تفسير المراغي - ج ٧

أحمد مصطفى المراغي

(وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي ولكن ليعرضوا عنهم ذكرى لأمر الله ، لعلهم يتقون فيتجنبوا الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم.

وبعد أن أمر رسوله بالإعراض عمن اتخذ آيات الله هزوا ـ أمره بترك المستهزئين بدينهم الذين غرتهم الحياة الدنيا فقال :

(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي ودع أيها الرسول ومن تبعك من المؤمنين هؤلاء المشركين الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا الفاتنة فآثروها على الحياة الباقية ، واشتغلوا بلذاتها الحقيرة الفانية المشوبة بالمنغصات ، عما جاءهم من الحق مؤيدا بالحجج والآيات ، فاستبدلوا الخوض فيها بما كان يجب من فقهها وتدبرها.

ونحو الآية قوله تعالى «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ»

واتخاذهم دينهم هزوا ولعبا ، أنهم لما عملوا ما لا يزكّى نفوسهم ، ولا يطهّر قلوبهم ولا يهذب أخلاقهم ولا يقع على وجه يرضى الله سبحانه ، ولا يعدّ للقائه فى دار الكرامة ، أضاعوا الوقت فيما لا يفيد وهذا هو اللعب ، أو شغلوا عن شئونهم وهمومهم الأخرى وهذا هو اللهو.

وخلاصة المعنى ـ أعرض عنهم ، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ، ولا تقم لعلمهم فى نظرك وزنا.

وبعد أن أمره بترك المستهزئين بدينهم أمره بالتذكير القرآن وتبليغ الرسالة فقال :

(وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) الضمير فى قوله «به» يعود إلى القرآن المعلوم بقرينة الحال ، لأنه هو الذكر الذي بعث به الرسول المذكر : أي وذكر الناس وعظهم بالقرآن اتقاء أن تبسل كل نفس فى الآخرة بما كسبت أي اتقاء حبسها أو رهنها فى العذاب ، وتفاديا من ذلك بما بينه الذكر الحكيم من أسباب النجاة والسعادة فى هذه الدار كما قال : «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ».

ثم وصف النفس المسلمة وعلل إبسالها فقال :

(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) أي والحال أنه ليس لها من غير الله ولىّ

١٦١

ولا ناصر ينصرها ولا شفيع لها عند الله كما قال «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ» وقال : «قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً» وقال : «وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ».

ثم أرشد إلى أنه لا ينفع فى الآخرة إلا صالح العمل لا الشفعاء والوسطاء فقال :

(وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) أي وإن تفد النفس المبسلة كل نوع من أنواع الفداء لا يؤخذ منها ولا يقبل ، والمراد أنه لا يقع الأخذ ولا يحصل.

وهذا كقوله فى سورة البقرة «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ، وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ».

والخلاصة ـ إن النفس المبسلة تمنع فى ذلك اليوم من أي وسيلة من وسائل النجاة ، فلا ولىّ ولا حميم ، ولا شفيع ، ولا فداء ، إلى نحو أولئك مما ربما نفع فى مقاصد الدنيا وأنجز بعض المنافع.

وفى هذا إبطال لأصل من أصول الوثنية وهو رجاء النجاة فى الآخرة كما هو الحال فى الدنيا بتقديم الفدية لله تعالى أو بشفاعة الشافعين ووساطة الوسطاء عنده تعالى ، وتقرير لأصل دينى وهو أن لا نجاة فى الآخرة ولا رضوان من الله ولا قرب منه إلا بالعمل بما شرعه على ألسنة رسله من إيمان به وعمل صالح يزكى النفس ويطهرها ، أما من دسّى نفسه وأبسله كسبه للسيئات والخطايا واتخذ دين الله هزوا ولعبا وغرته الحياة الدنيا فلا تنفعه شفاعة ولا تقبل منه فدية.

ثم بين أن هذا الإبسال كان بسوء صنيعهم فقال :

(أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) أي أولئك المتخذون دينهم هزوا ولعبا المغترون بالحياة الدنيا ، هم الذين حرموا الثواب ، وأسلموا للعذاب ، وحبسوا عن دار السعادة ، بسبب ما كسبوا من الأوزار والآثام حتى أحاطت بهم خطاياهم ، ولم يكن لهم من دينهم الذي اتخذوه زاجر ولا مانع يرشدهم إلى التحول عن تلك الأعمال القبيحة ، ويصدّهم عن العقائد الزائفة.

١٦٢

ثم بين سبحانه ما يكون من الجزاء حين أبسلوا فقال :

(لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي لهم شراب من ماء حميم : أي بالغ الغاية فى الشدة يتردد فى بطونهم وتنقطع به أمعاؤهم ، وعذاب شديد الألم بنار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم الذي ظلوا عليه طول حياتهم حتى صرفوا عما جعل وسيلة للنجاة لو اتبعوه.

والخلاصة ـ إن رسوخهم فى الكفر أفسد فطرتهم حتى لم يبق فيهم استعداد للحق والخير.

وفى ذلك عبرة لمن يفقه القرآن ولا يغتر بلقب الإسلام ، ويعلم أن المسلم من اتخذ القرآن إمامه وسنة الرسول طريقه ، لا من اغتر بالأمانى والأوهام ، ولا من ركن إلى شفاعة الشافعين ، والأولياء والناصرين.

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣))

تفسير المفردات

الأعقاب : واحدها عقب : وهو مؤخر الرجل ، وتقول العرب فيمن عجز بعد قدرة أو سفل بعد رفعة أو أحجم بعد إقدام على محمدة : نكص على عقبيه وارتد على عقبيه

١٦٣

ورجع القهقرى ، ثم صار يطلق على كل تحول مذموم ، واستهوته الشياطين. ذهبت بعقله وهواه ، وكانت العرب فى الجاهلية تزعم أن الجنون كله من تأثير الجن ، ومنه قولهم : جن فلان ، أي مسته الجن فذهبت بعقله ، وكانوا يقولون إن الجن تظهر لهم فى المهامة وتتلوّن لهم بألوان مختلفة ، فتذهب بلبّ من يراها فيهيم على وجهه لا يدرى أين يذهب حتى يهلك ، وهذه الشياطين التي تتلون هى التي يسمونها الغيلان والأغوال والسعالى ، وقوله حيران : أي تائها ضالا عن الجادة لا يدرى ما يصنع ، والصور فى اللغة : القرن وقد ثقب الناس قرون الوعول والظباء وغيرها فجعلوا منها أبواقا ينفخون فيها لها صوت شديد يدعى به الناس إلى الاجتماع ويعزفون بها كغيرها من آلات الطرب ، وقد جاء فى سفر الأيام الأول من كتب العهد العتيق : فكان جميع بنى إسرائيل يصعدون تابوت عهد الرب بهتاف وبصوت الأصوات والأبواق والصنوج ويصوّتون بالرّباب والعيدان.

الإيضاح

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ؟) أي قل أيها الرسول للآمرين لك باتباع دينهم وعبادة الأصنام معهم ، أندعو من دون الله حجرا أو شجرا لا يقدر على نفعنا أو ضرنا؟ فنخصّه بالعبادة دون الله وندع عبادة الذي بيده الضر والنفع والحياة والموت إن كنتم تعقلون فتميزون بين الخير والشر ولا شك أن خدمة ما يرتجى نفعه ويرهب ضرّه أحق وأولى من خدمة من لا يرجى منه شىء منهما ، ونرد على أعقابنا بالعودة إلى الضلال والشرك بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام.

والخلاصة ـ إن ذلك لا ينبغى ولا يكون للأسباب الآتية :

(١) إن هذا تحوّل وارتداد عن دعاء القادر الذي يكشف الضر إن شاء ويمنح الخير إن شاء ـ إلى دعاء العاجز الذي لا يقدر على نفع ولا ضر.

(٢) إنه نكوص على الأعقاب وتقهقر إلى الوراء.

(٣) إن من أنقذه الله القدير الرحيم من الضلالة بما أراه من آياته فى الأنفس والآفاق لا يقدر أحد أن يضله «وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ ، أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ؟».

١٦٤

ثم ضرب مثلا يصور المرتد فى أقبح حالة كانت تتخيلها العرب فقال :

(كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ ، لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا) أي أنرد على أعقابنا فيكون مثلنا فى ذلك مثل الرجل الذي استتبعه الشيطان يهوى فى الأرض حيران تائها؟ له أصحاب على المحجة واستقامة السبيل يدعونه إلى طريق الهدى الذي هم عليه ويقولون له ائتنا.

وخلاصة المثل ـ إن من يرتد مشركا بعد الإيمان كمن جعله العشق أو الجنون هائما على وجهه ، ضالا فى الفلوات حيران لا يهتدى ، تاركا رفاقه على الطريق المستقيم ينادونه : عد إلينا فلا يستجيب لهم لا نجذابه وراء ما تراءى له بغير عقل ولا بصيرة ، قال صاحب الكشاف : وهذا مبنى على ما كانت تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن تستهوى الإنسان والغيلان تستولى عليه كقوله : «كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ».

ثم أمره أن يرغب المشركين فيما يدعو إليه لا فيما يدعونه إليه فقال :

(قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) أي قل إن هدى الله الذي أنزل به آياته ، وأقام عليه حججه وبيناته ، هو الهدى الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لا ما تدعون إليه من أهوائكم اتباعا لما ألفيتم عليه آباءكم.

(وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي وأمرنا بأن نسلم لله رب العالمين فأسلمنا.

(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) أي وأمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة والتقوى ؛ وإقامة الصلاة : الإتيان بها على الوجه الذي شرعت لأجله وهى أن تزكى النفس بمناجاة الله وذكره وتنهى عن الفحشاء والمنكر ، والتقوى : اتقاء ما يترتب على مخالفة دين الله وشرعه وتنكبّ سننه فى خلقه من ضرر وفساد.

(وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي وهو الذي تجمعون وتساقون إلى لقائه يوم القيامة دون غيره ، فيحاسبكم على أعمالكم ويجازيكم عليها ، فليس من العقل. لا من الحكمة أن يعبد غيره أو يخاف ويرجى.

١٦٥

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي وهو الذي خلقهما خلقا متلبسا بالحق ، وهو أنه وفق سننه المطردة المشتملة على الحكم البالغة الدالة على وجوده ووحدانيته وقدرته البالغة ، ولم يخلقهما باطلا ولا عبثا فهو لا يترك الناس سدى ، بل يجزى كل نفس بما كسبت.

ونحو الآية قوله فى سورة آل عمران : «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً» وقوله : «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ».

(وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ. قَوْلُهُ الْحَقُّ) أي وقوله هو الحق الذي لا شك فيه يوم يقول للشىء كن فيكون وهو وقت إيجاد العالم وتكوينه ، فلا مردّ لأمره ولا تخلف لقضائه وحكمه ، ومن كان أمره التكويني مطاعا يكن أمره التكليفي كذلك واجب الطاعة بلا حرج فى النفس ولا ضيق منه ، فالخلق حق والأمر حق «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ»

(وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) أي وله الملك يوم الحشر يوم يبعث من فى القبور وينفخ فى الصور ، والأمر حينئذ له وحده ، ولا تملك نفس لنفس شيئا من خير أو شر ، أو نفع أو ضر ، فكيف يرضى لنفسه من يعرف هذه الحقائق ـ أن يدعو سواه ، ويتخذ له إلها غير الله ، ويرد على عقبيه ، ويرجع إلى أسوإ حاليه.

روى عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصور فقال : «هو قرن ينفخ فيه» وروى عن ابن مسعود أنه قال : «الصور كهيئة القرن ينفخ فيه»

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) قال الحسن : الشهادة ما قد رأيتم خلقه ، والغيب ما غاب عنكم مما لم تروه ، وقال ابن عباس : الغيب والشهادة السر والعلانية.

والمعنى ـ إن الذي خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق ، والذي قوله الحق تكوينا وتكليفا ، والذي له الملك وحده يوم يحشر الخلائق ـ هو عالم الغيب والشهادة ، وهو الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها ، وهو الخبير بدقائقها وخفاياها ، ولا يشذ عن علمه شىء منها ، فلا ينبغى لعاقل أن يدعو غيره معه كما قال : «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً» وقال «بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ».

١٦٦

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩))

تفسير المفردات

إبراهيم اسم خليل الرحمن أبي الأنبياء الأكبر من بعد نوح ، وهو العاشر من أولاد سام كما فى سفر التكوين ، ولد فى بلدة (أور) أي النور من بلاد الكلدان ، وهى المعروفة الآن باسم (أورفا) فى ولاية حلب كما يرجح ذلك بعض المؤرخين.

وفى سفر التكوين ـ إن الله تعالى ظهر له فى سن التاسعة والتسعين من عمره وكلمه وجدد عهده له بأن يكثر نسله ويعطيه أرض كنعان (فلسطين) ملكا له وسماه لذريته ا ه.

ومعنى إبراهيم أبو الجمهور العظيم : أي أبو الأمة وهو تبشير من الله له بتكثير نسله من ولديه إسماعيل وإسحاق عليهما السلام.

وقد أثبت علماء الآثار أن عرب الجزيرة استعمروا منذ فجر التاريخ بلاد الكلدان ومصر وغلبت لغتهم فيهما.

ونقل بعض المؤرخين أن الملك حمورابى الذي كان معاصر الإبراهيم عليه السلام عربى.

وقد أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل مع أمه هاجر المصرية فى الوادي الذي بنيت فيه

١٦٧

مكة وأن الله سخر لهما جماعة من جرهم سكنوا معهما هناك.

وأبو إبراهيم سماه الله آزر ، وفى سفر التكوين اسمه تارح ، ومعناه متكاسل ، وقال البخاري فى تاريخه إبراهيم بن آزر وهو فى التوراة تارح والله سماه آزر ا ه.

وجزم الضحاك وابن جرير أن اسمه آزر ، والضلال : العدول عن الطريق الموصل إلى الغاية التي يطلبها العاقل من سيره الحسى والمعنوي ، وملك الله وملكوته : سلطانه وعظمته ، وجنه الليل وأجنه ستره ، والكوكب والكوكبة : واحد الكواكب ، وهى النجوم ، ربى أي مولاى ومدبر أمرى ، الأفول : غيبوبة الشيء بعد ظهوره ، وبزوغ القمر ابتداء طلوعه ، وتوجيه الوجه لله تعالى تركه يتوجه إليه وحده فى طلب حاجته وإخلاص عبوديته ، وفطر السموات والأرض : أخرجهما إلى الوجود لا على مثال سابق ، والحنيف : المائل عن الضلال.

الإيضاح

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟) أي واذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين لقناك فيما سبق الحجج على بطلان شركهم وضلالهم إذ عبدوا ما لا ينفعهم ولا يضرهم ـ قصص جدهم إبراهيم الذي يبجلونه ويدّعون اتباع ملته حين جادل قومه وراجعهم فى باطل ما كانوا يعملون ، إذ قال لأبيه آزر منكرا عليه وعلى قومه شركهم وعائبا عليه عبادته الأصنام دون بارئه وخالقه ، يا آزر أتتخذ أصناما آلهة تعبدها من دون الله الذي خلقك وخلقها؟ فهو المستحق للعبادة دونها.

(إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إنى أراك وقومك الذين يعبدون هذه الأصنام مثلك ، فى ضلال عن الصراط المستقيم ، مبين لا شبهة فيه للهدى ، فإن هذه الأصنام تماثيل تنحتونها من الحجارة أو تقطعونها من الخشب ، أو تصنعونها من المعادن ، فأنتم أرفع منها قدرا وأعز جانبا ، ولم تكن آلهة بذاتها بل باتخاذكم إياها ولا يليق

١٦٨

بالعاقل أن يعبد ما هو مساو له فى الخلق ، ولا ما هو مقهور بتصرف الخالق فيه ، ومحتاج إلى الغنى القادر ، ولا يقدر على نفع ولا ضر ، ولا إعطاء ولا منع.

والتعبير بالضلال البين بيان لما حدث منهم بما تدل عليه اللغة كقوله تعالى لخاتم أنبيائه : «وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى» وقولك لمن تراه منحرفا عن الطريق الذي يسلكه : إن الطريق من هنا فأنت حائد أو ضالّ عنه.

وقد دلت آثار الكشف الحديث فى العراق على صدق ما عرف فى التاريخ من عبادة أولئك القوم للأصنام الكثيرة حتى كان لكل منهم صم للعبادة خاص به ، سواء فى ذلك الملوك والسّوقة ، وكانوا يعبدون الفلك والنّيّرات من الكواكب عامة والدراري السبع خاصة.

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وكما أرينا إبراهيم الحق فى أمر أبيه وقومه ، وهو أنهم كانوا فى ضلال مبين فى عبادتهم للأصنام والأوثان.

كذلك أريناه مرة بعد مرة ملكوت السموات والأرض. أي خلقهما بما فيهما من بديع النظام وغريب الصنع ، فأريناه تلك الكواكب التي تدور فى أفلاكها على وضع لا تعدوه ، وأريناه الأرض وما فى طبقاتها المختلفة من أصناف المعادن النافعة للإنسان فى معاشه إذا هو استخدمها على الوجه الصحيح الذي أرشدناه إليه ، وجلّينا له بواطن أمورها وظواهرها ، وهذه إلى وجوه الحجة فيها مما يدل على وحدانيتنا وعظيم قدرتنا وإحاطة علمنا بكل شىء.

(وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أي نريه ذلك ليعرف سنننا فى خلقنا ، وحكمنا فى تدبير ملكنا ، وآياتنا الدالة على ربوبيتنا ، ليقيم بها الحجة على المشركين الضالين ، وليكون فى خاصة نفسه من زمرة الراسخين فى الإيقان البالغين عين اليقين.

ثم فصل سبحانه ما أجمله من رؤية ملكوت السموات والأرض فقال :

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) أي إنه تعالى لما بدأ يريه ملكوت السموات والأرض ، كان من أول أمره فى ذلك أنه لما أظلم عليه الليل وستر عنه ما حوله من

١٦٩

عالم الأرض نظر فى ملكوت السموات فرأى كوكبا عظيما ممتازا عن سائر الكواكب بإشراقه وبريقه ولمعانه ، وهو : (كوكب المشترى) الذي هو أعظم آلهة بعض عبّاد الكواكب من قدماء اليونان والرومان ، وكان قوم إبراهيم أئمتهم فى هذه العبادة وهم لهم مقتدون ـ فلما رآه.

(قالَ هذا رَبِّي) أي قال هذا فى مقام المناظرة والحجاج لقومه تمهيدا للإنكار عليهم فحكى مقالتهم أوّلا ليستدرجهم إلى سماع حجته على بطلانها ، فأوهمهم أولا أنه موافق لهم على زعمهم ، ثم كرّ عليه بالنقض بانيا دليله على الحس والعقل.

(فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أي فلما غرب هذا الكوكب واحتجب قال لا أحب ما يغيب ويحتجب ، إذ من كان سليم الفطرة لا يختار لنفسه حب شىء يغيب عنه ويوحشه فقده فما بالك بحب العبادة الذي هو أعلى أنواع الحب وأكمله ، لأنه قد هدت إليه الفطرة وأرشد إليه العقل السليم ، فلا ينبغى أن يكون إلا للرب الحاضر القريب ، السميع البصير الرقيب ، الذي لا يغيب ولا يغفل ، ولا ينسى ولا يذهل ، الظاهر فى كل شىء بآياته :

وفى كل شىء له آية

تدل على أنه واحد

والباطن فى كل شىء بحكمته ولطفه الخفي : «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» وقد جاء فى الحديث فى وصف الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

والخلاصة ـ إن فى هذا تعريضا بجهل قومه فى عبادة الكواكب ، إذ يعبدون ما يحتجب عنهم ولا يدرى شيئا من أمر عبادتهم وهذا قريب من قوله لأبيه : «لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً».

وقد احتج إبراهيم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال ، لأن الأفول انتقال مع خفاء واحتجاب وهو مما ينافى الربوبية.

١٧٠

(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي) أي فلما رأى القمر طالعا من وراء الأفق أول طلوعه قال هذا ربى على طريق الحكاية لما كانوا يقولون تمهيدا لإبطاله كما علمت فيما سلف.

والمتبادر من سياق الكلام أن إبراهيم رأى الكوكب فى ليلة ورأى القمر فى الليلة التالية.

(فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) أي فلما أفل القمر كما أفل الكوكب وهو أكبر منه منظرا وأسطع نورا وأقوى منه ضياء قال مسمعا من حوله من قومه : لئن لم يهدنى ربي ويوفقنى لإصابة الحق فى توحيده لأكوننّ من القوم الضالين الذين أخطئوا الحق فى ذلك فلم يصيبوا الهدى وعبدوا غير الله واتبعوا أهواءهم ولم يعملوا بما يرضيه سبحانه.

وفى هذا تعريض يقرب من التصريح بضلال قومه ، وإرشاد إلى توقف هداية الدين على الوحى الإلهى ، وقد ترقى فى هذا التعريض ، لأن الخصوم قامت عليهم الحجة بالاستدلال الأول فأنسوا بالقدح فى معتقدهم ، فما عرّض صلوات الله عليه بضلالهم إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى إتمام المقصود واستماعه إلى آخره ، وقد انتقل فى المرة الثالثة من التعريض إلى التصريح بالبراءة منهم والتصريح بأنهم على شرك بيّن بعد أن تبلّج الحق وظهر غاية الظهور ، وذلك قوله :

(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) أي قال مشيرا إليها : هذا الذي أرى الآن هو ربى

(هذا أَكْبَرُ) أي من الكواكب والقمر ، وفى هذا مبالغة فى المجاراة لهم وتمهيد لإقامة الحجة عليهم واستدراج لهم إلى التمادي فى الاستماع بعد ذلك التعريض الذي كان يخشى أن يصدّهم عنه.

والخلاصة ـ أن هذا الطالع أكبر من الكواكب والقمر قدرا وأعظم ضياء ونورا فهو أجدر منهما بالربوبية.

١٧١

(فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أي فلما أفلت كما أفل غيرها واحتجب ضوء المشرق وكانت الوحشة بذلك أشد من الوحشة باحتجاب الكوكب والقمر صرّح بما أراد بعد ذلك التعريض الذي تقدم متبرئا من شرك قومه وتنحّى عنه لقبحه بعد أن جاراهم عليه أولا استمالة لهم وإصغاء إلى ما يقول.

والخلاصة ـ إنه حاور وداور ، وتلطف فى القول ، وأرخى لخصمه العنان ، حتى وصل إلى ما أراد بألطف وجه وأحسن طريق ، متبرئا من تلك المعبودات التي جعلوها أربابا وآلهة مع الله.

وبعد أن تبرّأ من شركهم قفّى تلك البراءة ببيان عقيدته عقيدة التوحيد الخالص فقال :

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي إنى جعلت توجهى فى عبادتى لمن خلق السموات والأرض وأكمل خلقهن أطوارا فى ستة أيام ، فهو خالق هذه الكواكب النيرات وخالقكم وما تصنعون منه هذه الأصنام من معدن ونبات.

وفى معنى الآية قوله : «وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» وقوله «وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى».

وإسلام الوجه له تعالى توجّه القلب إليه ؛ وعبر عنه به لأن الوجه أعظم مظهر لما فى النفس من الإقبال أو الإعراض ، والسرور أو الكآبة ، إلى نحو أولئك. وتوجيهه له جعله يتوجه إليه وحده ، فى طلب حاجته وإخلاص عبوديته ، إذ هو المستحق للعبادة ، القادر على الأجر والثواب.

والخلاصة ـ إن إبراهيم تبرأ أولا من شركهم أو شركائهم ثم تبرأ منهم أنفسهم. ونحو الآية قوله تعالى : «قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ».

١٧٢

روى ابن جرير عن ابن زيد أن قوم إبراهيم قالوا حين قال إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض : ما جئت بشىء ونحن نعبده ونتوجه إليه ، فرد عليهم بأنه حنيف أي مخلص له لا يشرك به كما يشركون ا ه.

يريد أنه مائل عن معبوداتهم الباطلة وعن غيرها ، فتوجهه وإسلامه خالص ، لا يشوبه شرك ولا رياء ، وما هو من المشركين به الذين يتوجهون إلى غيره من المخلوقات كالكواكب أو الملائكة أو الملوك أو الصالحين أو ما يتخذ لهم من الأصنام والتماثيل.

وظاهر ما حكاه الله عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن قومه كانوا يتخذون الأصنام آلهة لا أربابا ويتخذون الكواكب أربابا آلهة ، والإله هو المعبود وكل من عبد شيئا فقد اتخذه إلها ، والرب : هو السيد المالك المربّى المدبر المتصرف ، وليس للخلق رب ولا إله إلا الله الذي خلقهم ، فهو المالك لكل شىء وفى كل زمن وعلى كل حال ، وملك غيره ناقص موقوت فهو المعبود بحق ، والعبادة : هى التوجه بالدعاء والتعظيم القولى أو العملي إلى ذى السلطان الأعلى خالق الخلق والموجد له والمتصرف فيه.

والأصل فى اختراع عبادة غير الله من حجر أو شجر أو شمس أو قمر أمران :

(١) إن بعض ضعاف الأحلام رأوا بعض مظاهر قدرته تعالى فى بعض خلقه ، فتوهموا أن ذلك ذاتى لهذا المخلوق ليس خاضعا لسنن الله فى الأسباب والمسببات.

(٢) اتخاذ بعض المخلوقات ذات الخصوصية فى مظاهر النفع والضر وسيلة إلى الإله الحق تشفع عنده وتقرب إليه كل من توجه إليها ، فيتوسل ذو الحاجة إليها بدعائها وتعظيمها بالقول أو الفعل لحمله تعالى بتأثيرها على قبوله وإعطائه سؤله.

وقد أقاموا مقام هذه المخلوقات : التماثيل والأصنام والقبور وغيرها مما يذكّر بها ، وهذه هى الوثنية الراقية التي كانت عليها العرب زمن البعثة ، ومن ثم كانوا يقولون فى طوافهم بالبيت الحرام : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك.

وكان قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد ارتقوا فى وثنيتهم إلى هذه المرتبة ، إذ أنهم عقلوا أن الأصنام لا تسمع دعاءهم ولا تبصر عبادتهم ولا تقدر على نفعهم

١٧٣

وضرهم ، وإنما قلدوا فيها آباءهم كما سيأتى فى حججهم فى سورة الشعراء ، ومن ثم اتخذوا الأصنام آلهة معبودين لا أربابا مدبرين ، لكنهم اتخذوا الكواكب أربابا لما لها من التأثير السببى فى الأرض ، فكانوا يعتقدون أن الشمس رب الناس ، والقمر يدبّر الملوك ويفيض عليهم روح الشجاعة والإقدام وينصر جندهم ويخذل عدوهم ، ويعتقدون أن (مرداخ) وهو المشترى شيخ الأرباب ورب العدل والأحكام وحافظ الأبواب التي يدخلها الخصوم لفصل الخصومات ، وأن (رنكال) وهو المريخ رب الصيد وسلطان الحرب ، وأن (عشتار) وهى الزّهرة ربة الغبطة والسرور والسعادة وتمثل بصورة امرأة عارية ، وأن (نيو) وهو عطارد رب العلم والحكمة.

وجاء إبراهيم بحجته البالغة ، فحصر العبادة فى فاطر السموات والأرض وحده دون غيره من الوسائل فقال فى تماثيلهم : «بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ».

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣))

١٧٤

تفسير المفردات

المحاجة : المجادلة والمغالبة فى إقامة الحجة ، والحجة تطلق تارة على الدلالة المبينة للمقصد ، وتارة على ما يدلى به أحد الخصمين فى إثبات دعواه أو رد دعوى خصمه ، وهى بهذا الاعتبار تنقسم إلى حجة دامغة يثبت بها الحق ، وإلى حجة داحضة يموّه بها الباطل ، وقد اصطلحوا على تسمية مثل هذه شبهة ، والسلطان : الحجة والبرهان ، لم يلبسوا : لم يخلطوا ، والظلم هنا هو الشرك فى العقيدة أو العبادة كاتخاذ ولى من دون الله يدعى معه أو من دونه.

الإيضاح

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) أي وجادله قومه فى أمر التوحيد ، فهو حين أبان لهم بطلان عبادة الأصنام وربوبية الكواكب ، وأثبت لهم وحدانية الله تعالى ووجوب عبادته وحده ، حاجوه ببيان أوهامهم فى شركهم ، إذ قالوا إن اتخاذ الآلهة لا ينافى الإيمان بالله الفاطر للسموات والأرض ، لأنهم شفعاء عنده ، ولما لم يجد ذلك معه خوّفوه أن تمسه آلهتهم بسوء ، وانتهت بهم خاتمة المطاف أن قالوا : إنهم ساروا على ما وجدوا عليه آباءهم ، وليس للمقلد أن يحتج ولكنه يجادل ويحاج مع كونه لا يخضع للحجة إذا قامت عليه ، وكثيرا ما يضطرب المقلد لسماع الحجة ، إذ يومض فى قلبه نورها ثم يعود إلى سابق وهمه خائفا مما لا يخيف ، راجيا ما لا يرجى ، كما يشاهد لدى زائرى قبور الصالحين والأولياء الذين يتوهمون أن هذه القبور تدفع عن زائرها الضر وتكشف عنه السوء وتدرّ عليه الرزق وتكبت العدو ، إما بتصرفهم فى الخلق وإما لأنهم قربان عند الرب ولا يرون شيئا من هذا ناقضا للإيمان الصحيح ، وفى مثلهم يقول الله عز اسمه «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ».

(قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ؟) أي أتجادلونني فى شأن الله وما يجب فى الإيمان

١٧٥

به ، قد فضلنى عليكم بما هدانى إلى التوحيد الخالص وبما بصّرنى به من الحجة التي أقمتها عليكم ، وأنتم الضالون بإصراركم على شرككم وتقليدكم فيه من قبلكم؟.

(وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) أي ولا أرهب من آلهتكم التي تدعونها من دون الله سوءا ينالنى فى نفسى ، ذلك أنى أعتقد أنها لا تضر ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، ولا تقرّب ولا تشفع.

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) أي لا أخاف ما تشركون به فى وقت من الأوقات إلا وقت مشيئته تعالى إصابة مكروه لى من جهتها ، فإنه يقع لا محالة كما شاء ربى ، فإن شاء أن يسقط علىّ صنم يشجّنى ، أو كسف من شهب الكواكب يقتلنى ، فإن ذلك يقع بقدرة ربى ومشيئته لا بمشيئة الصنم أو الكواكب ولا بقدرته ولا بتأثيره فى قدرته تعالى وإرادته ولا بجاهه عنده وشفاعته ، إذ لا تأثير لشىء من المخلوقات فى مشيئة الله الجارية إلا بما يثبت فى علمه الأزلى.

ثم أتى بما هو كالعلة لما قبله فقال :

(وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي أحاط بكل شىء علما ، فلا يبعد أن يكون فى علمه سبحانه إنزال المكروه بي من جهتها بسبب من الأسباب.

(أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ؟) أي أتعرضون بعد ما أوضحته لكم عن التأمل فى أن آلهتكم ليس بيدها نفع ولا ضر ، فلا تتذكرون أيها الغافلون أنها غير قادرة على ضرّى ولا على إيصال النفع إليكم ، فالسلطة العليا له وحده ليس لغيره تأثير فيها ولا تدبير ، فإذا أعطى بعض المخلوقات شيئا من النفع أو الضر فلا يكون ذلك داعيا لرفعها عن رتبة المخلوقات ، وجعلها أربابا ومعبودات.

وكان يجب أن يفطن لذلك العقلاء ويتذكروه ، لأنه تذكير بما يدركه العقل بالبرهان ، ويهدى إليه الوجدان.

ومما يجب أن يتنبه له كثير من الذين ينتمون إلى ملة التوحيد أن هذا الضرب من الشرك الذي نعاه إبراهيم على قومه ـ لا يزال فاشيا بينهم فهم يعتقدون فى بعض المخلوقات

١٧٦

من أحياء وأموات أن لهم تصرفا غيبيا ، فما يقع عقب زيارتهم لهم من زوال مكروه أو نفع يصل إلى محبوب إنما كان بدعائهم ، والواقع أن ذلك بتقدير السميع العليم ، وليس لغيره فى ذلك تأثير لا جلىّ ولا خفىّ.

وبعد أن أبان لهم أنه لا يخاف شركاءهم بل يخاف الله وحده ، تعجب من تخويفهم إياه ما لا يخيف ، وعدم خوفهم مما يجب أن يخاف منه قال :

(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) أي وكيف أخاف ما أشركتموه بربكم من خلقه فجعلتموه ندّا له ينفع ويضر ـ ولا تخافون إشراككم بالله خالقكم ما لم ينزل به حجة بيّنة بوحي ولا نظر عقل تثبت لكم جعله شريكا فى الخلق والتدبير أو فى الوساطة والشفاعة ، فافتياتكم على خالقكم بهذه الدعوى هو الذي يجب أن يخاف ويتقى.

والخلاصة ـ إن ما يدّعى لصحة هذا الخوف باطل ، وأنه عليه السلام لم يجد هذا الخوف وجها ، فلا يخاف الشركاء لذواتهم ، ولا لما يزعمون من وساطتهم عند الله وشفاعتهم ، ولا لقدرة على الضر والنفع قد تدّعى لهم.

وقوله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ـ مذكور على طريق التهكم ، مع الإعلام بأن الدين لا يقبل إلا بالحجة والبرهان ، والتقليد ليس بعذر ولا سيما تقليد من ليس على هداية ولا علم ولا بصيرة والله لم ينزل بما ادعيتموه سلطانا لأنه باطل فلا سلطان عليه ولا دليل.

(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) الفريقان : فريق الموحدين الذين يعبدون الله وحده ويخافونه ويرجونه دون غيره ، وفريق المشركين الذين استكبروا تأثير بعض الأسباب فاتخذوا ما اتخذوا من الآلهة والأرباب ، ونسبوا إلى بعضها النفع والضر كالشمس والقمر والملائكة ـ أي فأى هذين الفريقين أحق وأجدر بالأمن على نفسه من عاقبة عقيدته وعبادته.

ونكتة التعبير (بأى الفريقين) دون أن يقول فأينا أحق بالأمن ـ الإشارة

١٧٧

إلى أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك لا خاصة به وبهم ، والبعد عن التصريح بخطئهم الذي ربما يدعو إلى اللجاج والعناد،والاحتراس من تنفيرهم من الإصغاء إلى قوله :

(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم من أهل العلم والبصيرة فى هذا الأمر فأخبرونى بذاك وبينوه بالأدلة ـ وفى هذا إلجاء لهم إلى الاعتراف بالحق أو السكوت على الحمق والجهل.

ثم بين سبحانه الحقيق بالأمن على سبيل التفصيل فقال :

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) المراد بالظلم الذي يلبس به المرء إيمانه بالله ويخلطه به فينقص منه أو ينقصه هو الشرك فى العقيدة أو العبادة كاتخاذ ولى من دون الله يدعى معه أو من دونه ، فيعظّم كتعظيمه ويحبّ كحبه ، للاعتقاد أن له نفعا أو ضرا بذاته أو بتأثيره فى مشيئة الله وقدرته ، لا ظلم الإنسان نفسه بفعل بعض المضارّ أو ترك بعض المنافع عن جهل أو إهمال ، ولا ظلمه لغيره ببعض التصرفات والأحكام ، يدل على هذا التفسير ما رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من حديث ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية شق ذلك على الناس وقالوا يا رسول الله وأيّنا لا يظلم نفسه؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إنه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح «يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» إنما هو الشرك. والمراد بالأمن الأمن من عذاب الله الذي يحل بمن لا يرضى إيمانه ولا عبادته.

أي إن الذين آمنوا بالله تعالى ولم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم وهو الشرك به سبحانه وتعالى ، أولئك لهم الأمن دون غيرهم من الخلود فى دار العذاب ، وهم فيما وراء ذلك بين الخوف والرجاء.

وهذا جواب من الله به فصل القضاء بين إبراهيم ومن حاجّه من قومه كما اختاره بن جرير ونقله عن ابن إسحاق وابن زيد من المفسرين.

١٧٨

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) أي وتلك الحجة الدامغة التي تضمنها البيان السالف ، المثبتة للحق ، المزيّفة للباطل ، هى الحجة التي أرشدنا إليها إبراهيم وأعطيناها إياه ليلزم قومه ويقنعهم بها.

(نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) أي إننا نرفع من شئنا من عبادنا درجات بعد أن لم يكونوا على درجة منها ، فالعلم درجة كمال ، والحكمة درجة كمال ، وقوة العارضة فى الحجاج درجة كمال ، والسيادة والحكم بالحق كذلك ، والنبوة والرسالة أعلى كل هذه الدرجات ، لأنها تشتمل عليها وتزيد.

والله يرفع درجات من يؤتيهم ذلك بتوفيق صاحب الدرجة الكسبية إلى ما به ترتقى درجته ، ويصرف موانع هذا الارتقاء عنه ، ويؤتى ذا الدرجة الوهبية (النبوة) ما لم يؤت غيره من أهل المناقب والآيات «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ».

(إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي إن ربك الذي رباك وعلمك وهداك وجعلك خاتم رسله لجميع خلقه ، حكيم فى قوله ، عليم بشئونهم ، وسيريك ذلك عيانا فى سيرتك مع قومك كما أراكه بيانا فيما حدّث عن إبراهيم مع قومه وتأسّ فى نفسك وقومك المكذبين بأبيك واصبر على ما ينوبك منهم كما صبر.

واعلم أن معرفة الله تعالى لا تحصل على الوجه الصحيح إلا بتعميم الوحى ، وعلم الأنبياء به ضرورى لا نظرى فقد علّمهم به ما لم يكونوا يعلمون من الحجج العقلية والدلائل النقلية إلى نحو ذلك مما هداهم إليه.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ

١٧٩

مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠))

المعنى الجملي

اعلم أنه سبحانه بعد أن حكى عن إبراهيم صلوات الله عليه أنه أظهر حجة الله فى التوحيد ، وعدد وجوه نعمه وإحسانه إليه ، ذكر هنا أنه جعله عزيزا فى الدنيا ، إذ جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من ذريته وأبقى هذه الكرامة له إلى يوم القيامة ،

الإيضاح

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا) أي ووهبنا لإبراهيم إسحاق نبيا من الصالحين ، وجعلنا من ذريته يعقوب نبيا منجيا للأنبياء والمرسلين ، وهدينا كلا منهما كما هدينا إبراهيم بما آتيناه من النبوة والحكمة وقوة العارضة والحجة.

وإنما ذكر إسحق دون إسماعيل لأنه هو الذي وهبه الله تعالى بآية منه بعد كبر سنه وعقم امرأته سارّة ، جزاء إيمانه وإحسانه وكمال إسلامه وإخلاصه بعد ابتلائه بذبح ولده إسماعيل ولم يكن له ولد سواه على كبر سنه ، ويقول المؤرخون إن معنى

١٨٠