تفسير المراغي - ج ٧

أحمد مصطفى المراغي

ولما فى عالم السموات من بديع الصنع ، وبديع النظام ختم سبحانه الآية بقوله :

(قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) والآيات هنا إما آيات التنزيل ، وإما آيات التكوين ، فإن كانت الأولى فالمعنى ـ إن هذه الآية وما قبلها وكل ما فى معناها من الآيات المنزلة فى الحث على النظر فى ملكوت السموات تبين وتفصل حكم الله تعالى وعجائب صنعه ، فيزداد الإنسان بهذا البيان بحثا وعلما.

وإن كانت الثانية فالمعنى ـ إن الآيات الدالة على علم الله تعالى وقدرته وفضله على خلقه لا يستخرجها من النظر فى النجوم إلا أهل العلم الذين يقرنون العلم بالاعتبار ولا يكتفون بأن يقولوا بعد النظر والحساب : إن هذا لعجب عجاب.

وبعد أن ذكّرنا سبحانه ببعض آياته فى الأرض والسماء ذكرنا بآياته فى أنفسنا فقال :

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) الإنشاء إيجاد الشيء وتربيته ، أو إحداثه بالتدريج ، والنفس تطلق على الروح وعلى الشخص المركب من روح وبدن.

والمعنى ـ إنه تعالى هو الذي أنشأكم من نفس واحدة هى الإنسان الأول الذي تسلسل منه سائر الناس بالتوالد ، وهو آدم عليه السلام.

وفى إنشاء جميع البشر من نفس واحدة آيات بينات على قدرة الله وعلمه وحكمته ووحدانيته وفى التذكير بذلك إيماء إلى ما يجب من شكر نعمته ، وإرشاد إلى ما يجب من التعارف والتعاون بين البشر ، وأن يكون هذا التفرق إلى شعوب وقبائل مدعاة إلى التآلف ، لا إلى التعادي والتقاتل وبث روح العداوة والبغضاء بين الناس.

(فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) أي ولكم موضع استقرار فى الأصلاب ، وموضع استيداع فى الأرحام ، وإنما جعل الصلب مقر النطفة ، والرحم مستودعها ، لأن النطفة تتوالد فى الصلب ابتداء ، والرحم شبيهة بالمستودع كما قال :

وإنما أمهات الناس أوعية

مستودعات وللآباء أبناء

(قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) أي إننا جعلنا الآيات المبينة لسنننا فى الخلق مفصلة

٢٠١

وموضحة لقدرتنا وإرادتنا ، وعلمنا وحكمتنا ، وفضلنا ورحمتنا ، لقوم يفقهون ما يتلى عليهم ، ويفهمون المراد منه ، ويفطنون لدقائقه وخفاياه.

وعبر هنا بالفقه وفيما قبلها بالعلم ، لأن استخراج الحكم من خلق البشر بتوقف على غوص فى أعماق الآيات وفطنة فى استخراج دقائق الحكم ، أما العلم بمواقع النجوم والاهتداء بها فى ظلمات البر والبحر فهو من الأمور الظاهرة التي لا تتوقف على دقة النظر ، ولا غوص الفكر والتأمل فى العبرة منها ، وكذلك جميع المظاهر الفلكية.

ثم ذكر بعد ذلك آية أخرى من آيات التكوين وهى إنزال الماء من السماء وجعله سببا للنبات فقال :

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) أي وهو الذي أنزل من السحاب ماء فأخرجنا بسبب هذا الماء كل صنف من أصناف النبات المختلف فى شكله وخواصه وآثاره اختلافا متفاوتا فى مراتب الزيادة والنقصان كما قال : «يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ».

فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له شيئا غضا أخضر وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة كساق النجم وأغصان الشجر ، نخرج منه أي من هذا الأخضر المتشعب النبات آنا بعد آن حبّا متراكبا بعضه فوق بعض وهو السنبل.

وهذا تفصيل لنماء النجم الذي لا ساق له من النبات ونتاجه.

ثم عطف عليه حال نظيره من الشجر فقال :

(وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) أي ونخرج من طلع النخل قنوانا دانية القطوف سهلة التناول.

(وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) أي ونخرج من ذلك الخضر جنات من أعناب.

٢٠٢

(وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي وأخص من نبات كل شىء ـ الزيتون والرمان حال كون الرمان مشتبها فى بعض الصفات ، وغير مشتبه فى بعض آخر فإنها أنواع تشتبه فى شكل الورق والثمر ، وتختلف فى لون الثمر وطعمه ، فمنها الحلو والحامض والمزّ ، وكل ذلك دالّ على قدرة الصانع وحكمة المبدع جل شأنه.

(انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) أي انظروا نظرة استبصار واعتبار إلى ثمر ما ذكر إذا أخرج ثمره ، وكيف يخرج ضئيلا لا يكاد ينتفع به ، وإلى ينعه ونضجه ، وكيف إنه يصير ضخما ذا نفع عظيم ولذة كاملة ، ثم وازنوا بين صفاته فى كل من الحالين ، يستبن لكم لطف الله وتدبيره ، وحكمته فى تقديره ، وغير ذلك مما يدل على وجوب توحيده.

(إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فى ذلكم الذي أمرتم بالنظر إليه لدلائل عظيمة على وجود القادر الحكيم ووحدانيته ، لمن هو مؤمن بالفعل ، ولمن هو مستعد للإيمان.

أما غيرهم فإن نظرهم لا يتجاوز الظواهر ولا يعدوها إلى ما تدل عليه من وجود الخالق ووحدانيته التي إليها ينتهى النظام ، فهم لا يغوصون ليصلوا إلى أسرار عالم النبات ، ولا يبحثون عن أن انتقاله من حال إلى حال على ذلك النمط البديع دال على كمال الحكمة ، وعلى أن وحدة النظام فى الأشياء المختلفة لا يمكن أن تصدر من إرادات متعددة.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ

٢٠٣

عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣))

تفسير المفردات

فى اللسان : خلق الكلمة واختلقها وخرقها واخترقها : إذا ابتدعها كذبا ، وقال الراغب : الخرق قطع الشيء على سبيل الفساد قال تعالى : «أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها» والخلق : فعل الشيء بتدبير ورفق ، والبدع (بالكسر) والبديع : الشيء الذي يكون أولا ، ومنه البدعة فى الدين ، وقال الراغب : الإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء واقتداء ، والبديع من أسمائه تعالى لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها ، والإدراك : اللحاق والوصول إلى الشيء ، يقال تبعه حتى أدركه قال تعالى : «فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ» والبصر حاسة الرؤية ، واللطيف من الأجرام : ضد الكثيف والغليظ واللطيف من الطباع : ضد الجافي ، واللطف فى العمل : الرفق فيه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه البراهين الدالة على توحده بالخلق والتدبير فى عالم السموات والأرض ـ ذكر هنا بعض ضروب الشرك التي قال بها بعض العرب وروى التاريخ مثلها عن كثير من الأمم ، وهى اتخاذ شركاء لله من عالم الجن المستتر عن العيون ، أو اختراع نسل له من البنين والبنات.

الإيضاح

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ) أي وجعل هؤلاء المشركون لله سبحانه شركاء من الجن ، وفى المراد من الجن هنا أقوال ، فقال قتادة : إنهم الملائكة فقد عبدوهم ؛

٢٠٤

وقال الحسن : إنهم الشياطين فقد أطاعوهم فى أمور الشرك والمعاصي ، وقيل إبليس فقد عبده أقوام وسمّوه ربا ، ومنهم من سماه إله الشر والظلمة ، وخص الباري سبحانه بألوهية الخير والنور ، وروى عن ابن عباس أنه قال : إنها نزلت فى الزنادقة الذين يقولون إن الله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والحيوان ، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشر ، ورجح الرازي هذا الرأى قال : إن المراد من الزنادقة المجوس الذين قالوا إن كل خير فى العالم فهو من يزدان ، وكل شر فهو من أهر من أي إبليس.

(وَخَلَقَهُمْ) أي والحال أنه تعالى خلق الشركاء المجعولين ، كما خلق غيرهم من العالمين ، فنسبة الجميع إليه واحدة ، وامتياز بعض المخلوقين عن بعض فى صفاته وخصائصه لا يخرجه عن كونه مخلوقا ، ولا يصل به لأن يكون إلها وربا.

(وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي واختلقوا له بحمقهم وجهلهم بنين وبنات بغير علم بذلك ؛ فقد سمى مشركو العرب الملائكة بنات الله ، وقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله ، وقوله بغير علم أي من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ وصواب ، بل رميا بقول عن عمى وجهالة من غير فكر وروية ، ومن غير معرفة لمكانه من الشناعة والازدراء بمقام الألوهية.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزه ربنا وتعالى عن كل نقص ينافى انفراده بالخلق والتدبير ، إذ ليس كمثله شىء وهو السميع البصير.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ومبدعهما ، فهو الخالق المخترع لا على مثال سابق.

(أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ؟) أي كيف يكون له ولد والحال أنه لم يكن له زوج ينشأ الولد من ازدواجه بها ، والولد لا يوجد إلا كذلك ، ولكن جميع الكائنات السماوية والأرضية صدرت عنه تعالى صدور إبداع وإيجاد من العدم لأصولها الأولى ، وصدور تسبب كالتوالد ونحوه بحسب سننه فى الخلق.

٢٠٥

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي خلقه خلقا ولم يلده ولادة كما زعمتم ، فما افتريتم واخترعتم له من الولد ، فإنما هو مخلوق له لا مولود منه ـ وجاءت هذه الجملة مقررة لإنكار نفى الولد ، ودليلا بعد دليل على ذلك.

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إن علمه بكل شىء ذاتى له ، ولا يعلم كل شىء إلا الخالق لكل شىء ، ولو كان له ولد لكان هو أعلم به ، ولهدى العقول إليه بآيات الوحى ودلائل العلم ، لكنه كذب الذين افتروا عليه ذلك كذبا بلا علم مؤيد بوحي ولا دليل عقلى.

والخلاصة ـ إنه تعالى نفى عن نفسه الولد بوجوه :

(١) إن من مبدعاته السموات والأرضين ، وهى مبرأة من الولادة لاستمرارها وطول مدتها.

(٢) إن العادة قد جرت بأن الولد يتوالد من ذكر وأنثى متجانسين ، والله تعالى منزه عن المجانسة لشىء.

(٣) إن الولد كفء للوالد ، والله لا كفء له ، لأن كل ما عداه فهو مخلوق له لا يكافئه ، ولأن علمه ذاتى ولا كذلك غيره.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) الخطاب موجه إلى المشركين الذين أقيمت عليهم الحجة ، والإشارة إلى الله المنزه عن كل ما يصفونه به ، المتصف بما وصف به نفسه من الإبداع ، أي ذلكم الذي شأنه ما ذكر هو الله ربكم لا من خرقوا له من الأولاد ، وأشركوا به من الأنداد ، فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، لا إله إلا هو خالق كل شىء ، وما عداه مخلوق له يجب أن يعبد خالقه ، فكيف يعبده من مثله ويتخذه إلها.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي وهو مع تلك الصفات الجليلة الشأن متولّ جميع الأمور ، يدبر ملكه بعلمه وحكمته ، فيرزق عباده ويكلؤهم بالليل والنهار سرا وعلانية.

٢٠٦

وقد يكون المعنى ـ إنه تعالى رقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها.

والخلاصة ـ إنه لا حافظ إلا الله ، ولا قاضى للحاجات إلا هو ، فعلينا أن نقطع أطماعنا عن كل ما سواه ، ولا نلجأ فى المهمات إلا إليه.

(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) أي لا تراه الأبصار رؤية إحاطة تعرف كنهه عز وجل ، ونحو الآية قوله : «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ» ونفى إحاطة العلم لا يستلزم نفى أصل العلم وكذلك نفى إدراك البصر للشىء والإحاطة به لا يستلزم نفى رؤيته مطلقا.

وبهذا يعلم أنه لا تنافى بين هذه الآية وبين الأحاديث الصحيحة الدالة على رؤية المؤمنين لربهم فى الآخرة ، فقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال : «إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر ، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب» فالمؤمنون يرونه ، والكافرون عنه يؤمئذ محجوبون كما قال جل ثناؤه «كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ».

(وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أي إنه تعالى يرى العيون الباصرة رؤية إدراك وإحاطة فلا يخفى عليه من حقيقتها ولا من علمها شىء.

وقد عرف علماء التشريح تركيب العين وأجزاءها ووظيفة كل منها فى ارتسام المرئيات فيها ، كما عرفوا كثيرا من سنن الله فى النور ووظيفته فى رسم صور الأشياء فى العينين ، ولكنهم لم يصلوا بعد إلى معرفة كنه الرؤية ، ولا كنه قوة الإبصار ولا حقيقة النور.

قال صاحب اللسان : قال أبو إسحق فى الآية : أعلم الله أنه يدرك الأبصار ، وفى هذا الإعلام دليل على أن خلقه لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون حقيقة البصر وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه ، فأعلم أن خلقا من خلقه لا يدرك المخلوقون كنهه ولا يحيطون بعلمه ، فكيف به تعالى والأبصار لا تحيط به وهو اللطيف الخبير؟

٢٠٧

فأما ما جاء من الأخبار فى الرؤية وصح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فغير مدفوع ، وليس فى الآية دليل على دفعها ، لأن معنى هذه الآية إدراك الشّيء والإحاطة بحقيقته ، وهذا مذهب أهل السنة والعلم بالحديث ا ه.

(وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أي وهو اللطيف بذاته بحيث تخسأ الأبصار دون إدراك حقيقته ، الخبير بدقائق الأشياء ولطائفها ، فلا يعزب عن إدراكه شىء.

والخلاصة ـ إنه يلطف عن أن تدركه الأبصار ، ولكنه خبير بكل لطيف وهو يدرك الأبصار. ولا تدركه الأبصار.

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧))

تفسير المفردات

البصائر واحدها بصيرة ، ولها عدة معان : منها عقيدة القلب ، والمعرفة الثابتة باليقين ، والعبرة ، والشاهد المثبت للأمر ، والحجة ، والقوة التي تدرك بها الحقائق العلمية ، ويقابلها البصر الذي تدرك به الأشياء الحسية ، والمراد بها هنا الآيات الواردة فى هذه السورة أو القرآن بجملته ، نصرف الآيات أي نأتى بها متواترة حالا بعد حال مفسرين لها فى كل مقام بما يناسبه ، ودرس الشيء يدرس : إذا عفا وزال فهو دارس ودرسته الريح وغيرها ، ودرس اللابس الثوب درسا : أخلقه وأبلاه فهو دريس ، ودرسوا القمح : داسوه ليتكسر فيفرق بين حبه وتبنه ، ودرس الناقة : راضها ، ودرس

٢٠٨

الكتاب والعلم يدرسه درسا ودراسة ومدارسة أي ذلله بكثرة القراءة حتى خف حفظه عليه من ذلك ، والمعنى العام للدرس تكرار المعالجة ، وتتابع الفعل على الشيء حتى يذهب به أو يضل إلى الغاية منه.

المعنى الجملي

بعد أن أقام الأدلة والبراهين الواضحة على توحيده وكمال قدرته وعلمه ـ عاد هنا إلى تقرير أمر الدعوة والرسالة ، وتبليغ النبي صلّى الله عليه وسلم أوامر ربه ، ومدى تلك الأوامر من الهداية والإرشاد ، وما يقوله المشركون فى المبلّغ لها ، وأعلم سبحانه سنته فيهم وفى أمثالهم ، وما يجب على الرسول معهم وما ينفى عنه.

الإيضاح

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قد جاءكم فى هذه الآيات البينات بصائر من الحجج الكونية والبراهين العقلية ، تثبت لكم عقائد الحق اليقينية التي عليها مدار سعادتكم فى دنياكم وآخرتكم ، تفضل بها عليكم ربكم الذي خلقكم وسواكم ، وربّى أجسادكم ، وأكمل مشاعركم وقواكم ، كما ربى أرواحكم ، وهذّب نفوسكم ، ومحّص بها عقولكم ، حتى تصل إلى منتهى ما تسمو إليه النفوس البشرية من الكمال.

(فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) أي فمن أبصر بها الحق وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ، فلنفسه قدم الخير وبلغ السعادة.

(وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) أي ومن عمى عن الحق وأعرض عن سبيله ، وأصرّ على ضلاله ، تقليدا لآبائه وأجداده ، فعلى نفسه جنى.

ونحو الآية قوله : «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها» وقوله : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» وقوله : «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها».

٢٠٩

(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي وما أنا عليكم برقيب أحصى عليكم أعمالكم وأفعالكم وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم ، والله هو الحفيظ عليكم ، ولا يخفى عليه شىء من أعمالكم ، فهو يعلم ما تسرّون وما تعلنون ، ويجزيكم عليه بما تستحقون ، فعليه وحده الحساب ، وما علىّ إلا البلاغ.

(وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي ومثل ذلك التصريف البديع نصرّف الآيات فى سائر القرآن لإثبات أصول الإيمان وتهذيب النفوس والأخلاق ، فنحوّلها من حال إلى حال ، مراعين فى ذلك تفاوت العقول والأفهام واختلاف استعداد الأفراد والجماعات.

(وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) أي إن لتصريف الآيات فوائد شتى منها : (١) أن يهتدى بها المستعدون للإيمان على اختلاف العقول والأفهام : (٢) أن يقول الجاحدون المعاندون من المشركين قد درست من قبل وتعلّمت ، وليس هذا بوحي منزل كما زعمت ، وقد قالوا هذا إفكا وزورا ؛ فزعموا أنه تعلم من غلام رومى كان يصنع السيوف بمكة وكان يختلف إليه كثيرا ، وذلك ما عناه سبحانه بقوله : «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ، لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ».

(وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣) وأن نبين هذا القرآن المشتمل على تصريف الآيات الذي يقول فيه الجاحدون إنه أثر درس واجتهاد لقوم لديهم الاستعداد للعلم بما تدل عليه الآيات من الحقائق ، وما يترتب على الاهتداء بها من السعادة دون أن يكون لديهم معارض من تقليد أو عناد.

والخلاصة ـ إن الذين يقولون للرسول : إنك درست هم الجاهلون الذين لم يفهموا تلك الآيات التي صرفها الله على ضروب مختلفة ، ولم يفقهوا سرها ، وما يجب من إيثارها على منافع الدنيا.

وأما الذين يعملون مدلولاتها ، وحسن عاقبة الاهتداء بها ، فهم الذين يتبين لهم بتأملها حقيقة القرآن وما اشتمل عليه من حسن التصرف المؤيد بالحجة والبرهان.

٢١٠

وبعد أن بين سبحانه لرسوله أن الناس فى شأن القرآن فريقان ، فريق فسدت فطرتهم ولم يبق لديهم استعداد لهديه ، ولا للعلم بما فيه من تصريف الآيات ، ومن ثم كان نصيبهم منه الجحود والإنكار ، وفريق آخر اهتدى به وعمل بما فيه ـ أمره أن يتبع ما أوحى إليه من ربه بالبيان له والعمل به فقال :

(اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي اتبع ما أوحى إليك لتربى نفسك وتكون إماما لأبناء جنسك ، فإن الاقتداء لا يتم إلا بمن يعمل ، بما يعمله ، ويأتمر بما يأمر ؛ ثم قرن ذلك باعتقاد توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ، فالخالق المرّبى للأشباح بما أنزل من الرزق ، وللأرواح بما أنزل من الوحى هو المعبود الواحد الذي لا شريك له المجازى على الأعمال ، التي لا تقبل شفاعة ولا فداء.

ثم أمره بعدئذ بالإعراض عن المشركين بألا يبالى بإصرارهم على الشرك ، ولا بمثل قولهم درست ، لأن الحق يعلو متى ظهر بالقول والعمل مع الإخلاص ، ولا يضره الباطل بتزيينه بزخارف الأقوال ولا بالانكباب على خرافات الأعمال ؛ ثم هوّن عليه أمر الإعراض عنهم فقال :

(وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) أي ولو شاء الله ألا يشركوا لما أشركوا بأن يخلق البشر مؤمنين طائعين بالفطرة كالملائكة ، لكنه خلقهم مستعدين للإيمان والكفر ، والتوحيد والشرك ، والطاعة والفسق ، ومضت سنته بأن يكونوا مختارين فى أعمالهم وفى كسبهم لعلومهم وأعمالهم ، وجعل منها الخير والشر ، وإن كانت غرائزهم وفطرهم كلها خيرا.

(وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي وما جعلناك عليهم حفيظا تحفظ عليهم أعمالهم لتحاسبهم عليها وتجازيهم بها ، ولا وكيلا تتولى أمورهم وتتصرف فيها.

٢١١

والخلاصة ـ إنه ليس لك ما ذكر من الوصفين كما يكون ذلك لبعض الملوك بالقهر أو التراضي بل أنت بشير ونذير ، والله هو الذي يتولى جزاءهم وحسابهم.

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠))

المعنى الجملي

بعد أن أمر الله رسوله فيما سبق من الآيات بتبليغ وحيه بالقول والعمل ، والإعراض عن المشركين بمقابلة جحودهم وطعنهم فى الوحى بالصبر والحلم ، وبين أن من مقتضى سنته فى البشر ألا يتفقوا على دين لاختلاف استعدادهم وتفاوتهم فى درجات الفهم والفكر ، وذكر أن وظيفة الرسل أن يكونوا مبلغين لا مسيطرين ، وهادين لا جبارين ، فينبغى ألا يضيقوا ذرعا بما يرون وما يشاهدون من الازدراء بهم والطعن فى دينهم ، فإن الله هو الذي منحهم هذه الحرية ولم يجبرهم على الإيمان ـ نهى المؤمنين هنا عن سب آلهة المشركين ، لأنهم إذا شتموا فربما غضبوا ، وذكروا الله بما لا ينبغى من القول ؛ ثم ذكر طلب بعضهم للآيات ، لأن القرآن ليس من جنس المعجزات ، ولو جاءهم بمعجزة ظاهرة لآمنوا به ، وحلفوا على ذلك وأكدوه بكل يمين محرجة.

٢١٢

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس فى قوله : «وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ» الآية ، قال : قالوا يا محمد لتنتهينّ عن سب آلهتنا أو لنهجونّ ربك ، فنهاهم أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدوا بغير علم.

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى قال : «لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش : انطلقوا فلندخلنّ على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحى أن نقتله بعد موته فتقول العرب : كان يمنعه ويحميه فلما مات قتلوه ، فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبيّ ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاصي والأسود بن البختري ، وبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب فقالوا : استأذن لنا على أبي طالب ، فأتى أبا طالب فقال هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك ، فأذن لهم فدخلوا فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا ، وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا ، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه ، فدعا النبي صلّى الله عليه وسلم فجاءه فقال له : هؤلاء قومك وبنو عمك ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يريدون؟ قالوا نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك ، قال أبو طالب : قد أنصفك قومك فاقبل منهم ، قال النبي صلّى الله عليه وسلم : أرأيتم لو أعطيتكم هذا هل أنتم معطى كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم وأدّت لكم الخراج؟ قال أبو جهل : وأبيك لنعطينّكها وعشر أمثالها فما هى؟ قال : قولوا : لا إله إلا الله ، فأبوا واشمأزوا ، قال أبو طالب : قل غيرها فإن قومك قد فزعوا منها ، قال يا عم : ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوا بالشمس فيضعوها فى يدى ، ولو أتونى بها فوضعوها فى يدى ما قلت غيرها ، فغضبوا وقالوا لتكفّنّ عن شتم آلهتنا أو لنشتمنّك ونشتم من يأمرك ، فأنزل الله : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ).

الإيضاح

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ولا تسبوا أيها المؤمنون معبودات المشركين التي يدعونها من دون الله لجلب نفع لهم أو دفع ضرر

٢١٣

عنهم بوساطتها وشفاعتها عند الله ، إذ ربما نتج عن ذلك سبهم لله سبحانه وتعالى عدوا أي تجاوزا منهم للحد فى السّباب والمشاتمة ليغيظوا المؤمنين. وقوله بغير علم أي بجهالة بالله تعالى وبما يجب أن يذكر به.

وفى ذلك إيماء إلى أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها ، فإن ما يؤدى إلى الشرّ شر ، وإلى أنه لا يجوز أن يعمل مع الكفار ما يزدادون به بعدا عن الحق ونفورا منه ، ألا ترى إلى قوله تعالى لموسى وهارون فى مخاطبة فرعون : «فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى».

(كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أي مثل ذلك التزيين الذي يحمل المشركين على ما ذكر حمية لمن يدعون من دون الله ـ زينا لكل أمة عملهم من كفر وإيمان وشر وخير.

والخلاصة ـ إن سنننا فى أخلاق البشر قد جرت بأن يستحسنوا ما يجرون عليه ويتعودونه ، سواء كان مما عليه آباؤهم أو مما استحدثوه بأنفسهم إذا صار ينسب إليهم ، وسواء أكان ذلك عن تقليد وجهل أم عن بينة وعلم.

ومن هذا يعلم أن التزيين أثر لأعمالهم الاختيارية بدون جبر ولا إكراه ، لا أن الله خلق فى قلوب بعض الأمم تزيينا للكفر والشر ، وفى قلوب بعضها تزيينا للإيمان والخير من غير أن يكون لهم عمل اختياري نشأ عنه ذلك ، وإلا كان الإيمان والكفر والخير والشر من الغرائز الخلقية التي تعد الدعوة إليها من العبث الذي يتنزه الله تعالى عن إرسال الرسل وإنزال الكتب لأجله ، وكان عمل الرسل والحكماء والمؤدبين الذين يؤدبون الناس عملا لا فائدة فيه.

والخلاصة ـ إن تزيين الأعمال للأمم سنة من سنن الله جل شأنه سواء فى ذلك أعمالها وعاداتها وأخلاقها الموروثة والمكتسبة.

(ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ثم إلى ربهم ومالك

٢١٤

أمرهم رجوعهم ومصيرهم بعد الموت وحين البعث ، لا إلى غيره إذ لا رب سواه ، فينبئهم بما كانوا يعملون فى الدنيا من خير أو شر ويجزيهم عليه ما يستحقون وهو بهم عليم.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) أي وأقسم هؤلاء المشركون المعاندون بأوكد الأيمان وأشدها مبالغة ، لئن جاءتهم آية من الآيات الكونية ليؤمنن بأنها من عند الله وأنك رسول من لدنه.

وفى هذا إيماء إلى أنهم بلغوا غاية العتو والعناد ، إذ هم لم يعدّوا ما يشاهدونه من المعجزات من نوع الآيات ومن ثم اقترحوا غيرها ، وما كان غرضهم من ذلك إلا التحكم فى طلب المعجزات ، وعدم الاعتداد بما شاهدوا من البينات.

(قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) أي قل أيها الرسول إنما الآيات عند الله وحده ، فهو القادر عليها والمتصرف فيها يعطيها من يشاء ويمنعها من يشاء بحكمته وقضائه كما قال : «وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ» فلا يمكننى أن أتصدى لإنزالها بالاستدعاء والطلب.

روى «أن قريشا اقترحوا بعض آيات فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني؟ فقالوا نعم وأقسموا لئن فعلت لنؤمنن جميعا ، فسأل المسلمون رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن ينزلها طمعا فى إيمانهم ، فهمّ عليه الصلاة والسلام بالدعاء فنزلت الآية».

وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : «كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم قريشا فقالوا يا محمد : تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر ، وأن عيسى كان يحيى الموتى ، وأن ثمود كانت لهم ناقة ، فأتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : أىّ شىء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا تحوّل لنا الصفا ذهبا ، فقال : فإن فعلت تصدقونى ، قالوا نعم ، والله لئن فعلت لنتبعنك

٢١٥

أجمعين ، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال : إن شئت أصبح الصفا ذهبا ، فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم (أي عذاب الاستئصال) وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم ، فقال صلّى الله عليه وسلم : أتركهم حتى يتوب تائبهم ، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)».

(وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) الخطاب للمؤمنين الذين تمنّوا مجىء الآية ليؤمنوا والنبي صلّى الله عليه وسلم منهم بدليل همه بالدعاء ورغبته فى ذلك.

والمعنى ـ إنه ليس لكم شىء من أسباب الشعور بهذا الأمر الغيبى الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب وهو أنهم لا يؤمنون إذا جاءتهم الآية.

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) تقليب الأفئدة والأبصار : الطبع والختم عليها أي وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يدركونه ، وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه ، لكمال نبوّها عنه وتمام إعراضهم عن درك حقيقته وتكون حالهم حينئذ كحالهم الأولى فى عدم إيمانهم بما جاءهم أول مرة من الآيات.

ونظير الآية قوله : «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ».

ومن لم يقنعه ما جاء به القرآن من الدلائل العقلية والبراهين العلمية لا يقنعه ما يراه بعينيه من الآيات الحسية ، فله أن يدعى أن عينيه قد خدعتا أو أصيبتا بآفة ، فهما لا تريان إلا صورا خيالية أو سحرا مفترى ، وهذه سنة الأولين فى مكابرة آيات الرسل.

(وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) العمه : التردد فى الأمر من الحيرة فيه،والطغيان : تجاوز الحد أي إنا ندعهم يتجاوزون الحد فى الكفر والعصيان ، ويترددون متحيرين فيما سمعوا ورأوا من الآيات ، محدّثين أنفسهم أهذا هو الحق المبين أم السحر الذي يخدع

٢١٦

عيون الناظرين وهل الأرجح اتباع الحق بعد ما تبين ، أو المكابرة والجدل كبرا وأنفة من الخضوع لمن يرونه دونهم.

وإنما أسنده الخالق إلى نفسه لبيان سننه الحكمية فى ربط المسببات بأسبابها ، فرسوخهم فى الطغيان الذي هو غاية الكفر والعصيان هو سبب تقليب القلوب والأبصار أي الختم عليها ، فلا تفقه ولا تبصر.

والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لو لا أن هدانا الله ، اللهم ثبت أفئدتنا وأبصارنا على الحق ، واحفظنا من العمه والطغيان فى كل أمر ، واجعلنا ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه.

وصلّى الله على سيدنا محمد وآله الغر الميامين وأصحابه المطهرين.

وكان الفراغ من مسودة هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة فى الليلة الثالثة من جمادى الأولى من سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية.

٢١٧

فهرست

أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

إرسال وفد من الصحابة إلى ملك الحبشة ، وما حدث حينئذ.......................... ٤

إرسال كتب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك ورؤساء العشائر.................. ٦

النصارى أقرب مودة للمؤمنين من اليهود مع ذكر سبب ذلك........................ ٧

النهى عن تحريم الطيبات ، وعن الإسراف فى استعمالها.............................. ١٠

ما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم فى استعمال الطيبات........................ ١٣

إلزام الحانث فى يمينه بإحدى مبرات ثلاث......................................... ١٥

لا يجوز الحلف بغير الله وأسمائه وصفاته........................................... ١٧

الأيمان ثلاثة أقسام............................................................. ١٨

الأيمان مبنية على العرف والعبرة بنية المحلّف لا الحالف.............................. ١٩

الحكمة فى تحريم الخمر بالتدريج.................................................. ٢١

الخمر والميسر يوقعان فى العداوة والبغضاء ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة.......... ٢٣

جواز التداوى بالخمر والسموم والنجاسات........................................ ٢٧

عقوبة شارب الخمر فى الدنيا والآخرة............................................ ٢٨

حرمة قتل الصيد البرى حين الإحرام............................................. ٣١

جزاء قتله حين التعمد.......................................................... ٣٢

حل صيد البحر حين الإحرام.................................................... ٣٣

٢١٨

البيت الحرام معظم لدى الناس جميعا.............................................. ٣٥

ليس على الرسول إلا البلاغ وبيد الله الحساب..................................... ٣٧

لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث.............................. ٣٨

النهى عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى...................................... ٤٣

يجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلا إذا قست القلوب فلم تؤثر فيها المواعظ.... ٤٦

الشهادة على الوصية حين الموت................................................. ٤٨

إذا اتهم الوارثون الشاهدين بالكذب أو بالخيانة حلف اثنان من أقرب الناس إلى الموصى ٥٠

الحث على الوصية وعدم التهاون فيها فى سفر أو حضر............................. ٥٢

سؤال الرسل يوم القيامة عما أجابتهم به أممهم..................................... ٥٤

ما أنعم الله به على عيسى وأمه.................................................. ٥٥

طلب الحواريين إنزال مائدة من السماء........................................... ٥٧

ما ينجى الإنسان من عذاب يوم القيامة........................................... ٦١

 اتخاذ المسيح إلها............................................................... ٦٢

إلمامة بما تضمنته سورة المائدة من التشريع والأحكام................................ ٦٧

المجوس يعتقدون أن للعالم ربين................................................... ٧٢

الذنوب التي تدعو إلى الهلاك ضربان.............................................. ٧٦

اقتراح كفار قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم إنزال ملك من السماء يشهد بأنه رسول     ٨٠

تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن إيذاء قومه له وبشارته بحسن العاقبة........... ٨٢

لا تدقّ عن سمع الله دعوة داع أو حاجة محتاج..................................... ٨٨

٢١٩

لا يطلب شىء من أمور الدنيا والآخرة إلا من الله.................................. ٩١

شهادة الله بين الرسول وقومه ضربان............................................. ٩٢

المشركون يوم القيامة ينكرون الشرك تارة ويعترفون أخرى......................... ٩٦

التقليد يمنع من النظر والاستدلال................................................. ٩٨

الكافرون يتمنون يوم القيامة أن يردوا إلى الدنيا.................................. ١٠٢

حزنه صلى الله عليه وسلم على تكذيب المشركين له............................. ١١٠

تبديل الكلمات والأقوال نوعان................................................ ١١٢

اقتراح المشركين نزول الآيات ورد الله عليهم.................................... ١١٣

الأحياء التي تدب على وجه الأرض أمم وجماعات أمثالكم........................ ١١٨

اللوح المحفوظ................................................................ ١١٩

حب الأنداد والأصنام مراتب ودرجات......................................... ١٢٢

البأساء والضراء تهذب النفوس................................................. ١٢٥

من آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون................................ ١٢٨

الغيب قسمان................................................................ ١٢٩

ليس من الغيب ما تعلم أسبابه عند بعض وتجهل لدى آخرين...................... ١٢٩

علم الغيب ليس من العلوم الكسبية لدى الرسل والأنبياء.......................... ١٣١

من معاذير المشركين فى عدم إيمانهم أن أتباعه صلى الله عليه وسلم من الفقراء المستضعفين ١٣٤

الأنبياء مذكرون لا مسيطرون جبارون.......................................... ١٣٥

الرسول لا يملك التصرف فى الكون ، ولا يعلم الغيب ولا يملك حساب المؤمنين ولا جزاءهم      ١٣٦

٢٢٠