب التي تدعو إلى الهلاك ضربان :

(١) معاندة الرسل والاستكبار والعتوّ والتكذيب.

(٢) كفران النعم بالبطر وغمط الحق وظلم الضعفاء ومحاباة الأقوياء والإسراف فى الفسق والفجور والغرور بالغنى والثروة ، كما جاء فى قوله : «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها ، فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ. وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ».

وفى هذه الآية رد على كفار مكة وهدم لغرورهم بقوتهم وثروتهم بإزاء ضعف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفقرهم كما حكى الله عنهم فى قوله : «وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ».

وهؤلاء القوم الذين يخلفون من نزل بهم عذاب الله لا بد أن يخلفوا عنهم فى صفاتهم وإن كانوا من أبناء جنسهم ، فالعبر والحوادث واختلاف الزمن لها تأثير

٧٦

كبير فى النفوس تخفف من غلواء الناس وتقلل من بطشهم وعتوهم ، وفى المشاهدة أكبر دليل على صحة ذلك.

انظر إلى ما فعلته الحرب العظمى الثانية فى نفوس الشعوب فى الشرق والغرب ، فإنه قد نشأ بعدها جيل أقل بطرا وانغماسا فى الشهوة والترف وما ينشأ عنهما من الفسق والفجور من سابقه ، وكذلك فى حسن معاملة الناس بعضهم لبعض وحفظ الحقوق والمساواة فيها.

ولا يعلم إلا الله ما ستنتهى إليه تلك الحرب الضروس الدائرة رحاها الآن ولا ما ستتمخض عنه من الحوادث الجسام فى مستقبل الأمم والشعوب ، ولا ما سيكون لها من التأثير فى النظم الاجتماعية والاقتصادية والصلات والروابط بين بعض الأمم وبعض.

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩))

تفسير المفردات

الكتاب : الصحيفة المكتوبة ومجموعه الصحف فى غرض واحد ، والقرطاس (مثلث القاف) الورق الذي يكتب فيه ، واللمس كالمس : إدراك الشيء بظاهر البشر وقد يستعمل بمعنى طلب الشيء والبحث عنه ، ويقال لمسه والتمسه وتلمسه ، ومنه «أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ» وسحر : أي خداع وتمويه يرى ما لا حقيقة له فى صورة الحقائق ، لقضى الأمر أي لتم أمر هلاكهم ، لا ينظرون أي لا يمهلون ، اللبس : الستر والتغطية

٧٧

يقال لبس الثوب يلبسه (بكسر الباء فى الأول وفتحها فى الثاني) ولبس الحق بالباطل يلبسه (بفتح الباء فى الأول وكسرها فى الثاني) بمعنى ستره به ، أي جعله مكانه ليظن أنه الحق ، ولبست عليه أمره أي جعلته بحيث يلتبس عليه فلا يعرفه.

المعنى الجملي

بعد أن أرشد سبحانه فى الآيات المتقدمة إلى ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد والبعث ، ثم ذكر بعدها الأسباب التي دعت قريشا إلى التكذيب ، وأنذرهم عاقبة هذا التكذيب بما يحلّ بهم من عذاب الله فى الدنيا والآخرة ، وأنه لا يحول دونه ما هم فيه من قوة وضعف الرسول صلى الله عليه وتمكنهم فى مكة وهى أم القرى ، وأهلها القدوة والسادة بين العرب.

ذكر هنا شبهات أولئك الجاحدين المعاندين على الوحى وبعثة الرسول ، وبهاتم بيان أسباب جحودهم وإنكارهم لأصول الدين الثلاثة (التوحيد والبعث ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم).

روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق سبب نزول الآية الثانية قال «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم ، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبيّ بن خلف والعاصي بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدّث عنك الناس ويرى معك ـ فأنزل الله في ذلك : ـ وقالوا لو لا أنزل عليه ملك».

ورجح بعضهم أن هذا السبب لا يصح فى هذه الآية ، لأن اقتراح المعاندين من المشركين إنزال الملك مع الرسول مذكور فى سور من القرآن أنزلت قبل هذه السورة فما فيها إنما هورد على شبهة سبقت وحكيت عنهم ، وكذلك اقتراح إنزال كتاب من السماء وإنزال القرآن جملة واحدة مذكور فى سورة الفرقان.

٧٨

الإيضاح

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعجب من كفر قومه به وبما أنزل عليه مع وضوح برهانه وإظهار إعجازه ؛ وكان يضيق صدره لذلك ويبلغ منه الحزن والأسف كل مبلغ كما قال فى سورة هود «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ».

فبين الله أسباب ذلك ومناشئه من طباع البشر وأخلاقهم ، ليعلم أن الحجة مهما تكن ناهضة فإنها لا تجدى إلا عند من كان مستعدا لها وزالت عنه موانع الكبر والعناد ، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة :

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي إن علة تكذيبهم بالحق هى إعراضهم عن الآيات وإقفال باب النظر والاستدلال لإخفاء الآيات فى أنفسها وقوة الشبهات التي تحوم حولها ، فلو أننا نزلنا عليك كتابا من السماء فى قرطاس فرأوه نازلا فيها بأعينهم ولمسوه عند وصوله إلى الأرض بأيديهم لقال الذين كفروا منهم : ما هذا الذي رأيناه ولمسناه إلا سحر بيّن فى نفسه ، وإنما خيل إلينا أننا رأينا كتابا ولمسناه ، وما ثمّ كتاب نزل ولا قرطاس رئى ولا لمس ، وتلك مقالة أمثالهم فى آيات الأنبياء من قبل ، ولن تجد لسنة الله تبديلا ...

وإنما قال لمسوه بأيديهم ، ليبين أن المراد باللمس المعنى الأول لا الثاني الذي بيناه فيما سلف ، ومن ثمّ قال قتادة : فعاينوه ومسّوه بأيديهم. وقال مجاهد فمسّوه ونظروا إليه ؛ واللمس أقوى اليقينيات الحسية وأبعدها عن الخداع ، لأن البصر يخدع بالتخيل ، وجاء فى سورة الحجر : «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ [حبست ومنعت] أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ».

٧٩

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) كان لكفار مكة اقتراحان تقدموا بهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فى مواطن مختلفة :

(١) أن ينزل على الرسول ملك من السماء يكون معه نذيرا يرونه ويسمعون كلامه ، وإلى هذا تشير الآية.

(٢) ينزل الملك عليهم بالرسالة من ربهم.

والاقتراح الأول مبنى على اعتقاد أن أرقى البشر عقلا وأخلاقا وآدابا وهم الرسل عليهم السلام ليسوا بأهل لأن يكونوا رسلا بين الله وبين عباده ، لأنهم بشر يأكلون ويشربون كما جاء فى سورة المؤمنون «وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا : ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ. وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» :

وقد رد الله تعالى الاقتراحين من وجهين :

(١) (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي ولو أنزلنا ملكا كما اقترحوا لقضى الأمر بإهلاكهم ثم لا يؤخرون ولا يمهلون ليؤمنوا ، بل يأخذهم العذاب عاجلا كما مضت به سنة الله فيمن قبلهم ، قال ابن عباس : ولو أتاهم ملك فى صورته لأهلكناهم ثم لا يؤخرون.

(٢) (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) أي ولو جعل الرسول ملكا لجعل متمثلا فى صورة بشر ليمكنهم رؤيته وسماع كلامه الذي يبلّغه عن ربه ، ولو جعله ملكا فى صورة بشر لاعتقدوا أنه بشر لأنهم لا يدركون منه إلا صورته وصفاته البشرية التي تمثّل بها ، وحينئذ يقعون فى نفس اللبس والاشتباه الذي يلبسون على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشرا ، ولا ينفكون يقترحون جعله ملكا

٨٠