خاتمة مستدرك الوسائل - ج ٤

الشيخ حسين النوري الطبرسي [ المحدّث النوري ]

خاتمة مستدرك الوسائل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسين النوري الطبرسي [ المحدّث النوري ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : رجال الحديث
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-005-6
ISBN الدورة:
964-5503-84-1

الصفحات: ٥١٢

فقال المفضل : تغدّوا عندي ، فحبسهم (١) لغدائه ، ووجّه المفضل إلى أصحابه الذين سعوا بهم ، فجاؤا فقرأ عليهم كتاب أبي عبد الله عليه‌السلام فرجعوا من عنده ، وحبس المفضل هؤلاء ليتغدوا عنده ، فرجع الفتيان ، وحمل كلّ واحد منهم على قدر قدرته ألفا وألفين وأكثر ، فحضروا وأحضروا ألفي دينار وعشرة آلاف درهم قبل أن يفرغ هؤلاء من الغداء ، فقال لهم المفضل : تأمروني أن أطرد هؤلاء من عندي ، تظنون أن الله تعالى محتاج إلى صلواتكم وصومكم.

وعن نصر بن الصباح ، عن ابن أبي عمير ، بإسناده أنّ الشيعة حين أحدث أبو الخطاب ما أحدث ، خرجوا إلى أبي عبد الله عليه‌السلام ، فقالوا له : أقم لنا رجلا نفزع إليه من أمر ديننا وما نحتاج إليه من الأحكام ، قال : لا تحتاجون إلى ذلك ، متى احتاج أحدكم يخرج إليّ ويسمع منّي وينصرف ، فقالوا : لا بدّ ، فقال : قد أقمت عليكم المفضل ، اسمعوا منه وأقبلوا عنه ، فإنه لا يقول على الله وعليّ إلاّ الحق.

فلم يأت عليه كثير شيء حتى شنعوا عليه وعلى أصحابه ، وقالوا : أصحابه لا يصلّون ويشربون النبيذ ، وهم أصحاب الحمام ، ويقطعون الطريق ، ومفضل يقربهم ويدنيهم (٢).

وعن حمدويه بن نصير ، قال : حدثني محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن عمرو بن سعيد الزيات ، عن محمّد بن حبيب ، قال : حدثني بعض أصحابنا من كان عند أبي الحسن الثاني عليه‌السلام جالسا ، فلما نهضوا قال لهم : ألقوا أبا جعفر عليه‌السلام فسلّموا عليه وأحدثوا به عهدا ، فلما نهض القوم التفت إليّ وقال : يرحم الله المفضل ، إن كان ليكتفي بدون هذا (٣).

__________________

(١) نسخة بدل : فأجلسهم. « منه قدس‌سره ».

(٢) رجال الكشي ٢ : ٦١٩ / ٥٩٢.

(٣) رجال الكشي ٢ : ٦٢٠ / ٥٩٣.

١٠١

ورواه الشيخ المفيد في الإرشاد ، عن جعفر بن محمّد بن قولويه ، عن الكليني (١) ، عن علي بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن محمّد بن الوليد ، عن يحيى بن حبيب الزيات ، قال : أخبرني من كان عند أبي الحسن الرضا عليه‌السلام. وذكر مثله (٢).

وعن محمّد بن قولويه ، قال : حدثني سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن البرقي ، عن عثمان بن عيسى ، عن خالد بن نجيح الجوّان ، قال : قال لي أبو الحسن عليه‌السلام : ما يقولون في المفضل بن عمر؟ قلت : يقولون فيه هيئة (٣) يهوديّا أو نصرانيا وهو يقوم بأمر صاحبكم. قال : ويلهم ما أخبث ما أنزلوه ، ما عندي كذلك ومالي فيهم مثله (٤).

وعن علي بن محمّد ، قال : حدثني سلمة بن الخطاب ، عن علي بن حسان ، عن موسى بن بكر ، قال : كنت في خدمة أبي الحسن عليه‌السلام ولم أكن أرى شيئا يصل إليه إلاّ من ناحية المفضل بن عمر ، ولربّما رأيت الرجل يجيء بالشيء فلا يقبله منه ، ويقول : أوصله إلى المفضل (٥).

وعن علي بن محمّد ، قال : حدثني محمّد بن أحمد [عن أحمد] (٦) بن كليب ، عن محمّد بن الحسين ، عن صفوان ، قال : قد بلغ من شفقة المفضل أنه كان يشتري لأبي الحسن عليه‌السلام الحيتان ، فيأخذ رؤوسها ويبيعها ،

__________________

(١) أصول الكافي ١ : ٢٥٦ ح ١.

(٢) الإرشاد : ٣١٩.

(٣) كذا في الأصل ، وفي المصدر : هبة.

(٤) رجال الكشي ٢ : ٦٢٠ / ٥٩٤.

(٥) رجال الكشي ٢ : ٦٢٠ / ٥٩٥.

(٦) ساقط من الأصل ، مثبت في المصدر ، وانظر : منهج المقال : ٣٤٣ ، ومعجم رجال الحديث ١٨ : ٢٩٦ ومصادره.

١٠٢

فيشتري بها حيتانا شفقة عليه (١).

وعن نصر بن الصباح ، قال : حدثني إسحاق بن محمّد بن البصري ، قال : حدثني الحسن بن علي بن يقطين ، عن عيسى بن سليمان ، عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : قلت : جعلني الله فداك ، خلّفت مولاك المفضل عليلا فلو دعوت الله له ، قال : رحم الله المفضل قد استراح ، قال : فخرجت إلى أصحابنا فقلت : قد والله مات المفضّل ، قال : ثم دخلت الكوفة فإذا هو قد مات قبل ذلك بثلاثة أيام (٢).

وعن حمدويه ، عن الحسن بن موسى ، عن عليّ بن حسّان اواسطي الخزّاز ، قال : حدثني علي بن الحسن (٣) العبيدي ، قال : كتب أبو عبد الله عليه‌السلام إلى المفضل بن عمر الجعفي ـ حين مضى عبد الله بن أبي يعفور ـ : يا مفضل عهدت إليك عهدي كان إلى عبد الله بن أبي يعفور (صلوات الله عليه) (٤) فمضى (صلوات الله عليه) (٥) موفيا لله عزّ وجلّ ولرسوله ولإمامه بالعهد المعهود لله ، وقبض (صلوات الله على روحه) محمود الأثر ، مشكور السعي ، مغفورا له ، مرحوما برضى الله ورسوله وإمامه عنه ، بولادتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان في عصرنا أحد أطوع لله ولرسوله ولإمامه منه.

فما زال كذلك حتى قبضه الله إليه برحمته ، وصيّره إلى جنّته ، مساكنا فيها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أنزله الله

__________________

(١) رجال الكشي ٢ : ٦٢١ / ٥٩٦.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٦٢١ / ٥٩٧.

(٣) كذا في الأصل ، وفي المصدر : الحسين وفي رجال الشيخ : ٢٤٤ / ٣٣٧ وجامع الرواة ١ : ٥٦٩ : علي بن الحسن العبدي ـ من أصحاب الصادق عليه‌السلام.

(٤) نسخة بدل : رضي‌الله‌عنه « منه قدس‌سره ».

(٥) نسخة بدل : رضي‌الله‌عنه « منه قدس‌سره ».

١٠٣

بين المسكنين ، مسكن محمّد وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما) وإن كانت المساكن واحدة (والدرجات واحدة) فزاده الله رضى من عنده ، ومغفرة من فضله برضائي عنه (١).

ومنها ما رواه شيخ الطائفة في كتاب الغيبة : عن الحسين بن عبيد الله الغضائري ، عن البزوفري ، عن أحمد بن إدريس ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن ابن أبي عمير ، عن الحسين بن أحمد [عن] (٢) أسد بن أبي العلاء ، عن هشام بن [أحمر] (٣) قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام وأنا أريد أن أسأله عن المفضل بن عمر ، وهو في مصنعة (٤) له في يوم شديد الحر ، والعرق يسيل على صدره ، فابتدأني فقال : نعم والله الذي لا إله إلاّ هو الرجل المفضل بن عمر ، نعم والله الذي لا إله إلاّ هو الرجل المفضل بن عمر الجعفي ، حتى أحصيت بضعا وثلاثين مرّة يقولها ويكرّرها ، وقال : إنّما هو والد بعد والد (٥).

والظاهر أنه أخذ الخبر من غير كتاب الكشي للاختلاف في مواضع متنا وسندا.

__________________

(١) رجال الكشي ٢ : ٥١٨ / ٤٦١.

(٢) ما بين المعقوفتين صحف في الأصل إلى [بن] ولعله من الناسخ لان الحسين بن احمد هو المنقري الراوي عن اسد بن أبي العلاء ، وليس ابنه كما في المصدر وسائر كتب الرجال.

(٣) في الأصل : أحمد ، وما أثبتناه بين المعقوفتين هو الصحيح الموافق لما في المصدر ، وجامع الرواة ٢ : ١٣٢ ، والظاهر كونه من اشتباه الناسخ لما سيأتي من ذكره صحيحا ، فلاحظ.

(٤) في المصدر : ضيعة ، وفي نسخة المصنف من الغيبة : مصنعة ـ بالصاد المهملة ـ وهو الموافق لما في بصائر الدرجات على ما سيأتي ، وفي الكشي طبع الجامعة : ضييعة ، بالتصغير ، وفي نسخة المصنف من الكشي ـ كما سيأتي أيضا ـ ضيعة ، ولعل الأخير هو الصحيح فصحف سهوا والله العالم.

(٥) الغيبة للطوسي : ٣٤٦ / ٢٩٧.

١٠٤

ورواه محمّد بن الحسن الصفار في بصائر الدرجات ، عن أحمد بن محمّد (١) إلى آخر الخبر متنا وسندا ، وفي بعض النسخ : في ضيعة له كما في الكشي (٢).

وقال : روي عن هشام بن أحمر ، قال : حملت إلى أبي إبراهيم عليه‌السلام إلى المدينة أموالا ، فقال : ردّها فادفعها إلى المفضل بن عمر ، فرددتها إلى جعفي ، فحططتها على باب المفضل (٣).

وعن موسى بن بكر ، قال : كنت في خدمة أبي الحسن عليه‌السلام فلم أكن أرى شيئا يصل إليه إلاّ من ناحية المفضل ، ولربّما رأيت الرجل يجيء بشيء فلا يقبله منه ، ويقول : أوصله إلى المفضل (٤).

والظاهر أنه أخذ الخبر من كتاب موسى ، وطريقه إليه صحيح في الفهرست (٥).

ومنها ما رواه الشيخ المفيد في كتاب الاختصاص : عن محمّد بن علي ، ـ يعني الصدوق ـ عن [محمّد بن] (٦) موسى بن المتوكل ، عن علي بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن أبي أحمد الأزدي ـ يعني ابن أبي عمير ـ عن عبد الله بن الفضل الهاشمي ، قال : كنت عند الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السّلام) إذ دخل المفضل بن عمر ، فلما بصر به ضحك إليه ثم قال : إليّ يا

__________________

(١) بصائر الدرجات : ٢٥٧ / ٨.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٦١٤ / ٥٨٥.

(٣) الغيبة للطوسي : ٣٤٧ / ٢٩٨.

(٤) الغيبة للطوسي : ٣٤٧ / ٢٩٩.

(٥) فهرست الشيخ ١٦٢ / ٧٠٥.

(٦) ما بين المعقوفتين من المصدر وهو الصحيح لكونه من مشايخ الصدوق وقد سقط من الأصل سهوا ولعله من الناسخ.

١٠٥

مفضل فو ربّي إنّي لأحبّك ، وأحبّ من يحبّك يا مفضل ، لو عرف جميع أصحابي ما تعرف ما اختلف اثنان ، فقال له المفضل : يا ابن رسول الله لقد حسبت أن أكون قد أنزلت فوق منزلتي.

فقال : بل أنزلت المنزلة التي أنزلك الله بها (١) ، الخبر.

وفي كتاب الإرشاد بعد كلامه الذي يأتي : فروى موسى الصيقل ، عن المفضل بن عمر الجعفي رحمه‌الله قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فدخل أبو إبراهيم عليه‌السلام وهو غلام ، فقال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : استوص به ، وضع أمره عند من تثق من أصحابك (٢).

__________________

(١) الاختصاص : ٢١٦.

(٢) الإرشاد : ٢٩٨.

« وقال الشيخ عماد الدين أبو جعفر محمّد بن علي الطوسي في كتاب الثاقب [٦٤] في شرح موازنة معاجز الأئمة عليهم‌السلام بمعاجز الأنبياء عليهم‌السلام ـ بعد ذكر قصة خسف قارون وافتراء المرأة البغية على موسى عليه‌السلام ـ قال : وقد ظهر على يد أبي عبد الله جعفر ابن محمّد الصادق عليهما السّلام ما يوازي ذلك شرفا وهو ما حدّث به صالح بن الأشعث البزاز الكوفي.

قال : كنت بين يدي المفضل إذ وردت عليه رقعة من مولانا الصادق عليه‌السلام ، فنظر فيها ونهض قائما واتكى عليّ ، ثم تياسرنا إلى باب حجرة الصادق عليه‌السلام ، فخرج إليه عبد الله بن وشاح فقال : يا مفضل أسرع في خطواتك أنت وصاحبك هذا ، فدخلنا فإذا بالمولى الصادق عليه‌السلام قد قعد على كرسي وبين يديه امرأة ، فقال : يا مفضل خذ هذه الامرأة وأخرجها إلى برية في ظاهر البلد ، وانظر ما يكون من أمرها ، وعد إليّ مسرعا.

قال المفضل : فامتثلت ما أمرني به مولاي ، وسرت بها إلى البرية ، فلما توسطتها سمعت مناديا ينادي : احذر يا مفضل ، فتنحيت عن المرأة ، وطلعت غمامة سوداء ثم أمطرت عليها حجارة حتى لم أر للمرأة حسا ولا أثرا ، فهالني ما رأيت ، ورجعت مسرعا إلى مولاي عليه‌السلام ، وهممت إلى أن أحدثه بما رأيت فسبق إلى الحديث ، وقال : يا مفضل أتعرف المرأة؟ فقلت : لا يا مولاي ، قال : هذه امرأة الفضال بن عامر ، قد كنت سيرته إلى فارس لتفقه أصحابي بها ، فلما كان عند خروجه من منزله قال لامرأته : هذا مولاي جعفر شاهد عليك لا تخزيني في نفسك ، فقالت : نعم ، إن خنتك أمطر الله عليّ من السماء عذابا واقعا ، فخانته

١٠٦

هذه جملة من الأخبار التي وقفت عليها في مدح المفضل ، بل جلالة قدره ونيابته رواها مثل ثقة الإسلام الكليني ، ورئيس المحدثين الصدوق ، والصفار ، والشيخ المفيد ، وشيخ الطائفة ، وأبو عمر الكشي في كتبهم ، بأسانيد فيها صحيح وغيره ، ومن أصحاب الإجماع ، ومثل أحمد بن محمّد بن عيسى المعلوم حاله في شدّة التوقي عن الرواية عمّن ليس بأهله وغيره ، فلا مجال للتأمّل والتشكيك فيها.

وأمّا ما ورد في ذمّه فغير قابل للمعارضة من وجوه :

الأول : انفراد الشيخ الكشي بنقله في قبال ما رواه هؤلاء المشايخ في مدحه بل هو أيضا ، فيكون من الشاذ النادر الذي يجب تركه.

الثاني : قلّته بالنسبة إلى ما ورد في مدحه ، وهي ثلاثة أحاديث :

أ ـ ما رواه عن جبرئيل بن أحمد ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن حمّاد بن عثمان ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول للمفضل بن عمر الجعفي : يا كافر ، يا مشرك ، مالك ولابني ـ يعني إسماعيل بن جعفر عليه‌السلام ـ وكان منقطعا إليه ، يقول فيه مع الخطابيّة ثم رجع بعد (١).

ب ـ وعن حمدويه بن نصير ، عن يعقوب بن يزيد ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن الحكم وحمّاد بن عثمان ، عن إسماعيل بن جابر ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ائت المفضل فقل له : يا كافر يا مشرك ما تريد إلى ابني ، تريد أن تقتله (٢).

__________________

في نفسها من ليلتها ، فأمطر الله عليه ما طلبت.

يا مفضل إذا هتكت المرأة سترها وكانت عارفة بالله هتكت حجاب الله ، وقصمت ظهرها ، والعقوبة إلى العارفين والعارفات أسرع ». « منه قدس‌سره ».

(١) رجال الكشي ٢ : ٦١٢ / ٥٨١.

(٢) رجال الكشي (طبعة الجامعة) : ٣٢٣ / ٥٨٦.

١٠٧

ج ـ وعن الحسين بن الحسن (١) بن بندار القمي ، قال : حدثني سعد بن عبد الله بن أبي خلف القمي ، قال : حدثني محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب والحسن بن موسى ، عن صفوان بن يحيى ، عن عبد الله بن مسكان ، قال : دخل حجر بن زائدة وعامر بن جذاعة الأزدي على أبي عبد الله عليه‌السلام فقالا له : جعلنا الله فداك ، إن المفضل بن عمر يقول : إنّكم تقدرون أرزاق العباد.

فقال : والله ما يقدر أرزاقنا إلاّ الله ، وقد احتجت إلى طعام لعيالي فضاق صدري ، وأبلغت الفكرة في ذلك حتى أحرزت قوتهم ، فعندها طابت نفسي ، لعنه الله وبريء منه ، قالا : أفتلعنه وتبرأ منه؟ قال : نعم ، فالعناه وابرءا منه ، برئ الله ورسوله منه (٢).

وذكر الكشي أيضا قال : وجدت بخطّ جبرئيل بن أحمد الفاريابي في كتابه : حدثني محمّد بن عيسى ، عن ابن أبي عمير ، عن معاوية بن وهب وإسحاق بن عمّار ، قالا : خرجنا نريد زيارة الحسين عليه‌السلام فقلنا : لو مررنا بأبي عبد الله المفضل بن عمر فعساه يجيء معنا ، فأتينا الباب فاستفتحناه فخرج إلينا فأخبرناه ، فقال : استخرج الحمار فأخرج ، فخرج إلينا فركب وركبنا ، فطلع لنا الفجر على أربعة فراسخ من الكوفة ، فنزلنا فصلّينا والمفضل واقف لم ينزل يصلّي ، فقلنا : يا أبا عبد الله ألا تصلّي؟ فقال : قد صلّيت قبل أن أخرج من منزلي (٣).

وذكر أيضا بعض الحكايات عن شريك ، وعن كتب الطيارة الغالية ، وغيرها ، غير قابلة للنقل وغير محتاجة للجرح.

__________________

(١) في المصدر : الحسين ، والصحيح ما في الأصل ، انظر جامع الرواة ١ : ٢٣٦.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٦٤١ / ٥٨٧.

(٣) رجال الكشي ٢ : ٦١٧ / ٥٨٩.

١٠٨

الثالث : وها هنا من حيث الدلالة والمضمون فإن حاصل الأخبار الثلاثة كونه من الخطابيّة الغلاة ، وكلّ ما ذكر فيه يرجع إليها حتى تركه الصلاة الذي هو من سيرة الخطابية كغير الصلاة من الفرائض ، كما أوضحنا ذلك في الفائدة الثانية في شرح حال كتاب دعائم الإسلام (١) ، وأنّهم يبيحون جميع المحارم إلى غير ذلك من المناكير ، والذي ظهر لنا من حاله عدم دخوله في الخطابيّة في وقت ، وضعف ما قيل أنه دخل ثمّ رجع وذلك لوجوه :

أ ـ ما رواه الكشي في ترجمة هشام بن سالم : عن جعفر بن محمّد ، قال : حدثني الحسن بن علي بن النعمان ، قال : حدثني أبو يحيى ، عن هشام بن سالم ، قال : كنّا بالمدينة بعد وفاة أبي عبد الله عليه‌السلام أنا ومؤمن الطاق أبو جعفر ، قال : والناس مجتمعون على أنّ عبد الله صاحب الأمر بعد أبيه ، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق والناس مجتمعون عند عبد الله ، وذلك لأنّهم رووا عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أن الأمر في الكبير ما لم يكن به عاهة ، فدخلنا نسأله عمّا كنّا نسأل عنه أباه ، فسألناه عن الزكاة في كم تجب؟

قال : في مائتين خمسة ، قلنا : ففي مائة؟ قال : در همان ونصف درهم ، قال : قلنا له : والله ما تقول المرجئة هذا (٢) ، قال : فخرجنا من عنده ضلالا لا ندري إلى أين نتوجّه أنا وأبو جعفر الأحول ، فقعدنا في بعض أزقّة المدينة باكين حيارى لا ندري إلى من نقصد ، وإلى من نتوجّه ، نقول : إلى المرجئة؟ إلى القدرية؟ إلى الزيدية؟ إلى المعتزلة؟ إلى الخوارج؟!.

قال : فنحن كذلك إذ رأيت رجلا شيخا لا أعرفه يومئ إليّ بيده ، فخفت

__________________

(١) تقدم في الجزء الأول صحيفة : ١٢٨.

(٢) كذا في الأصل ، وفي رجال الكشي تتمة للخبر هي : فرفع يديه إلى السماء فقال : لا والله ما أدري ما تقول المرجئة.

١٠٩

أن يكون عينا من عيون أبي جعفر (١) ، وذاك أنّه كان [له] (٢) بالمدينة جواسيس ينظرون على من اتفق من شيعة جعفر عليه‌السلام فيضربون عنقه ، فخفت أن يكون منهم ، فقلت لأبي جعفر [تنح] (٣) : فإني خائف على نفسي وعليك ، إنّما يريدني ليس يريدك ، فتنح عنّي لا تهلك وتعين على نفسك ، فتنحى غير بعيد ، وتبعت الشيخ وذلك أنّي ظننت أنّي لا أقدر على التخلص منه ، فما زلت أتبعه حتى ورد على باب أبي الحسن موسى عليه‌السلام ثم خلاني ومضى ، فإذا خادم بالباب فقال لي : ادخل (رحمك الله).

قال : فدخلت فإذا أبو الحسن عليه‌السلام فقال لي ابتداء : لا إلى المرجئة ، ولا إلى القدرية ، ولا إلى الزيدية ، ولا إلى المعتزلة ، ولا إلى الخوارج ، إليّ إليّ إليّ ، قال : فقلت : جعلت فداك مضى أبوك؟ قال : نعم ، قال : قلت : مضى في موت؟ قال : نعم ، قلت : جعلت فداك فمن لنا بعده؟ فقال : إن شاء الله (٤) يهديك هداك ، قلت : جعلت فداك إن عبد الله يزعم أنه فتن بعد أبيه ، فقال : يريد عبد الله أن لا يعبد الله ، قال : قلت له : جعلت فداك فمن لنا بعده؟ فقال : إن شاء الله (هداك) (٥) يهديك هداك أيضا.

قلت : جعلت فداك أنت هو؟ قال : ما أقول ذلك ، قلت في نفسي : لم أصب طريق المسألة ، قال : قلت : جعلت فداك عليك إمام؟ قال : لا ، قال : فدخلني شيء لا يعلمه إلاّ الله إعظاما له وهيبة أكثر ما كان يحلّ بي من أبيه إذا دخلت عليه ، قال : قلت : جعلت فداك أسألك عمّا كان يسأل أبوك؟ قال :

__________________

(١) اي : من جواسيس أبي جعفر المنصور الدوانيقي العباسي.

(٢) ما بين المعقوفتين من المصدر.

(٣) ما بين المعقوفتين من المصدر.

(٤) أن : ظاهرا « منه قدس‌سره ».

(٥) لم ترد في المصدر.

١١٠

سل تخبر ولا تذع ، فإن أذعت فهو الذبح.

قال : فسألته فإذا هو بحر ، قال : قلت : جعلت فداك شيعتك وشيعة أبيك ضلاّل فألقي إليهم وادعوهم إليك ، فقد أخذت عليّ بالكتمان؟ فقال : من آنست منهم رشدا فالق إليهم وخذ عليهم بالكتمان ، فإن أذاعوا فهو الذبح ، وأشار بيده إلى حلقه.

قال : فخرجت من عنده فلقيت أبا جعفر ، فقال لي : ما وراك؟ قال : قلت : الهدى ، قال : فحدثته بالقصة ، قال : ثم لقيت المفضل بن عمر وأبا بصير ، قال : فدخلوا عليه وسلّموا وسمعوا كلامه وسألوه ، قال : ثم قطعوا عليه عليه‌السلام قال : ثم لقينا الناس أفواجا ، قال : وكان كلّ من دخل عليه قطع عليه إلاَّ طائفة مثل (١) عمّار وأصحابه (٢).

ب ـ ما مرّ عن الكليني : بإسناده عن يونس بن يعقوب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه أمره أن يأتي المفضل ، ويبلّغه السّلام ويعزيه بموت إسماعيل ويأمره بالصبر (٣).

ج ـ ما رواه القطب الراوندي في الخرائج : عن المفضل بن عمر قال : لمّا قضى الصادق عليه‌السلام كانت وصيّته في الإمامة إلى موسى الكاظم عليه‌السلام فادّعى أخوه عبد الله الإمامة ، وكان أكبر ولد جعفر عليه‌السلام في وقته ذلك ، وهو المعروف بالأفطح ، فأمر موسى عليه‌السلام بجمع حطب كثير في داره ، فأرسل إلى أخيه عبد الله يسأله أن يصير إليه ، فلما صار عنده ومع موسى جماعة من وجوه الإمامية ، فلمّا جلس إليه أخوه عبد الله أمر موسى أن يجعل النار في ذلك الحطب كلّه فاحترق كلّه ، ولا يعلم الناس

__________________

(١) في الأصل : من ، وما أثبتناه من المصدر.

(٢) رجال الكشي ٢ : ٥٦٧ / ٥٠٢.

(٣) أصول الكافي ٢ : ٧٥ / ١٦ وقد تقدم في هذه الفائدة ، صحيفة : ٩٧.

١١١

السبب فيه حتى صار الحطب كلّه جمرا ، ثم قام موسى عليه‌السلام وجلس بثيابه في وسط النار وأقبل يحدث الناس ساعة ثم قام فنفض ثوبه ورجع إلى المجلس ، فقال لأخيه عبد الله إن كنت تزعم أنّك الإمام بعد أبيك فاجلس في ذلك المجلس ، قالوا : فرأينا عبد الله قد تغيّر لونه فقام يجرّ رداءه حتى خرج من دار موسى عليه‌السلام (١).

د ـ ما رواه الصدوق في كمال الدين : عن علي بن أحمد الدقاق ، عن محمّد بن جعفر الأسدي ، عن موسى بن عمران ، عن الحسين بن يزيد النوفلي ، عن المفضل بن عمر ، قال : دخلت على سيّدي جعفر بن محمّد (عليهما السّلام) فقلت : يا سيّدي لو عهدت إلينا في الخلف من بعدك؟ فقال لي : يا مفضل ، الإمام من بعدي ابني موسى ، والخلف المأمول (م ح م د) بن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى عليهم‌السلام (٢).

هـ ـ ما رواه أيضا في العيون : عن أبيه ، عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد ابن محمد بن خالد البرقي ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن المفضل ابن عمر قال : دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السّلام) وعلي عليه‌السلام ابنه في حجره ، وهو يقبّله ويمصّ لسانه ويضعه على عاتقه ويضمّه إليه ويقول : بأبي أنت ما أطيب ريحك ، وأطهر خلقك ، وأبين فضلك ، قلت : جعلت فداك لقد وقع في قلبي لهذا الغلام من المودّة ما لم يقع لأحد إلاّ لك.

فقال لي : يا مفضل هو منّي بمنزلتي من أبي عليه‌السلام ذريّة بعضها من بعض والله سميع عليم ، قال : قلت : هو صاحب هذا الأمر؟ قال : نعم

__________________

(١) الخرائج والجرائح : ٨٥.

(٢) كمال الدين : ٣٣٤ / ٤.

١١٢

من أطاعه رشد ومن عصاه كفر (١).

و ـ وما رواه الشيخ النعماني في كتاب الغيبة : عن عبد الواحد ، عن أحمد بن محمّد بن رباح ، عن أحمد بن علي الحميري ، عن الحسن بن أيوب ، عن عبد الكريم بن عمرو الخثعمي ، عن [جماعة] (٢) الصائغ ، قال : سمعت المفضل بن عمر يسأل أبا عبد الله عليه‌السلام : هل يفرض الله طاعة عبد ثم [يكتمه] (٣) خبر السماء؟ فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : الله أجلّ وأكرم وأرأف بعباده وأرحم من أن يفرض طاعة عبد ثم [يكتمه] (٤) خبر السماء صباحا ومساء ، قال : ثم [طلع] (٥) أبو الحسن موسى عليه‌السلام فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : [أ يسرّك] (٦) أن تنظر إلى صاحب كتاب علي (٧)؟ الكتاب المكنون الذي قال الله عزّ وجلّ : (لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) (٨) (٩).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣١ / ٢٨.

(٢) في الأصل : حماد ، والظاهر وقوع الاشتباه في الاسم لتطابق اللقب ، وما أثبتناه بين المعقوفتين من المصدر ، وهو : جماعة بن سعد الخثعمي الصائغ ، انظر : جامع الرواة ١ : ١٦٤ ومعجم رجال الحديث ٤ : ١٤٣ ، ويظهر من هامش المصدر اختلاف نسخه ، إذ نقل عن البحار وورده باسم : حماد الصائغ : فلاحظ.

(٣) في الأصل : يكنه ، وما أثبتناه هو الصحيح الموافق لما في المصدر.

(٤) في الأصل : يكنه ، وما أثبتناه هو الصحيح الموافق لما في المصدر.

(٥) في الأصل : اطلع ، وما أثبتناه هو الصحيح الموافق لما في المصدر.

(٦) في الأصل : يسرك ، وما أثبتناه من المصدر وهو اوفى في الدلالة على الاستفهام.

(٧) هنا زيادة في المصدر : فقال له المفضل : وأي شيء يسرني إذا أعظم من ذلك ، فقال : هو هذا صاحب كتاب علي.

(٨) الواقعة ٥٦ / ٧٩.

(٩) الغيبة للنعماني ٣٢٦ / ٤ ، والمكنون في اللغة : المستور ، ومنه قوله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) انظر : لسان العرب ـ كنن ـ.

اما الكتاب المكنون الوارد في سورة الواقعة ٥٦ : ٧٧ ـ ٧٩ : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) هو اللوح المحفوظ في السماء عنده تبارك وتعالى المصون من كل شيء والذي أثبت فيه القرآن الكريم.

اما المطهرون فهم ـ على ما في تفسيري الطبري والطوسي ـ أعم من الملائكة والأنبياء والرسل عليهم‌السلام ،

١١٣

ز ـ ما رواه محمّد بن الحسن الصفار في البصائر : عن علي بن إبراهيم ابن هاشم ، قال : حدثنا القاسم بن الربيع الوراق ، عن محمّد بن سنان ، عن صباح المدائني ، عن المفضل ، أنه كتب إلى أبي عبد الله عليه‌السلام فجاءه هذا الجواب من أبي عبد الله (عليه‌السلام) :

أمّا بعد ، فإنّي أوصيك ونفسي بتقوى الله وطاعته ، فإنّ من التقوى الطاعة والورع والتواضع لله ، والطمأنينة ، والاجتهاد ، والأخذ بأمره ، والنصيحة لرسله ، والمسارعة في مرضاته ، واجتناب ما نهى عنه ، فإنه من يتق الله فقد أحرز نفسه من النار بإذن الله ، وأصاب الخير كلّه في الدنيا والآخرة ، ومن أمر بالتقوى فقد أفلح الموعظة ، جعلنا الله من المتقين برحمته.

جاءني كتابك فقرأته وفهمت الذي فيه ، فحمدت الله على سلامتك وعافية الله إياك ، ألبسنا الله وإيّاك عافيته في الدنيا والآخرة.

__________________

ولهذا استدل بالآية على انه لا يجوز للجنب والحائض والمحدث ان يسموا القرآن ، لأن الضمير في « يمسه » ـ عند الطوسي ـ راجع إلى القرآن ـ وإن كان الكتاب هو اللوح المحفوظ ـ بقرينة قوله تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).

انظر : جامع البيان ٢٧ : ١١٨ ، والتبيان ٩ : ٥١٠ ، والجامع لاحكام القرآن ١٧ : ٢٢٤ ، والدر المنثور ٦ : ١٦١.

اما ما جاء في لسان الرواية من قوله عليه‌السلام : (لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) عقيب وصف كتاب علي عليه‌السلام بـ (الكتاب المكنون) فهو اما إشارة منه عليه‌السلام الى المصحف الذي جمعه أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعرف باسم : « مصحف علي » عند الجميع ، وبين فيه ناسخ القرآن ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، وعامه وخاصة ، ومطلقه ومقيده ، وأسباب نزوله ، وما عساه يشكل من بعض جهاته. ولا ينكره الا مكابر ، وعندئذ تكون الإشارة للقرآن الكريم نفسه ، وان سمي بكتاب علي ، كما هو الحال في تسميتهم مصحف عبد الله بن مسعود ، ومصحف ابن عباس ، ومصحف عثمان ، وغيرها.

واما كون « كتاب علي » عليه‌السلام غير مصحفه كالجفر مثلا ، أو الجامعة كما في أعيان الشيعة ١ : ٥٣٩ فهذا لا اشكال فيه أيضا ، ومعناه : انه مصون عند الأئمة الأطهار من ولد علي عليه‌السلام ، وهم الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وعلى هذا الوجه يكون استشهاد الإمام بالآية قد جاء من هذا الباب ، فتأمل.

١١٤

كتبت تذكر أنّ قوما أنا أعرفهم كان أعجبك نحوهم وشأنهم ، وأنّك أبلغت فيهم أمورا تروى عنهم كرهتها لهم ، ولم تر لهم إلاّ طريقا حسنا ، وورعا وتخشّعا ، وبلغك أنّهم يزعمون أن الدين إنّما هو معرفة الرجال ، ثم بعد ذلك إذا عرفتهم فاعمل ما شئت.

وذكرت أنك [قد] (١) عرفت أن أصل الدين معرفة الرجال ، فوفّقك الله.

وذكرت أنّه بلغك أنّهم يزعمون : أن الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان والحج والعمرة والمسجد الحرام والبيت الحرام والمشعر الحرام والشهر الحرام هو رجل.

وأن الطهر والاغتسال من الجنابة هو رجل.

وكلّ فريضة افترضها الله على عباده هو رجل.

وأنهم ذكروا ذلك بزعمهم أنّ من عرف ذلك الرجل فقد اكتفى بعلمه به من غير عمل ، وقد صلّى وأتى الزكاة وصام وحجّ واعتمر واغتسل من الجنابة وتطهّر وعظّم حرمات الله والشهر الحرام والمسجد الحرام.

وأنّهم ذكروا من عرف هذا بعينه وجسده (٢) وثبت في قلبه جاز له أن يتهاون ، فليس له أن يجتهد في العمل ، وزعموا أنّهم إذا عرفوا ذلك الرجل فقد قبلت منهم هذه الحدود لوقتها وإن هم لم يعملوا بها.

وأنّه بلغك أنّهم يزعمون أن الفواحش التي نهى الله تعالى عنها : الخمر والميسر والربا والميتة ولحم الخنزير هو رجل.

وذكروا أن ما حرّم الله من نكاح الأمهات والبنات والعمّات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت ، وما حرّم على المؤمنين من النساء ، فما حرّم الله إنّما عنى بذلك نكاح نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما سوى ذلك مباح كلّه.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين أثبتناه من المصدر.

(٢) في الأصل : وسجدة ، وفي المصدر : وتجده ، والظاهر أن الأنسب هو ما أثبتناه.

١١٥

وذكرت أنّه بلغك أنّهم يترادفون المرأة الواحدة ، ويشهدون بعضهم لبعض بالزور ، ويزعمون أن لهذا ظهرا وبطنا يعرفونه ، فالظاهر ما يتناسمون (١) عنه يأخذون به مدافعة عنهم ، والباطن هو الذي يطلبون وبه أمروا بزعمهم.

كتبت تذكر الذي زعم عظيم من ذلك عليك حين بلغك.

وكتبت تسألني عن قولهم في ذلك : إحلال هو أم حرام؟

وكتبت تسألني عن تفسير ذلك ، وأن أبيّنه حتى لا تكون من ذلك في عمى و [لا] (٢) شبهة.

وقد كتبت إليك في كتابي هذا تفسير ما سألت عنه ، فاحفظه كلّه ، كما قال الله في كتابه : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (٣) وأصفه لك بحلاله ، وأنفي عنك حرامه إن شاء الله. كما وصفت ، ومعرفكه حتى تعرفه إن شاء الله ، فلا تنكره إن شاء الله ، ولا قوّة إلاّ بالله ، والقوّة لله جميعا.

أخبرك : أنه من كان يدين بهذه الصفة التي كتبت تسألني عنها فهو عندي مشرك بالله تعالى ، بيّن الشرك لا شكّ فيه.

وأخبرك : أن هذا القول كان من قوم سمعوا ما لم يعقلوه عن أهله ، ولم يعطوا فهم ذلك ، ولم يعرفوا حدّ ما سمعوا ، فوضعوا حدود تلك الأشياء مقايسة برأيهم ومنتهى عقولهم ، ولم يضعوها على حدود ما أمروا كذبا وافتراء على الله ورسوله ، وجرأة على المعاصي ، فكفى بهذا لهم جهلا ، ولو أنّهم وضعوها على حدودها التي حدّت لهم وقبلوها لم يكن به بأس ، ولكنّهم حرّفوها وتعدّوا وكذبوا وتهاونوا بأمر الله وطاعته.

ولكنّي أخبرك أن الله حدّها بحدودها ، لئلا يتعدّى حدوده أحد ، ولو كان

__________________

(١) يتناسمون عنه : أي يتناقلون عنه.

(٢) ما أثبتناه بين المعقوفتين من المصدر.

(٣) الحاقة ٦٩ / ١٢.

١١٦

الأمر كما ذكروا لعذر الناس بجهلهم ما لم يعرفوا حدّ ما حدّ لهم ، ولكان المقصر والمتعدي حدود الله معذورا ، ولكن جعلها حدودا محدودة لا يتعداها إلاّ مشرك كافر ، ثم قال : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١).

فأخبرك حقائق أن الله تبارك وتعالى اختار الإسلام لنفسه دينا ، ورضى من خلقه فلم يقبل من أحد إلاّ به ، وبه بعث أنبياءه ورسله ، ثم قال : (وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) (٢) فعليه وبه بعث أنبياءه ورسله ونبيّه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأضلّ الذين لم يعرفوا معرفة الرسل وولايتهم وطاعتهم ، هو الحلال المحلّل ما أحلّوا ، والمحرم ما حرّموا ، وهم أصله ومنهم الفروع الحلال وذلك سعيهم ، ومن فروعهم أمرهم الحلال وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم شهر رمضان وحجّ البيت والعمرة ، وتعظيم حرمات الله وشعائره ومشاعره ، وتعظيم البيت الحرام والمسجد الحرام والشهر الحرام ، والطهور والاغتسال من الجنابة ، ومكارم الأخلاق ومحاسنها وجميع البر.

ثم ذكر بعد ذلك فقال في كتابه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٣). فعدوهم (٤) المحرّم وأولياؤهم الدخول في أمرهم إلى يوم القيامة ، فهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، والخمر والميسر والزنا والربا والدم ولحم الخنزير ، فهم الحرام المحرّم ، وأصل كل حرام ، وهم الشرّ وأصل كلّ شرّ ، ومنهم فروع الشر كلّه ، ومن تلك (٥) الفروع الحرام واستحلالهم إيّاها ، ومن فروعهم تكذيب

__________________

(١) البقرة ٢ / ٢٢٩.

(٢) الاسراء ١٧ / ١٠٥.

(٣) النحل : ١٦ / ٩٠.

(٤) كذا في الأصل ، وفي المصدر : فعددهم.

(٥) كذا في الأصل ، وفي المصدر : ومن ذلك ، والظاهر صحته لان الكلام مرتبط بما تقدم وليس تفريعا لاحقا.

١١٧

الأنبياء وجحود الأوصياء ، وركوب الفواحش : الزنا والسرقة وشرب الخمر والمنكر وأكل مال اليتيم وأكل الربا والخدعة والخيانة ، وركوب الحرام كلّها ، وانتهاك المعاصي ، وإنّما أمر الله بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ـ يعني مودّة ذي القربى وابتغاء طاعتهم ـ وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وهم أعداء الأنبياء وأوصياء الأنبياء ، وهم البغي ، من مودتهم وطاعتهم يعظكم بهذه لعلّكم تذكرون.

وأخبرك إني لو قلت : [لك] (١) أن الفاحشة والخمر والميسر والزنا والميتة والدم ولحم الخنزير هو رجل ، وأنت أعلم أن الله قد حرّم هذا الأصل وحرّم فرعه ونهى عنه ، وجعل ولايته كمن عبد من دون الله وثنا وشركا ، ومن دعا إلى عبادة نفسه فهو كفرعون إذ قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٢) فهذا كلّه على وجه إن شئت قلت : هو رجل ، وهو إلى جهنّم ، ومن شايعه على ذلك ، فافهم مثل قول الله : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) (٣) ولصدقت ، ثم أنّي لو قلت : أنه فلان ذلك كلّه لصدقت أن فلانا هو المعبود المتعدي حدود الله التي نهى عنها أن يتعدى.

ثم إني أخبرك أن الدين وأصل الدين هو رجل ، وذلك الرجل هو اليقين ، وهو الإيمان ، وهو إمام أمّته وأهل زمانه ، فمن عرفه عرف الله ، ومن أنكره أنكر الله ودينه ، ومن جهله جهل الله ودينه وحدوده وشرائعه بغير ذلك الإمام ، كذلك جرى بأن معرفة الرجال دين الله ، والمعرفة على وجهتها (٤) معرفة ثابتة على

__________________

(١) ما أثبتناه بين المعقوفتين من المصدر.

(٢) سورة النازعات : آية (٢٤)

(٣) النحل : ١٦ / ١١٥.

(٤) كذا في الأصل ، وفي المصدر : وجهته ، والظاهر صحته لعود الضمير الى الدين لا إلى المعرفة.

١١٨

بصيرة يعرف بها دين الله ، ويوصل بها إلى معرفة الله ، فهذه المعرفة الباطنة. الثابتة بعينها الموجبة حقّها المستوجبة أهلها عليها الشكر لله الذي منّ عليهم بها ، من منّ الله يمنّ به على من يشاء ، مع معرفة الظاهرة ، ومعرفة في الظاهرة.

فأهل المعرفة في الظاهر الذين علموا أمرنا بالحق على غير علم لا يلحق بأهل المعرفة في الباطن على بصيرتهم ، ولا يصلوا بتلك المعرفة المقصّرة إلى حقّ معرفة الله كما قال في كتابه : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١) فمن شهد شهادة الحق لا يعقد عليه قلبه على بصيرة فيه ، كذلك من تكلّم لا يعقد عليه قلبه ، لا يعاقب عليه عقوبة من عقد عليه قلبه وثبت على بصيرة ، فقد عرفت كيف كان حال رجال أهل المعرفة في الظاهر ، والإقرار بالحقّ على غير علم في قديم الدهر وحديثه ، إلى أن انتهى الأمر إلى نبيّ الله ، وبعده إلى من صار ، وإلى من انتهت إليه معرفتهم ، وإنّما عرفوا بمعرفة أعمالهم ودينهم الذي دانوا الله به ، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، وقد يقال أنه من دخل في هذا الأمر بغير يقين ولا بصيرة خرج منه كما دخل فيه ، رزقنا الله وإيّاك معرفة ثابتة على بصيرة.

وأخبرك إنّي لو قلت : أن الصلاة ، والزكاة ، وصوم شهر رمضان ، والحج ، والعمرة ، والمسجد الحرام ، والبيت الحرام ، والمشعر الحرام ، والطهور ، والاغتسال من الجنابة ، وكلّ فريضة كان ذلك هو النبيّ الذي جاء به عند ربّه ، لصدقت ، ان ذلك كلّه انّما يعرف بالنبيّ ، ولو لا معرفة ذلك النبيّ والإيمان به والتسليم له ما عرف ذلك ، فذلك من منّ الله على من يمنّ عليه ، ولو لا ذلك لم يعرف شيئا [من هذا] (٢).

__________________

(١) الزخرف : ٤٣ / ٨٦.

(٢) ما أثبتناه بين المعقوفتين من المصدر.

١١٩

فهذا كلّه ذلك النبيّ وأصله وهو فرعه ، وهو دعاني إليه ، ودلّني عليه ، وعرفنيه ، وأمرني به ، وأوجب عليّ له الطاعة فيما أمرني به ، لا يسعني جهله ، وكيف يسعني جهله ومن هو فيما بيني وبين الله ، وكيف يستقيم لي لولا أنّي أصف أن ديني هو الذي أتاني به ذلك النبيّ أن أصف أن الدّين غيره ، وكيف لا يكون ذلك معرفة الرجل وإنّما هو الذي جاء به عن الله ، وإنّما أنكر الذي من أنكره بأن قالوا : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) (١) ثم قالوا : (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا) (٢) بذلك الرجل وكذّبوا به (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) (٣) فقال : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) (٤).

ثم قال في آية أخرى : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ. وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) (٥) تبارك الله تعالى ، إنّما أحبّ أن يعرف بالرجال ، وأن يطاع بطاعتهم ، فجعلهم سبيله ووجهه الذي يؤتى منه ، لا يقبل الله من العباد غير ذلك ، لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون ، وقال فيمن أوجب حجته لذلك : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (٦).

فمن قال لك : إنّ هذه الفريضة كلّها إنّما هي رجل وهو يعرف حدّ ما يتكلم به فقد صدق ، ومن قال على الصفة التي ذكرت بغير الطاعة ، لا يعني التمسك في الأصل بترك الفروع ، لا يعني بشهادة أن لا إله إلاّ لله وبترك شهادة أن محمّدا رسول الله.

__________________

(١) الاسراء ١٧ / ٩٤.

(٢) التغابن ٦٤ / ٦.

(٣) الأنعام ٦ / ٨.

(٤) الأنعام ٦ / ٩١.

(٥) الانعام ٦ / ٨ ـ ٩.

(٦) النساء ٤ / ٨٠.

١٢٠