تفسير المراغي - ج ٧

أحمد مصطفى المراغي

وهذا النهى شامل لنهى الله عنه فى كتابه الكريم فى كثير من الآيات ، ولأمره بضده وهو دعاؤه وحده ، ولنهى العقل والفطرة السليمة قبل إرسال الأنبياء.

ثم أمره أن يبين لهم أن هذه العبادة مبنية على الرأى والهوى وهى ضلال وغىّ.

(قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي قل لهم : لا أتبعكم على ما تدعوننى إليه لا فى هذه العبادة ولا فى غيرها من الأعمال ، لأنها مؤسسة على الهوى ، وليست على شىء من الحق والهدى ، فإن فعلت ذلك فقد تركت محجة الحق وسرت على غير هدى ، فصرت ضالا مثلهم وخرجت من عداد المهتدين ، وفى هذا تعريض بأنهم ليسوا من الهداية فى شىء.

ثم أمره أن يقول لهم : إنى على هدى من ربى فيما أتبعه.

(قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي قل لهم أيها الرسول إنى فيما أخالفكم فيه على بينة من ربى أي على بيان قد تبينته ، وبرهان قد وضح لى من ربى بالوحى والعقل ، إذ القرآن بينة مشتملة على ضروب كثيرة من البينات العقلية والكونية التي يعجز الرسول عن الإتيان بمثلها.

(وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أي والحال أنكم كذبتم به أي بالقرآن الذي هو بينتى من ربى ، ومن عجيب أمركم أنكم تكذبون ببينة البينات ، ثم تطمعون أن أتبعكم على ضلال من أمركم لا بينة لكم عليه إلا محض التقليد ، والتقليد براءة من الاستدلال ، ورضا بجهل الآباء والأجداد.

وفى هذا حجة دامغة ، وبينة ناصعة على ما قبله ، من نفى عبادته صلى الله عليه وسلم للذين يدعونهم من دون الله.

وبعد أن بين تكذيبهم به قفّى عليه برد شبهة تخطر حينئذ بالبال ، وهى أن الله أنذرهم عذابا يحلّ بهم إذا أصروا على عنادهم وكفرهم ، ووعد بأن ينصر رسوله عليهم وقد استعجلوا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فكان عدم وقوعه شبهة لهم على صدق القرآن ، إذ هم يجهلون سنة الله فى شئون الإنسان ، فأمر الله نبيه أن يقول لهم :

١٤١

(ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أي ما الذي تستعجلون به من نقم الله وعذابه بيدي ولا أنا على ذلك بقادر ، ولم أقل لكم إن الله فوض أمره إلىّ حتى تطالبونى به ، وتعدّون عدم إيقاعه عليهم حجة على تكذيبه.

ثم أكد ما سبق بقوله :

(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ما الحكم فى هذا وفى غيره من التصرف فى شئون الأمم إلا لله وحده ، وله فى ذلك سنن حكيمة تجرى عليها أفعاله وأحكامه ، فلا يتقدم شىء منها عن ميقاته ولا يتأخر : «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ».

ثم بين سبحانه أن كل ما قصه على رسوله فهو حق لا شبهة فيه فقال :

(يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) أي يقص على رسوله القصص الحق فى وعده ووعيده وجميع أخباره ، وهو خير الحاكمين فى كل أمر ، فهو لا يقع فى حكمه وقضائه حيف إلى أحد ولا جور وهو النافذ حكمه فى كل شىء ، والمحيط علمه بكل شىء.

(قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يستعجلون العذاب بقولهم : «اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ».

لو أن عندى ما تسعجلون به بأن مكننى الله من التصرف فيه وجعله من قدرتى الكسبية ، لقضى الأمر بينى وبينكم فأهلكتكم عاجلا غضبا لربى ، واقتصاصا من تكذيبكم ، ولتخلصت منكم سريعا لصدكم عن تبليغ دعوة ربى ، وصدكم الناس عنى ، وقد وعدني ربى بنصر المؤمنين المصلحين ، وخذلان الكافرين المفسدين.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) الذين لا رجاء فى رجوعهم عن الظلم إلى الإيمان والحق والعدل ، ومن ثم لم يجعل أمر عقابهم إلى ، بل جعله عنده ووقّت له ميقاتا هو أعلم به ، ترونه بعيدا ويراه قريبا : «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ».

١٤٢

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢))

تفسير المفردات

المفاتح واحدها مفتح : (بفتح الميم) وهو المخزن : (وبكسرها) هو المفتاح الذي تفتح به الأقفال ، والبحر : كل مكان واسع حاو للكثير من الماء ، والبرّ : ما يقابله ، والتوفى : أخذ الشيء وافيا أي تاما كاملا ويقابله التوفية ، وهو إعطاء الشيء تاما كاملا ، ويقال وفاه حقه فتوفاه منه قال تعالى : «وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ» ويقال توفاه واستوفاه : أحصى عدده ثم أطلق التوفى على الموت ، لأن الأرواح تقبض وتؤخذ أخذا تاما ، وأطلق على النوم كما فى الآية وفى آية الزمر ، والجرح : يطلق على العمل والكسب بالجوارح وعلى التأثير الدامي من السلاح وما فى معناه كالبراثن والأظفار والأنياب من سباع الطير والوحش ، وتسمى الخيل والأنعام المنتجة جوارح أيضا ، لأن نتاجها كسبها ، والجرح كالكسب يطلق على الخير والشر ، والاجتراح فعل الشر خاصة فى قوله تعالى : «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ

١٤٣

كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» ويبعثكم : يوقظكم من النوم ، ويقضى : ينفذ ، والأجل المسمى : هو مدة بقائه فى الدنيا. والحفظة : هم الكرام الكاتبون من الملائكة «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ».

المعنى الجملي

بعد أن أمر عز اسمه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين للمشركين أنه على بينة من ربه فيما بلغهم إياه من رسالته ، وأن ما يستعجلونه عذاب الله تعجيزا أو تهكما ليس عنده ، وإنما هو عند الله ، وقد قضت سنته أن يجعل لكل شىء أجلا وموعدا لا يتقدم ولا يتأخر ، وأن الله تعالى هو الذي يقضى الحق ويقصه على رسوله ـ ذكر هنا أن مفاتح الغيب عنده وأن التصرف فى الخلق بيده ، وأنه هو القاهر فوق عباده لا يشاركه أحد من رسله ولا من سواهم فى ذلك.

الإيضاح

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) أي إن خزائن الغيب عند الله وهو المتصرف فيها وحده ، وكذلك المفاتيح أي الوسائل التي يتوصل بها إلى علم الغيب هى عنده أيضا لا يعلمها علما ذاتيا إلا هو ، فهو الذي يحيط بها علما وسواه جاهل بذاته لا يعلم منها شيئا إلا بإعلامه عز وعلا ، فعلينا أن نفوض إليه إنجازه وعده لرسله بالنصر ، ووعيده لأعدائه بالعذاب والقهر ، وأن نجزم بأنه لا يخلف وعده رسله وإنما يؤخر تنفيذه إلى الأجل الذي اقتضته حكمته.

روى البخاري عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «مفاتيح الغيب خمس» : «إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».

وما حكاه الله عن عيسى عليه السلام من قوله : «وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ» وما قاله يوسف عليه السلام لصاحبى السجن «لا يَأْتِيكُما»

١٤٤

داخل فيما يظهر الله عليه رسله من علم الغيب كما قال فى سورة الجن : «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ».

وجاء فى معنى الآية قوله تعالى : «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ. وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» وقوله : «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ».

وروى البخاري عن عمران بن حصين مرفوعا «كان الله ولم يكن شىء غيره وكان عرشه على الماء وكتب فى الذكر كل شىء ، وخلق السموات والأرض».

لهذا الحديث والآثار المروية اتفق علماء التفسير بالمأثور على تفسير الكتاب المبين وأم الكتاب والذكر فى نحو ما تقدم من الآيات ـ باللوح المحفوظ ، وهو شىء أخبر الله به وأنه أودعه كتابه ولم يعرفنا حقيقته ، فعلينا أن نؤمن بأنه شىء موجود وأن الله قد حفظ فيه كتابه ، وأما دعوى أنه جرم مخصوص فى سماء معينة فمما لم يثبت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم بالتواتر ، فلا ينبغى أن يدخل فى باب العقائد لدى المؤمنين.

وروى عن الحسن أن حكمة كتابة الله لمقادير الخلق تنبيه المكلفين إلى عدم إهمال أحوالهم المشتملة على الثواب والعقاب ، وزاد بعضهم حكمتين أخريين :

(١) اعتبار الملائكة عليهم السلام بموافقة المحدثات للمعلومات الإلهية.

(٢) عدم تغيير الموجودات عن الترتيب السابق فى الكتاب ، ويؤيده ما روى البخاري عن أبي هريرة. «جفّ القلم بما أنت لاق».

(وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي وعنده علم ما لم يغب عنكم ، لأن ما فيهما ظاهر للعين يعلمه العباد وعلمه تعالى بما فيهما علم شهادة مقابل لعلم الغيب.

والخلاصة ـ إن عنده علم ما غاب عنكم مما لا تعلمونه ولن تعلموه مما استأثر بعلمه وعند علم ما يعلمه جميعكم لا يخفى عليه شىء منه ، فعنده علم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة.

١٤٥

(وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) أي وما تسقط ورقة من نجم أو شجر فى الصحارى والبراري ، أو فى الأمصار والقرى إلا والله عليم بها.

(وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي وما تسقط من حبة بفعل الإنسان باختياره كالحب الذي يلقيه الزّراع فى بطون الأرض يسترونه بالتراب فيحنجب عن نور النهار ، أو تذهب به النمل فى قراها وجحورها ، أو بغير فعل الإنسان كالذى يسقط من النبات فى الشقوق والأخاديد ، وما يسقط من الثمار رطبا ويابسا ـ إلا وهو فى كتاب مبين وهو اللوح المحفوظ الذي كتب ذلك فيه وكتب عدده والوقت الذي يوجد فيه والذي يفنى فيه ، وجعل الكتاب مبينا لأنه يبين عن صحة ما هو فيه بوجود ما رسم فيه على ما رسم ، هذا هو الذي اختاره الزجاج لقوله فى الآية الأخرى. «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها».

واختار الرازي أن الكتاب المبين علم الله تعالى الذي شبه المكتوب فى الصحف بثباته وعدم تغيره.

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) أي يتوفى أنفسكم حال نومكم بالليل أي يزيل إحساسها ويمنعها من التصرف فى الأبدان ، واقتصر على الليل وإن كان ذلك يقع فى النهار ، لأن الغالب أن يكون النوم فيه.

وفى معنى الآية قوله تعالى «(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) فيمسك الّتى قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)».

(وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) أي ويعلم جميع عملكم وكسبكم حين اليقظة ويكون معظم ذلك فى النهار سواء أكان خيرا أم شرا.

(ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي ثم إنه بعد توفيكم بالنوم يثيركم ويرسلكم منه فى النهار.

١٤٦

(لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أي يوقظكم ويرسلكم لكسب أرزاقكم وأقواتكم ، ومناجاة إلهكم وخالقكم ، لأجل أن يقضى وينفذ الأجل المسمى الذي فى علمه تعالى لكل فرد منكم ، فإن لأعماركم آجالا مقدرة مكتوبة لا بد من قضائها وإتمامها.

(ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) أي ثم إليه رجوعكم إذا انقضت آجالكم ومتم.

(ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم يخبركم بما كنتم تعملون فى حياتكم الدنيا ويجازيكم بذلك إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

والقادر على البعث من توفى النوم قادر على البعث من توفى الموت.

وفى ذكر الأجل المسمى والرجوع إلى الله تعالى لأجل الحساب والجزاء إيماء إلى تأييد ما تقدم من حكمة تأخير ما كان يستعجله مشركو مكة من وعيد الله لهم ووعده لرسله بالنصر عليهم وبيان عذاب الآخرة فوق ما أنذروا به من عذاب الدنيا ، فمن لم يدركه العذاب الأول لم يفلت من الثاني.

وبعد أن أبان سبحانه أمر الموت والرجوع إلى الله للحساب والجزاء ، ذكر قهره لعباده وإرسال الحفظة لإحصاء أعمالهم وكتابتها عليهم فقال :

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) أي إنه تعالى هو الغالب خلقه العالي عليهم بقدرته وسلطانه ، لا المقهورون من الأوثان والأصنام ، المغلوبون على أمرهم ، ويرسل عليكم حفظة من الملائكة يتعاقبونكم ليلا ونهارا يحفظون أعمالكم ويحصونها ، ولا يفرّطون فى حفظها وإحصائها. ولا يضيعون شيئا منها.

وإرسال الحفظة عليهم مراقبهم لهم وإحصاء أعمالهم وكتابتها وحفظها فى الصحف التي تنشر يوم الحساب ، وهى المرادة بقوله تعالى «وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ».

وهؤلاء الحفظة الملائكة الذين قال الله تعالى فيهم «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» ونحن نؤمن بهذه الكتابة ولا نعرف صفتها ولا نتحكم فيها بآرائنا.

١٤٧

وما مثل مراقبة أولئك الحفظة إلا مثل : / (مراقبة رجال البوليس السرى فى حكومات العصر الحديث).

روى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال فى الآية : الملوك يتخذون الحرس يحفظونهم من أمامهم ومن خلفهم وعن يمينهم وعن شمالهم ، يحفظونهم من القتل ، ألم تسمع أن الله تعالى يقول «وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ» لم يغن الحرس عنهم شيئا.

وفى معنى الآية قوله «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ. لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ».

وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، يجتمعون فى صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم ، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادى؟ فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون».

والحكمة فى كتابة الأعمال وحفظها على العالمين أن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه وتعرض على رءوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن الفواحش والمنكرات وأبعث له على عمل الصالحات ، فإن المرء إن لم يصل إلى مقام العلم الراسخ الذي يثمر الخشية لله والمعرفة الكاملة التي تثمر الحياء ، ربما غلب عليه الغرور بالكرم الإلهى والرجاء فى المغفرة والرحمة فلا يكون لديه من الخشية والحياء ، ما يزجره عن المعصية ، كما يزجره توقع الفضيحة فى موقف الحساب على أعين الخلائق وأسماعهم ، كما قال تعالى «وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً».

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) أي يرسل عليكم

١٤٨

حفظة من الملائكة يراقبونكم ويحصون عليكم أعمالكم مدة حياتكم ، حتى إذا جاء أحدكم الموت وانتهى عمله ، توفته وقبضت روحه رسلنا الموكلون بذلك من الملائكة ، وهؤلاء الرسل هم أعوان ملك الموت الذين يتولّون ذلك بأمره كما قال تعالى «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ».

روى ابن جرير وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه سئل عن ملك الموت أهو وحده الذي يقبض الأرواح؟ قال هو الذي يلى أمر الأرواح وله أعوان على ذلك ، وقرأ الآية ، ثم قال غير أن ملك الموت هو الرئيس.

وروى عن إبراهيم النّخعى ومجاهد وقتادة ، أن الأعوان يقبضون الأرواح من الأبدان ثم يدفعونها إلى ملك الموت. وعن الكلبي أن ملك الموت هو الذي يتولى القبض بنفسه ويدفعها إلى الأعوان ، فإن كان الميت مؤمنا دفعها إلى ملائكة الرحمة وإن كان كافرا دفعها إلى ملائكة العذاب : أي وهم يتوجهون بالأرواح إلى حيث يوجههم الله بأمره ، وعلينا أن نؤمن بذلك ولا نبحث عن كيفيته.

وجاء إسناد التوفى إلى الله فى قوله : «اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» إما لأنه هو الآمر لملك الموت ولأعوانه جميعا بذلك ـ وإما لأنه هو الفاعل الحقيقي والمسخّر لملك الموت وأعوانه ، فهم لا يعملون إلا بأمره ولا يتصرفون إلا بتسخيره.

(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) أي ثم يردّ أولئك الذين تتوفاهم الرسل إلى الله الذي هو مولاهم ومالك أمورهم ، وهو الحق الذي لا يقضى إلا بالعدل ، ليحاسبهم ويجازيهم على أعمالهم.

وفى الآية إيماء إلى أن ردهم إليه حتم ، لأنه سيدهم الذي يتولى أمورهم ويحكم بينهم بالحق.

وأما تولى بعض العباد أمور بعض بملك الرقبة أو ملك التصرف والسياسة ، فمنه ما هو باطل من كل وجه ، ومنه ما هو باطل من حيث إنه موقوت لا ثبات له ولا بقاء ،

وحق من حيث إن مولاهم الحق أقره فى سننه الاجتماعية أو شرائعه المنزلة لمصلحة

١٤٩

العباد العارضة مدة حياتهم الدنيا ، وقد زال كل ذلك بزوال عالم الدنيا وبقي المولى الحق وحده.

ثم بين أن ردهم إليه ليحكم بينهم بقضائه العدل فقال :

(أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) أي له الحكم وحده ليس لغيره منه شىء فى ذلك اليوم كما قال «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» وقال «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ» وقال «قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

وسرعة حسابه ـ أنه يحاسب العباد كلهم فى أسرع زمن وأقصره ، لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره ، ولا يشغله شأن عن شأن.

والخلاصة ـ إنه تعالى أسرع الحاسبين إحصاء للأعمال ومحاسبة عليها.

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤))

تفسير المفردات

ظلمات البر والبحر : ضربان ، ظلمات حسية كظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر ، وظلمات معنوية كظلمة الجهل بالمسالك والطرق ، وظلمة فقد الأعلام والمنار ، وظلمة الشدائد والأخطار كالعواصف والأعاصير وهياج البحار ، إلى نحو ذلك من الشدائد التي تبطل الحواس وتدهش العقول ، قال الزجاج : العرب تقول لليوم الذي فيه شدة : يوم مظلم ويوم ذو كواكب أي إنه قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل فى ظلمته ، وفى المثل : رأى الكواكب ظهرا ، أي أظلم عليه يومه لا شتداد الأمر فيه

١٥٠

حتى كأنه أبصر النجم نهارا ، والتضرع : المبالغة فى الضراعة ، وهى الذل والخضوع ، والمراد ، له هنا ما كان صادرا عن الإخلاص الذي يثيره الإيمان الفطري الطوىّ فى أنفس البشر ، والخفية (بالضم والكسر) الخفاء والاستتار ، والدعاء قد يكون بالجهر ورفع الصوت مع البكاء ، وقد يكون بالإسرار هربا من الرياء ، فتارة يجأر المرء بالدعاء رافعا صوته متضرعا مبتهلا ، وأخرى يسر الدعاء ويخفيه مخلصا محتسبا ، ويتحرى ألا تسمعه أذن ولا يعلم به أحد ، ويرى أنه يكون بذلك أجدر بالقبول ، وأرجى لنيل المسئول ، والكرب : الفم الشديد.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه لعباده إحاطة علمه ، وشمول قدرته ، واستعلاءه عليهم بالقهر ، وحفظه أعمالهم عليهم ـ ذكّرهم هنا بالدلائل الدالة على كمال القدرة الإلهية ونهاية الرحمة والفضل والإحسان.

الإيضاح

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الغافلين عن أنفسهم وعما أودع فى الآفاق من آيات التوحيد من ينجيكم من ظلمات البر إذا ضللتم فيه فتحيرتم وأظلمت عليكم المحجة ، ومن ظلمات البحر إذا ركبتموه فأظلم عليكم فيه السبيل فلم تهتدوا ـ غير الله الذي إليه مفزعكم بالدعاء تضرعا منكم إليه ، معلنين الدعاء تارة ومخفين له أخرى.

(لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي مقسمين : لئن أنجيتنا من هذه الظلمات التي نحن فيها لنكونن من المتصفين بالشكر ، المخلصين لك بالعبادة دون من نشركه معك فى عبادتك.

وفى معنى الآية قوله : «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ

١٥١

فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ، وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ».

ثم بين أنهم يحنثون فى أيمانهم بعد النجاة ، ويشركون بربهم سواه ، فقال :

(قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) أي إن الله هو الذي ينجيكم المرة بعد المرة من تلك الظلمات ومن كل كرب يعرض لكم ، ثم أنتم تشركون به غيره بعد النجاة أقبح الشرك ، حال كونكم مخلفى وعدكم له بالشكر حانثين بما وكدتموه من الأيمان.

وأظهر أنواع الشرك أنكم تدعون أولياء من دون الله وتنسبون إليهم الشفاعة عنده ، حتى هذه النجاة التي نجّاكموها.

والخلاصة ـ إنه إذا شهدت الفطرة السليمة بأنه لا ملجأ فى هذه الحالة إلا إلى الله ولا تعويل إلا على فضله ، فالواجب أن يبقى هذا الإخلاص فى جميع الأحوال والأوقات ، لكن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة يحيل ذلك إلى الأعمال الجسمانية أو إلى نحو ذلك من الأسباب ويعود إلى الشرك فى العبادة ولا يوفّى بالعهد.

وفى الآية تنبيه إلى أن من أشرك فى عبادته تعالى غيره فكأنه لم يعبده رأسا ، فالتوحيد ملاك الأمر وأساس العبادة.

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧))

١٥٢

تفسير المفردات

الشيع : واحدهم شيعة ، وهم كل قوم اجتمعوا على أمر ، قال تعالى «كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ» ويلبسكم : أي يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط اتفاق فيجعلكم فرقا مختلفة لا فرقة واحدة ، ونصرف الآيات : نحو لها من نوع إلى آخر من فنون الكلام تقريرا للمعنى وتقريبا إلى الفهم ، والفقه : فهم الشيء بدليله وعلته المفضى إلى الاعتبار والعمل به. والوكيل : هو الذي توكل إليه الأمور. ومستقر : وقت استقرار ووقوع.

المعنى الجملي

بعد أن ذكّر سبحانه المشركين ببعض آياته فى أنفسهم وبمننه عليهم ، بإنجائهم من الأهوال والكروب التي يشعر بها كل من وقعت له منهم إما بتسخير الأسباب ، وإما بدقائق اللطف والإلهام.

ذكر هنا قدرته على تعذيبهم ، وأبان أن عاقبة كفران النعم ، أن تزول وتحل محلها النقم ، وأنه يمهل ولا يهمل ، بل يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

الإيضاح

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) أي قل أيها الرسول لقومك الذين يشركون مع الله سواه ، ولا يشكرون نعمه التي أسداها إليهم : إن الله هو القادر على أن يرسل عليكم عذابا تجهلون حقيقته ، فيصبّ عليكم من فوقكم ، أو يثيره من تحت أرجلكم ، أو يلبسكم ويخلطكم فرقا وشيعا على أهواء شتى ، كل فرقة تشايع إماما فى الدين أو تتعصب لملك أو رئيس ، أو يذيق بعضكم بأس بعض فيقتل بعضكم بيد بعض.

وقد ورد في التفسير بالمأثور ، أن المراد بالعذاب من فوق الرجم من السماء والطوفان كما وقع لبعض الأمم القديمة ، وبالعذاب من تحت : الخسف والزلازل المعهودة قديما

١٥٣

وحديثا ، وروى عن ابن عباس أن المراد بمن فوقكم أي من أمرائكم ، ومن تحت أرجلكم أي عبيدكم وسفلتكم.

ولا شك أن لفظ العذاب مبهم قصد به هذا الإبهام لأجل الشمول ، فيطلق على ما يدل عليه اللفظ مما يحدث فى المستقبل أو ينكشف للناس فيه ما كان خفيا عنهم ، فالقرآن لا تفنى عجائبه ، وفيه نبأ من قبل ونبأ من كان فى زمن التنزيل ونبأ من سيجيئ بعدهم.

فهذه الآية ظهر تفسيرها بأجلى برهان فى هذه الحروب فى العصر الحديث مما لم يسبق له نظير ولم يكن البشر على علم منه ، فقد أرسل الله فيها على الأمم المحاربة عذابا من فوقها بما تقذفه الطائرات والمطاود وقاذفات القنابل التي تحمل كل منها الآلاف المؤلفة من المواد المتفجرة من الحديد والمعادن الأخرى المهلكة ، ومن المواد المحرقة ، وصارت تمشى آلاف الأميال لتصل إلى أهدافها المقصودة فتخرب المدن والقرى ، وتجعل عاليها سافلها ، بما تصب فيها من عل ، من الحمم المتّقدة والنيران المشتعلة ، حتى ليراها الرائي كأنها بركان ثائر يريد أن يبتلع من حوله ويلتهم جميع ما فوق سطح الأرض.

وكذلك مقذوفات المدافع البعيدة المدى التي تطلق قناطير من أفواهها وترسله من فوق من مواد قاتلة مما لم يعرف الناس له نظيرا من قبل. وكذلك يأتيها العذاب من تحتها بما تحدث السفن الغواصة فى البحار بما ترسله من (الطور بيد) الحامل للقناطير المقنطرة من مختلف المعادن وتتحين به الفرص لمقابلة سفن العدو فتصبه عليها صبا. وتهلك به مختلف السفن ولا تقوى على النجاة منها مهما عظم حجمها ودقّ صنعها بل لا بد أن تهوى فى قاع البحار إذا قدر لها أن تصاب به ، فكم من سفينة غرقت. وكم من روح زهق به وأصبح طعاما للسمك وحيوان البحر.

وكذلك جعل أمم أوربا شيعا متعادية. وأذاق بعضها بأس بعض فحلّ بها من التقتيل والتخريب ما لو لم نره بأعيننا ونسمع عنه الأحاديث المستفيضة التي لا تقبل شكا ولا ريبا ـ لكنا فى موضع الشك فيه ، لغرابته وشدة هوله وذهول الناس حين

١٥٤

رؤيته ، فترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، ولكنهم من الذعر وشدة الخطب حيارى ، لا يدرون ماذا هم فاعلون ، ولا أىّ مكان يسلكون ؛ ليتقوا ذلك الهلاك المحقق ، والعذاب الذي لا بد واقع بهم إلا من رحم الله.

روى أحمد والترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال : «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ـ قل هو القادر إلخ ـ فقال : أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد».

وروى البخاري والنسائي من حديث جابر قال : «لما نزلت هذه الآية : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أعوذ بوجهك) قال : (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال : (أعوذ بوجهك) (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هاتان أهون أو أيسر)».

وإنما كانت هاتان أهون أو أيسر لأن المستعاذ منه قبلهما هو عذاب الاستئصال بإحدى الخصلتين الأوليين حتى لا يبقى من الأمة أحد.

وروى عن ابن عباس من طريق أبي بكر بن مردويه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «دعوت الله أن يرفع عن أمتى أربعا فرفع عنهم اثنتين وأبي أن يرفع عنهم اثنتين دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض وألا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع عنهم الخسف والرجم ، وأبي أن يرفع الآخرين»

وروى مسلم من حديث ثوبان قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله زوى (جمع) لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتى سيبلغ ملكها ما زوى لى منها ، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ، وإنى سألت ربى لأمتى ألا يهلكها بسنة عامة. (كالمجاعة والقحط والغرق والصيحة والرجفة والريح الصرصر) وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم. (عزتهم ومستقر ملكهم) وإن ربى قال : يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، وإنى أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة

١٥٥

عامة وألا أسلّط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبى بعضهم بعضا».

وقد ظهر صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فى بلوغ ملك أمته مشارق الأرض ومغاربها وفى وقوع بأسهم بينهم ، وما زال ملكهم عن أكثر تلك الممالك إلا بتفرقهم ثم بمساعدتهم للأجانب على أنفسهم ، وكم تألبت عليهم الأمم فلم ينالوا منهم بدون ذلك منالا ، وما بقي لهم الآن إلا القليل الذي يطمع فيه الطامعون.

ومن هذا نعلم أن الله لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ما داموا مستمسكين بها.

يرشد إلى ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، فقال قائل : من قلة نحن يومئذ؟ قال بل أنتم يؤمئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، وسينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفنّ فى قلوبكم الوهن ، قال قائل : يا رسول الله وما الوهن؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت» رواه أبو داود والبيهقي.

ثم طلب منه النظر فيما لديه من الحجج والبينات فقال :

(انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) أي تأمل بعين بصيرتك أيها الرسول كيف نصرف الآيات والدلائل ونتابعها على أنحاء شتى : منها ما طريقه الحس ، ومنها ما طريقه العقل ، ومنها ما سبيله علم الغيب ، لعلهم يفقهون الحق ويدركون الحقائق بأسبابها وعللها التي تفضى إلى الاعتبار والعمل بها.

وأقرب الوسائل إلى تحصيل ذلك تصريف الآيات واختلاف الحجج والبينات ، وبذا يتذكرون ويزدجرون عما هم عليه مقيمون من التكذيب بكتابنا ورسولنا ، وانكبابهم على عبادة الأوثان والأصنام.

ثم ذكر أن قومه قد كذبوا به على وضوح حجته فقال.

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ) أي وكذب قومك بالقرآن على ما صرّفنا فيه

١٥٦

من الآيات الجاذبة إلى فقه الإيمان ، إذ يثبتها الحس والعقل والوجدان ، والحال أنه حق ثابت لا شك فيه ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ثم أمر رسوله بأن يبلغهم بأن لا سبيل له فى جبرهم على الإيمان به فقال :

(قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي قل لهم أيها الرسول إننى لست عليكم بحفيظ ولا رقيب ، وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم ، أبشركم وأنذركم ولم أعط القدرة على التصرف فى عباده حتى أجبركم على الإيمان جبرا وأكرهكم عليه إكراها «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ».

ثم هددهم وتوعدهم على التكذيب به فقال :

(لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي لكل شىء ينبأ عنه ويخبر ، مستقر تظهر فيه حقيقته ويتميز حقه من باطله ، فلا يبقي مجال للاختلاف فيه ، وسوف تعلمون مستقر ما أنبأكم به كتابى من وعد ووعيد ، ومن ذلك ما وعد به الرسول من نصره عليهم ، وما أوعد به أعداءه من الخزي والعذاب فى الدنيا والآخرة «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ، سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ».

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ

١٥٧

اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))

تفسير المفردات

أصل الخوض : الدخول فى الماء والمرور فيه سيرا أو سباحة ، ثم استعمل فى الاندفاع فى الحديث والاسترسال فيه ، والدخول فى الباطل مع أهله ، وقد استعمله القرآن بهذين المعنيين ، وأعرض عنهم. انصرف عنهم بدلا من القعود معهم والإقبال عليهم بوجهك ، والذكرى الأولى بمعنى التذكر ، والثانية بمعنى التذكير ، والبسل : حبس الشيء ومنعه بالقهر ، ومنه شجاع باسل ، أي مانع لما يريد حفظه أن ينال وفسر هنا بالحبس فى النار ، وبالحرمان من الثواب وبالفضيحة ، وتعدل : تفد والعدل : الفداء ، والحميم : الشديد الحرارة وأليم : شديد الألم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فى الآيات السابقة تكذيب قريش بالقرآن ، وكون الرسول مبلّغا لا خالقا للإيمان ، وأحالهم فى ظهور صدق أنبائه وأخباره على الزمان.

بين فى هذه الآيات السبيل فى معاملة من يخوض فى آيات الله بالباطل ، ومن يتخذ دين الله هزوا ولعبا من الكفار الذين لم يجيبوا الدعوة.

روى عن سعيد بن جبير وابن جريج وقتادة ومقاتل والسدى أن هذه الآية نزلت فى المشركين المكذبين الذين كانوا يستهزئون بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم. وروى عن ابن عباس وأبي جعفر ومحمد بن سيرين أنها نزلت فى أهل الأهواء والبدع من المسلمين الذين يؤولون الآيات بالباطل لتأييد ما استحدثوا من المذاهب والآراء وتفنيد أقوال خصومهم بالجدل والمراء.

١٥٨

الإيضاح

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) قال ابن جريج : كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه ، فإذا سمعوا استهزءوا فنزلت : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) الآية. قال فجعل إذا استهزءوا قام فحذروا وقالوا لا تستهزءوا فيقوم.

والمخاطب بالآية الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كان معه من المؤمنين ، ثم المؤمنون فى كل زمان. أي وإذا رأيت أيها المؤمن الذين يخوضون فى آياتنا المنزلة من الكفار المكذبين ، أو من أهل الأهواء المفرقين ، فصدّ عنهم بوجهك وقم ولا تجلس معهم ، حتى يخوضوا فى حديث غير الكفر بآيات الله والاستهزاء بها من جانب الكفار أو تأويلها بالباطل من جانب أهل الأهواء ، تأييدا لما استحدثوا من مذاهب وآراء ، وتفنيدا لأقوال خصومهم بالشغب والجدل والمراء ، وإذا خاضوا فى غير ذلك فلا ضير فى القعود معهم.

وسر هذا النهى أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم يغريهم فى التمادي فيما هم فيه ، ويدل على الرضا به والمشاركة فيه ، والمشاركة فى ذلك كفر ظاهر ، لا يرتكبه إلا كافر مجاهر ، أو منافق مراء.

كما أن فى التأويل لنصر البدع والآراء الفاسدة فتنة فى الدين لا تنقص عن الأولى ضررا ، فإن أربابها تغشّهم أنفسهم بأنهم ينصرون الحق ويخدمون الشرع ، ومن ثم حذّر السلف من مجالسة أهل الأهواء أشد مما حذّروا من مجالة الكفار ، إذ لا يخشى على المؤمن من فتنة الكافر مقدار ما يخشى من فتنة المبتدع.

ومن الناس من يحرفون آيات الله عن مواضعها بهواهم ليكفروا بها مسلما أو يضللوا بها مهتديا ، بغيا عليه وحسدا له.

(وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي وإن أنساك

١٥٩

الشيطان النهى مرة ، وقعدت معهم وهم على تلك الحال ثم ذكرت ذلك فقم عنهم ، ولا تقعد مع القوم الظالمين لأنفسهم بتكذيب آيات ربهم والاستهزاء بها بدلا من الإيمان بها والاهتداء بهديها.

والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد غيره على حد المثل : إياك أعنى واسمعي يا جاره. وهو كثير فى كلام العرب ، أو للرسول صلى الله عليه وسلم بالذات ولغيره بالتبع كما هو الشأن فى أحكام التشريع غير الخاصة به صلى الله عليه وسلم.

ووقوع النسيان من الأنبياء بغير وسوسة من الشيطان لا خلاف فى جوازه قال تعالى لخاتم أنبيائه «وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ» وثبت وقوعه من موسى عليه السلام : «قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ» ولكن الله عصمهم من نسيان شىء مما أمرهم بتبليغه أو بإخلال بالدين كإضاعة فريضة أو تحريم حلال أو تحليل حرام.

وثبت فى الصحيحين والسنن «أن النبي صلى الله عليه وسلم سها فى الصلاة وقال : إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكّرونى».

وإنساء الشيطان للإنسان بعض الأمور ليس من قبيل التصرف والسلطان حتى يدخل فى مفهوم قوله : «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ».

ومن هذا تعلم أن نسيان الشيء الحسن الذي يسند إلى الشيطان لكونه ضارا أو مفوّتا لبعض المنافع أو لكونه حصل بوسوسته ولو بشغل القلب ببعض المباحات لا يعد من سلطان الشيطان على الناس واستحواذه عليهم بالإغواء والإضلال الذي نفاه الله عن عباده المخلصين.

ثم أبان أنهم إذا فعلوا ذلك فلن يشاركوهم فى الإثم فقال :

(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي وما على الذين يتقون من حساب الخائضين فى آياته شىء فلا يحاسبون على خوضهم فيها ولا على غيره من أعمالهم التي يحاسبهم الله تعالى عليها إذا هم تجنبوهم وأعرضوا عنهم كما أمروا.

١٦٠