عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

الشيخ جلال الدين علي الصغير

عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

المؤلف:

الشيخ جلال الدين علي الصغير


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأعراف للدراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

الرسالة ، وفي ما يخص جانب الرسالة بما عرف بأحكام الحلال والحرام والتشريعات التي جاء بها القرآن الكريم! قلنا : وإن كان هذا الفاصل لا يحل أية مشكلة على هذا الصعيد ، حيث يبقي حدود السنة مبهمة المعالم ، ولكن ذلك لا يمنعنا من القول بأن القرآن الكريم لم يكن كله شرائع ، فما تحدّث به من آيات للأحكام ومتعلقاتها هو الجزء الأقل من القرآن ، وآيات العقائد إن كانت كونية إلا انها على الرغم من كونها خاصة بموضوعات الهداية ، غير إن لها جانباً آخر في كونه يقرر حقائق علمية ترتبط بعضها بالعلوم الطبيعية كالفلك كتعرضه لقانون التوسع الكوني وفق ما عبّرت عنه الآية الكريمة (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (١) أو في حديثه عن الفيزياء كما في حديثة عن الحركة الكونية وقانون المغناطيسية الذي يتحكم بهذه الحركة كما تعبّر عن ذلك الآية الكريمة : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٢) أو في حديثه عن عالم الهوية الشخصية لكل إنسان كما يعرفها حالياً علم الإجرام الجنائي : (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) (٣) أو في عالم النبات (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) (٤) وهكذا الكثير من الحالات التي تحدّث فيها القرآن ، فإن قلنا بأن المعصوم عليه‌السلام اطلع على أسرارها فقد خرجنا من حديث الرسالة إلى جوانب لا تتعلق بها ، لوضوح أن ذلك من الموضوعات الخارجية.

ولا أخال أننا قد نسمع تبريراً من هؤلاء بأن المعصوم عليه‌السلام ليس من الضرورة أن يكون قد اطلع على تفاصيل ذلك ، وذلك لوضوح التمحّل فيه حيث لا يعقل أن الله يرسل كتاباً ولا يحيط المُرسَل به بأسراره وخصوصياته ،

____________________

(١) الذاريات : ٤٧.

(٢) يس : ٣٨ ـ ٤٠.

(٣) القيامة : ٤.

(٤) الحجر : ٢٢.

٤١

ولا يعقل أيضاً أن رسولاً يأتي بتبليغ رسالة وهو لا يعرف أسرارها ، وحتى لو افترضنا ـ على طريقة فرض المحال ليس بمحال ـ أن مقدار ما تعلّمه المعصوم عليه‌السلام من هذه الأسرار كان مقداراً يسيراً ، فيا ترى لو تحدّث بهذا المقدار اليسير ، هل سنأخذه على أساس أنه موضوعاً رسالياً أم انه موضوعاً خارجياً؟!.

فإن قلنا بالرسالية فقد أدخلنا ما هو خارج عنها فأي علاقة للحديث عن أسرار الطبيعة بصورتها الكونية البحتة بالرسالة طالما أن القرآن قد تحدّث عنها بنحو مجمل جداً؟!

وإن قلنا بالخارجية فإما أن نقول إن من واجب المعصوم عليه‌السلام أن يتحدّث عنها فقد قلنا عندئذ بوجوب اطلاعه على الموضوعات الخارجية ولو بهذا المقدار ، ومعه نكون قد أدخلنا ما هو خارجي بما هو رسالي ، أو أن نقول بعدم الوجوب فقد قلنا بعدم وجوب التبليغ على المعصوم عليه‌السلام لكون هذه الأمور قد وردت في القرآن الكريم.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر فنحن نعرف أن القرآن الكريم قد تحدّث عن عبادات يمكن أن نسميها بالوجدانية ، وهذه ليس بالضرورة أن تتخذ صورة ظاهرية وتتجسّد بعمل مادي محدد ، كما اننا لا نلمس لسقفها حدوداً عليا ، كما انه لا قعر لحدودها المتدنية ، فحديثه مثلاً عن الود في الله والبغض في الله ، كما في قوله تعالى : (لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١) لا وجود ظاهري لأحكامه الشرعية ، فأي مقدار هذا الود ، وأي مقدار ذلك البغض؟ فهذه من الأمور التي ترتبط بالذات بصورة قد تختلف

____________________

(١) المجادلة : ٢٢.

٤٢

عن الأخرى ، حيث يمكن أن نرى صورة لها في اللسان فقط ، فيما يمكن أن نرى صورة أخرى لها تدخل حتى أعماق اللاوعي في الذات ، مما يعني أن حالة التفاصل السامية هي التي تجعل من الذات والرسالة في صورتها المثلى متلاحمين بحيث تفنى الذات في كل ما له علاقة بهذا الود والبغض وفق ما تصوّره الآية القرآنية : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). (١)

وتقدم لنا صور المطالبة الرسالية بالصبر تجاه البلايا والرزايا اللاحقة في عرض الحياة لتجمع ما بين الدوائر الثلاث (الرسالة والذات والموضوع الخارجي) والمتمثلة بقوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‌ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). (٢) وكذا قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (٣) صورة اخرى عن طبيعة التلاحم بين المطلوب الرسالي والجهد الذاتي المنفصل عن أحكام الكليف والتشريع بعنوانه حلالاً وحراماً لا دخل له بدائره الكمال ، إذ من المعلوم أن صورة ظاهرية محددة في سقف واحد في الصبر لا وجود لها ، فأي شيء هو المطلوب رسالياً حتى نفرّق بين الرسالة والذات؟ فإن قيل ثمة حدود ، فلا معنى معه للقول بوجود تفاضل بين صابر وآخر ، لأن الزائد في تخطّي الحد كالناقص ، وإن قلنا ليس ثمة حدود ، عندئذ لا مجال للقول بالانفصال بين الذات والرسالة خصوصاً وأن الحديث هنا عن ذات المعصوم عليه‌السلام التي رأت من آيات اللطف الإلهي واطلعت على حقائق الوجود ما يجعلها تتولّه في حب الله ، ومن طبيعة الواله أن يسعى لإرضاء محبوبه بكل ما يمكن له أن يرضيه.

____________________

(١) المائدة : ٥٤.

(٢) البقرة : ١٥٥.

(٣) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ٣١.

٤٣

وملاحظة بسيطة على الفكر القرآني تكفي لإخبارنا بأن التكاليف الإلهية بصورتها المعتادة المقتصرة في الحلال والحرام أدنى بكثير من ان ترضي نهم الواله العاشق للذات الإلهية ، اللهم إلا أن يقال إن دائرة الكمال أو دائرة العمل بالأولى تدخل ضمن هذا الإطار ، وعندئذ فإننا سنجد أن الحياة الخاصة بالمكلّف بالعمل في هذا الإطار ، ستكون كلها رسالة فحسب فتتماهى الذات بصورة لا نحسّ بوجودها مطلقاً ، وذلك لأن أعمال الدائرة الأولى هي أطر الحلال والحرام والمباح ، وهذا المباح يمكن أن يتقلّص بشكل يتماهى إلى العدم إن أدخلنا في هذه الدائرة مسألة العمل بالأولى وترك الأقبح فسيتحول هذا المباح إلى مستحب أو مكروه.

فإن كان الشارع المقدّس قد حدّد لمريده جملة من التعليمات المبينة على قاعدة العمل بالأولى وترك الأقبح في أخص خصوصياته الذاتية فتراه يذهب معه حتى إلى بيت الخلاء ليحدد له آداب التخلي ، ويذهب معه إلى فراش الموجية ليحدد له آداب المعاشرة الزوجية الخاصة ، ويرافقه وهو في حال المشي والجلوس ، واليقظة والنوم ، ويحدد له مقدار ما يعلو بصوته (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (١) ويجالسه في حال الأكل والشرب لا ليحدد له آداب الجلوس على المائدة وطبيعة ما ينبغي أن يأكل وما ينبغي أن يدع فحسب ، بل يرافقه لنفس نية الأكل والشرب ، وهي من أكثر المباحات شيوعاً في حياة الإنسان ليقول له على لسان الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يتحدّث مع الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري (رضوان الله تعالى عليه) : يا أبا ذر لو استطعت أن يكون أكلك وشربك لله فافعل. وتراه يرافقه ليحدد له حتى طريقة ضحكه وحدوده ، بل يمتد الخطاب الرسالي ليحدد للمرء طبيعة ما يفكر به حتى في هواجسه وخطراته اليومية فتراه يخاطبه : إذا أصبحت فلا تحدّث نفسك بالمساء ، وإذا أمسيت فلا

____________________

(١) لقمان : ١٩.

٤٤

تحدّث نفسك بالصباح. (١) ولا ريب أن هذها لأمور هي من أكثر خصوصيات الإنسان الذاتية ، وعندئذ فإن التساؤل الذي يفرض نفسه هنا هو : ما هي هوية هذه الأعمال؟!

فإن قالوا : إن هذه الأمور من الرسالة ـ وهو واقع الحال ـ.

قلنا : فسيثبت قولنا : بأن الرسالة ترافق الذات حتى تجعلها في صورتها الكمالية قطعة مشابهة لها بشكل لا يفرّق بينها وبين الذات ، فمن أين جاء الفصل المزعوم بين الرسالة والذات؟!

وإن قالوا : ليس هذه الأمور من الرسالة بشيء ، وليس كل ما يفعله المعصوم عليه‌السلام يمثل مورداً لعمل الأولى وترك الأقبح!!

قلنا : فإنها لا تخلو عندئذ من ان تكون غير حكيمة ، إما لخطئها في تحديد الصواب أو لخلوها من الهدف ، مما يستبطن وجود من هو أحكم من المعصوم عليه‌السلام يستطيع أن يحدد الصواب ويحسن اختيار الهدف ، فالمقال عندئذ سيتحول إلى القول بأن الخالق الذي وهب العصمة إما ان يكون قد علم يوجود من هو أحكم من المعصوم ، وإما لم يكن يعلم.

فإن قالوا بعدم علمه ، فقد سلبوا عنه صفة العلم وهي من صفات عين الذات ، وإن قالوا : بأنه يعلم فقد سلبوا عنه صفة الحكمة التي جعلته يضع العصمة في غير موضعها ، ومن ثم ليسلبوا عنه صفة العدالة لأه رجّح بلا مرجّح! وهذا مالا يمكن لعاقل ان يتفوّه به!.

وباعتبار أن الفصل بين الشخصيتين الرسالية والذاتية للمعصوم عليه‌السلام إنما يقوم على أساس الدخول في أعماق شخصية المعصوم عليه‌السلام بما لا دليل علهي وهو ما لا يجوز إلا مع العثور على نص معصوم ، لأن كل ما يقال

____________________

(١) أمالي الطوسي : ٥٣٧ م١.

٤٥

بمعزل عن هذا النص محض ظنون لا تقوم على دليل موضوعي ، ولو ساءلنا القرآن الكريم عن حقيقة هذه المزاعم ، فسنجد أن القرآن يعالج الأمر على أكثر من صعيد ، فمرة تجده وهو يتحدّث عن أن شخصية المعصوم الذاتية هي معادل تام لشخصيته الرسالية كما نلحظ ذلك في قوله تعالى : (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ) (١) ولا يوجد في متون الآية الكريمة ولا غيرها من الآيات ما يخرج شيئاً من هذا الحصر الذي تدلّنا عليه أداة (إلَّا) ، بالشكل الذي يبقي شخصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متمحّضة في الرسالة ليس إلا.

وأخرى ستجده يقدّم الرسالة بصورتها الكاملة والتامة وهي معنية كل العناية بالوصول بمراميها وغاياتها إلى الأعماق الغائرة للذات الإنسانية ، بل إنه يطرح المتطلّب البشري للكمال وهو يستهدف الوصول بهذه الرسالة إلى أعماق هذه الذات ، ففي قوله سبحانه وتعالى : (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢) فالطموح البشري المعبّر عنه في هذه الآية الكريمة لا يتوقف عند حد التعرّف على أحكام الحلال والحرام ومسائل الاعتقادات وسائر الأمور الفكرية التي ينطوي عليها اسم الكتاب ، والذي يظهر في قوله سبحانه وتعالى : (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) فحسب بل نرى أن متطلّب الحكمة وتزكية النفس هو أمر أوسع من أن يتوقف عند تلك الأحكام ، فلو تأمّلناه بدقة لوجدناه يصلح للتفاعل مع كل مساحة الذات بكل ما حوت وضمت.

ولهذا كان بعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعنوانه تالياً لآيات الكتاب ومعلماً له وللحكمة ومزكّياً للنفوس ، مورداً جدياً من موارد المنّة الإلهية على البشرية وفق ما عبّرت عنه الآية الكريمة : (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ

____________________

(١) آل عمران : ١٤٤.

(٢) البقرة : ١٢٩.

٤٦

أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ) (١) وكيف لا يكون بهذه الجدية وهو المخلّص لهم من غياهب الضلال المبين والمنقذ من ظلماته ، ولقد جاءت بعثة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بمثابة التجسيد البشري لهذا العطاء الإلهي كما قال جلّ من قائل : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ) (٢) حيث تتداخل الرسالة مع الذات بصورة كاملة فيكون العلم الإلهي المتاح فيها وسيلة لتزكية النفوس ، ومناراً للحكمة تهتدي بها في مسالك الحياة الشائكة ومفاوزها الباثرة (٣) وعثراتها الغائرة.

وهكذا يتعرّى الكلام عن وجود اثنينية في شخصية المعصوم عليه‌السلام عن الصحة ، ويخالفها الواقع الموضوعي لطبيعة الرسالة والواقع الشخصي لطبيعة المرسَل كما يدلّنا عليه الحديث الإلهي عنه ، وأن ما ذهبت إليه الأفكار المنحرفة لتشويه مسار العصمة وكل ما يرتبط بهذا الحديث ليس بأكثر من افتراءات لا قيمة لها على الصعيد العلمي ، أو انها تأتي لتعبّر عن جهالات تحكم على عقلية أصحابها.

وقبل أن نطوي هذه الصفحات لنرى كيف تتحرك العصمة في النص المعصوم ، لا بد من الإشارة إلى حقيقة أن الاستدلال الذي قمنا به هنا لا يتعلق بمبحث العصمة فحسب ، بل له أهمية قصوى في مبحث علم المعصوم عليه‌السلام حين يتحدّث هؤلاء أيضاً عن الفصل بين العلم الرسالي والموضوع الخارجي ، فيجعلون من الرسول الأعظم عالماً في رسالته ، مجرداً عن الخصوصية العلمية في خارجها ، ضمن حديث طويل استوعبناه بالتفصيل

____________________

(١) آل عمران : ١٦٤.

(٢) الجمعة : ٢.

(٣) أي البارزة.

٤٧

بحمد الله في كتابنا : «علم المعصوم عليه‌السلام». (١)

____________________

(١) لم يطبع لحد الآن أسوة بالعديد من بحوثنا لأسباب تخرج عن الإرادة والمكنة المادية.

٤٨

الفصل الثاني

العصمة كما يقدمها النص القرآني

٤٩
٥٠

كيف تتشكل العصمة؟

قبل الدخول في تفاصيل الدليل القرآني يتوجب علينا أن نلقي ضوءاً على كيفية تشكل العصمة في فعل الإنسان ، وبكلمة أخرى : كيفية اعتصام الإنسان من الذنوب ، وكيفية تحرّيه الدقة في الموقف بحيث يكون معه متحرّزاً من الوقوع في الخطأ وممتنعاً عنه ، لأن من شأن ذلك أن يدلّنا على الكثير من الامور الفاعلة في التأثير على عصمة الإنسان سلباً أو إيجاباً ، ومع تعرفنا على ذلك سيسهل علينا التعرف على طبيعة التداخل بين الارادة الإنسانية وبين اللطف الإلهي ، وهو التداخل الذي أوهم الكثير من الباحثين بوجود نمطية من الجبر الإلهي ، في شخصية المعصوم عليه‌السلام ، مما أودى إما إلى القول بجبرية العصمة ومجبورية المعصوم ، وإما إلى رفض العصمة لبديهية رفض ما يترتب على جبريتها ، فإن كانت جبرية فسيخدش ذلك بعدل الله وهو ما لا يمكن القول به ، ضمن تفصيل سنأتي عليه إن شاء الله تعالى ، وإن رفضت العصمة فقد تساوى من هي مفروضة له مع غيره من البشر العاديين.

وبادىء ذي بدء لا بد من الإشارة إلى حقيقة أن كل إنسان مجبول بطريقة ما على التوقي من فعل معين ، والاندفاع إلى آخر ، سيّان في ذلك صاحب الادراكات العقلية المتميزة أو القاصر عن ذلك ، فالطفل يمتنع من النار ، والمجنون يمتنع من الكثير من الأمور ، وهذا الامتناع وإن كان في بعض الأحيان لا يتخذ نمطاً عقلياً بخط معياري واحد ، ولكن هناك حافز ما يدفع الممتنع لاتخاذ قرار امتناعه ، وهذه الحقيقة إن لو حظت في المواضع

٥١

الطبيعية والسوية لسلوك الإنسان فسنجد أن ثمة قوة تدفع بهذا الإنسان نحو أن ينشد كمالاً ما ، وغالباً ما نجد قرارات الفعل وموانعه تتبع هذه القوة وتتأثر بها ، وهذه القول هي ما يسميها الله سبحانه وتعالى بالفطرة (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (١) ووفق نقاوة هذه الفطرة تتلون حركة معيارية بواعث الإرادة في الفعل الإنساني ، فقد يتصرف الإنسان تصرفاً خاطئاً فيحكم بنفسه على هذا التصرف بالخطأ أو الذنب ، وذلك بسبب أن المعيارية المناقبية في فطرته تناقضت مع ما نحت ارادته إليه ، وذلك ضمن تفصيل لا مجال له في هذا البحث ، (٢) وما يهمنا هنا هو القول بأن نقاوة هذه الفطرة وعدمها هي التي تشكّل صيغ إمتناعات الإنسان عن أمور وإقدامه على أخرى ، وبحثنا هنا سيتركز على تحليل ذلك لنفهم كيف تتشكّل العصمة في سلوك الإنسان.

ومن أجل فهم تشكّل العصمة في فعل الإنسان ، علينا أن نفهم حركة الفعل في شخصية الإنسان ، فهذا الإنسان ـ أي إنسان ـ جبل محتواه الداخلي على وجود نقيضين متصارعين وفق ما بيّنته الآية الكريمة : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) وهذان النقيضان يمثلان استعداداً ذاتياً وقوة كامنة في داخل كل نفس ، إذ يجرّ الفجور بهذه النفس نحو التسافل العقلي ، (٣) فيما تدفع التقوى بها نحو السمو والرقي (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا). (٤) والصراع بين هذا التسافل وذلك التسامي والاتقاء هو

____________________

(١) الروم : ٣٠.

(٢) تحدّثنا بنوع من التفصيل عن ذلك في كتابنا الذي نعدّه حالياً عن الميثاق الإلهي.

(٣) لا نقصد بالعقل في هذا المبحث هو الحالة الذهنية للإنسان ، بل هو مجموع ما يسميه الفلاسفة بالعقلين النظري والعملي ، وصورته المتكاملة التي يعبر عنها حديث جنود العقل والجهل المروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام ونصه في كتاب الكافي ٢٠ : ١ ـ ٢٣ ح ١٤.

(٤) الشمس : ٧ ـ ١٠.

٥٢

الذي يعطي للفعل الإنساني صورته الخارجية ، والعلاقة بين هذين العنصرين هي علاقة تطارد ودفع ، فكما استحوذ أحدهما على مساحة ما في داخل القلب كلما أزاح الآخر عنه ، والعكس صحيح أيضاً.

وقد اقترن الفلاح الناجم عن تغليب عنصر التقوى ، أو الخيبة الناجمة عن تغليب عنصر الفجور بدوائر أربع تمثل بمجموعها الصورة الشمولية لتشكلات الفعل الإنساني وبواعثه ، فهذا الفعل يتعلق بالدوائر التالية :

١ ـ دائرة الذات ، فثمة أفعال تتعلق بالذات فقط.

٢ ـ دائرة المجتمع ، وفي هذه الدائرة تنضوي جميع أفعال الإنسان وعلاقاته مع الآخرين.

٣ ـ دائرة الطبيعة ، وتمثل الوسط الذي يتعامل به الإنسان مع الطبيعة بكل ما فيها من موارد وامكانات.

٤ ـ دائرة الله تعالى ، وفي هذه الدائرة التي تغلف جميع هذه الدوائر وتحكمها ، ينظم الإنسان علاقاته مع الله سبحانه وتعالى.

ولا ريب أن حدود العصمة ـ كما هو الذنب ـ هي هذه الدوائر جميعاً ، وقد حدد العقل التشريعي (١) جملة من القيود على ارادة وعاطفة الإنسان الذي شرّع له هذا العقل ، في تعامله مع هذه الدوائر ، وهذه القيود لا تقف عند حدود الواجب ومتعلقاته وهي دائرة الحلال والحرام وما يرتبط بهما من مستحبات ومكروهات فحسب ، وإنما تمتد إلى الأوسع منها ، وتتداخل ضمن دائرة المباح التشريعي ، فتعمل في غالب الأحيان على تقييدها

____________________

(١) نريد بهذا المصطلح فعل الأولى والأحسن في قبال التناهي عن الأقبح ، سواء كان ذلك ضمن دائرة الحلال والحرام أم في الأوسع منها ، فترك الركض أمام الناس ليس واجباً تشريعياً ، ولكن دخالته في مسائل الوقار الاجتمعاي والذاتي جعلته مطلوباً لدواعي الكمال.

٥٣

وتقليص مساحتها لصالح دائرة الانضباط التشريعي ، فالأكل كما هو واضح من المباحات ، ولكن اقترانه مع نية التقرب إلى الله سبحانه وتعالى يحوّله ضمن هذا العنوان إلى مستحب ، وهكذا.

ولو تأملنا النص القرآني فإننا نجده قد حدد الجهل العقلي بمثابة العنصر الأساس الذي يتسبب في مضادة هذا العقل ودفع الإنسان إلى العمل في مسار معاكس للمسار العقلي ، بحيث قد يؤدي به إلى أن يتحول إلى مسخ على شكل بشر ، وهذا ما تبيّنه مجموعة من الآيات الكريمة كقوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ) (١) ، وكذا قوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُون) (٢) ، وكذا قوله : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٣).

وهذا الجهل ليس جهلاً بالمعنى المتداول في أيدي الناس ، وإنما هو الجهل الذي يسيطر على القلوب والأسماع والأبصار ، وهذه القلوب والأسماع والأبصار ليست هي مجموعة الأجهزة والحواس المنظورة ، بل إن حديث القرآن عنها يشير بدلالة أكيدة إلى وجود ما يناظر هذه الأجهزة ، ولكن بمواصفات مختلفة ، وإلا لما وصفهم بعدم الابصار والأسماع ، ولما تحدّث عن القلوب المقفلة (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (٤) ، ونفس الأمر تجده في حديثه عن البصر الحديد : (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥) ، وهذا ما يجعلنا نؤكد أن ثمة أنظمة داخل النفس الإنسانية تختلف عن نظيرتها في

____________________

(١) البقرة : ١٧١.

(٢) الأنفال : ٢٢.

(٣) الفرقان : ٤٤.

(٤) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ٢٤.

(٥) ق : ٢٢.

٥٤

ظاهرها ، وهذه الأنظمة ترتبط بالعناصر الداخلية التي تشترك في تكوين المحتوى الداخلي للإنسان ، وبالتالي فإن هذه الأنظمة هلي التي تعلب الدور الأساس في تكوين بواعث الارادة عند الإنسان وتحديد اتجاهاتها من حيث التحفيز والاحباط ، ومن حيث الفعل والرتداده ، إذ سنجد الحديث القرآني عن هذه الأنظمة يرتبط بحيوية خاصة تخلتف كلية عن أنظمة الحواس المادية ، فهناك قلب مقفل أو قاس أو عكسه ، وهناك أذن واعية ، وثمة بصائر ترى ، وهناك رؤية لأمور لا تنظر إليها العين المجردة ، ولكن هذه القسوة أو عكسها وهذا الوعي وتلك الرؤية غير تلك التي نلمسها في حواسنا المادية ، وبالجملة ترينا الآية الكريمة : (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (١) طبيعة عمل هذه الأنظمة الداخلية ، فهناك قلب وعين وأذان ليست هي ما نراه في حواسنا المادية ، وفي عقيدتنا فإن هذه الأنظمة هي التي تشكل الأرضية التي تعمل بها عناصر التقوى والفجور التي جبلت عليها الطبيعة الإنسانية وفق ما أشارت إليه الآيات الكريمة المتقدمة من سورة الشمس ، وعليه فإن دراسة الكيفية التي تتشكّل بها العصمة يجب أن ينطلق من دراسة هذه الأرضية لا من سواها ، ومن حسن الحظ أن القرآن حوى في متنه الشريف الكثير من الأضواء اللازمة للكشف عن طبيعة تشكلات هذه الأنظمة وطبيعة مساراتها.

وهنا نلحظ في البداية التمييز بين البنية المعنوية للمتقين وهم الذين غلّبوا عنصر التقوى ، وبين بنية الفجار (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٢) والسؤال التلقائي الذي يفرض نفسه هو : ما هي حقيقة هذا الجعل؟! وما هي ملازماته؟! وهل هو بوتيرة

____________________

(١) الأعراف : ١٧٩.

(٢) سورة ص : ٢٨.

٥٥

واحدة؟! أم له سلم موضوعي يتفاضل به متق على آخر ، ويتسافل به فاجر عن ثان؟!

ولعل الآية الكريمة : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (١) تجيبنا على بعض ما نريده هنا ، حيث جعلت اجتراح السيئات وما يعاكسه مجالاً للتفريق بين البنيتين ، وهذا التفريق لا تفرد لعالم الآخرة به دون عالم الدنيا كما يتوهم الكثير من الناس ، بل هو تفريق موضوعي في الحياة الدنيا قبل عالم الآخرة كما يتضح من ذيل الآية الشريف ، ولكن كيف؟!

ومحصل هذا التفريق نلحظه في مصاديق هذا الجعل ، فقد تحدث القرآن الكريم عن جعلين ، خصص الأول منهما للفجار وذلك وفق قوله تعالى : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) (٢) وقوله تعالى : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) (٣) ، فيما خصص الثاني منهما للمتقين ، كما نلمس في قوله سبحانه وتعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) وكذا قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) (٤) ، وهذا الجعل بمثابة سنة تكوينية صارمة في هذه المسارات ، وهو في صورتيه أشبه ما يكون ببوابة ثابتة على الطريق ، فمن يجترح السيئات فإن الرجس الذي يعلو القلوب ليلحق بها العمى هو البوابة التي لا بد من ولوجها على طريق ارتكاب السيئات والآثام ، ومن يتق الله فإن التوفيق الإلهي في تيسير الأمور كل الأمور ، وإيتاءه سبل الخروج من المعضلات هو الآخر بوابة يدخلها المتقي تلقائياً في هذا الطريق.

____________________

(١) الجاثية : ٢١.

(٢) الانعام : ١٢٥.

(٣) يونس : ١٠٠.

(٤) الطلاق ٢ و ٤.

٥٦

ولو دققنا النظر في أحد الجانبين ، وليكن جانب طريق التقوى (١) ، وتساءلنا عن مصاديق الجعل المخصص لسالكي طريقه؟ فسنجد في البداية أن الطريق باعتباره طريقاً طويلاً على مستوى السمو ، إذ لا حد له ليقف عنده المتقي ، فإن الجعل الإلهي لم يك محدوداً هو الآخر ، لا في خصوصيته النوعية فلم يخصصه في نوع معين من التخصيصات ، ولا في حدوده الكمية ، فهو إن تحدّث عن جعل المخرج للمتقي ومنحه الرزق ، فإنه لم يتحدث عن مخرج محدد ، ولا عن رزق محدد ، بل هو يمتد إلى كل المساحة التي يكون فيها سبب لحاجة المتقي إلى ما جعله الله ، سواء كان تحديد هذه الحاجة مرتبطاً بالمتقي نفسه ، أو كان بمثابة تفضل إلهي عليه ، ولكن نظراً لخصيصة العدل الإلهي فإنه قد جعل لكل شيء قدراً ، كما قال الله سبحانه : (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدْراً) (٢) مما يعني أن السائرين على طريق التقوى ليسوا سواء في يجعل لهم ، وإنما يرتبط هذا الجعل في نوعيته وحجمه بما يحقق هذا الإنسان من شرائط التقوى والتزاماتها ، أو قل : فإن الفاعل الإلهي في جعله يتوقف مداه على مقدار ما يتحمله القابل الإنساني ، فالله الذي هو عطاء مطلق وكرم مطلق ليس هو من يحدد حجم ما يأخذه الإنسان من هذا العطاء ومن هذا الكرم ، بل إن الإنسان من خلال قابلياته هو من يحدد كم في مستطاعه أن ينال من هذا الكرم والعطاء ، فالبحر لا يحدد للمغترف كم ينتهل منه ، بل المنتهل من خلال ما يجلبه من وعاء للانتهال من ماء البحر هو من يحدد كمية ما يغترف من ماء البحر.

ويشير القرآن في متون الآيات إلى مفردات كثيرة من مفردات هذا الجعل ، وما يهمنا في مبحث العصمة الآية الكريمة : (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ

____________________

(١) سيأتي حديثنا عن الجانب الثاني في المباحث اللاحقة إن شاء الله تعالى.

(٢) الطلاق : ٢ ـ ٣.

٥٧

وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (١) وكذا الآية المباركة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢) ، ولا بد من التوقف عند هذا النور المجعول للمتقين للتعرف على حقيقته ، ولا بد من استيعاب السبب الذي جعله مرتبطاً بالمشي دون غيره ، ولربما تدلّنا الايتان المباركتان التاليتان على بعض من طبيعة وخصائص هذا النور (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٣) وقوله جلّ من قائل : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً) (٤) ، ففي الآية الأولى يؤتى المتقين فرقاناً ، وهذا الفرقان هو الذي يفرق أمامهم بين الحق وبين الباطل ، دون أن نجد أي مجال للتوقف في صورة هذا الفرقان عند حدود الذنوب والآثام ، بل إن الاطلاق الذي ميز كلمة الفرقان يجعلنا نتيقن أن المراد هو امتداده ليشمل حتى الأخطاء في التعامل مع الواقع وما يماثلها ، ومن توابع الآية نجد أن المجال لنفوذ مسارب الخطايا والأخطاء (٥) تتضيق مع تكفير الله تعالى لسيئاتهم ، وغفرانه لهم ، ولهذا فإن المتقي كلما ولج في دائرة التقوى بشكل أعمق كلما حظي بنور أكبر وأغلق وراءه البوابات التي يمكن للخطايا أن تنفذ منها ، بينما تتخصص الآية

____________________

(١) الأنعام : ١٢٢.

(٢) الحديد : ٢٨.

(٣) الأنفال : ٢٩.

(٤) الاسراء : ٨٠.

(٥) تحدثنا في ما سيأتي أن مصادر الخطايا والأخطاء خمسة : هي الجهل والشيطان وأهواء النفس وإمكانات الطبيعة والعلاقة مع الآخرين ، ضمن تفصيل يأتي في محله.

٥٨

الثانية (١) في إعانة الإنسان على الدخول من مداخل الحق ، وبمعنى أن لا يدخل في مدخل غيره ولا تجده إلا عند الحق ، وأن يخرج من مخارج الحق ، وبمعنى أن لا يخرج إلا من مخرج الحق فلا تجده يخرج من أمر إلا بناء على مقتضيات الحق ، وتكاد الآية تتخصص أكثرم اتتخصص فيه ضمن المجال الاجتماعي.

ولربما نتلمس من الحديث المروي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام بعض جوانب هذا المبحث فقد قال عليه‌السلام : القلوب ثلاثة : قلب منكوس لا يعي شيئاً من الخير وهو قلب الكافر ؛ وقلب فيه نكتة سوداء فالخير والشر فيه يعتلجان (٢) ، فأيهما كانت منه غلب عليه ؛ وقلب مفتوح فيه مصابيح تزهر ، (٣) ولا يطفأ نوره إلى يوم القيامة ، وهو قلب المؤمن. (٤)

ويشير الإمام الباقر عليه‌السلام في حديث آخر إلى الطبيعة التي جبلت عليها قلوب الناس ، ونسبية تحمّلهم للنور لتذبذبهم بين عوالم التقوى والفجور ، وما يمكن لهم أن يحصلوا عليه لو انهم ارتقوا في عالم التقوى ، وابتعدوا عن عالم الفجور ، فقد روى سلّام بن المستنير قال : كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام فدخل عليه حُمران بن أعين وسأله عن أشياء ، فلما همّ حمران بالقيام قال لأبي جعفر عليه‌السلام : أخبرك ـ أطال الله بقاءك وأمتعنا بك ـ أنا نأتيك فما نخرج من عندك حتّى ترقّ قلوبنا وتسلوا أنفسنا عن الدنيا ، ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال ، ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس

____________________

(١) وهذه الآية وأن جاءت بصفة دعاء من الإنسان ، ولكن وجودها في القرآن الكريم يشير إلى وجودها كلإمكانية موضوعية ، فجعلها من الأدعية إنما يشير إلى إمكانية تحققها.

(٢) أي يتصارعان.

(٣) في حديث آخر : فيه كهيئة السراج ، وفي ثالث : وقلبه يزهر كما يزهر المصباح.

(٤) الكافي ٤٢٣ : ٢ ب ١٨٥ ح ٣ لثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني رحمه‌الله (ت ٣٢٨ ـ ٣٢٩ه) دار التعارف ـ دار صعب ؛ بيروت ١٤٠١ ط ٤.

٥٩

والتجار أحببنا الدنيا؟ قال : فقال أبوجعفر عليه‌السلام : إنما هي القلوب مرة تصعب ومرة تسهل.

ثم قال أبو جعفر عليه‌السلام : أما إن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا : يا رسول الله نخاف علينا النفاق قال : فقال : ولم تخافون ذلك؟ قالوا : إذ كنا عندك فذكّرنا ورغّبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا كأنّا نعاين الآخرة والجنة والنار ، ونحن عندك ، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيان والأهل يكاد ان نحوّل عن الحال التي كنا عليها عندك ، وحتّى كأنّا لم نكن على شيء؟ أفتخاف علينا ان يكون ذلك نفاقاً؟ فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلا ، إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا ، والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء. (١)

ومن يلحظ حقيقة التلاقي بين الأنبياء والأئمة والأولياء كل بحسبه مع عوالم الملكوت لإدرك هذه الحقيقة ، فهي وإن عدت من المعجزات كما في أذهان الكثيرين ، إلا انها تطرح من وجهة نظر فلسفية بحتة حقيقة الامكانية التي جبل عليها عالم الإنسان مع عوالم الملكوت ، من حيث قابلية الإنسان للارتقاء إلى عالم الملكوت ، وعدم رفض هذا العالم بعنوانه عالماً من النور لانضمام الإنسان إليه لو ارتقت حقيقته من الظلمانية إلى النورانية ، وهو الأمر الذي وعد به الله سبحانه وتعالى كما تصوّره الآية الكريمة : (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (٢) ، ولو لا حظنا التفاوت بين مفردات هذا التلاقي ، لأدركنا مرجعية هذا التفاوت إلى الملكات والمؤهلات الذاتية التي يتمتع بها هذا الإنسان أو ذاك ، فلو نظرنا إلى التفاوت في لقاء مريم عليها‌السلام ـ كمثال ـ مع عوالم الملكوت بحيث انها كانت تتغذى من السماء (فَتَقَبَّلَهَا

____________________

(١) الكافي ٤٢٣ : ٢ ـ ٤٢٤ ب ١٨٦ ح ١.

(٢) البقرة : ٢٥٧.

٦٠