عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

الشيخ جلال الدين علي الصغير

عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

المؤلف:

الشيخ جلال الدين علي الصغير


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأعراف للدراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (١) ، وتلتقي بالروح ، مع لقاءات إبراهيم عليه‌السلام الذي بلغ به الأمر أنه أري ملكوت السماء والأرض (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٢) ، وبين لقاءات نبينا الأقدس في محضر الجلال والقدس والتي تصوّرها الآيات الكريمة بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (٣) ، وهي ـ حسب ما يبدو لي ـ بأن البلاغة العربية جاءت بأرفع معنىّ لتصوير قرب الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الذات الإلهية يمكن للذهن البشري أن يتصوّره مع الحفاظ على خصوصيات التوحيد من أن تشوبها شبهات التحديد والتجسيم ، للحظنا أن التفاوت يعود إلى الفارق بين المؤهلات التي تمتع بها كل واحد منهم (صلوات الله عليهم) ، حتى إنّ مؤهلات السيدة مريم عليها‌السلام لم تكن كافية لأن توصلها إلى مقام النبي إبراهيم عليه‌السلام ، وهكذا الأمر في مؤهلات إبراهيم عليه‌السلام ومقام نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

* * *

وما من شك أن النور الإلهي المجعول للمتقين والذي يمشون به بين الناس ، والمدخل الصدق الذي وعدهم ، يشير إلى وضع قلوبهم ، وقد عرفنا أن هذه القلوب كلما نزعت باتجاه التقوى كلما ذهب عنها الزيغ والرين ، وكلما ابتعدت عن هذا الزيغ والرين كلما تحررت من

____________________

(١) آل عمران : ٣٧.

(٢) الأنعام : ٧٥.

(٣) النجم : ٨ ـ ١٨.

٦١

العناصر الداخلية الأساسية في تشكّل الخطايا والآثام ، فما من مجال لدخول الشيطان ووساوسه إلى ذاتها ، وما من مجال لتحكّم أهواء النفس في نزعاته ورغباته ، وما من مجال لوجود الجهل في شخصيته ، كيف وقد قال الله سبحانه وتعالى إن الجهل من مختصات القلوب الزائغة ، وترك العلم مفتوحاً أما القلوب التي تخلصت من نير الزيغ وفقاً لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبَابِ) (١).

والعلم الرباني الذي وصف بأنه يبيّن كل شيء (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ) (٢) هو الآخر متفاوت في نيله بين الناس ، وهذا التفاوت الذي تحدثنا عنه الآيات الكريمة : ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ) (٣) ، وقوله تعالى : (فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (٤) ، وقوله تعالى : (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) (٥) ، وهذا التفاوت في منح العلم المعبّر عنه بالبعضية في الآيتين الأولى والثانية ، وبالشمولية في الآية الأخيرة ، لا يمكن ان يعبّر إلا عن اختلاف المواصفات والمؤهلات الذاتية بين أفرادها.

ولهذا فكلما تكاملت حالة التقوى في الإنسان كلما تكاملت لديه الحالة العلمية المشار إليها في الآيات الأخيرة ، ومعه فلو تكاملت صورة التقوى ، لوجدنا تكامل اطلاع الإنسان على كل شيء ، واطلاعه على كلشيء سيتيح

____________________

(١) آل عمران : ٧.

(٢) النحل : ٨٩.

(٣) النمل : ٤٠.

(٤) الكهف : ٦٥.

(٥) الرعد : ٤٣.

٦٢

له التعرف على حقائق الأشياء ومنها الذنوب والخطايا ، وهذه المعرفة ليست كمعرفتنا بها ، بل بصورتها الواقعية والحقيقية ، ومثاله نتلمسه في الآية القرآنية التي تتحدث عن الغيبة (وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) (١) فمعرفتنا نحن بالغيبة تتمثل في ما نقرأه ونلمسه من الآثار الاجتماعية والأخلاقية للغيبة ، ولهذا تجد الكثير من المطلعين على الشؤون المحرمة للغيبة لا يتناهون عنها ، ولكن من يطلع على الغيبة بالهيئة الحقيقية التي تصورها الآية الكريمة ، أي إن الإنسان يلوك ما بين أسنانه لحم أخيه الميت ، ودماؤه تتقاطر من بين الأنسان وتتناثر بين الجوف وما يخرج من الفم وتعلوا الشفتين لتتقاطر منها على الذقن ومنه إلى البدن!!

أقول : من يرى الغيبة بهذه الهيئة ، وهي بهيئتها الحقيقية في عالم الملكوت كيف يمكن له أن يتقرب منها؟! وهكذا فمن أوتي العلم الملكوتي فإنه يرى الذنوب والأخطاء بهيأتها الحقيقية ، وفي هذا المجال لدينا روايات كثيرة تحكي هذا المفهوم بصورة أو أخرى ، ومنها ما يرويه أديم بياع الهروي قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول : إن الله يبغض البيت اللَحِم ، قال : إنما ذلك البيت الذي يؤكل فيه لحوم الناس ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لَحِماً يحب اللحم ، وقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسأله عن شيء وعائشة عنده ، فلما انصرفت وكانت قصيرة ، قالت عائشة بيدها (٢) تحكي قصرها ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تخللي ، قالت : يا رسول الله وهل أكلت شيئاً؟ قال لها : تخللي ، ففعلت فألقت مضغة عن فيها. (٣)

* * *

____________________

(١) الحجرات : ١٢.

(٢) قال بالشيء : فعل به.

(٣) المحاسن : ٤٦٠ ـ ٤٦١ «كتاب المآكل» ب ٥٤ ح ٤١٠ لأبي جعفر أحمد بن محمد ابن خالد البرقي (ت ٢٧٤ هـ) ؛ مطبعة رنگين ـ طهران ط ١.

٦٣

ومن الواضح إن النور الإلهي الذي يمشي به المؤمن والذي تتحدّث عنه الآيات المارة إنما هو حالة علمية بحقائق الأشياء ، فلا يتوقف عند بعد أو أكثر من أبعادها وإنما يشمل كل ما تشتمل عليه هذه الأشياء غاية ما في الأمر أن يعمل الإنسان على إزالة الحجب التي تعيق امتداد هذا النور ، مثله مثل المصباح حين تضيء به غرفة ما ، فسيعم النور دفعة واحدة كل اجزاء الغرفة حتى لو لم تتعمد إيصال النور إليها ، وما سيبقى مظلماً هو ما بقي خلف الحجب التي حالت دون وصول هذا النور ، وهذا العلم من سنخ العلم الذي تتحدّث عنه الآيات الكريمة : (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) (١) ، فمن المعلوم أن رؤية الجحيم المطروحة هنا في الآية الأولى ليست هي رؤية عالم الآخرة ، بل هي رؤية عالم الدنيا ، ولا تحصل هذه الرؤية إلا بعلم اليقين ، وهو صورة متقدمة من صور النور الإلهي ، ووفق هذه الآية فإن الدنيا تحفّ بها عوالم أخرى وما يحجب العلم عن تلك العوالم ويجعل الإنسان قاصراً عن رؤيتها هو عدم حصول هذا العلم ، أما مع حصوله فإن الصورة الكلية لما يحفّ بهذه الدنيا سوف تكون مرئية لمن له علم اليقين ، وكلما كانت كيفية هذا العلم أكثر تقدماً كلما امكن هذا الإنسان من رؤية حقائق ما يجري ويحفّ حوله.

وبطبيعة الحال فإن إمكان الخطأ في هذه الرؤية أو الزلل أو نسيانها تغدو منعدمة ، لأن الخطأ والنسيان والزلل هي صور من عالم الظلمات وفق تعبير علماء الأخلاق ، ومهمة هذا النور هو الخروج بالإنسان من الظلمات (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (٢) ولهذا فمن أخرج من هذه الظلمات واعتنق هذا النور فما من مجال لتعلّق عالم الظلمات ومفرداته به ، اللهمّ إلاّ أن ينسلخ من عوالم

____________________

(١) التكاثر ٥ ـ ٧.

(٢) إبراهيم : ١.

٦٤

النور ، فهذا هو من سيحجب الرؤية عن بصيرته ، وهو من سيورد العمى عليها.

ولو دققنا في شأن العصمة وفق هذه المعطيات ، فإن أي مجال للوقوع في الخطأ والإثم عند المعصوم المزوّد بهذا النور يصبح مستحيلاً ، فلقد زوّد بعلم يجعله محيطاً بحقائق الامور ، وعملية التزويد هذه تمت بناء على مؤهلاته الذاتية ومن جملتها تنقيته لذاته مما يشوب علقة الاخلاص لله سبحانه وتعالى ، وهذه التنقية إنما تمت بسبب تمتعه بإرادة صلبة أهّلته لمقام العصمة ، بل أهلته لأن ينال مقاماً أعلى بكثير من مقام العصمة ، ألا وهو مقام الإمامة ، وفق ما بيّنته الآية الكريمة : (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (١) مما تجعله يتحرى الموقف الصحيح المنسجم مع متطلبات العبودية لله.

ولو أردنا أن نتلمس الصورة التكاملية لذلك كله في الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يقدمه القرآن بعنوانه النموذج الأكمل للمتقين ، فلقد رأى من آياته ربه الكبرى ، حين دنا فتدلى ، وهناك أحاط بعلوم يقينية لم يسبقه إليها أحد من الخلق ، وحظي بامتيازات لم يخظ بها أحد غيره ، حتى جعل مؤتمناً على النور الإلهي كما نلحظ في الآية الكريمة : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢) وما كان ذلك إلا بسبب ملكاته الذاتية ، فما السبب الذي يجعله يتخلى عن هذا الموقع العظيم ليسير في المسارات المناقضة للعصمة؟!

____________________

(١) السجدة : ٢٤.

(٢) الأعراف : ١٥٧.

٦٥

إن القرآن الكريم يدلنا على خمسة أسباب تجعل الإنسان مقارفاً للذنوب كما سيأتي تفصيلها لاحقاً ، ولكن صورتها الحقيقية مجموعة في الجهل بحقائق ما يقدم عليه ، وهذا ممنوع عليه لأنه قد علم حقائق كل الأمور ، تبعاً لقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الْإِيمَانُ وَلكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١) ، وهذا هو مفاد العصمة المطلقة كما يرشح من ذيل الآية الكريمة : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

* * *

بناء على ذلك نجد أن الآلية التي تتشكل بها العصمة ، إنما تعتمد على عاملين أساسيين هما :

الأول : ملاكات ومؤهلات ذاتية عالية المضامين ، وهذه الملاكات تتقوّم أساساً بناء على اختيارية الإنسان في اكتسابها وسعيه إليها ، مما يعني أن العصمة من حيث الأساس شأن اكتسابي يمكن السعي إليه ارادياً.

الثاني : لطف إلهي يرقى بهذا الإنسان ليجزيه أجر ما أحسن عملاً ، وهذا الأجر ليس هو الأجر الأخروي ، بل هو الأجر الدنيوي ، فلقد وعد الله سبحانه الذين آمنوا بمزية في الحياة الدنيا كما قال تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (٢) ، وهذه المزية الممنوحة في المحيا وفي الممات ، هي في واقع الحال تفرق بين من يجترح السيئات ، وبين من لا يجترحها.

ومن يلحظ هذا اللطف في واقع الأمر يجد انه يعلب دوراً آخر ، هو دور التحفيز للمزيد من العطايا الربانية ، فمن يحظ بتلك الامتيازات لا

____________________

(١) الشورى : ٥٢.

(٢) الجاثية : ٢١.

٦٦

يلتفت إلى ما وراءه ، بل سيكون جلّ اهتمامه متعلق بنيل الحظوة عند الله سبحانه وتعالى.

* * *

٦٧

العصمة في الدليل القرآني

في ما يبدوا فإن القرآن الكريم قد تحدّث عن العصمة في صور ثلاث ، نجد الصورة الأولى منها مرتسمة في حديثه عنها بشكل مباشر ، مبيّناً وجودها ، وقد استوفى الحديث عنها مرة بصورة فكرية بحتة أي أنه عرض لوجودها كأمر لابد من حصوله ، وثانية باعتبارها أمراً منجّزاً في الواقع التاريخي ومجسداً في الواقع الاجتماعي ، حتى لا يبقي الفكرة عرضة لو هم فقدانها لمصاقها الاجتماعي وتجسّدها التاريهي فتّتهم بالطوباوية ، وترتسم الصورة الثانية في حديثه عن ملازماتها كحديثه عن الطاعة والهداية والشهادة وما إلى ذلك ، فيما نلمح في الصورة الثالثة حديثه عن الكيفية التي تتشكّل فيها العصمة في النفس الإنسانية معرباً عن وجودها ككامن يستقر في غياهب هذه النفس.

وفي هذه الصور يمكننا تلمّس العصمة مرّة باعتبار ما يترتب عليها من أمور تتعلّق بالمعصوم عليه‌السلام تارة ، وبالمكلّف باتباعه والاقتداء والتأسّي به أخرى ، وثالثة بعنوانها خياراً إلهياً أتيح للإنسان كي يسير نحو مراتب الكمال القاصية ، وسنجد أن هذا الخيار لايستلزم اقترانه بالوحي النازل على الأنبياء عليهم‌السلام كما اشترط بعض المفكرين من العامة. (١)

____________________

(١) محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين : ٢١٨ للفخر الرازي (ت ٦٠٦ هـ) ؛ مكتبة الكليات الأزهرية ـ القاهرة. بدون الطبع. وأشار إليه الحكيم الترمذي في : نوادر الأصول في أحاديث الرسول ٢٥٩ : ١ ؛ دار =

٦٨

وسنحاول في هذا الفصل اكتشاف العصمة من خلال ما يقدّمه النص القرآني الكريم لنا في صوره الثلاث ، على انني لا أجد في الوقت متّسعاً للتعرض إلى كل النصوص القرآنية الشريفة المتعلقة في هذا المجال ، بل سأكتفي بما يلزم لإيضاح الفكرة القرآنية العامة ، والله هو المستعان.

•••

____________________

= الجيل ـ بيروت ١٩٩٣ ط ١.

٦٩

أولاً : العصمة وضرورات الهداية الربانية

خلق الله المكلّف بمهمة محددة هي عبادته جلّ وعلا ، وذلك وفقاً لما أشار إليه قوله تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (١) ، وهذا التكليف المجهّز بخيار الاختيار الإرادي ، حيث لا يمكن تعقّل وجود التكليف من دون هذا الخيار ، قد وضع على مفترق طريقين لا ثالث لهما : (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٢) وطريقا الشكر أو الكفر هما فيالواقع نتاج تركيبة محتواه الخَلْقي ، المعبّر عنه تارة عن خليط الروح الإلهية مع عنصر التكوين الآخر كالطين في حال البشر ، والنار في حال الجن ، وأخرى باعتبار ان نفسه قد ألهمت بخيارين متناقضين هما خيار التقوى أو الفجور (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (٣)

والسؤال الذي يطرح تلقائياً يتعلّق بالكيفية التي سيقطع بها هذا المكلّف طريق التكليف كي يحقق الغاية الربانية؟ لا سيّما وأن عالم التكليف لا يجري في ساحة نائية عن المعوّقات التي تعترض هذه المهمة ، بل يطرح القرآن خمسة معوّقات أساسية يمكن لها أن تصدّ المكلّف عن القيام بما طلب منه ، وهذه المعوّقات نلخّصها بالتالي :

١ ـ الجهل : وهو عنصر يمكن أي يطيح بأكبر المشاريع الإنسانية ، وهو بالتالي سيكون عنصراً مضاداً وبشكل فاعل العملية (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ

____________________

(١) الذاريات : ٥٦.

(٢) الإنسان : ٣.

(٣) الشمس : ٧ ـ ٨.

٧٠

بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١).

٢ ـ أهواء النفس : وهذه الأخرى تمثل أحد المعوّقات الكبرى والرئيسة القادرة على إشغال المكلّف وابعاده عن مسار الهداية الربانية ، كيف لا؟ وقد وصفها القرآن بانها يمكن أن تصنع من نفسها إلهاً يبعد الإنسان عن ربه كما في قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) (٢).

٣ ـ الشيطان الرجيم : وهو كما وصفته الآية الكريمة : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٣).

٤ ـ إغراءات عالم التسخير ، فهذا الكون الذي سخّر لهذا المكلّف يقدّم إغراءات جمّة للتناحر والإفساد ، وهذه الإغراءات يمكن أن تكون هي موضع إغواء الشيطان وخداع أهواء النفس ، إذ بدونها يفقد الشيطان الكثير من إمكانيات الوسوسة ، وتفقد قابليات أهواء النفس الكثير من مثيراتها.

٥ ـ العلاقات في ساحة التكليف ، وما تفرضه بعض أنواع العلاقات من تقليب الأمور على المكلّف بحيث لا يبصر طريق الهدى وسط إثارة أهواء النفس ، وهذا النمط من العلاقات هو أحد العوامل الأساسية التي أطاحت بإبليس ، فلقد كان عابداً لله ، ولكن ما أن طرأ عنصر علاقة جديدة في ساحة التكليف حتى سقط في مهاوي أهواء النفس. (٤) وهذا العنصر مثله مثل الذي

____________________

(١) الأنعام : ١١٩.

(٢) الجاثية : ٢٣.

(٣) يس : ٦٠.

(٤) المعوّقان الأخيران وإن أفضيا إلى المعوّقين الذين قبلهما ، إلاّ انهما يشكلان المثير الخارجي لتفعيل ما قبلهما ، فنمط التسخير وإغراءاته هي التي جعلت الملائكة تستثار لوجود مخلوق بهذا التركيب وسط هذه الإغراءات فقالت قولتها المعروفة : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ =

٧١

سبقه يمثل أحد الوسطين الذي تتفاعل بسببهما اغواءات الشيطان وأهواء النفس.

ومن عدل الله سبحانه وتعالى مع خلقه انه ما كان ليتركهم دون مناهج هداية تبعدهم عن هذه المؤثرات أو تحجّمها ، وبالتالي لتدفعهم نحو الغاية الربانية ، لهذا كان مقتضى عدله ، أنه ألزم نفسه بأن يرسل لهم مناهج هداية تدفع بهم نحو الهدى ، وتدراً عنهم الضلال كما يصوّرها القرآن الكريم : (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) وقد أنجز الله ما وعد اله ما وعد فأرسل (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (٢) ووصف عملية الإرسال بأنها رحمة (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٣).

ومن الواضح أن هؤلاء الرسل طالما انهم أرسلوا بهذه المهمة فسيلزم أن تكون طاعتهم واجبة على من أرسلوا إليه ، وبموجب هذه الطاعة ستتم محاسبتهم ومكافأتهم كما قال الله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (٤) لأن هذه الطاعة ستكون هي سبيل

____________________

= الدِّمَاءَ) [البقرة : ٣٠] ، ونمط العلاقات هو الذي منح الشيطان الأرضية اللازمة لتحقيق وسوسته كما يتراءى لنا ذلك في قصة آدم عليه‌السلام (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) [الأعراف : ٢٠].

(١)الاسراء : ١٥.

(٢) النساء : ١٦٥.

(٣) الأعراف : ٥٢.

(٤) النساء : ١٣ ـ ١٤.

٧٢

تكامل الرحمة التي وعدت بها عملية الهداية الربانية كما توضح الآية الكريمة : (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) (١) ، كما يلزم أن يكونوا في موضع الأسوة والقدوة لبقية المكلّفين (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٢).

وطالما أن هذه الطاعة واجبة على المكلّف ، وأن التأسّي بهم واجب ، فإن ذلك يستلزم الأمور التالية كحقوق طبيعية لهذا المكلّف تفرضها طبيعة الحجة الإلهية البالغة :

١ ـ صدق المرسلين وصوابهم الكامل في ما يبلّغونه عن الله تعالى ، وذلك لأنهم لو لم يكونوا واجبي الصدق ، لكان ما يبلّغونه عن الله إما صدقاً وصواباً ؛ وإما كذباً وخطأً ، فإن كان صادقاً ومصيباً فبه ، وإن كانت الثانية فكأن الله لم يلتزم بما ألزم نفسه فيه ، فلقد التزم بعدم محاسبة الخلق حتى يبعث لهم رسولاً ، فإذا كان هذا الرسول كاذباً أو أبلغهم بالخطأ فكأنه لم يرسل إليهم رسولاً.

كما ان كونهم ملزمين بطاعة المرسل من خلال طاعة رسوله ، فإن أطاعوه في صدقه وصوابه فقد أطاعوا الله ، ولكنه إن أخطأ أو كذب فيكون التكليف عندئذ متوجّهاً إليهم بأمرين متناقضين فالخلق مجبر على طاعته ومخالفته في آن واحد ، مجبر في طاعته كونه رسولاً ، وفي مخالفته كونه كاذباً أو مخطئاً.

فإن قيل : ليس لهم ذنب في طاعته لأنهم لا يعلمون بخطئه ، قلنا : فكأن الله لم يرسل رسالته عندئذ ، لأن مقتضيات الحجة الربانية أن تكون واضحة وبيّنة حتى تكون تامة وبالغة.

____________________

(١) النور : ٥٤.

(٢) الممتحنة : ٦.

٧٣

ولهذا وصف النص القرآني عملية التبليغ بالصفاء الكامل والصدق الكامل ، فالرسول لا ينطق ـ حين ينطق ـ إلا عن وحي السماء الذي لا يمكن أن يلتقي في قلب يعمره هوىً غير هوى الله سبحانه (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (١) لأنها لا تحتمل غير ذلك الصدق ، فبدونه ينتفي وجود الرسول : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ). (٢)

٢ ـ إلتزام المرسلين الكامل بما أرسلوا به ، فعدم الالتزام من قبلهم يقدح مرة بالذي أرسلهم ؛ فالرسالة إما أن تكون قابلة للتطبيق ، فالمطلوب أن ترسل بيد من يلتزم بها وهو مقتضى حكمة المرسل ، فإن لم يكن جديراً بذلك ، وكان ثمة من هو أجدر منه ، فالأجدر أولى بالرسالة من الذي لا جدارة لديه ، وهذا مقتضى عدل المرسل.

ويقدح أخرى بهم لأنه يسلبه مصداقية الرسالة من جهة ، ولأن الأمر الإلهي سيتناقض كما رأيناه في الأمر الأول لأن الخلق مكلّف بالتأسي بالرسول ، فهل يتأسون بمخالفته لرسالته؟!

ولهذا تجد النص القرآني في الوقت الذي يشخّص فيه وجوب التأسي والاقتداء بالأنبياء والمرسلين كقوله سبحانه وتعالى في حديثه عن الأنبياء : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (٣) وكذا قوله تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (٤) فإنه يسمي هذا الرسول بالرحمة النازلة على العالمين (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة

____________________

(١) النجم : ٣ ـ ٤.

(٢) الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧.

(٣) الأنعام : ٨٩ ـ ٩٠.

(٤) الأحزاب : ٢١.

٧٤

لِلْعَالَمِينَ) (١) ولا يمكن للرسول أن يكون رحمة للعالمين إلا من خلال توافق سلوكه مع الرسالة. (٢)

وهذا الفهم العقلاني المتناسب مع النص القرآني ، مثلما نرى ضروريته في أنبياء الله عليهم‌السلام ، فإنه ضروري في الهداة الذين جعل القرآن الكريم وجودهم ضرورة رسالية لا مندوحة عنها أيضاً بقوله تعالى : (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (٣) فالعصمة إذا كانت ضرورية للرسول بسبب وجود الرسالة وخصوصيته فيها ، فهي ضرورية مرة أخرى لمن يخلف الرسول على رسالته لتعلّق نفس الضرورة بهم ، إذ لا فرق بينهما إلا في طبيعة الصفة فذاك رسول وهذا هادٍ. (٤)

ولو أردنا تطبيق الأمر على رسولنا الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يتوهمنّ أحد في أن الرسالة هي هذا الكتاب بكلماته وألفاظه المعهودة فقط ، حتى يمكن الاكتفاء به دون الحاجة إلى خليفة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هداية الأمة ، فالكتاب الكريم وإن حوى علم كل شيء وبيّن ذلك العلم لقوله تعالى : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (٥) غير إن احتواءه لهذا العلم شيء ، ومعرفة مكنونات هذا العلم الذي فيه شيء آخر ، إذ يحتاج إلى عالم رباني به ليكشف هذه المكنونات ، وقد عبّر القرآن عن إنّ هذه المكنونات لا يحيط بها الإنسان العادي ، ولا يستطيع بسبب وجود خاصية عدم الصفاء الكامل لقبله والمعبّر عنها الزيغ ، بل تحتاج إلى المعصوم ، فقوله

____________________

(١) الأنبياء : ١٠٧.

(٢) أورد علماؤنا الكثير من الأدلة العقلية والنقلية على ثبوت العصمة من طرق أخرى ننصح بمراجعتها ففيها الكثير مما لا يستغنى عنه من العلم.

(٣) الرعد : ٧.

(٤) يمكن مراجعة تفصيل هذا الأمر في كتابينا : القائد والقيادة والانقياد في سيرة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام (١٩٨٨م) والإمامة ذلك الثابت الإسلامي المقدّس (١٩٩٩م).

(٥) النحل : ٨٩.

٧٥

تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبَابِ) (١) كان قد ميّز هؤلاء الراسخين في طبيعة وحجم ما علموا عن الذين في قلوبهم زيغ ، حيث نجد أن تأمّلاً بسيطاً في دلالة الرسوخ على تأويل الكتاب تجعل علمهم كمال كلّه ، ولازم هذا الكمال أن يكون هذا العلم بالغاً لكل ما في الكتاب أو أكثر منه ، لأن : افتراض أن يكون العلم دون ذلك يفضي إلى أن إبلاغ الحجة الإلهية سيكون ناقصاً لعلم المبلّغ بها ، وهذا ما يتنافي مع مبدأ الحجة البالغة. (٢)

بينما يمكننا ملاحظة أن زيغ القلوب يؤدي أولاً إلى إمكانية تلاعب الشيطان أو أن يكون هذا القلب أسيراً لأهواء النفس به ثانياً ، كما أشار إلى ذلك القرآن نفسه بقوله : (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) (٣) مما يجعلهم غير مؤهلين للنوء بعملية التبليغ الرسالية ، ولا يمكنهم أن يصلوا إلى حقائق علم هذا الكتاب.

فعلى سبيل المثال نرى ان في هذا الكتاب : إمكانات هي في أدنى

____________________

(١) آل عمران : ٧.

أقول : وما يجدر ذكره هنا إن أهل العامة حين لاحظوا طبيعة دلالات الآية الكريمة وخطورتها قاموا بوضع ميم الوقف اللازم على لفظ الجلالة قبل كلمة «الراسخون» ليوهموا بأن جملة «الراسخون في العلم» هي جملة جديدة ، وان الكلام قد انتهى بلفظ الجلالة ، وهي محاولة مفضوحة لأنها تسيء إلى نفس النص ، فما فائدة قرآن لا يعلم تأويله أحد إلاّ الله؟! فتأمل.

(٢) الإمامة ذلك الثابت الإسلامي المقدّس : ١٢٥ جلال الدين علي الصغير ؛ دار الأعراف للدراسات ـ بيروت ١٩٩٩ ط ١.

(٣) الحج : ٥٣.

٧٦

حدودها الطبيعة فوق ما يسمى بعالم الطبيعة كما في قوله جلّ من قائل : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) (١) أو في قوله تعالى اسمه : (لَوْ أَنْزَلْنَا هذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٢) ، أو قوله : (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) (٣) وهذه الإمكانات لا يحيط به العلم العادي ، فألفاظ القرآن لا تدلّنا على الكيفية التي نكلّم بها الموتى ، أو نسيّر بها الجبال ، أو نطوي بها الأرض! وكلماته المجردة عن دلالة الهداة لا تعرب لنا عن ماهية تصدّع الجبل وخشوعه بسبب انزل القرآن عليه وكيفية ذلك! وهكذا الأمر بالنسبة للكثير من أسرار القرآن الباهرة.

أترى لو أن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتحدّث عن السر الملكوتي التي تضفيه الآية الكريمة : (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) (٤) علىمن يريد أن يعمي الأبصار عن رؤيته ، كما هو الحال في حادثة خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بيته مهاجراً ، (٥) أترانا عرفنا خاصية هذه الآية وميزتها؟!

من الواضح ان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يترك مثل هذا العلم في الهواء الطلق بحيث يجعله مشاعاً لكل من رافقه ، فلو قلنا بأنه لم يتركه لأحد فسيكون إبلاغه للرسالة ناقصاً ، حيث يمكن القول بأن أسرار القرآن قد ماتت بموته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا ما لا يمكن لأحد أن يقوله ، فقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ

____________________

(١) الرعد : ٣١.

(٢) الإمامة ذكل الثابت الإسلامي المقدّس : ١١٩ ـ ١٢٠ ؛ والآية في سورة الحشر : ٢١.

(٣) التكاثر : ٥ ـ ٦.

(٤) يس : ٩.

(٥) من الواضح ان هذه الآية من المجرّبات التي لا تحتاج إلى برهنة ، فدليلها في تجربتها.

٧٧

دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً) (١) إذ يشير إلى حقيقة إكمال الدين ، فإنه لا يمكّننا من تصوّر هذا الدين تاماً ، إلا من خلال وجود راع له يمكنه أن يحلّ معمّيات الكتاب ، وتستمر به مواضفة الأسوة الاجتماعية التي تسير بالناس نحو التطبيق الكامل للرسالة ، وتشرف على سلامة هذا التطبيق ، ولهذا فإن قوله : (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (٢) إذ يشير إلى ضرورة هذا الامتداد بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنه يستلزم امتداد ما ارتبط بضرورات الرسالة ، والعصمة كما وجدنا هي أولى هذه الضرورات ، وهو ما لا نعدم وجود الدليل عليه كما أعربت آيات كثيرة كآية التطهير : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣).

____________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) الرعد : ٧.

(٣) الأحزاب : ٣٣.

٧٨

حدود العصمة

وإذا كان الأمر كذلك ، فإن من الطبيعي أن نواجه السؤال التالي : ما هي حدود هذه العصمة ـ الضرورة؟!

وقد جابه المسلمون هذا السؤال بعدما النتهوا من تحديد ضرورية العصمة ، ولكن سرعان ما اختلفت فرقهم ومذاهبهم في تحديد حدود هذه العصمة ، فمنهم من حصرها بالتبليغ ، ومنهم من حصرها في الكبائر دون الصغائر ، ومنهم من حصرها في الوعي دون الغفلة والسهو النسيان ، ومنهم من حصرها في الوعي دون الطفولة ، ومنهم من قال بأن المعصوم يولد وهو معصوم ، منهم غير ذلك كما أشرنا إلى ذلك من قبل ، وقد قالت الإمامية بعدم وجود حدّ لهذه العصمة ، بل هي شاملة لكل شيء في هذا الوجود فقال الشريف المرتضى (قدّس سرّه الشريف) : لا يجوز عليهم شيء من المعاصي والذنوب كبيراً كان أو صغيراً ، لا قبل النبوة ولا بعدها ، ويقولون في الأئمة مثل ذلك. (١)

ولوساءلنا القرآن عن طبيعة هذه الحدود ، لوجدنا أن آياته الكريمة تدلّنا على شمولية العصمة لكل شيء في هذا الوجود ، وكما هي عادته فقد أجمل الحديث في آية ، وفصّله في آيات ليؤدي كل منهما إلى الآخر.

فلقد رأينا في آية التطهير (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ

____________________

(١) تنزيه الأنبياء : ٢٧ لعلم الهدى علي بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى (ت٤٣٦ه) ؛ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت ١٩٩١ ط ١.

٧٩

وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١) أنه لم يحدد حدّاً للطهارة التي أرادها للمعصوم ، وعدم التحديد هذا يفيد لنا شمولية المراد بالطهارة ، ولو حللنا ذلك وتأمّلنا بطابع الطهارة المراد بالآية الشريفة ، لعرفنا أن التطهير شمل جميع المواضع التي تتعلق بتكوّن الفعل الإنساني ، وهي القلب والفكر ، فالقلب هو مصدر الإرادة ومركز العواطف والنيّات ، والفكر هو الذي يبرر القرار الإرادي ويفسّره ، وإذا ما اجتمع الاثنان في إطار التطهير الإلهي فلا محالة من طهارة الفعل ، ومعلوم أن لا حدود تحدد تفاعلات هذه الإرادة بعد أن أطلقت طهارة القلب والفكر.

ويمكننا ملاحظة نفس الأمر في العهد المشار إليه في قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٢) ، فمن المعلوم أن عهد الله ليس له حدّ في هذا الوجود ، بل هو يشمل كل أفياء هذا الوجود ، وعصمة الإمامة (٣) هنا شاملة لكل هذا الحد.

ونفس الأمر نجده واضحاً وجلياً في الآية الكريمة : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (٤) إذ لا يمكن تصوّر الرحمة المرسلة للعالمين وهي تتعثر في مجالات تطبيقاتها التي لا نستطيع أن نحصرها في مجال في الوجود دون الآخر ، فهي تشمل كل شيء في هذا الوجود.

هذا على نحو الاجمال أما على نحو التفصيل فإن ذلك نعلمه من

____________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

(٢) البقرة : ١٢٤.

(٣) المراد بالإمامة هنا المصطلح القرآني وليس المصطلح المذهبي ، وقد تحدّثنا عن هذه الآية الكريمة بصورة مفصّلة في كتابنا : الإمامة ذلك الثابت الإسلامي المقدّس ، فليراجعه من شاء التفصيل.

(٤) الأنبياء : ١٠٧.

٨٠