عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

الشيخ جلال الدين علي الصغير

عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

المؤلف:

الشيخ جلال الدين علي الصغير


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأعراف للدراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

الفاحشة؟! أم رسالة توحيد وهو الذي بعث أنبياءه لغرضها فإذا بهم ينسونها مع أول عارض من عوارض الدنيا ، وبعض هذه العوارض فيه من التفاهة الشيء الكثير حتى إنَّ الإنسان العادي قد يفوّته فما بالك بنبي؟! اللهم إليك المشتكى وأنت المستعان.

* * *

إن هذه الخصائص في تصوري قابلة لرد الشبهات التي قد تعترض عصمة الأنبياء عليهم‌السلام وتبدد ما قد يكتنف فهم بعض الآيات من غموض في هذا المجال ، وذلك من خلال جعل التأويل المنسجم مع هذه العصمة هو الأصل في التفسير ، والضابطة في فهم مراميه وأغراضه ، خاصة أن ما يقدّم في مجالات التفسير في أغلب الأحيان هو من بنات اجتهادات مفسرين لا يتمتعون بحصانة العصمة في الأقل.

* * *

المحور الخاص

وفي هذا المحور سنحاول أن نقدم عرضاً فيه بعض التفاصيل لبعض الشبهات التي اعترضت هذا المفهوم ليكون دليلاً على ان هذه الشبهات لا تقوى على التشكيك بالمفهوم فضلاً عن القضاء عليه ، وسنأخذ في هذا المجال الشبهات التالية :

١ ـ عصيان آدم عليه‌السلام : ومنشأ هذه الشبهة قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى * فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ

٣٠١

رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (١) ويرى أصحاب الشبهة ان سياقها الظاهر هو وقوع العصيان من جهة آدم عليه‌السلام خاصة وان هذه المعصية قد قرنت بفعل «غوى» مما يؤكد أن المعصية المتحدث عنها قبيحة ، وهي بالتالي قادحة بعصمته عليه‌السلام!!

أما الجواب عن ذلك فيتضح فيما لو دققنا في أسباب الطلب الإلهي من آدم عليه‌السلام في أن لا يأكل من الشجرة ، إذ عرّفتها الآيات الشريفة بالتالي : فالأكل من الشجرة يؤدي إلى الخروج من الجنة ، مما يستدعي أن تنقضي نعمة الله تعالى عليه وعلى زوجه بأن لا يجوعا ولا يعريا ولا يظمأ ولا يضحيا ، وهذه الأمور بطبيعتها مادية بحتة ناظرة إلى ابقاء آدم في الجنة التي كان فيها كي لا يشقى ، وهي جنة من جنان الدنيا (٢) وليست من جنان الخلد في الآخرة ، لوضوح أن الداخل لجنان الخلد لا يخرج منها ، ولوضوح أن جنة الآخرة تتكشف الحقائق فيها بشكل عياني ، ولوضوح أن ابليس لا يدخل إلى تلك الجنة ، (٣) وهو أمر لو كان لما تمكن إبليس من ان يدلّس على آدم شأن الشجرة ، ولو أضفنا إلى ذلك كله أن هدف إبليس المعلن في الآيات الكريمة هو اخراج آدم وزوجه من الجنة ليزيد من شقائهما ، ومن غير العسير معرفة أن إبليس كان فاقداً للأمل في شأن معصيتهما لربهما في مجال ما يسمّى بالأوامر المولوية الملزمة للعبد في طاعة مولاه ، ولخصيصة كرهه

____________________

(١) طه : ١١٦ ـ ١٢٢.

(٢) أي ان فيها كل مستلزمات العيش الرغيد مما لا يحتاج معه إلى شيء بحسب مفاهيمنا الأرضية.

(٣) الهبوط الذي تتحدث عنه الآيات من جنته إما ان يكون هبوطاً معنوياً ، أو يكون مادياً فهو عندئذ يشير إلى نقطة ارتفاع ما ، سواء كانت في السماء أو في نقطة معينة من الأرض ، وفي الحال المادي فلا ريب أن الجنة المتحدث عنها ليست بجنة الخلد ، خاصة وأنه عليه‌السلام كان يبحث عن الخلد ، وهو البحث الذي أفقده ما كان حظي به في جنته.

٣٠٢

وحسده لهما حاول أن يزيد من شقائهما ، ويتأكد هذا الأمر فيما لو لاحظنا أن الهدف المعلن من تخلف آدم عليه‌السلام عن أمر ربه هو عدم المعصية ، بل محبة طاعته ، فهما كانا يريدان الخلد لغرض ديمومة حالة العبادة له سبحانه وتعالى ، ومن هنا كان مصدر تغرير إبليس بهما هو هذا الأمر بالذات كما وصفت الآية الكريمة : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) (١) ، ومن هنا نجد أن العتاب الرباني لهما كان شفقة عليهما ، لا غضباً منهما كما يتراءى لنا ذلك من ذيل الآيات الأخيرة : (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ).

وبذا يتبين لنا أن المقصود بمعصية آدم عليه‌السلام لم يكن متمحوراً في كونها معصية لأمر مولوي من الله سبحانه ، وإلا لما أنهى حديثه عن هذه المعصية بميزة الاجتباء ومن بعدها التوبة والهداية (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) فالله لا يثيب الغاوي برفع الدرجة بل العكس هو الصحيح ، وهذا الاجتباء الذي أفضى إلى التوبة هو ميزة تشريف وتكريم ، ويتأكد هذا المعنى من التحاق التوبة بالاجتباء ، إذ لو كانت المعصية هي معصية قبيحة لوجدنا أن التوبة تتقدم الاجتباء ، لا العكس كما هو حال الآية الكريمة.

ومن هنا نعلم أن المراد بالتوبة هنا ليست توبة الذنوب ، وإنما هي توبة اصلاح الخطأ الناجم من المعصية في الأمور الارشادية ، فالمريض حينما يذهب إلى الطلبيب يواجه في العادة خطابين مختلفين من حيث الدلالة وطبيعة المراد منهما ، فتارة يتحدث الطبيب عن ضرورة أخذ الدواء الفلاني لأن عدم أخذه سيؤدي إلى مضاعفات خطيرة على صحة المريض ، وأخرى يتحدث

____________________

(١) الأعراف : ٢٠ ـ ٢٢.

٣٠٣

عن ضرورة أن يلتزم المريض بتناول الأغذية التي تقوّي بدنه وتضاعف مناعته ، في الطلب الأول نجد أن الضرورة التي يتحدث عنها هي ضرورة إلزام حازمة ، والتخلف عنها قد يفضي لنتائج سريعه تهدد حياة المريض ، بينما الضرورة الثانية فهي ضرورة نصح ليست لها تلك المضاعفات والمترتبات التي نلمسها في الضرورة الأولى ، ولكنها تدخل قطعاً في الحرص على سلامة المريض ، وهي تقدم للمريض ولغيره ، فلو أنه تخلف عن الأولى لأوصل حياته إلى الخطر الذي لا رجعة عنه ، بينما في التخلف عن الثانية لا نجد ما نجده في الأولى ، وهذا ما نسمية بالفرق بين الأوامر المولوية والارشادية ، فالمولوية لا يمكن التخلف عنها ، بينما الارشادية فهي وإن كانت في مصلحة المأمور ، ولكنها إن خولفت لا تجلب سخط الآمر ، ومعصية آدم عليه‌السلام إنما كانت في الثانية وليست في الأولى.

ومعه نعلم أن مصطلح الغواية المطروح هنا ليس هو الغواية القبيحة المسببة للآثام ، وإنما هي عدم اختيار الأمثل والأولى ، خاصة إن لوحظت وفق الاطار الذي أطّر القرآن فيه مادة الغواية الآثمة بقوله سبحانه وتعالى : (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (١) ، وهذا التعهد الربّاني لا يمكن أن يتخطّى آدم عليه‌السلام بحال من الأحوال.

ومعه تكون جملة (وَلاَ تَقْرَبَا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (٢) معربة عما يمكن لهذه المعصية ـ وهي الأكل من الشجرة ـ أن تتسبب به كما أشارت الآية الكريمة : (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) ، وهذا يعني تبديل نعمة الله في عدم الجوع والعري وما إلى ذلك ،

____________________

(١) الحجر : ٣٩ ـ ٤٢.

(٢) البقرة : ٣٥.

٣٠٤

بشقاء المكابدة والمجاهدة المترتبة على أكل الدنيا ، فلقد استبدلا أكل الجنة بأكل الدنيا ، وهذا ظلم لهما.

ومن كل ذلك يتضح لنا أن معصية آدم عليه‌السلام كانت هي في تركه للأولى ، وترك الأولى لا يقدح في العصمة ، وإن قدح في ميزان التفاضل ، وهذا هو سرّ التفاضل بين المعصومين عليهم‌السلام ، (١) وهو أمر عرضت له العديد من الآيات الكريمة ، كما نلمس ذلك من قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا

____________________

(١) تشير الكثير من ثوابت الحديث عند أهل السنة بالمنع من القول بالتفاضل بين الأنبياء عليهم‌السلام ، وهذا القول المردود من قبل نفس الآيات التي ستقرأها بعد أسطر ، تناقض عرضه لديهم في كتاب البخاري المسمى بالصحيح مثلاً ، فهو تارة يمنع من القول بتفاضل أحد على آخر حيث روى عن أبي سعيد قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تخيّروا بين الأنبياء. البخاري ٨٩ : ٣ كتاب الخصومات (باب ما يذكر في الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهودي).

وقوله عن أبي هريرة : لا تفضّلوا بين أنبياء الله. البخاري ١٣٣ : ٤ كتاب بدء الخلق (باب يونس).

وأخرى يفضل ـ بناء على إسرائيلياته ـ موسى على نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ روى عن أبي سعيد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أكان في من صعق ، أم حوسب بصعقته الأولى. البخاري ١٣٣ : ٣ كتاب الخصومات.

وعنه أيضاً : الناس يصعقون يوم القيامة فأكون اول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور. البخاري ١٢٦ : ٤ كتاب بدء الخلق (باب وواعدنا موسى).

بل ويفضّل يونس عليه‌السلام على جميع الأنبياء عليهم‌السلام فلقد روى عن أبي هريرة ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا أقول إن أحداً أفضل من يونس بن متّى. البخاري ١٣٣ : ٤.

وروى في مواضع عديدة من كتابه : لا ينبغي لعبد ان يقول : أنا خير من يونس بن متّى. البخاري ١٣٢ : ٤ ـ ١٣٣. (باب يونس).

وهو أمر لم يجرؤ أحد على التحدث به ، للتسالم على أفضلية نبينا صلوات الله عليه وآله على جميع البرايا من الأولين والآخرين.

٣٠٥

بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) (١) ، وكذا قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) (٢).

أما مسألة عدم امتثالهما للنهي ونسيان آدم فقد قال صدر المتألهين (رضوان الله تعالى عليه) : ليس فيه ما يدلّ على إنّ تناوله حينما قاله إبليس ، فلعل مقاله أورث فيه ميلاً طبيعياً ، ثم إنه كفّ نفسه عنه مراعاة لحكم الله ، إلى أن نسي ذلك (٣) وزال المانع ، فحمله الطبع عليه بتقدير الله. (٤)

هذا على أساس النظرية التي تقول بأن النهي الإلهي لآدم عليه‌السلام كان في عالم التكليف ، وهناك رأي آخر لا استحضر اسم صاحبه ملخّصه : أن الحديث عن معصية آدم يمكن أن يناقش في قدحه للعصمة في حال كونه في عالم التكليف ، ولكن حديثه تعالى عن الهبوط بعد وقوع المعصية يشير إلى أن هذه المسألة إنما وقعت قبل أن يحين عالم التكليف ، وبالتالي فما من مجال للحديث عن شوبها للعصمة لاختصاص ذلك بعالم التكليف.

وقد لا يخلو الكلام من إشكال ، لكون المعصية إن كانت من سنخ المعاصي الآثمة فالمعيب فيها واحد من حيث الأصل ، ويتأكد ذلك بالنسبة لخواص أولياء الله سبحانه وتعالى ، سواء كانت هذه المعصية قد تمت في عالم التكليف أو قبله ، ففيها من الجرأة على ساحة القدس بما فيه الكفاية ، رغم ان هذا الأمر قد لا يشمل عامة الخلق من غير الخاصة ، إذ يتغاضى المشرّع عن المكلّف العادي لو تعمد ترك المستحبات أو تعمد فعل

____________________

(١) البقرة : ٢٥٣.

(٢) الاسراء : ٥٥.

(٣) يفترض أن مراده ليس النسيان بل الترك ، وذلك لأن النسيان عارض شيطاني كما سيأتي ، ولا يليق ذلك بمقام الأنبياء عليهم‌السلام.

(٤) تفسير القرآن الكريم ١١٧ : ٣ صدر المتألهين محمد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بملا صدرا (ت ١٠٥٠) منشورات بيدار ـ قم ١٤١٥ ط ٢.

٣٠٦

المكروهات ، ولكنه لا يتغاضى عن خاصة أوليائه لو تعمّدوا ذلك.

وعلى أي حال فما من مجال لاعتبار ما بدر من آدم عليه‌السلام ، مخلًّا بالعصمة ، لما رأيت من أنه لم يك في قصد معصية الله سبحانه وتعالى ، ولم يكن الله في حال الأمر المولوي لو ارتكب آدم خلافه لكان ذلك مخلاً بعصمته ، بل بنبوته! كما لا يخفى ، نعم يمكن أن يكون ذلك مخلاً في ميزان تفاضله ضمن مدراج الكمال ، وهو أمر سنتناوله كمفهوم في القسم اللاحق إن شاء الله تعالى.

* * *

٢ ـ تكذيب نوح عليه‌السلام : ومنشأ هذه الشبهة التي ترى أن الله قد كذّب نوح عليه‌السلام هو الآية الكريمة : (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (١) ، ولا يكون التكذيب إلا نتيجة لعدم عصمته عن قول الكذب ، كما إن قرن قوله : (إِنَّه عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) مع قوله : (فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) يؤكد أن العتاب هنا إنما هو عتاب توبيخي لما تجاهل به نوح عليه‌السلام مع ربه! كما ان طلبه المغفرة من بعد ذلك يشير إلى اقراره بارتكاب الذنب ، وهو بالنتيجة ما لا يجتمع مع العصمة.

هذا وقد روى القوم عن سعيد بن جبير قوله في طبيعة العمل غير الصالح المشار إليه في الآية : معصية نبي الله!.

وعن ابن زيد قوله في قوله تعالى : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) أن تبلغ بك الجهالة اني لا أفي بوعد وعدتك حتى تسألني ، قال : فإنها خطيئة.

____________________

(١) هود : ٤٥ ـ ٤٦.

٣٠٧

وعن الفضيل بن عياض في قوله تعالى : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) أنه قال : فأوحى الله إليه : يا نوح إن سؤالك إيّاي ان ابني من أهلي ، عمل غير صالح. (١)

هذه هي أهم المحاور التي حاول القوم فيها أن ينالوا من عصمة سيدنا نوح عليه‌السلام ، اضافة إلى ما يتداعى من طلبه للمغفرة ، ولا مغفرة إلا مع ذنب! ولكن كل ذلك لا حظ له في اسقاط أو مواجهة الضابطة التي عرفناها من قبل ، ومع لحاظ أن ما ذكروه من أقوال إنما هي في أحسن الصور اجتهادات من قبل رواتها ، هذا إن لم نقل بأنها تخرصات من بنات أفكار أناس لم يعوا من القرآن شيئاً ، وهي على أي حال لا ترقى لمجابهة نصوص تؤكد عصمة النبيين عليهم‌السلام بشكل عام ، إلاّ اننا سوف نستفيد من المعطيات القرآنية في تفنيد هذه الشبهة.

ونلاحظ في البداية أن النبي نوحاً عليه‌السلام هو صاحب الدعاء الذي ورد لفظه في الآية الكريمة : (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً) (٢) ، وهذه الصيغة الجازمة تخبرنا بأنه عليه‌السلام لم يستثن في دعائه أي أحد من الكافرين ، بغض النظر عن كون هؤلاء الكافرين من الأرحام أو من غيرهم ، قريبين أو بعيدين ، خاصة وأنه عليه‌السلام كان قد تلقى أمراً إلهياً جازماً بعدم مخاطبته في شأن الظالمين ، كما حكت الآية الكريمة : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) (٣) ، كما وان صيغة سؤاله في نجاة ابنه تبدي انه لم يبال بالدعوة لنجاة امرأته التي كان يعلم بخيانتها له ، ممالأتها للقوم ، وبهذا نعلم أن دعاءه لابنه كان قد حصل لعدم علمه بحال ابنه ، فلقد وعده الله سبحانه

____________________

(١) الدر المنثور ٣٣٦ : ٣.

(٢) نوح : ٢٦ ـ ٢٧.

(٣) هود : ٣٧.

٣٠٨

بنجاة أهله ، واستثنى من ذلك من سبق عليه القول ، وفقاً لقوله تعالى : (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ) (١) ، وقوله تعالى : (فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) (٢) ، وما يؤكد عدم علمه بحال ابنه مخاطبته إياه بالصعود معه في السفينة كما حكى القرآن (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) (٣) ، ولا معنى لطلبه من ابنه الصعود بعد أمر الله سبحانه له بعدم مخاطبته في شأن الظالمين ، ومعه يكون قوله تعالى عن استثناء الابن من النجاة هو إخبار محض لا ينطوي علىأي تكذيب ، وقد علل هذا الاستثناء بأنه كان على غير صلاح ، ويكون نداء نوح عليه‌السلام استفهاماً ليس فيه أي تكذيب من جانبه لله في ما وعده به ، وكيف يمكن لنبي أن يكذّب الله في وعده؟!

وليس ثمة تشكيك من جانب نوح عليه‌السلام بصدق الوعد الإلهي ، فلقد قرن بين سؤال النجاة لابنه ، وبين تصديقه الكامل بالوعد الرباني الحق ، ثم أعقبها بالقول بأن الله أحكم الحاكمين ، ليشير إلى تسليمه الكامل للارادة الربانية ، فالحكمة التي تعني وضع الشيء في موضعه ، تخبرنا بأنه كان مستسلماً لحقانية هذه الارادة ، ولكن رغبته في معرفة الذي حصل هي التي دفعته للتساؤل عن مصير ابنه ، مثله في ذلك مثل إبراهيم عليه‌السلام الذي لم يمنعه إيمانه العميق من سؤال ربه كي يزيد من اطمئنان قلبه ، كما أوضحت الآية الكريمة : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٤).

____________________

(١) هود : ٤٠.

(٢) المؤمنون : ٢٧.

(٣) هود : ٤٢.

(٤) البقرة : ٢٦٠.

٣٠٩

ووفق ذلك لا نلمس أي عتاب لانتفاء الذنب ، أما عظته أن لا يكون من الجاهلين فهي رواقع الحال تؤكد عدم حصول الذنب ، لأن الضيغة المطروحة في الآية هي صيغة ناظرة إلى المستقبل لا إلى الحال كما هو واضح ، والنصيحة لشأن المستقبل ليس فيها ما يشعر بارتكاب الذنب أو الاقتراب منه ، بل يمكن أن تكون نابعة من الحرص البالغ للناصح على سلامة المنصوح فيذكره لأن الذكرى تنفع المؤمنين ، ولهذا كان جواب الاستجابة من نوح عليه‌السلام على هذا التذكير هو تأكيد الصيغة المستقبلية : (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) ، ولو كانت استعاذته من أمر قد حصل لجاء الخطاب بصيغة الماضي ، أي لقال : أعوذ بك مما سألت أو ما إلى ذلك.

أما مسألة المغفرة فهي بعد هذه القرائن تنصرف إلى معنىً آخر غير معنى المغفرة للذنب الحاصل ، لتعود إلى معناها الأصلي وهو التغطية والستر كما تشير إلى ذلك كتب اللغة ، والستر مثلما يكون على ما يحصل فيطالب الإنسان من الساتر أن يستر عليه ما حصل ، كذلك يكون على ما لم يحصل بعد ، فيطالب الساتر أن يستره مما قد يأتي زيادة في التوقي ومبالغة في طلب الأمان مما يستر منه.

٣ ـ نسبة الكذب لإبراهيم عليه‌السلام : ومنشأ هذه الشبهة يعود إلى ما رواه القوم في كتبهم فلقد روى البخاري ومسلم وبقية أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد وسائر المفسرين عن أبي هريرة قال : لم يكذب إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) إلاّ ثلاث كذبات ؛ ثنتين منهن في ذات الله عزّ وجل ، قوله : إني سقيم ، وقوله : بل فعله كبيرهم هذا ، وقال : بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له : إن هاهنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس ، فأرسل إليه فسأله عنها ، فقال : من هذه؟ قال : أختي! فأتى سارة قال : يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني

٣١٠

عنك فأخبرته أنك أختي فلا تكذّبيني ، فأرسل إليها .. الخبر. (١)

وبغض النظر عن قصة سارة التي هي من نصوص أكاذيب التوراة المحرقة ، (٢) فإننا سنركز الحديث على الأمرين الآخرين ؛ وهما قوله : إني سقيم ، وتحويل مسألة تحيطهم الأصنام على كبيرها ، وفي البدء لا بد من أن نذكّر بالوصف القرآني لقلب إبراهيم عليه‌السلام بالسلامة ، وهذا الوصف الذي أطلقه الله سبحانه وتعالى ، لم يقيّد بأي قيد يخرج منه ما وصم به من قول الكذب ، يكفي وحده لتكذيب أبي هريرة ومن روى فريته هذه!! فهم أولى بالكذب من نبينا إبراهيم (صلوات الله على نبينا وعليه واَلهما أجمعين).

أما قوله الأول فقد جاء ضمن سياق محاورة فكرية نتلمسها في قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) (٣) ، ووفقاً لحديث الروايات فإن القوم قد دعوه لحضور عيد معهم ، وأعيادهم كان فيها من مظاهر الشرك الشيء الكثير ، فاعتذر عن حضور العيد بقوله : إني سقيم ، وقوله هذا لم يفصح عن كنه السقم الذي اعتراه وتحدّث عنه ، فهل هو سقيم بمرض ما؟ أو أنه سقيم بمعنى حزين عليهم بسبب ما يلتزمون به من أفكار ومعتقدات؟ ولم يفصح عن زمان هذا السقم ، فهل هو حديث عن الحال ، أم إنه حديث عن المستقبل؟ كما انهم حينما تولوا عنه مدبرين لم يفصح النص عن سبب توليهم هذا ، فهل هو سبب المرض؟ أم بسبب اليأس من اشراكه بعيدهم

____________________

(١) البخاري ١١٢ : ٤ كتاب بدء الخلق (باب واتخذ الله إبراهيم) ؛ ومسلم بشرح النووي ١٢٣ : ٥ ـ ١٢٤.

(٢) انظر سفر التكوين من العهد القديم ؛ الاصحاح العشرين ص ٩٦ ؛ دار المشرق ـ بيروت ١٩٨٩.

(٣) الصافات : ٨٣ ـ ٩٠.

٣١١

واحتفالهم بأصنامهم وطقوسهم تجاهها؟ مما يبقي حديثه عن السقم في حال الابهام ، ولهذا فلا نجد أي مبرر للحديث عن وجود مخالفة للواقع في ما تحدّث به ، خاصة وأن الآيات لم تلزم قارئها على الاعتقاد بأن الحديث قد تم في حال واحد.

أما نظره في النجوم وما يبدو أنه عمل بالعادة التي جرى عليها كهنتهم وسحرتهم ، فأوضح ما فيها ان الناظر إليها هو إبراهيم عليه‌السلام نبي التوحيد ، وطبيعة شخصه (صلوات الله عليه) قرينة واضحة على طبيعة النظر ، فلا أقل ان النظر لن يكون على عادة أرباب الشرك وأصحابهم ، هذا مع العلم ان الحديث لم يشخّص المراد بالنجوم ، فهل هي حالة من حالات استشراف المستقبل؟ ولا قادح في ذلك ، أم انه أراد بالنجوم حالة الأنواء وما يخبره الجو ، لا سيما وأن ظاهر الحديث قد يوحي بأن الحديث كان نهاراً ، فالقوم لا يخرجون إلى محلات الأعياد في الليل.

أما حديثه في شأن تحطيم الأصنام وعزوه التحطيم لكبيرهم كما ورد في الآية الكريمة : (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) (١) ، وقد اعتبرها القوم ان قوله هذا هو كذبة واضحة من أجل الفرار من التبعات التي ستترتب على عملية التحطيم ، ولكن ملاحظة ذلك وفقاً لشخصية إبراهيم عليه‌السلام ترد ذلك جملة وتفصيلاً ، فما هو الذي يجبن أو يخاف على نفسه كما تحدّثنا به الآيات ، فأي خوف سرى إليه وهو من قبل قد واجه بصلابة طغيان وتجبر نمرود؟ فلم لم يسر الخوف إليه آنذاك

____________________

(١) الأنبياء : ٥٧ ـ ٦٣.

٣١٢

وسرى إليه الآن؟ مع العلم أن دواعي الخوف في تلك أقوى من دواعيه هنا ، وأي عاقل يقبل أن يتهم الجماد في ما لا يقدر على فعله؟ إذن لا بد من التفتيش عن الموقف الحقيقي بعيداً عن ظاهر الكلام.

وفي هذا المجال سنجد أن القصة تبتدأ بتوعد إبراهيم عليه‌السلام بالكيد من أصنامهم ، والكيد ـ وهو معالجة الشيء مع اجتهاد للوصول إلى غاية ما ، وعادة ما تخفى هذه الغاية وراء الستار المباشر للمعالجة ـ لدى العقلاء هو الذي يتوصل به الكائد إلى غايته كاملة ، ومن المعلوم أن تحطم الأصنام ليس فيه من الكيد الشيء الكثير ، بل هو إلى العمل الميكانيكي البسيط أقرب منه إلى أي شيء آخر ، ولهذا لا يمكن أن يسمى كيداً ، كما أن تحيطم الأصنام لا يحل القضية التي يسعى وراءها إبراهيم عليه‌السلام ، وهي تسفيه عبادتها ، والاعراب عن جهل المتعبدين لها ، فبالامكان دوماً الاتيان بغيرها وتصنيعها ، وعليه فإن الجواب الذي أجاب به إبراهيم عليه‌السلام ما هو في الواقع إلاّ عملية توريط لعقولهم التي ستحار في جوابها ، فإن قالت بأن الأصنام هي جمادات لا تملك من الأمر شيء بان زيف عبادتها وضحالة اعتقادهم بها ، وهو ما يريده النبي إبراهيم عليه‌السلام بالضبط ، وإن سكتت عن عملية تحيطم الأصنام تكون قد أقرت بالعجز أمام تسفيه إبراهيم عليه‌السلام لهم ولمعتقداتهم ، ولهذا كان رد الفعل التلقائي وقوعهم في الحيرة التي جرتهم إلى أن يعترفوا أثناء مراجعة النفوس وتفكرها في جواب إبراهيم عليه‌السلام وفقاً لما ذكر القرآن الكريم : (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ) وقد كان منتظراً للجواب فراح يبلغ بكيده الهدف الذي خطط له سلفاً : (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) ولهذا كانت ردة فعلهم المباشرة منصبة على نصر الآلهة التي وجدوها قد خضعت لمنطق المكيدة الإبراهيمية بشكل كامل ، فأبرزوا واقع ضعفهم وعجزهم عن مجاراتها من خلال استخدامهم لمنطق القوة المادية : (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا

٣١٣

آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) (١).

وهذا المنطق الإبراهيمي المكائدي هو نفس المنطق الذي نجده في آيات سورة الأنعام (٢) التي تحدثت عن عبادة الكوكب والقمر والشمس ، وهي الآيات التي دفعت القوم للإزراء بالشخصية التوحيدية لرائد التوحيد عليه‌السلام وجعلتهم يصِمُونَه بما يبرأ الله ورسوله منه ، ويظهرونه بمظهر السذاجة البلادة في فهم الأمور ، ولا أنوي الدخول في تفاصيل ذلك ، ولكن أجد نفس المنطق يتكرر ، فترى في هذا المنطق إبراهيم عليه‌السلام وهو يكيد للقوم الذي يعبدون هذه الكواكب يسوقهم لتسفيهها بشكل غير مباشر ، ولكن مع الضغط النفسي عليهم كي يذعنوا لمسلماتهم العقلية التي قد تغيب في زحمة تراكمات الحياة ، فليس هناك أفضل من البرهنة في الحجاج من أن ينطلق المبرهن من مشتركات عقلية لا يختلف بها مع من يحاججه ، ولهذا خالطهم وجلس يتظاهر بالعبادة معهم وهو يترصد الفرصة للنيل من آلهتهم المزعومة ، وقد استغل بحنكة حالة ضعف الممكنات ، مرة من خلال ملاحقة مسألة غياب الكواكب وأفولها فالإله الحق لا يغيب ، وأخرى مسألة تفاوتها في حجم الجسمية فالإله الحق لا يكبره شيء ، ومن ثم ليبرز عجز هذه الكواكب على أن تمثل المقام الألوهي فهي عاجزة من البقاء وعاجزة عن أن تطاول بكبرها غيرها ، فكيف تقوى على تلبية أغراض المتألهين.

٤ ـ الهمّ اليوسفي : ومنشأ هذه الشبهة فهم هؤلاء للآيتين الكريمتين : (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْ لاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (٣) ، وقد

____________________

(١) الأنبياء : ٦٤ ـ ٦٨.

(٢) الأنعام : ٧٦ ـ ٧٨.

(٣) يوسف : ٢٣ ـ ٢٤.

٣١٤

روى القوم من الأقاصيص التي تقشعر لهولها الأبدان وهم يزرون على نبي صدّيق من أنبياء الله المصطفين ، فلقد روى السيوطي عن عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي شيخ والحاكم وصححه عن ابن عباس قوله : (١) لما همّت به تزيّنت ثم استلقت على فراشهما ، وهمّ بها وجلس بين رجليها يحلّ تبانه (٢) نودي من السماء : يا بن يعقوبلا تكن كطائر ينتف ريشه فبقي لا ريش له ، فلم يتعظ على النداء شيئاً!!

وعن ابن جرير وأبي الشيخ وأبي نعيم في الحلية عن ابن عباس قال : حلّ الهميان يعني السراويل وجلس منها مجلس الخاتن فصيح به : يا يوسف.

وقد أعظموا الفرية فنسبوا لأمير المؤمنين وللصادق (صلوات الله عليهما) القول بأنها استحت من صنم لها فغطته فتذكّر. (٣)

ولا أريد أن أتحدّث كثيراً عن هذه الشبهة ، فقد ناقشناها في موضع آخر ، (٤) ولكن وددت أن أشير إلى حقيقة أساسية ونحن نقرأ هذه الأكاذيب التي وصمت نبياً من أنبياء الله ، فهو لم يسلم من تشويه الشخصية رغم أنّ الله سبحانه قد برأه بنفسه وسمّاه بالمخلص ، وبرأه زوج المرأة التي يتهمونه بها ، وكذا فعل شاهد أهلها الذي تحدّث عن قميصه المقدود من دبر ليعرفهم انه كان هارباً ، على عكس ما لو كان قد شقّ من قبل ، وبرأته المرأة نفسها وأكدت انها هي التي راودته عن نفسه ولكنه استعصم ، ثم أعادت هذا الاعتراف حينما حصحص الحق ، وما بين ذلك فقد طفح النص القرآني بكيل

____________________

(١) لطبيعة عقيدة ابن عباس (رضوان الله تعالى عليه) فمن السليم القول بأنهم : تقوّلوا عنه ، وهو قول لم يقل به ، كيف؟ وهو تلميذ أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٢) التُبّان : سروال صغير جداً تستر به العورة فقط.

(٣) الدر المنثور ١٣ : ٤ ـ ١٤.

(٤) انظر ذلك اثناء مناقشتنا لأفكار محمد حسين فضل الله المضادة للعصمة.

٣١٥

المديح والثناء لشخصه مع التركيز على عفته ونجابته وأمانته ، ولكن مع ذلك فأنت لا زلت تقرأ في ما يسمونه بكتب التفسير والحديث والتراث مثل هذا الغثاء الذي يثير القرف والاشمئزاز ، وهو يتناول شخصية عظيمة من خواص الأنبياء. (١)

٥ ـ وكز موسى عليه‌السلام : ومنشأ هذه الشبهة الآية الكريمة : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ

____________________

(١) من حقنا التذكير هنا بهذه الحقيقة ، وهي : إن يوسف عليه‌السلام وهو النبي المعظم ، وتأثيره الفعلي في الحياة السياسية لبني أمية والعباس يشبه المعدوم ، ولكن مع ذلك نال من غدر الوضاعين الذين كانوا يضعون الحديث تحت اشراف البلاطات الحاكمة ما نال مما قد قرأت لك بعضه ، ترى ما سيكون حال من أسست هذه البلاطات سلطانها على أساس اغتصاب حقهم واستعداء الصغير منهم والكبير ، ودسّت في اسطوانات قصورها الكثير من أحيائهم لتعمّد قصورهم بزهق أرواحهم وكتم أنفاسهم بين الآجر واللبن ، وأسلمت لحوافر الخيل الكثير من أجسادهم تقطع تارة أجسادهم ، وترض أضلعها أخرى ، وتسحلها ثالثة ، وتروعها رابعة ، فيما أعمدة اللهب تسرح في أفيائهم فتارة تحرق عليهم الأبواب والدور ، وثانية تصهر منهم الجلود ، وثالثة تنال بألسنتها أذيال الفارين من خيامهم .. وغير ذلك من الفظائع التي لم تجر على أحد كما جرت على آل محمد (صلوات الله عليهم) أعود لأقول : ماذا ستفعل هذه الأكاذيب بأناس لهم أعظم التأثير على الواقع السياسي؟ وحسبهم في ذلك ان محض وجودهم فيه من التهديد على الكيان السياسي لهذه البلاطات ما يمكن أن يناله برمته! هل سيتحدّثون عنهم بصدق؟ وهل سيسمحون لأخبارهم ومناقبهم أن تنشر كما هي في الواقع؟ إن سألت البخاري وأضرابه من المحدّثين ، والطبري وأمثاله من المؤرخين والمفسرين ، وعبد القادر البغدادي وأشباهه من مؤرخي الفرق ، والايجي ونظراءه من المتكلمين لأجابتك متونهم وطرقهم في عرض القضايا بضرورة الاعتبار من قصة يوسف عليه‌السلام!! ففيها بليغ عظة للباحثين عن الحقيقة!!

٣١٦

إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) (١) ، وقد رأوا في قوله عليه‌السلام : هذا من عمل الشيطان ، وقوله : ظلمت نفسي ، وكذا طلبه المغفرة اعترافاً بعدم عصمته أو جوّزوا وقوعه في الخطأ.

غير إننا لا نجد في هذا النص أي دليل على القدح بعصمته ، فمن جهة نذكّر بما أشرنا إليه من قبل في شأن الضوابط التي تحكم مقام النبوة وطبيعة النص القرآني وخصائصه ، لا سيما وأن هذا النص في نظرته لشخصية موسى عليه‌السلام ، قد أكبره بما لا مجال معه للظن بهذه الشخصية إلا بما يوجب رفعتها وسموها ، فلقد وصف عليه‌السلام في هذا النص بأوصاف فيها من التمجيد والثناء الشيء الكثير ، وكيف يمكن له أن يقع في المعصية ، وقد وصف كتابه بالإمام والرحمة (٢) والفرقان والضياء والذكر للمتقين ، (٣) فإن كانت هذه المواصفات لا تعطيه نوراً في ما يفعل ويترك ، فأي مصداقية لها في هذا المجال؟! مع العلم أن عملية القتل تمت بعد أن أوتي كل ذلك ، وهذا ما يجعل تأويل النص بما ينسجم مع هذه الأوصاف أمراً لا مندوحة عنه.

ولا يشير سياق القصة إلى ما يخل بشخصية النبي موسى عليه‌السلام ، فلقد دخل المدينة بعد أن أثبت مؤهليته لتحمل العهد الإلهي وأوتي من الحكمة والعلم الإلهيين ما جعله قادراً على الشروع برسالته ، ولقد جاء إلى المدينة ليعلن عن هذه الدعوة ، ولهذا فمن المعيب جداً أن نتصور النص القرآني وهو يقدم هذه الأوصاف المجيدة لشخصيته ، ولكنه ما أن يبدأ بسرد قصة دعوته حتى يبرز موسى بالشخصية المتعثرة في أول حركتها الرسالية ، ففيه من

____________________

(١) قصص : ١٤ ـ ١٧.

(٢) سورة الأحقاف : ١٢.

(٣) الأنبياء : ٤٨.

٣١٧

التناقض والتكذيب للوصف الإلهي الشيء الكثير!!

ولا يمكن تصوّر الشيطان وهو يحس بحجم هجمة الإيمان العظيمة على مواقعه والمتمثلة ببعث موسى أن يقبع حاسراً مستسلماً ، بل إن الصحيح هو أي يحشد امكانياته كي يعيق الحركة الموسوية ، وبما أنّ تصوّر تدخل الشيطان في شخصية موسى أمراً مستحيلاً ، لأن هذا التدخل يخرج عن مستطاع قدرات الشيطان الذي منع منعاً إليهاً من التأثير على أولياء الله سبحانه كما أشار إليه قوله تعالى : (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (١) ، ولهذا لا بد من التفتيش عن الجهد الشيطاني في الساحة الخارجة عن شخصية موسى ، ولهذا أثار المشكلة بين القبطي وبين أحد أفراد بني إسرائيل ، لما في هذه المشكلة من امكانيات إثارة فرعون وقومه ضد موسى عليه‌السلام وقومه ، وعليه فإن اشارته إلى الشيطان وعداوته تكمن في هذه النقطة بالذات.

ولا يظهر تدخل موسى عليه‌السلام لنصرة الإسرائيلي أي مجال للقدح بشخصيته ، فلقد وكز الرجل القبطي وفي العبارة من الوضوح بشكل تطمئن النفس إليه بأنه لم يتعمد القتل ، ولكنها ضربة في الدنيا يمكن لها أن تؤدي إلى نتائج غير متوقعة خاصة مع ملاحظة قوة بدن موسى عليه‌السلام ، وشاءت الارادة الإلهية أن تأتي الضربة على حياة الرجل ، ومن الواضح أن عدم التعمد لفعل معين لا يرتب أي أثر معنوي على فاعله ، رغم ان آثاره المادية قد تتفاعل باتجاهات متعددة ، مثله مثل من يشرب السم بتصور انه ماء ، فهو لن يعاقب لشربه السم ، وإنما ينظر إليه كأي شارب للماء ، رغم أن السم قد يقضي على حياته ، ولهذا فإن الظلم المتحدّث عنه في هذه الآية ، لن يتوجه لموسى عليه‌السلام بأي شكل من الأشكال ، وستكون نسبته الظلم لنفسه عندئذ ناظرة إلى الآثار الاجتماعية التي ستترتب على عملية قتل

____________________

(١) الاسراء : ٦٥.

٣١٨

القبطي ، وهو الذي يتناسب أيضاً مع تعريضه بالاضلال المبين للشيطان ، ومعه يغدو طلبه للمغفرة واضحاً ، فهي مغفرة واضحاً ، فهي مغفرة تستهدف محو أو تخفيف الآثار الاجتماعية الناجمة عن ذلك ، ولهذا أوكلها إلى الله وطلبها منه ، لأنه الماسك لأزمّة القلوب ، وقد جاءت الاستجابة الإلهية فورية مقرونة بالرحمة لتأكيد هذا المفهوم من دون أن تتصاحب هذه المغفرة بعمل معين لجلبها سوى دعائه عليه‌السلام.

٦ ـ نصب الشيطان لأيوب عليه‌السلام : وتطرح الآية الكريمة : (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) (١) مجالاً للعقول الضيقة كي تؤسس عليها فهماً للقدح بعصمة الأنبياء عليهم‌السلام ، فالنبي أيوب عليه‌السلام هو من يقول : إن الشيطان قد أصابه بنصب وعذاب ، ولا شيطان مع العصمة.

وأمر هذه الشبهة هينٌ جداً ، لا سيما ونحن نستمع إلى القرآن الذي يصفه بأوصاف محببة كما في قوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٢) ، ومع ملاحظة أن جهد الشيطان الرجيم الذي يتحدث عنه النبي أيوب عليه‌السلام هنا هو جهد مادي ، باعتبار أن الجهد الروحي خارج قدرة الشيطان لما أشرنا إليه سابقاً ، إذن لا مجال لتصوّر مساس نصب الشيطان وعذابه بروح أيوب عليه‌السلام وبشخصيته المعنوية ومقامه النبوي ، وإنما هو أمر عارض من الخارج ، هذا إن قلنا بأن الشيطان هنا هو إبليس (لعنه الله) ، ولكن الظاهر حمله على غير إبليس من مفردات الشيطنة ، فهو إلى السبب المؤدي لمرضه عليه‌السلام أقرب منه إلى أي شيء آخر ، فالعرب تسمّي كل خبيث من الجن أو الإنس أو الدواب بالشيطان (٣) ، ويؤكد هذا المعنى أن

____________________

(١) ص : ٤١ ـ ٤٢.

(٢) ص : ٤٤.

(٣) لسان العرب ١٢١ : ٧.

٣١٩

العلاج المطروح وهو التحرك إلى المغتسل البارد أنسب إلى هذا الحمل منه إلى غيره ، إذ لا دخل للمغتسل البارد ولا للشراب بإبليس ، فلا تغفل!

٧ ـ قصة داود عليه‌السلام مع المتخاصمين : وهي القصة التي وردت في سورة ص ، إذ قال الله حاكياً عنها : (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) (١) ، وقد فسرها القوم على طريقتهم ، ونلخّص القصة من مجموع رواياتهم ، فقد ادعوا أن داود رأى طائراً مذهّباً فيه من كل الألوان فأعجبه فأراد أن يأخذه فقفز فلحقه ، وكان كلما ذهب إلى مكان قفز وراءه ، حتى تسوّر حائطاً لبيت أوريا أحد قادة جنده فنظر في البيت إلى امرأته وهي عارية تغتسل ، فاستترت منه بشعرها ، فطمع فيها أكثر ، فأرادها لنفسه فكتب الرأس الغزاة أن يحتال لكي يجعل أوريا زوجها في مشارب القتل بهدف قتله ، فلما قتل أوريا اصطفاها لنفسه ، وتزوجها فأرسل الله الملكين يذكرانه بخطيئته ، فلما عرف بذلك راح يبكي أربعين ليلة حتى نبت العشب من دموعه!! (٢)

وهذه القصة المزرية التي لا تليق برجل عادي فضلاً عن أن يكون نبيّاً في مقام داود عليه‌السلام ، كلها مأخوذة من التوراة في جميع فصولها ما عدا أن التوراة قالت بأن داود ضاجع المرأة قبل قتل زوجها! ، (٣) وهي على أي حال من المخزيات ، فعجباً لقوم يؤمنون أن نبياً لهم له من الأخلاق والصفات ما

____________________

(١) سورة ص : ٢١ ـ ٢٥.

(٢) الدر المنثور ٣٠٠ : ٥ ـ ٣٠٤.

(٣) انظر العهد القديم ، سفر صموئيل الثاني ، الاصحاح ١١ و ١٢ ص ٥٩٢ ـ ٥٩٤.

٣٢٠