عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

الشيخ جلال الدين علي الصغير

عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

المؤلف:

الشيخ جلال الدين علي الصغير


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأعراف للدراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

يعدم رؤية الأمور التي تلجيء مثل الأمير عليه‌السلام لمدّ يد المسالمة.

٣ ـ وأماكلامه عن امتداد العصمة للخلفاء والتابعين والأعوان فهو كاشف عن عمق جهلة بحقيقة العصمة وبحقيقة الفكر الإمامي ، وأجهل منه كلامه حول الإمام المعاقب المحبوس في «رضوي» ، فلا نعلّق عليه بشيء.

٤ ـ أما كلامه عن ارتباط العصمة بالأفعال لا بالأشخاص فهو منه عجيب ، وكأن الأفعال لها عقلانية واعية وهذه العقلانية قد سلبت من الأشخاص! وحديثه عن مجيء العصمة واختفائها بعد مدة معينة تبرز جهله بواقع العصمة مرة أخرى ، ولهذا لا قيمة لكلامه الذي يتأسس على مقدماته هذه عن إمكانية الاستغناء عن الإمام واعتباره الخليفة أو الوالي كالمعصوم ، فالعصمة صيغة عقلانية واعية تكتسب من خلال تربية صارمة لدواخل النفس وتطويعها للمتطلبات الإلهية ، وهي بالتالي سيدة الأفعال ، وحينما تكون كذلك لا يبقى من معنىً لكلامه عن عصمة الخلفاء والولاة ، كما ولا معنى لكلامه اللاحق حول امتداد عصمة الإمام لأهل بيته ، فلئن قالت الشيعة الإمامية بامتداد الإمامة والعصمة في أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فليس الخصوصية كامنة في كونهم أهل البيت بعنوانه المادي ، وإنما لخصوصياتهم الكمالية والروحية والتي شاء الله أن تجتمع في أهل بيته عليهم‌السلام ، وإلّا فما من احد من الشيعة من يقول بأن كل أولاد الأمير عليه‌السلام من الصديقة فاطمة عليها‌السلام هم في حكم المعصومين الأئمة ، فما من أحد يتحدّث عن إمامة السيدة زينب أو السيدة أم كلثوم (صلوات الله عليهما) ، ولئن كانت خصوصيات الصديقة الحوراء السيدة زينب عليها‌السلام قد أوصلت بها إلى اكتساب مقام العصمة ، فليس ذلك بمدعاة لإمامتها ، لأن العصمة إنما هي خصيصة واحدة من خصائص الإمام وليست كل الخصائص.

٥ ـ وحديثه عن الأفضل اعتبار العصمة وصفاً نظرياً دون الحديث عن التحقق العيني لها في التاريخ ، فهو متهافت الأوصال ، فكيف يمكن اعتبار العصمة وصفاً نظرياً لا حقيقة عينية لها في التاريخ؟ وقد تحدث القرآن

٤٢١

الكريم عن تحققها العيني في التاريخ بصورة الأنبياء وبصورة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتحدّث عن المواصفة المعصومة في أكثر من جهة اجتماعية كما وجدنا ذلك في حديثه عن أهل البيت في آية التطهير والخمسة المتباهلين في آية المباهلة ، وولاة الأمر في آية ولاية الأمر ، والمؤتين الزكاة في حال الركوع في آية الولاية ، والقربى في آية المودة ، والمطعمين اليتيم والفقير والمسكين في آية الاطعام ، إلى غير ذلك من آيات دلت التزاماتها العقلية على تخصيصها بالمعصوم! وكيف يمكن التحدّث عن عدم وجود تحقق خارجي للمعصوم؟ وقد تحدّث النبي المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عصمة العترة في حديث الثقلين ، وعن عصمة أهل البيت عليهم‌السلام في حديث الثقلين والسفينة والنجوم ، وعن عصمة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في أحاديث الولاية والمنزلة والتأدية والكساء وغيرها ، وعن عصمة الصديقة الزهراء عليها‌السلام في حديث البضعة وفي حديث الكساء وغير ذلك ، وعن عصمة الحسن والحسين عليهما‌السلام في حديث شباب أهل الجنة ، وهذه الأحاديث التي لم تتمكن حالة المكابرة الطائفية من النيل من شهرتها واستفاضتها في كتب القوم تظهر قيمة حديثه عن الوصف النظري المجرد عن الحقيقة التاريخية.

أما قوله بالأفضل .. فإن كان حديثه ضمن الاطار الوصفي للعصمة فقد عرفت مجانبته للحقيقة التاريخية والقرآنية ، أما إن كان ضمن الاطار الفكري فحديثه ينم عن جهل لا يغتفر ، فالعصمة ليست قيمة اجتماعية اعتبارية ، كما وإنها ليست مجالاً لتقييم البشر فيمسح للقول بأن يكون أفضل أن نعتبره كذا أو عكسه ، وإنما هي منحة إلهية عرّفها الله في كتابه المنزل ، وخصّ بها خاصة أوليائه ، وليس للبشر ولا لتقييماتهم أي أثر في تحققها.

وقد أعقب الدكتور كلامه هذا بجملة من الافتراضات التي تخبر عن حقيقة أساسية تتمثّل في قلة باعه الأكاديمي ، فما مثله مثل محدّثي المسانيد وشرّاح حواشيها يعبّ من كل ماء وإن كان آسناً ، وينهل من كل منهل وإن كن نتناً ، وكان الحري به أن يتوخى الدقة وهو يحاول سبر غور ساحة معقدة

٤٢٢

جداً وكانت مورد مخاصمات شديدة لم تهدأ لحد يومنا هذا ، وفيها من الأنعام ما يكفي لواحد منها أن يطيح بهياكل عقائدية ضخمة ، فما بالك برجل جاء بقليل زاد لرحلة هي من أعقد الرحلات وأكثرها وعورة؟! ويمكن للقارىء الخبير في المسائل العقائدية أن يحكم ببساطة ـ من خلال كتابه ـ على عدم مكنة الدكتور من التخلي من ركام المرويات السقيمة والافتراءات التي حفلت بها كتب الخصامات العقائدية ، وكان بإمكان الدكتور أن يتحلى بجانب الأمانة أكثر لو أنه أخذ الفكر الإمامي من الإمامية ، وما كان بحاجة ليحاكم هذا الفكر ونظرياته من خلال ما تحدّث عنه خصومه! فأي روح أكاديمية هذه التي تجعل منه كلّاً على معلومات هي في أقل التقادير ليست حيادية في نقلها عن الآخر ، هذا إذا لم نقل ـ وكما يلحظ أثناء مناقشتنا للتيار التاريخي ـ إن هذه الكتب التي تعدّ أكاديمياً من المصادر هي مصادر زور في صراع كانت هي أحد من زرع عوامل تأجيج أواره!!

٤٢٣

ب ـ د. علي سامي النشار

في كتابه : «نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام» حاول الدكتور علي سامي النشار أن يقدّم عرضاً شمولياً لموضوع الكتاب وهو تيارات الفكر الفلسفي في الإسلام ، وقد خصص الجزء الثاني من الكتاب للحديث عن التيار الشيعي ، وجاء هذا الجزء في أكثره عن الفرق غير الإمامية الاثني عشرية ، وهو وإن عنون بعض فصول الكتاب بالإمامية ، إلّا إن الواقع يكشف ان حديثه عمّن سمّاهم بالإمامية قد جاء في أكثره وهو يعاني من الغرابة عنهم ، رغم ان الإمامية هي الفرقة الأعمق في تاريخها والأكثر انتشاراً علاوة على كونها تمثّل الصورة الرسمية للتشيّع ، وهذه نقطة تسجل على الكاتب الذي كان بإمكانه أن يتخلّص منها لو أنه تحرر من عقدة اعتبار كتّاب الفرق والملل بمثابة المصدر العلمي الرئيسي لكتابه ن وهذه العقدة التي تنتشر في طول الكتاب وعرضه ، وسمت ضعفه في عرض الفكر الإمامي بشكل سليم ، ويكفيه ان يرى في الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق عليهما‌السلام بأنهم : من رواد المذهب السني ، إن جعفراً الصادق بالذات كان أقرب في عقائده الكلامية إلى عقيدة الأشاعرة!! (١)

وهذا القول في الوقت الذي يعبّر فيه عن مدى الجهل بحقيقة الفكر الإمامي ، والذي عمل الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما‌السلام على ترسيخ

____________________

(١) نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ٢ : ٢٢١ ؛ الدكتور علي سامي النشار ، دار المعارف ـ القاهرة ١٩٧٧ ط ٧.

٤٢٤

قواعده الفكرية ، وتأصيل مبانيه التي تأسست إبان بدايات الفجر المحمدي الصادق ، فإنه يكشف عن طبيعة الخلفية العلمية التي بنى الدكتور النشار كتابه عليها ، فتراه ينسب الشيعة للمعتزلة في مرة ويعاود نسبة المعتزلة للشيعة في أخرى ، وقد يتجه لتحميل الفكر الشيعي ما يسميه بالجذور الغنوصية (الباطنية) في منحاها الافلوطيني ، ولربما فعل العكس حينما يعرب عن تأثير شيعي في الاتجاهات الغنوصية ، وما من سبب يعزى إليه التذبذب الفكري الذي اتسمّ به الكتاب بقدر اعتماده على مصادر معلوماتية لم تك جديرة بالاعتماد ، فمن بين الآلاف من الكتب التي تصلح لتأسيس نظرة عن هذا الفكر ، اكتفى الدكتور النشار بالاعتماد على طائفة محددة جداً من الكتب جاءت في أغلبها من الصنف الذي لا يمكن وصفه بالنزاهة والحيادية بالعرض ، ويكفي القارىء أن يعرف وصفه لكتب ابن تيمية لا سيما كتاب «منهاج السنة» ليعرف اغترار الكاتب بالنزاهة المصنوعة في قوالب مذهبية وطائفية قال : وعالم آخر سلفي ـ وهو ابن تيمية ـ يعتبر مصدراً عارماً لعقائد الشيعة ، وكتابه «منهاج السنة» وثقيفة فريدة تنقل إلينا صوراً متعددة من عقائدهم ، وميزة ابن تيمية أنه ينقل إلينا نقلاً صادقاً!! ما يناقشه بعد ذلك في حدة وقسوة. (١)

وابن تيمية الذي لم يسلم من تحريفاته وأباطيله الكثير من أهل السنة وأحاديثهم التي كان يسقطها بالجملة لا لشيء إلّا لأنها لا تفي بأغراض نقاشه الملتهب في حقده ـ على ما يصف نفس الدكتور ـ ضد الشيعة!كيف يمكن أن يتخذ مصدراً عارماً لمعرفة العقائد الشيعية؟ وكيف يوصف كتابه بالتفرد والصدق؟ وكان لهذا الكلام أن يهون لو أن الكتاب الشيعي والمصدر الشيعي كان منعدماً أو عسير الحصول ، ولكن ماذا يمكن للمرء أن يقول حين يعلم أن الطلبة الشيعة ـ ولا أقول الجوامع والحواضر الشيعية ـ كانوا يحيطون

____________________

(١) نشأة الفكر الفلسفي ٢ : ٣٩٢.

٤٢٥

بالدكتور في جامعة الاسكندرية ، وفيهم من حاز شهادة الدراسات العليا على يدي الدكتور نفسه! ، أو ممن لا يصعب التواصل معهم لسبر أغوار هذا المعتقد الصريح في ابداء عقيدته والذي يعدّ من أكثر المدارس وأغزرها في اصدار الكتاب العقائدي!!

إن هذه الإشكالية لن توجّه إلى كتاب الدكتور النشار فحسب ، بل توجّه إلى غالبية الباحثين في المعتقد ، وسماتها تضرب لأطنابها على كاهل الكثير من الكتب التي وصفت بالتخصص في هذا المجال!!

وبغض النظر عن ذلك كله فقد رأى الدكتور أن السياق المنطقي لمذهب الاثني عشرية ـ الذي لا يخفي تعجّبه من نهجه الاسطوري! ويستعظم أن يثير عقائد تترسخ في عقول جماعة كبرى من متكلمي الإسلام يدافعون عنها وينافحون (١) ـ لا بد وأن تنتهي بنسبة العصمة إلى الأئمة ليقول بعد ذلك : وقد اختلفت أنظار المجتهدين من الشيعة فيها ـ أي في العصمة ـ فبينما يذهب البعض منهم إلى أن المعصوم من الأئمة يفعل الطاعة مع عدم قدرته على المعصية ، يرى البعض أن المعصوم قادر على فعل المعصية وإلّا لم يستحق المدح على تركها ولا الثواب ولبطل الثواب والعقاب في حقه ، فكان خارجاً عن التكليف ، وأن العصمة ليست مانعة من القدرة على القبيح ولا مضطرة للمعصوم إلى الحسن ولا ملجئة إليه ، بل هي الشيء الذي يعلم الله تعالى أنه إذا فعله بعبد من عبيده لم يؤثر معه معصية له ، وليس كل الخلق يعلم هذا من حاله ، بل المعلوم منهم ذلك هم الصفوة الأخيار لقوله تعالى : ( وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (٢) ، وقوله : ( وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ) (٣) ، ولا شك أن في نسبة العصمة للأئمة مع قدرتهم

____________________

(١) نشأة الكفر الفلسفي ٢ : ٢١٧.

(٢) الدخان : ٣٢.

(٣) سورة ص : ٤٧.

٤٢٦

واختيارهم تناقضاً ، وانتهى المجتهدون إلى القول تحت تأثر معتزلي إلى أن العصمة هي أمر يوجده الله للإمام لطفاً منه ، فيهديه إلى الطاعة ، فلا يقدم على المعصية.

ثم قال : ولقد حاول الشيعة الاثنا عشرية تخريج قول علي زين العابدين في المعصوم بأنه : هو من اعتصم بحبل الله المتين أي القرآن ، فلا يفترق الإمام عن القرآن إلى يوم القيامة ، فالإمام يهدي الناس إلى القرآن ، يهديهم إلى الإمام لقوله تعالى : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (١) يفسّره المجلسي بأن تفسير العصمة بالاعتصام بحبل الله ـ إما باعتبار أن الله يعصم الأئمة من الذنوب بسبب اعتصامهم بالقرآن ، أو بأن المراد بأن الله عصمه بالقرآن فيعمل بماء جاء به ويعرف معانيه ، ولكن هل هذه العصمة ـ بهذا المعنى ـ مقصور على الإمام ، أم أنها في متناول كل قرآني اعتصم بالقرآن؟ (٢)

وقد خلط في هذا القول بين أوراق الشيعة وغيرهم ، ولهذا فإن بتعميم نسبة قوله إلى المجتهدين من الشيعة فيه تحكم ظاهر ، ولعل كلامه وتقسيمه هذا هو صدىً لكلام الفخر الرازي في «المحصّل» (٣) ، وأيّاً كان فمن الواضح أن لا أحد من الشيعة من يقول بجبرية المعصوم في حال المعاصي أو غيرها ، والنصوص الإمامية في شأن قبح الجبر بالنسبة للناس العاديين وتنافيه مع العدل الإلهي متواترة فكيف مع الأئمة المعصومين؟ وقد تقدّم الكلام فيه ، فليراجع.

أما حديثه عن التسلسل المنطقي لمقام العصمة في الفكر الشيعي ، فهو صحيح إن كان يقصد البنية الفكرية وذلك لوحدة سياق المفردات الفكرية

____________________

(١) الاسراء : ٩.

(٢) نشأة الفكر الفلسفي ٢ : ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

(٣) محصّل أفكار المتقدمين والمتأخرين : ٢١٨.

٤٢٧

المنضوية في المنظومة الفكرية الواحدة ، أما إن كان يريد بذلك ابتداع الشيعة لهذا الأصل ، وهو ما يبدو من كلامه الآتي ، فهو مردود عليه! كيف لا؟ وقد كان متمكّناً من معرفة الخليفة القرآنية في تأسيس مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام لفكر العصمة ، وجهله بذلك لا يبيح له اتهام المسلمين ليس فيهم.

والعجيب بأستاذ الفلسفة أن يرى تناقضاً بين العصمة والاختيار! فأين التناقض بين حالة علمية بحقائق الأشياء وهو الاطار الكلّي للعصمة ، وبين ارادة عرفت جمال ربها وجمال ما يعد به ، ففضّلت هذا الجمال على الرجس الذي بدا واضحاً لها وابتعدت عنه؟ وهذا هو الاطار الذاتي المؤهل للحصول على العصمة ، لا نريد أن نتهم الدكتور في فهمه ، ولكنه قد يكون غفل عن النظر إلى الأمر من هذه الزاوية ، وتفصيل ذلك موكول لمحله في الكتاب.

أما الحديث عن تأثر الفكر الشيعي بالمعتزلة ، فهو واهن فالتشابه بين الأفكار لا يعني بالضرورة تأثر أصحابها ببعضهم ، ولكن حين يكون فكر الشيعة سابق لظهور المعتزلة ونضوج أفكارهم ، كان عليه أن يفصل معرفياً بين المؤثّر عن المتأثّر.

أما حديثه عن قول الإمام زين العابدين عليه‌السلام فهو صحيح ولكن خاتمته مغرفة في البساطة ، والشيعة لا تعتبر ذلك دليلاً مستقلّاً ووحيداً ، فالحديث عن التمسك بالقرآن حديث فيه عام وفيه خاص ، والعام ما عنى جميع المسلمين وهو التوفيق للالتزام بظاهره وهو في متناول كل قرآني اعتصم بالقرآن ، أما بواطن القرآن وحقائقه التي تضمنت تبيان كل شيء وفق الآية الكريمة ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (١) فهي ليست علماً يمكن لظاهر القرآن أن يكشفه ، ولا للكتب التفسيرية وأغلبها قائم على فهم بشري ، لا عسر في اكتشاف القدرات الفكرية المتدنية في كثيره ، وإنما هو علم اختصّه الله لمن طهر قلبه من الزيغ فجعله

____________________

(١) النحل : ٨٩.

٤٢٨

من الراسخين في العلم ، وفقاً للدلالة الالتزامية الواضحة التي تنعكس من الآية الكريمة : ( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) (١) ، ولا شك أن من طهر قلبه من الزيغ كان معصوماً.

ثم قال : ما الذي أثار الشيعة الاثني عشرية للقول بعصمة الإمام ودفعهم إلى الدفاع عنها وبحثها بحثا كلامياً وفقهياً؟ إن الأسباب لاعتناق الاثني عشرية لهذا الأصل.

أولاً : هو أن الإمام صاحب السلطة لا الأمة ـ كما يدّعي الأشاعرة ـ ، أو بمعنى أدق بينما يعلن الأشاعرة : «عصمة الأمة» مستندين على الأصل المشهور «الإجماع» متخذينه من الحديث المشهور : «لا تجتمع أمتي على ضلالة» يعلن الاثنا عشرية عصمة الإمام مستندين أيضاً على أصلهم المشهور : «موالاة الإمام » وأن الأرض لا تخلو من قائم بالحق ، وعلى الحديث الشيعي : «من مات ولم يعرف إمامه ، مات ميتة جاهلية».

ثانياً : نسب الاثنا عشرية للإمام «العلم الإلهي» وهو علم سري في كتب وجوامع (الجفر والجامعة ومصحف فاطمة .. إلخ) وعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون. إن حامل هذا العلم الإلهي ، هذا المستودع لتراث الأئمة ، عن خاتم الأنبياء لا بد أن يكون معصوما عن الخطأ والنسيان.

ثالثاً : النور الإلهي نور محمد ، كيف يكون مستوراً ومستقراً في إمام ، ويكون هذا الإمام عرضة للخطأ؟ وهنا مدخل للغنوصية في مصدرها الأفلوطيني المحدّث.

ورابعاً : الإمام مصدر الأحكام ، وله وحده مطلق التصرف في أعناق

____________________

(١) آل عمران : ٧.

٤٢٩

المسلمين وكل ما يمس حلالهم وحرامهم ، وكما أنهم لم يوافقوا أهل السنة على الإجماع ، لم يوافقوا أكثر وأكثر على القياس. فحين حرموا القياس ، لجأوا إلى الحكم المباشر من الإمام. يلقيه إليهم عن تلق أو عن اجتهاد ، ولا بد أن يكون اجتهاده مبرّأً من العيوب ، معصوماً عن الخطأ.

لا إجماع إذن ولا قياس ، وإنما نص قرآني أو حديث عن إمام من الأئمة ، أو اجتهاد أشبه بصلصلة الجرس ، ولكن الإمام غائب ، وانتهى عهد الوكلاء ، فأي أصل من الأصول يعود إليه الشيعة الأثنا عشرية ، إذا استحدث حادثات؟ استحدثوا أصلاً غريباً ، كل ما خالف العامة فهو رشاد. وما أعجب هذا الأصل. (١)

ولنا على كلامه هذا جملة من الملاحظات نذكر منها ما يلي :

١ ـ ما ذكره من أسباب لاعتناق الاثني عشرية ، لا تتوافق بالضرورة مع ما يراه الشيعة الاثنا عشرية سبباً للإيمان بالعصمة ، فإن أسبابها ما بحثناه في الكتاب ، وإن كان بعضها مما لم يتعرض له الكتاب ، ولكنها في العموم تعود لأصلين ، أحدهما يعود إلى النص القرآني والنبوي الشريف ، والثاني يعود إلى الدلالات والاشتراطات العقلية المبتنية على هذا النص ، إما ما سواها فهي من الاستحسانات العقلية التي قد تصيب الواقع وقد لا تصيب.

٢ ـ إن حديث : «من مات ولم يعرف إمام زمانه» ليس حديثاً شيعياً فحسب ، بل هو ما تواترت طرقه لدى العامة ، وقصة بيعة عبد الله بن عمر بن الخطاب للحجاج بن يوسف الثقفي المستندة إلى هذا الحديث متواترة في الكتب المختصة.

٣ ـ ما تراه الإمامية في الإجماع ، أن إجماع الناس ليس حجة بذاته ما لم يتخلله رأي معصوم يمكن الاحتجاج به عند الله سبحانه وتعالى ، فلا قيمة

____________________

(١) نشأة الفكر الفلسفي ٢ : ٢٢٦.

٤٣٠

ذاتية في الإجماع ، وإنما القيمة في القطع بصدور الحكم الإلهي ، ولا قطع بذلك من دون رأي المعصوم ، على إن مسألة إجماع الناس مسألة لا تدرك إن كان مراد به إجماع جميع الناس ، وعنده لا بد من ضابطة لمعرفة حصول هذا الإجماع واستيفاء شرائط انعقاده ، والإمامية ترى أن شريطة الانعقاد ضمان وجود رأي المعصوم عليه‌السلام فيه ، فهو الكاشف عن الحكم الإلهي.

٤ ـ المعصوم عليه‌السلام مشرّع وكلامه في حكم النص الإلهي والرسولي وكونه مشرّعاً أي إنه هو المؤتمن على الشريعة ، وهذا الائتمان على الشريعة ـ والذي هو أحد أسرار وجود المعصوم ـ يجعل كلامه وفعله وتقريره في حكم التشريع ، وهو لهذا لا يجتهد إن كان معنى الاجتهاد هو استفراغ الوسع لاستنباط الحكم الشرعي ، فمن عصم عن الخطأ والباطل لا يحتاج إلى جهد يستفرغه كي يصل إلى الحق ، أما كلامه عن الاجتهاد الذي كصلصلة الجرس فهو غير مفهوم ، نعم ورد في طرق علم المعصوم عليه‌السلام عن الله سبحانه وتعالى يكون نكتاً في القلوب ونقراً في الأسماع كصلصلة الجرس ، وهذا ليس اجتهاداً ، وإنما هي طرق الإلهام والإلقاء ، ولو ساءل الدكتور محيي الدين بن عربي عن ذلك لأجابه بما لا غنيّ له في التحدّث عن هذا النمط من العلم بروح متهكمة!!

٥ ـ أما حديثه عن علم ما بعد غيبة الإمام عليه‌السلام فهو إلى حديث العوام أقرب منه إلى حديث المتخصصين ، بل ما أبعده من حديث هؤلاء! كيف لا؟ وطرق العلم عند الشيعة الإمامية غنية كل الغنى عن أمثال هذا التخرّص ، وما تعتقده الإمامية أن الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام قد تركوا بين أيديهم كل ما يحتاجونه لعلمية التشريع ، ولم تعان الشيعة من التشريع للمستحدثات من المسائل ، ففي الحصيلة العلمية الموروثة من طرق أهل البيت عليهم‌السلام سواء كانت نصاً مباشراً أو في الأصول العلمية المؤسسة على هذا النص غنيّ ـ وأي غنيّ ـ عن الحاجة لمواجهة هذه المستحدثات ، وها

٤٣١

نحن أمام تجربة علمية واسعة النطاق للفقه الإمامي وقد أثبت عدم حاجته لاستحداث سبل جديدة للتشريع بمعزل عن النص سواء كان كتاباً أو سنة ، أو الكاشف عن هذا النص كالعقل والإجماع.

أما بالنسبة إلى ما اعتبره أصلاً غريباً ، فلو ساءل الدكتور موروثه التشريعي والروائي لوجد أن الأمر على خلاف ما يقول ، بل هو ما يصح ضرب المثل : «رمتني بدائها وانسلت!»به ، فهذا الأصل هو أصل عامي ، عمد إليه الفقه العامي منذ أيام بني أمية ، وقد أسسوه على قاعدة : مخالفة تشريعات أهل البيت عليهم‌السلام ، ولو كبّد الدكتور نفسه عناء البحث في متونه الفقهية لوجد أن ما رمانا به كان غيرنا من أصحاب هذا المتون أولى به ، وخذ مثالاً على ذلك ما تحدّث به غير واحد من أئمة القوم حول حرمة أو مكروهية الصلاة على غير الأنبياء رغم وضوح النص القرآني بجوازه لكل أولياء الله وفقاً لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (١) ، وقوله تعالى : (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (٢) إلا إن هذا الوضوح في الجواز حينما عملت به الشيعة صار محرماً أو مكروهاً ، ولذا قال الزمخشري بكراهيته لأنه يؤدي إلى الاتهام بالرفض ، (٣) وفي ذلك تجد ابن كثير بعد أن ذكر تحريمه من قبل بعض فقهائهم يعتمد قول النووي : والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه مكروه كراهة تنزيه لأنه شعار أهل البدع ، وقد نهينا عن شعارهم. (٤)

____________________

(١) الأحزاب : ٤٣.

(٢) البقرة : ١٥٧.

(٣) تفسير الكشاف ٣ : ٢٧٣.

(٤) تفسير ابن كثير ٣ : ٥٢٤ ، وانظر قول النووي في روضة الطالبين وعمدة المفتين ٢ : ٢١١ ، والدمياطي في اعانة الطالبين ٤ : ٣٤٣ ، وابن عابدين في رد المحتار على الدر المختار ٦ : ٧٥٣.

٤٣٢

ومثله ما قاله ابن حجر في مسألة السلام على غير الأنبياء : اختلف في السلام على غير الأنبياء بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحي ، فقيل : يشرع مطلقاً ، وقيل : بل تبعاً ولا يفرد لواحد لكونه صار شعاراً للرافضة ، ونقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني. (١)

وكذا ما قاله النووي في المجموع عن المسألة التسطيح والتسنيم في القبور ، فمع أن التسطيح هو الأفضل لكونه هو السنّة ، إلّا إنه نقل عن أبي حنيفة والثوري وأحمد بأن التسنيم أفضل وعلل ذلك على لسان ابن أبي هريرة لأن التسطيح شعار الراضة. (٢)

ونقل ابن حجر عن المزني وابن قدامة تفضيلهما التسنيم ، لأن التسطيح من شعار أهل البدع.(٣)

وقال البيهقي في السنن الكبرى : استحب التسنيم في هذا الزمان لكونه جائزاً ، وان التسطيح صار شعاراً لأهل البدع. (٤)

وقد كره القوم أن يخص الإنسان موضع جبهته بما يسجد عليه ، لأنه من شعار الرافضة. (٥)

وقد اعتبر ابن تيمية أن ما في كلام أئمة السنة من الكوفيين كسفيان الثوري وغيره من اعتبارهم امسح على الخفين وترك الجهر بالبسملة ونحو

____________________

(١) فتح الباري ١١ : ١٧٠ ، ومثله الصنعاني في سبل السلام ٤ : ٢١٥.

(٢) المجموع ٥ : ٢٥٩.

(٣) فتح الباري ٣ : ٢٥٧.

(٤) سنن البيهقي الكبرى ٤ : ٣ في ذيل رقم ٦٥٥٢. وانظر تحفة الأحوذي ٤ : ١٣٠ ، وحلية العلماء للشاشي القفال ٢ : ٣٠٧ ، والمهذب (في أصول فقه الشافعي) للفيروزآبادي الشيرازي ١ : ١٣٨.

(٥) انظر الفروع لمحمد بن مفلح المقدسي الحنبلي ١ : ٤٢٨ ؛ والمبدع لابراهيم بن مفلح الحنبلي ١ : ٤٨٠.

٤٣٣

ذلك لأن هذه الامور مناقضة لشعارات الرافضة! فقال : انهم يذكرون من السنة المسح على الخفين وترك الجهر بالبسملة كما يذكرون تقديم أبي بكر وعمر ونحو ذلك ، لأن هذا (أي مخالف هذه الأقوال) من شعار الرافضة!!

ولهذا ذهب أبو علي بن أبي هريرة أحد الأئمة من أصحاب الشافعي إلى ترك الجهر بها قال : لأن الجهر بها صار من شعار المخالفين ، كما ذهب من أصحاب الشافعي إلى تسنمة القبور لأن التسطيح صار من شعار أهل البدع!! (١)

وقد كان المناوي أصرح في تصريحه عن أن من يخالف أهل البدع (وهم الشيعة في نظره) : لم يزل بخير.(٢)

أقول : وفي البين مسائل كثيرة غير ما ذكرناه ، وهي على أي حال مسائل بسيطة في التشريع وقد وجدت تشددهم فيها ، فما بالك بالمسائل الأهم!!

ولو فعلت الشيعة ذلك مع عسر الوصول إلى النص كما لو كان الإنسان معذوراً في الاتصال بالفقهاء ، لما كان في مخالفة الواقع حين يعلم أن القوم قد أقاموا تشريعاتهم المبنية على الرأي والاستحسان والمصالح على مخالفة التشيّع ، وكيف لا تكون مخالفة التشيع مستحسنة وأغلب فقهاء القوم هم أيدي دول زمانهم وقضاتها ، في وقت كان التشيع في خانة المعارضة التي تخوض دول ذلك الزمان ضدها حرب الاستئصال!!

هذا ، وقد خصّ الدكتور أسوة بغيره من مؤرخي العقائد هشام بن الحكم (رضوان الله تعالى عليه) بذكر كثير جاء في أعمه الأغلب منقولاً عن كتب القوم والتي ملئت بالافتراء عليه نتيجة لمحاججاته الحصيفة ضد

____________________

(١) كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه ٢٢ : ٤٢٣.

(٢) فيض القدير ٦ : ٤٥٠.

٤٣٤

افكارهم ومعتقداتهم ، دون أن يكبّد نفسه عناء تحرّي الدقة التي يفترض أن تكون واحدة من أعمدة المنهجية الأكاديمية ، فترى هشاماً ـ وفق ما نقلوه عنه ـ متلوّن الفكر ، حائر النظر ، ينتقل مع إماميته من التشبيه إلى التجسيم ، ومن المعتزلة إلى غيرهم ، بل من الأديان مجبوراً إلى الإسلام ، (١) وكان بإمكانه أن يرجع ولو قليلاً إلى كتاب الكافي وأمثاله ليعلم صحة ما نقلوه عن هشام في مسائل التوحيد والنبوة والعصمة وأمثالها ، ولو فعل ذلك ، إذن لستر خلّة واسعة في كتابه!!.

____________________

(١) سنناقش ما نقلوه عن هشام في مسألة العصمة في القسم الأخير من هذا الفصل.

٤٣٥

ثالثاً : الاتجاه الروائي البخاري نموذجاً

لمحة تاريخية تمهيدية

عملت الحكومات التي تعاقبت بعد رحيل الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على منع تدوين الحديث والسنة النبوية ، واستمر هذا العمل إلى أيام حكم عمر بن عبد العزيز ، ولم يشذ من هذا التاريخ إلّا فترة وجيزة كانت فترة فتن وحروب داخلية هي التي وسمعت عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وتخللت مراحل حكم هذه الحكومات عملية تقنين ورقابة حكومية صارمة لطبيعة ما يروي أولاً ، مع تشجيع حكومي متعمّد اتخذ صوراً متعددة على الكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانياً ، وأحكم هذا الطوق بثالثة الأثافي حينما راحت أجهزة هذه الحكومات تعمل على الإمساك بأجهزة الدعاية ، وقد مرّ بنا سابقاً عمل أبي بكر على تحريق كتب الحديث ، وقد سار عمر وعثمان على منواله ، حتى إذا جاء عهد معاوية كانت السياسة المتبعة هي ما يرويها ابن أبي الحديد المعتزلي نقلاً عن أستاذه أبي جعفر الاسكافي إذ قال : إن معاوية وضع قوماً من الصحابة ، وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليه‌السلام ، تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله : فاختلفوا ما أرضاه ، منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومن التابعين عروة بن الزبير. (١)

____________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ : ٦٣.

٤٣٦

وكان من تداعيات هذه السياسة التي استمرت حتى عهد عمر بن عبد العزيز أن انتشر الكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيما كانت ميزانية الدولة تنفق طائلاً من المال لإجراء هذه السياسة ، فهذا سمرة بن جندب وهو من رجال الصحاح الستة والذي يقول ابن سيرين في حقه إنه كان عظيم الأمانة صدوق الحديث يحب الإسلام وأهله يتحدّث عنه ابن أبي الحديد أن معاوية قد بذل له : مائة ألف درهم حتى يروي ان هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ الله عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَالله لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (١) فلم يقبل ، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل فبذل له ثلاثمائة ألف درهم فلم يقبل ، فبذل له أربعمائة ألف درهم فقبل وروى ذلك. (٢) وقد استخلفه معاوية إثر ذلك على البصرة خلفاً لزياد بن أبيه ، بعد أن كان هذا الآخر يستخلفه عليها في حال غيابه. (٣)

وحين انتهى المنع من التدوين وأذنت الدولة بالرواية وتدوينها ، كانت المستندات الوثائقية لحديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نزلت وحلّ محلّها ذاكرة رواة يعملون في اطار الدولة ويروّجون لها ، وقد جاء حكم بني العباس إثر القضاء على الحكم الأموي ، وأتم القوم منهج بني أمية في شأن الحديث ، وأسسوا ما سمي بعد ذلك بالمذاهب الأربعة ، وكان عمل هذه المذاهب عسيراً ، مع وجود الاختلاف الكبير في ما يرويه القوم من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحابته ، وكان بنو العباس في حرج شديد وهم يرون في بعض هذه الأحاديث إحراجاً كبيراً لشرعية وجودهم في نفس الوقت الذي كانت توميء إيماءات واضحة المعالم لمصلحة خصومهم ، ولهذا ومع تعاظم وطأه مدرسة

____________________

(١) البقرة ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٢) شرح النهج ٤ : ٧٣.

(٣) تهذيب التهذيب ٤ : ٢٠٧ رقم ٤١١.

٤٣٧

أهل البيت عليهم‌السلام ، وتنامي الرفض الشعبي لمظاهر القمع الشديدة التي ميزّت حكم العباسيين ضدهم ، وهو التنامي الذي أسهم في تعاظم القاعدة الشعبية لأفكارهم ومعتقداتهم ، كان بنو العباس قد وضعوا الأساس المطلوب للقضاء على احراج هذه الأحاديث واستدرار خيرات الموضوع منها ، وكان عهد علو شأن النواصب في زمن المتوكل العباسي مثالياً لتحقيق ذلك ، فقد : كان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ولأهل بيته ، وكان يقصد من يبلغه عنه انه يتولّى علياً وأهله بأخذ المال والدم ، وكان من جملة ندمائه عباده المخنّث ، وكان يشدّ على بطنه تحت ثيابه مخدّة ويكشف رأسه وهو أصلع ويرقص بين يدي المتوكل والمغنون يغنون قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين ، يحكي بذلك علياً عليه‌السلام والمتوكل يشرب ويضحك .. وكان ينادمه جماعة قد اشتهروا بالنصب والعداوة اعلي منهم علي بن الجهم ، وعمرو بن فرج الرخجي ، وأبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بني أمية ، وعبد الله بن محمد بن داود ، وكانوا يخوّفونه من العلويين ويشيرون عليه بابعادهم والاعراض عنهم والإساءة إليهم ، ثم حسّنوا له الوقيعة في أسلافهم الذين يعتقد الناس علوّ منزلتهم في الدين ، ولم يبرحوا به حتى ظهر منه ما كان ، فغطّت هذه السيئة جميع حسناته. (١)

وذكر ابن تغري أن المتوكل وابنه المنتصر تتبعوا الروافض بمصر وأبادوهم وعاقبوهم وامتحنوهم وقمعوا أكابرهم في سنة ٢٤٢ هـ ، وحمل واليهما يزيد بي عبد الله بن دينار جماعة منهم إلى العراق على اقبح وجه ، ثم التفت إلى العلويين فجرت عليهم منه شدائد من الضيق عليهم واخراجهم من مصر ، هذا بعد أن ورد كتاب المتوكل لواليه هذا بأن يخرج الأشراف العلويين من مصر. (٢)

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٥ : ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

(٢) النجوم الزاهرة ٢ : ٢٠٩.

٤٣٨

في هذا المعين بالذات نشأ محمد بن اسماعيل بن بردزبه البخاري (١٩٤ ـ ٢٥٦ هـ) وفي أحضانه ترعرع وأخرج كتابه المسمى بالصحيح ، وكان تأليف الكتاب عملاً بتوجيه مباشر من سياسة المتوكل الذي كان قد اتخذ سياسة تأليف كتب الحديث الرسمية ليحقق الغرض الذي وضعه نصب عينيه ، وهو اعلاء شأن عقيدة النصب لأهل البيت ، والرد على الخصوم السياسيين ، واضفاء الشرعية الدينية على سياسته ، واستماله العامة التي ترتاح لأحاديث القصاصين والحشويين بعد انكسار شوكة مدرسة أبي حنيفة المناهضة للحديث ، ووفق هذه السياسة أشخص في سنة أربع وثلاثين ومئتين الفقهاء والمحدّثين ـ كما يقول ابراهيم بن نفطويه ـ : فكان فيهم مصعب بن عبد الله الزبيري ، واسحاق بن أبي إسرائيل ، وإبراهيم بن عبد الله الهروي ، و ، ابو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة ـ وكانا من الحفاظ ـ ، فقسّمت بينهم الجوائز ، وأمرهم المتوكل أن يحدّثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية قال : فجلس عثمان في مدينة المنصور واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً ، وجلس أبو بكر في مسجد الرصافة وكان أشد تقدماً من أخيه اجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً. (١)

وقد أجمع المؤرخون على تأكيد الحديث عن سياسة المتوكل في توجيهه لاتهاجات حديث الرواة فطالبهم بالزجر عن القول بخلق القرآن ، وطالبهم برواية أحاديث الرؤية والصفات وهي أحاديث التجسيم الإلهي ، فضلاً عن مواجهة التشيع والمعتزلة ونظرائهم ممن كان في صف المعارضة

____________________

(١) سير أعلام النبلاء ١١ : ١٢٥ ، تاريخ بغداد ١٠ : ٦٧ رقم ٥١٨٥ ، المنتظم ١١ : ٢٠٧.

أقول : ليس من الغريب أن ترى ابن أبي شيبة هذا يروي أول حديث له في مسجد الرصافة في فضل العباس ، فلقد روى الخطيب البغدادي ان أول حديث حدّث به أبو بكر بن أبي شيبة : احفظوني في العباس ، فإنه بقية آبائي ، وإن عم الرجل صنو أبيه. تاريخ بغداد ١٠ : ٦٨.

٤٣٩

السياسية. (١)

وبناء على توجيهات المتوكل تم في عهده وما بعده بقليل تأليف غالبية ما يسمى بالصحاح والمسانيد ، وعلى رأسها مصنف ابن أبي شيبة ومن بعده كتب تلاميذه وتلاميذهم : كالبخاري ومسلم القشيري ومسند أحمد بن حنبل وسنن أبي داود السجستاني وابن ماجة القزويني والدارمي وعبد بن حميد وأبي يعلى الموصلي وابن راهويه ، ومن بعد هؤلاء مباشرة ألّف الترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن أبي عاصم والشاشي والروياني وابن الجارود ، وفي نفس الفترة بالذات خرجت كتب العلل لعلي بن المديني وأحمد بن حنبل وابن أبي حاتم والترمذي والجارودي وتمييز مسلم ومراسيل أبي داود ، ومن بعدهم الدارقطني ، وتمم هذا العقد العجيب بكتب الرجال الرئيسية ففي هذه الفترة أيضاً جاءت كتب البخاري والجوزجاني والدارقطني وابن أبي حاتم والعقيلي وابن عدي وابن حبّان البستي ، فأحكم الطوق على الحديث ، فما فلت من كتب الأحاديث تلقفته كتب العلل ، وما أفلت منه كانت كتب الرجال له بالمرصاد!.

ولهذا فما من عجب يثير المحقق إن وجد كتاب البخاري وهو مليء بتوجهات هذه السياسة وفي خدمة أغراضها ، وما من مدعاة للاستغراب إن لاحظ الإنسان حرص البخاري على عدم الرواية عن أهل البيت عليهم‌السلام ، ما خلا بضع روايات وردت على لسان أمير المؤمنين عليه‌السلام لغرض تشويه سمعته وتبييض صورة أعدائه ، فيما تجد الكتاب وقد امتلأ من الرواة النواصب الثقات في زعمه ، وعلى النقيض من ذلك تجده يتحدّث عن الرافضة بهذا القول : ما أبالي صلّيت خلف الرافضي ، أم صليت خلف اليهود والنصارى ، ثم يقدّم نصيحته التالية لأتباعه في كيفية التعامل مع الرافضة : لا

____________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٣٤ ، ١٣ : ٢٩٤ ، العبر في خبر من غبر ١ : ٤١٣ ، شذرات الذهب ١ : ٧٥ ـ ٧٦.

٤٤٠