تفسير المراغي - ج ٧

أحمد مصطفى المراغي

فى سبب نزول الآيات أن سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه قال : «فىّ نزل تحريم الخمر ـ صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فأتاه ناس فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر وذلك قبل تحريمها ، فتفاخروا فقالت الأنصار : الأنصار خير. وقالت قريش : قريش خير ، فأهوى رجل بلحى جزور (فك رأس جزور) فضرب على أنفى ففزره. قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فنزلت».

وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي وابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر فى قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا ، فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض ، فلما أن صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه وبرأسه ولحيته فيقول : صنع بي هذا أخى فلان والله لو كان رءوفا رحيما ما صنع بي هذا ، حتى وقعت الضغائن فى قلوبهم فأنزل الله هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فقال ناس من المتكلفين : هى رجس وهى فى بطن فلان قتل يوم بدر ، وفى بطن فلان قتل يوم أحد ، فأنزل الله (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) الآية.

وفى مسند أحمد ومسند أبى داود والترمذي «أن عمر كان يدعو الله تعالى : اللهم بيّن لنا فى الخمر بيانا شافيا ، فلما نزلت آية البقرة قرأها عليه النبي صلى الله عليه وسلم فظل على دعائه ، وكذلك لما نزلت آية النساء ، فلما نزلت آية المائدة دعى فقرئت عليه فلما بلغ قول الله تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قال : انتهينا انتهينا».

والحكمة فى تحريم الخمر بالتدريج أن الناس كانوا مغرمين بحبها كلفين بها فلو حرمت فى أول الإسلام لكان تحريمها صارفا لكثير من المدمنين لها عن الإسلام ، ومن ثم جاء تحريمها أولا فى سورة البقرة على وجه فيه مجال للاجتهاد فيتركها من لم تتمكن فتنتها من نفسه ، ثم ذكرها فى سورة النساء بما يقتضى تحريمها فى الأوقات القريبة من وقت الصلاة ، إذ نهى عن القرب من الصلاة فى حال السكر فلم يبق لمن يصرّ

٢١

على شربها إلا الاغتباق بعد صلاة العشاء وضرره قليل ، والصبوح من بعد صلاة الفجر لمن لا عمل له فلا يخشى أن يمتد سكره إلى وقت الظهر ، ثم تركهم الله على هذه الحال زمنا قوى فيه الدين وكثرت الوقائع التي ظهر لهم بها إثمها وضررها ، فحرمها تحريما باتا لا هوادة فيه.

روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت فى البقرة «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ» شربها قوم لقوله (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) وتركها قوم لقوله (إِثْمٌ كَبِيرٌ) منهم عثمان بن مظعون حتى نزلت الآية التي فى النساء «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى» فتركها قوم وشربها قوم ، يتركونها بالنهار حين الصلاة ويشربونها بالليل ، حتى نزلت الآية التي فى المائدة (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية قال عمر : أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام؟ بعد لك وسحقا. فتركها الناس ووقع فى صدور أناس منها وقالوا ما حرم علينا شىء أشد من الخمر ، حتى جعل الرجل يلقى صاحبه فيقول إن فى نفسى شيئا فيقول صاحبه لعلك تذكر الخمر ، فيقول نعم ، فيقول إن فى نفسى مثل ما فى نفسك حتى ذكر ذلك قوم واجتمعوا فيه فقالوا : كيف نتكلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد (حاضر) وخافوا أن ينزل فيهم (أي قرآن) فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعدّوا له حجة فقالوا : أرأيت حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعبد الله بن حجش أليسوا فى الجنة؟ قال بلى ، قالوا أليسوا قد مضوا وهم يشربون الخمر؟ فحرم علينا شىء دخلوا الجنة وهم يشربونه؟ فقال : (قد سمع الله ما قلتم ، فإن شاء أجابكم) فأنزل الله : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟) فقالوا انتهينا. ونزل فى الذين ذكروا حمزة وأصحابه (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) الآية.

٢٢

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ؛ إن الخمر التي تشربونها ، والميسر الذي تتياسرونه ، والأنصاب التي تذبحون عندها ، والأزلام التي تستقسمون بها ـ إثم سخطه الله وكرهه لكم ، وهو من عمل الشيطان وتحسينه لكم لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربكم ، ولا مما يرضاه لكم.

(فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي فاتركوا هذا الرجس ولا تعملوه وكونوا فى جانب غير الجانب الذي هو فيه ، رجاء أن تفلحوا وتفوزوا بما فرض عليكم من تزكية أنفسكم وسلامة أبدانكم والتوادّ فيما بينكم.

وبعد أن أمر الله باجتناب الخمر والميسر ذكر أن فيهما مفسدتين إحداهما دنيوية وثانيتهما دينية وقد أشار إليهما بقوله :

(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) أي إن الشيطان يريد لكم شرب الخمر ومياسرتكم بالقداح ليعادى بعضكم بعضا ويبغّض بعضكم إلى بعض عند الشراب والمياسرة ، فيشتت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان ، وجمعه بينكم بأخوّة الإسلام ، ويصرفكم بالسكر والاشتغال بالميسر عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم ، وعن الصلاة التي فرضها عليكم ، تزكية لنفوسكم وتطهيرا لقلوبكم.

أما كون الخمر سببا لوقوع العداوة والبغضاء بين الناس حتى الأصدقاء منهم ، فلأن شارب الخمر يسكر فيفقد العقل الذي يمنع من الأقوال والأعمال القبيحة التي تسوء الناس ، كما يستولى عليه حب الفخر الكاذب ، ويسرع إليه الغضب بالباطل ، وكثيرا ما يجتمع الشّرب على مائدة الشراب فيثير السكر كثيرا من ألوان البغضاء بينهم ، وقد ينشأ القتل والضرب والسلب والفسق والفجور وإفشاء الأسرار وهتك الأستار وخيانة الحكومات والأوطان.

٢٣

وأما الميسر فهو مثار العداوة والبغضاء بين المتقامرين ، فإن تعداهم فإلى الشامتين والعائبين ومن تضيع عليهم حقوقهم من الدائنين وغير الدائنين ، وكثيرا ما يفرّط المقامر فى حقوق الوالدين والزوج والأولاد حتى يوشك أن يمقته كل أحد.

والميسر مع ما فيه من التوسعة على المحتاجين ، فيه إجحاف بأرباب الأموال ، لأن من صار مغلوبا فى القمار مرة دعاه ذلك إلى اللجاج فيه رجاء أن يغلب فيه مرة أخرى ، وقد يتفق ألا يحصل له ذلك إلى ألا يبقى له شىء من المال ، ولا شك أنه بعد ذلك سيصير فقيرا مسكينا ، ويصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا له غالبين.

وأما صد الخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة (وهما مفسدتهما الدينية) فذلك أظهر من كونهما مثارا للعداوة والبغضاء (وهما مفسدتهما الاجتماعية) لأن كل سكرة من سكرات الخمر ، وكل مرة من لعب القمار تصد السكران واللاعب وتصرفه عن ذكر الله الذي هو روح الدين ، وعن الصلاة وهى عماد الدين ، إذ السكران لا عقل له يذكر به آلاء الله وآياته ، ويثنى عليه بأسمائه وصفاته ، أو يقيم الصلاة التي هى ذكر الله ، ولو ذكر السكران ربه وحاول الصلاة لم تصح له ، وكذلك المقامر تتوجه جميع قواه العقلية إلى اللعب الذي يرجو منه الربح ويخشى الخسارة ، فلا يتوجه همه إلى ذكر الله ولا يتذكر أوقات الصلاة وما يجب عليه من المحافظة عليها.

وقد دلت المشاهدة على أن القمار أكثر الأعمال التي تشغل القلب وتصرفه عن كل ما سواه ، بل يحدث الحريق فى دار المقامر أو تحل المصايب بالأهل والولد ويستغاث به فلا يغيث بل يمضى فى لعبه ، والنوادر فى ذلك كثيرة.

إلى أن المقامر إذا تذكر الصلاة وترك اللعب لأجلها فإنه لا يؤدى منها إلا الحركات بدون أدنى تدبر أو خشوع ، لكنه على كل حال يفضل السكران إذ أنه لا يكاد يضبط أفعال الصلاة.

واللعب بالشّطرنج أو بالنرد إذا كان على مال دخل فى الميسر وكان حراما ، وإذا

٢٤

لم يكن كذلك فلا وجه للقول بتحريمه إلا إذا تحقق كونه رجسا من عمل الشيطان موقعا فى العداوة والبغضاء صادّا عن ذكر الله وعن الصلاة بأن كان من المكثرين اللعب أو ممن يداومون عليه ، والشافعي كرهه لما فيه من إضاعة الوقت بلا فائدة.

ولما بين جل اسمه علة تحريم الميسر وحكمته أكد ذلك التحريم فقال :

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) هذا أمر بالانتهاء جاء بأسلوب الاستفهام وكان ذلك غاية فى البلاغة ، فكأنه قيل : قد تلى عليكم ما فيها من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم مع كل هذا منتهون؟ أو أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا.

وقد أكد الله تحريم الخمر والميسر بوجوه من التأكيد :

(١) أنه سماهما رجسا ، والرجس كلمة تدل على منتهى ما يكون من القبح والخبث ، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم «الخمر أم الخبائث».

(٢) أنه قرنها بالأنصاب والأزلام التي هى من أعمال الوثنية وخرافات الشرك ، وقد روى ابن ماجه عن أبى هريرة قوله صلى الله عليه وسلم «مدمن الخمر كعابد وثن»

(٣) أنه جعلهما من عمل الشيطان ، لما ينشأ عنهما من الشرور والطغيان وسخط الرحمن.

(٤) أنه جعل اجتنابهما سبيلا للفلاح والفوز بالنجاة.

(٥ ، ٦) أنه جعلهما مثارا للعداوة والبغضاء ، وهما من أقبح المفاسد الدنيوية التي تولد كثيرا من المعاصي فى الأموال والأعراض والأنفس.

(٧ ، ٨) أنهما جعلا صادّين عن ذكر الله وعن الصلاة ، وهما روح الدين وعماده وزاده وعتاده.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي وأطيعوا الله تعالى فيما أمركم به من اجتناب الخمر والميسر وغيرهما من سائر المحرمات كالأنصاب والأزلام ونحوهما ، وأطيعوا الرسول فيما بينه لكم مما نزل عليكم من نحو قوله «كل مسكر خمر وكل خمر حرام».

٢٥

(وَاحْذَرُوا) أي واحذروا ما يصيبكم إذا أنتم خالفتم أمرهما من فتنة فى الدنيا وعذاب فى الآخرة ، فإنه سبحانه لم يحرّم عليكم إلا ما فيه ضرر لكم فى دنياكم وآخرتكم كما قال : «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ».

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي فإن أعرضتم عن اتباع أمرهما فالحجة قد قامت عليكم ، والرسول قد خرج من عهدة التبليغ والإعذار والإنذار ، وما بعد ذلك من عقاب للمخالف فأمره إلى الله كما قال عز اسمه «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ».

وفى هذا تهديد كثير ووعيد شديد لمن خالف أوامر الله وفعل نواهيه.

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي ليس على الذين آمنوا وعملوا صالح الأعمال من الأحياء والأموات إثم ومؤاخذة فيما أكلوا من الميسر أو شربوا من الخمر فيما مضى قبل تحريمها وتحريم غيرهما مما لم يكن محرما ثم حرم ، إذا ما اتقوا الله وآمنوا بما كان قد نزل من الأحكام ، وعملوا الصالحات التي كانت قد شرعت كالصلاة والصيام وغيرهما ، ثم اتقوا ما حرّم عليهم بعد ذلك عند العلم به. وآمنوا بما نزل فيه وفى غيره ، ثم استمروا على التقوى وأحسنوا صالح أعمالهم فأتوا بها على وجه الكمال وتمموا نقص فرائضها بنوافل الطاعات ، والله يحب المحسنين فلا يبقى فى قلوبهم أثرا من الآثار السيئة التي وصف بها الخمر والميسر من الإيقاع فى العداوة والصد عن ذكر الله وعن الصلاة.

والخلاصة ـ إن من صحّ إيمانه وصلح عمله وعمل فى كل حين بنصوص الدين وما أداه إليه اجتهاده واستمر على ذلك حتى ارتقى إلى مقام الإحسان ، فلا يحول ما كان قد أكل أو شرب مما لم يكن محرما عليه بحسب اعتقاده ـ دون تزكية نفسه وتطهير قلبه.

٢٦

روى أنه لما نزل تحريم الخمر قال بعض الصحابة : فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر فنزلت الآية.

تتمة ـ اختلف العلماء فى التداوى بالخمر والنجاسات والسموم ، وأصح الآراء فى ذلك أنه يجوز لما فى الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للعرنّيين بالتداوى بأبوال الإبل ، بشرط الاضطرار الذي يبيح المحرم من طعام وشراب بدليل قوله تعالى «وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ» كمن غصّ بلقمة فكاد يختنق فلم يجد ما يسيغها به سوى الخمر ، وكمن أصابته نوبة ألم فى القلب كادت تقضى عليه وقد أخبره الطبيب بأن لا سبيل لدفع الخطر سوى شرب مقدار من الخمر من النوع المعروف (باسم كونياك) فقد يرى الطبيب أنه يتعين فى بعض الأحيان لعلاج ما يعرض من آلام القلب لدرء الخطر كما ثبت بالتجربة.

أما التداوى بالخمر لمن يظن نفعها ولو بإخبار الطبيب كتقوية المعدة أو الدم أو نحو ذلك مما تسمعه من كثير من الناس فذلك منهى عنه للحديث «إنه ليس بدواء ولكنه داء» رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وكان سببه أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر وكان يصنعها فنهاه عنها فقال : إنما أصنعها للدواء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.

وقوله : (ولكنه داء) هذا هو رأى الأطباء ، إذ أن المادة المسكرة من الخمر سمّ تتوالد منها أمراض كثيرة يموت بها فى كل عام عدد لا يحصى من الناس.

والذين يشربون الخمر ولو بقصد التداوى يؤثر سمّها فى أعصابهم بكثرة التعاطي فتصير مطلوبة عندهم لذاتها فيضرهم سمها ، فعلى المسلم الصادق الإيمان ألا يغتر برأى بعض الأطباء الذين يصفونها للتداوى لمثل الأمراض التي يصفونها لها عادة.

وقد دلت التجارب على أن الذين يبتلون بشربها لا يقدمون على ذلك إلا بإغراء المعاشرين من الأهل والأصحاب ، على استبشاعهم لها واعتقادهم ضررها ومخالفتهم

٢٧

أوامر دينهم ، لكن الذي يسهل عليهم ذلك ظنهم أن الضرر المتيقن إنما يكون بالإسراف والانهماك فى الشراب ، وأن القليل منها إن لم ينفع فلا يضر ، فلا ينبغى تركه مع ما فيه من لذة النشوة والذهول عن همؤم الدنيا وآلامها.

إلى ما فى ذلك من مجاملة الإخوان ، لكنهم مخدوعون ؛ إذ هم لو سألوا من سبقهم إلى هذه البلوى وأسرف فى السكر حتى فسدت صحته ومروءته وضاعت ثروته ، هل كنت حين بدأت تنوى الإسراف والإدمان؟ لأجابك بأنه ما كان يقصد إلا النزر القليل فى فترات متطاولة من الزمن ، وما كان يعلم أن القليل يجر إلى الكثير الذي يصيبه بالداء الدوىّ ولا يجد إلى الخلاص منه سبيلا.

وقد يعرض لبعض من يؤمن بحرمة الخمر شبهات فيقول إن الخمر المتخذة من العنب هى المحرمة لذاتها وأن ما عداها لا يحرم منه إلا المقدار المسكر فعلا ، لكنهم واهمون فيما فهموا ، إذ جاء فى الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : «كل مسكر خمر وكل خمر حرام».

وآخر تعلة لهم الغرور بكرم الله وعفوه ، أو اعتمادهم على بعض الأعمال الصالحة ـ ولا سيما ما يسمونه بالمكفّرات ـ أو على الشفاعات.

وهذا الجهل والغرور يصبح عقيدة فى نفوسهم بما يسمعونه من كلام فساق الشعراء المدمنين كأبى نواس كقوله :

تكثّر ما استطعت من المعاصي

فإنك واجد ربا غفورا

وقوله : ورجوت عفو الله معتمدا على

خير الأنام محمد المبعوث

ولو صح أمثال هذا الهذيان لكان الدين لغوا وعبثا. ولكان المسلم يضرب بأوامر دينه عرض الحائط انتظارا لشفاعة ترجى أو عفو ربما أتيح له من فضل ربه ، وكان التقى والفاجر سواء ؛ وقد ثبت فى صحيح الأحاديث «أنه كان يؤتى بالشارب فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيضرب بالأيدى والجريد وبالثياب والنعال» وفى حديث أنس : «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين»

٢٨

قال وفعله أبو بكر ، فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن : أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر ، وفى الصحيحين عن على كرم الله وجهه : ما كنت لأقيم على أحد حدا فيموت وأجد فى نفسى شيئا إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته (أي دفعت ديته) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنّه ، وفى صحيح مسلم أن عثمان أتى بالوليد وقد صلى الصبح ركعتين ، وقال أزيدكم وشهد عليه الشهود أنه شرب الخمر ، فأمر بجلده وعلىّ كرم الله وجهه يعدّ حتى بلغ الأربعين فقال أمسك ، ثم قال جلد النبي وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكلّ سنّة وهذا أحب إلىّ (يريد الأربعين) وقوله كل سنة أي إنه جرى العمل به فعلا ، ولا يعارض ذلك قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن حد الخمر ، لأن ضربه أربعين مرة واحدة لا يعد سنة محددة له ، لأنه قد خالف ذلك فى بعض الأحيان لكنه صار سنة بجرى أبى بكر عليه.

والخلاصة ـ إن العقاب المشروع على شرب الخمر هو الضرب الذي يراد منه إهانة الشارب وزجره وتنفير الناس منه ، وإن الضرب أربعين أو ثمانين كان اجتهادا من الخلفاء ، فاختار أبو بكر الأربعين وعمر الثمانين بموافقته لاجتهاد عبد الرحمن بن عوف بتشبيهه بحد قذف المحصنات ، وقد روى الدار قطنى عن على كرم الله وجهه قال : إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وعلى المفترى ثمانون جلدة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ

٢٩

مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦))

تفسير المفردات

الابتلاء : الاختبار ، والصيد : ما صيد من حيوان البحر ومن حيوان البر الوحشية للأكل ، وقوله تناله أيديكم ورماحكم ، يراد به كثرته وسهولة أخذه. وروى عن ابن عباس أن ما يؤخذ بالأيدى صغاره وفراخه ، وما يؤخذ بالرماح كباره ، ليعلم الله أي ليعاملكم معاملة المختبر الذي يريد أن يعلم الشيء وإن كان علام الغيوب ، والحرم : واحده حرام للذكر والأنثى ، تقول هو رجل حرام وامرأة حرام أي محرمة بحج أو عمرة والنعم والأنعام من الإبل والبقر والضأن ، والعدل (بِالْفَتْحِ) المعادل للشىء والمساوى له مما يدرك بالعقل (وبالكسر) المساوى له مما يدرك بالحس ، والوبال من الوبل والوابل : وهو المطر الثقيل ، وطعام وبيل ثقيل ، ويقال للأمر الذي يخاف ضرره هو وبال ، والبحر : المراد به الماء الكثير الذي يوجد فيه السمك كالأنهار والآبار والبرك ونحوها ، وصيد البحر : ما يصاد منه مما يعيش فيه عادة ، وطعامه ما قذف به إلى ساحله ، والسيارة : جماعة المسافرين يتزودون منه ، وتحشرون : تجمعون وتساقون إليه.

المعنى الجملي

بعد أن نهى سبحانه عن تحريم ما أحلّ من الطيبات ثم استثنى الخمر والميسر ـ استثنى هنا مما يحل الصيد فى حال الإحرام وأوجب جزاء على قتله ، وبين أن صيد البحر وطعامه حلال ، وقد نزلت هذه الآية عام الحديبية حيث ابتلاهم الله بالصيد

٣٠

وهم محرمون وكثر عندهم حتى كان يغشاهم فى رحالهم فيتمكنون من صيده أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) أي يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله : ليختبرنكم الله بإرسال كثير من الصيد يسهل عليكم أخذ بعضه بأيديكم وبعضه برماحكم.

ووجه الابتلاء فى ذلك أن الصيد طعام لذيذ تشتد الحاجة إليه فى الأسفار الطويلة كالسفر إلى الجهات النائية ، إلى أن سهولة تناوله تغرى به ، إذ ترك مالاينال إلا بمشقة لا يدل على التقوى والخوف من الله كما يدل عليه ترك ما ينال بسهولة.

(لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) أي يبتليكم الله حال إحرامكم ، ليعلم من يخافه غائبا عن نظر الناس غير مراء ولا خائف من إنكارهم ، فيترك أخذ شيء من الصيد ويختار شظف العيش على لذة اللحم خوفا من الله تعالى وطاعة له فى خفيته.

والخلاصة ـ إنه تعالى يريد أن يعاملكم معاملة المختبر الذي يريد أن يعلم الشيء وإن كان هو عالما به ، تربية لكم وتزكية لنفوسكم وتطهيرا لها.

(فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي فمن اعتدى بأخذ شىء من ذلك الصيد بعد ذلك البيان الذي أخبركم الله تعالى به قبل حصوله ، فله عذاب شديد فى الآخرة ، إذ هو لم يبال باختبار الله له ، بل انتهك حرمة نواهيه ، وأبان أنه لا يخافه بالغيب ، بل يخاف لوم المؤمنين وتعذيرهم إذا هو أخذ شيئا من الصيد بمرأى منهم ومسمع كما هو دأب المنافقين الذين يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا تقتلوا الصيد الذي بينه لكم وهو صيد البر دون صيد البحر وأنتم محرمون بحج أو عمرة.

٣١

(وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) أي ومن قتل شيئا من الصيد وهو محرم قاصدا قتله فعليه جزاء من الأنعام مماثل لما قتله فى هيئته وصورته إن وجد ، فقد روى الدار قطنى عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «فى الضبع إذا أصابه المحرم كبش ، وفى الظبى شاة ، وفى الأرنب عناق.» : (الأنثى من ولد المعز قبل أن تبلغ سنة) «وفى اليربوع جفرة» (الأنثى من ولد الضأن التي بلغت أربعة أشهر) وأخرج ابن أبى شيبة عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الضبع صيد ، فإذا أصابه المحرم ففيه جزاء كبش مسنّ وتؤكل».

وإن لم يوجد المماثل من النعم فقيمته حيث صيد أو فى أقرب الأماكن إليه.

وقتل المحرم بحج أو عمرة للصيد حرام بالإجماع لنفس الآية ، وأكل المحرم مما صاده من ليس بمحرم جائز ، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أكلوا مما أهدى إليهم من لحم الحمار الوحشي.

والصيد الذي نهت عنه الآية هو كل حيوان وحشي يؤكل لحمه ، فلا جزاء فى قتل الأهلى ولا ما لا يؤكل لحمه من السباع والحشرات ومنها الفواسق الخمس التي ورد الإذن بقتلها وهى الغراب والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور ، وألحق مالك بالكلب العقور الذئب والسبع والنمر والفهد ، لأنها أشد منه ضررا.

(يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي يحكم بالجزاء من النعم وكونه مثل المقتول من الصيد رجلان من أهل العدالة والمعرفة من المؤمنين.

ووجه الحاجة إلى حكم العدلين أن المماثلة بين النعم والصيد مما يخفى على أكثر الناس ، وما لا مثل له بوجه من الوجوه يحكمان فيه بالقيمة.

(هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) أي إن ذلك الجزاء يكون هديا يصل إلى الكعبة ويذبح فى جوارها حيث تؤدى المناسك ويفرّق لحمه على مساكين الحرم.

(أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) أي فعلى من قتل الصيد وهو محرم متعمدا جزاء من النعم مماثل له ، أو كفارة طعام مساكين ، أو ما يعادل

٣٢

ذلك الطعام من الصيام ، روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال : إذا قتل المحرم شيئا من الصيد فعليه فيه الجزاء ، فإن قتل ظبيا أو نحوه فعليه ذبح شاة تذبح بمكة ، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ، فإن قتل أيّلا (من بقر الوحش) فعليه بقرة ، فإن لم يجدها صام عشرين يوما ، وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحو ذلك فعليه بدنة من الإبل ، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا فإن لم يجد صام ثلاثين يوما والطعام مدّ مدّ يشبعهم.

(لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) أي أوجبنا ما أوجبنا من الجزاء أو الكفارة كى يذوق وبال أمره ، أي سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام إما بدفع الغرم وإما بالعمل ببدنه بما يتعبه ويشق عليه.

(عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) لكم من الصيد فى حال الإحرام قبل أن تراجعوا رسول الله صلى الله عليه وتسألوه عن جوازه.

(وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) أي ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم بعد ورود النهى فإن الله ينتقم ممن أصر على الذنب ، فهو ينكل به ويبالغ فى عقوبته وله العزة والمنعة.

(وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) أي والله غالب على أمره فلا يغلبه العاصي ، ذو انتقام ومبالغة فى العقوبة ممن أصرّ على الذنب.

والآية صريحة فى أن الجزاء الدنيوي إنما يمنع عقاب الآخرة إذا لم يتكرر الذنب ، فإن تكرر استحق صاحبه الجزاء فى الدنيا والعقاب فى الآخرة.

(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) أي وأحل لكم ما صيد من البحر ثم مات وما قذفه البحر ميتا ، وروى هذا عن ابن عباس وابن عمر وقتادة.

والخلاصة ـ إن المراد بطعامه عندهم ما لا عمل للإنسان فيه ولا كلفة فى اصطياده كالذى يطفو على وجهه والذي يقذف به إلى الساحل والذي ينحسر عنه الماء وقت الجزر ، ولا فرق بين حيه وميته.

٣٣

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) أي منفعة لمن كان منكم مقيما فى بلده يستمتع بأكله وينتفع به ، ومتعة للسائرين والمسافرين من أرض إلى أرض يتزودونه فى سفرهم مليحا (سردين وفسيخ).

(وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) أي وحرم عليكم ما صدتم فى البر وأنتم محرمون ، لا ما صاده غيركم ولا ما صدتموه قبل إحرامكم.

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي واخشوا الله واحذروه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه ، وفيما نهاكم عنه من جميع ما تقدم من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وإصابة صيد البر وقتله فى حال إحرامكم وفى نحو ذلك ، فإن إليه مصيركم ومرجعكم فيعاقبكم بمعصيتكم ويثيبكم على طاعتكم.

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧))

تفسير المفردات

الكعبة فى اللغة : البيت المكعب أي المربع ، والقيام : ما يقوم به أمر الناس ، ويصلح ، والشهر الحرام : ذو الحجة ، والهدى : ما يهدى إلى الحرم من الأنعام توسعة على فقرائه ، والقلائد أي ذوات القلائد من الهدى وهى الأنعام التي كانوا يقلدونها إذا ساقوها هديا ، وخصها بالذكر لعظم شأنها.

المعنى الجملي

بعد أن نهى سبحانه فى الآية السالفة المحرم عن الاصطياد ـ بين هنا أن البيت الحرام كما أنه سبب لأمن الوحش والطير ـ هو سبب لأمن الناس من الآفات والمخاوف ، وسبب لحصول الخيرات والسعادات فى الدنيا والآخرة.

٣٤

الإيضاح

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) أي إن الله تعالى جعل الكعبة التي هى البيت الحرام قياما لمن يقيمون بجوارها ولمن يحجون إليها أي سببا لقيام مصالحهم ومنافعهم ـ ذلك بأن مكة بلد لا ضرع فيه ولا زرع ، وقلما يوجد فيه ما يحتاج إليه أهله ، فجعل الله الكعبة معظمة فى القلوب ، يرغب الناس جميعا فى زيارتها والسفر إليها من كل فج ، وصار ذلك سببا فى إسباغ النعم على أهلها ـ إجابة لدعاء إبراهيم صلوات الله عليه كما حكاه الله عنه بقوله : «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ».

إلى أنها كانت قياما للناس فى دينهم بما جعل فيها من المناسك العظيمة والطاعات التي هى من أسباب حط خطيئاتهم ورفع درجاتهم.

إلى أن أهلها صاروا بسبب الكعبة أهل الله وخاصته والسادة المعظمين إلى يوم القيامة ، كما صاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم ، فقد كان العرب يتقاتلون ويغير بعضهم على بعض إلا فى الحرم حتى لو لقى الرجل قاتل أبيه أو ابنه فى الحرم لم يتعرض له ، ولو جنى أعظم الجنايات لم يتعرّض له كما قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ».

وكذلك جعل الشهر الحرام سببا لقيام الناس ، لأن العرب كان يقتل بعضهم بعضا ، ويغير بعضهم على بعض فى سائر الأشهر حتى إذا دخل الشهر الحرام زال الخوف وقدروا على الأسفار والتجارات وصاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم ، وكانوا يحصّلون فيه من الأقوات ما يكفيهم طول العام ، ولو لاه لتفانوا من الجوع والشدة.

وكذلك جعل الهدى سببا لقيام الناس ، لأنه يهدى إلى البيت ويذبح ويفرّق لحمه على الفقراء فيكون نسكا للمهدى وقياما لمعيشة الفقراء.

٣٥

وكذلك جعل القلائد قياما للناس ، إذ أن من قصد البيت فى الشهر الحرام لم يتعرض له أحد ، ومن قصده فى غير الشهر الحرام ومعه هدى وقلّده وقلد نفسه من لحاء شجر الحرم لم يتعرض له أحد ، لأن الله أوقع فى قلوبهم تعظيم البيت ، فكل من قصده أو تقرب إليه صار آمنا من جميع الآفات والمخاوف.

(ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي ذلك التدبير اللطيف لأجل أن تتفكروا فى أنه تعالى يعلم ما فى العالم العلوي والسفلى ، وأن علمه محيط بكل شىء.

والخلاصة ـ إن ذلك لم يكن إلا لحكمة بالغة صادرة عن علم بخفايا الأمور وغاياتها ، فكان دليلا على أنه سبحانه يعلم ما فى السموات وما فى الأرض من أسباب الرزق ونظام الخلق وغير ذلك ، وأنه عليم بكل شىء فلا تخفى عليه خافيه.

وقد عجزت جميع الأمم فى القديم والحديث عن تأمين الناس فى قطر من الأقطار فى زمن معين من كل سنة بحيث لا يقع فيه قتل ولا قتال ولا عدوان.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠))

المعنى الجملي

بعد أن أرشدنا فى الآية السابقة إلى بعض آيات علمه فى خلقه التي بها جعل البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد ـ نبهنا فى هذه إلى أن العليم بكل شىء لا يمكن أن يترك الناس سدى ، فهو لم يحلقهم عبثا ـ ومن ثم لا يليق بحكمته وعدله

٣٦

أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ولا أن يسوّى بين الطيب والخبيث فيجعل البرّ كالفاجر والمصلح كالمفسد ، بل لا بد من الجزاء بالحق ، لذلك جاءت هذه الآيات ترغيبا لعباده وترهيبا لهم ، ووعدا ووعيدا.

الإيضاح

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي اعلموا أن ربكم الذي لا يخفى عليه شىء من سرائر أعمالكم وعلانيتها وهو محصيها عليكم ، شديد العقاب لمن دسّى نفسه بالشرك والفسوق والعصيان ، وغفار لذنوب من أطاعه وأناب إليه رحيم به ، فلا يؤاخذه بما فرط منه قبل الإيمان ، ولا بما يعمله من السوء بجهالة إذا بادر إلى التوبة وأصلح عمله ، بل يستر ذنبه ويمحوه فلا يبقى له أثر مع إيماله وعمله الصالح كما يستر الماء القدر القليل بما يغمره من الماء النقي الكثير.

وفى تقديم العقاب على المغفرة والرحمة إيماء إلى أن العقاب قد ينتهى بالمغفرة والرحمة ، لأن رحمته تعالى سبقت غضبه كما ورد فى صحيح الحديث ، ومن ثم يغفر كثيرا لمن ظلم نفسه ، قال تعالى : «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ».

وبعد أن أبان سبحانه أن الجزاء بيد الله العليم بكل شىء ، ذكر وظيفة الرسول فقال :

(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) أي ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم بالإنذار بالعقاب بين يدى عذاب شديد ، والإعذار إليكم بما يقطع حججكم ـ إلا أن يؤدى الرسالة ثم إلينا الثواب على الطاعة ، وعلينا العقاب على المعصية ، ولا يخفى علينا المطيع لأوامرنا ، والعاصي التارك للعمل بها ، إذ لا يغيب عنا شىء من ضمائر الصدور وظواهر أعمال النفوس ، فخليق بكم أن تتقونى ولا تعصوا أمرى.

وفى هذا وعيد شديد وتهديد لمن يخالف أوامر الله ويعصيه. كما أن فيه إبطالا لما عليه أهل الشرك والضلال من الخوف من معبوداتهم الباطلة والتماس الخلاص والنجاة من العذاب بشفاعتها.

٣٧

والخلاصة ـ إن الرسول ليس عليه إلا البلاغ لدين الله وشرعه ، وبعدئذ يكون المبلغون هم المسئولين عند الله ، والله الذي يعلم ما يبدون وما يكتمون من العقائد والأقوال والأفعال ، وهو الذي يجازيهم بحسب علمه المحيط بكل ذرة فى الأرض والسموات ، ويكون جزاؤه حقا وعدلا ويزيد بعد ذلك من إحسانه عليه وفضله ، فاطلبوا سعادتكم من أنفسكم وخافوا منها عليها.

وما ورد من الشفاعة فى الآخرة فهو دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم يستجيبه الله فيظهر عقبه ما سبق به علمه واقتضته حكمته بحسب ما جاء فى كتابه ، دون أن يكون مؤثرا فى علم الله ولا فى إرادته ، فالحادث لا يؤثر فى القديم.

وبعد أن بين سبحانه أن الجزاء منوط بالأعمال أراد أن يبين ما يتعلق به الجزاء من صفات الأعمال والعاملين لها وأرشد إلى أن هناك حقيقتين مختلفتين يترتب على كل منهما ما يليق بها من الجزاء فقال :

(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) أي قل أيها الرسول مخاطبا أمتك : لا يستوى الرديء والجيد من الأشياء والأعمال والأموال ، فلا يتساوى الضار والنافع ولا الفاسد والصالح ، ولا الحرام والحلال ، ولا الظالم والعادل فلكل منها حكم يليق به عند الله الذي يضع كل شىء فى موضعه بحسب علمه.

(وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) أي ولو أعجبك أيها السامع كثرة الخبيث من الناس أومن الأموال المحرمة لسهولة تناولها والتوسع فى التمتع بها كأكل الربا والرشوة والخيانة.

والخلاصة ـ إنهما لا يستويان لا فى أنفسهما ولا عند الله ، ولو فرض أن كثرة الخبيث أعجبتك وغرّتك ، فصرت بعيدا عن إدراك تلك الحقيقة ـ وهى أن القليل من الحلال خير من كثير الحرام حسن عاقبة فى الدنيا والآخرة ؛ ألا ترى أن القليل الجيد من الغذاء أو المتاع خير من الكثير الرديء الذي لا يغنى غناءه ولا يفيد فائدته ، بل ربما يضر ويؤذى صاحبه.

٣٨

فكذلك الحال بالنسبة إلى الناس ، فالقليل الطيب منهم خير من الكثير الخبيث ، فطائفة قليلة من شجعان المؤمنين تغلب الطائفة الكثيرة من الجبناء المتخاذلين ، وجماعة قليلة من ذوى البصيرة والرأى تأتى من الأعمال ما يعجز عنه الكثير من أهل الحمق والبلاهة ، فالعبرة بالصفة لا بالعدد ، والكثرة لا تكون خيرا إلا بعد التساوي فى الصفات الفاضلة.

(فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي فاتقوا الله يا أرباب العقول الراجحة ، واحذروا أن يستحوذ عليكم الشيطان ، فتغتروا بكثرة المال الخبيث وكثرة أهل الباطل والفساد من الخبيثين ، فتقوى الله هى التي تجعلكم من الطيبين وبها يرجى أن تكونوا من المفلحين الفائزين بخيرى الدنيا والآخرة.

وخص أولى الألباب بالاعتبار لأنهم هم أهل الروية والبصر بعواقب الأمور التي ترشد إليها مقدماتها بعد التأمل فى حقيقتها وصفاتها ، أما الأغرار الغافلون فلا يفيدهم وعظ واعظ ولا تذكير مذكّر فلا يعتبرون بما يرون بأعينهم ولا بما يسمعون بآذانهم ، كما يشاهد ويرى من حال كثير من الأغنياء الذين ذهبت أموالهم الكثيرة التي جمعت من الحرام ، وحال الدول التي ذهب ريحها بخلوها من فضيلتى العلم والخلق وورثها من كانوا أقل منهم رجالا ومالا إذ كانوا أفضل منهم أخلاقا وأعمالا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه وظيفة الرسول وأنها تبليغ الرسالة وبيان شرع الله ودينه فحسب ، وبذا تبرأ ذمته ـ ناسب أن يصرح بأن الرسول قد أدى وظيفة البلاغ الذي

٣٩

كمل به الإسلام ـ وأنه لا ينبغى للمؤمنين أن يكثروا عليه من السؤال ، لئلا يكون ذلك سببا لكثرة التكاليف التي يشق على الأمة احتمالها ، فيسرع إليها الفسوق عن أمر ربها.

روى أن هذه الآية نزلت من جرّاء أن قوما كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم امتحانا له أحيانا ، واستهزاء أحيانا أخرى ، فيقول له بعضهم من أبي؟ ويقول بعضهم إذا ضلت ناقته أين ناقتى؟ ونحو ذلك.

روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وغيرهم عن أنس بن مالك قال : «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها وقال فيها : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ، قال فغطّى أصحاب رسول الله وجوههم. لهم حنين وبكاء مرتفع من الصدر ، فقال رجل من أبي؟ قال فلان فنزلت هذه الآية (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ)» وروى ابن جرير عن قتادة فى قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. قال فحدّثنا أن أنس بن مالك حدّثه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة ، فخرج عليهم ذات يوم ، فصعد المنبر فقال : (لا تسألونى اليوم عن شىء إلا بينته لكم) فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدى أمر قد حضر ، فجعلت لا ألتفت لا يمينا ولا شمالا إلا وجدت كل رجل لافّا رأسه فى ثوبه يبكى ، فأنشأ رجل كان يلاحى فيدعى إلى غير أبيه ، فقال : يا نبيّ الله من أبى؟ قال : (أبوك حذافة) قال ثم قام عمر فقال : رضينا با لله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا أعوذ با لله من شر الفتن. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم أر فى الخير والشر كاليوم قط ، صوّرت لى الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط».

قال الزهري : فقالت أمّ عبد الله بن حذافة : ما رأيت ولدا أعق منك ، أكنت تأمن أن أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رءوس الناس؟ فقال والله لو ألحقنى بعبد أسود للحقته.

٤٠