عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

الشيخ جلال الدين علي الصغير

عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

المؤلف:

الشيخ جلال الدين علي الصغير


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأعراف للدراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

في البيت بعد أن أحسن إليه ، وعلى أي حال فهناك أكثر من مناقشة على هذا الصعيد سنكتفي ببعضها في هذا المجال بما يلي :

وأول هذه المناقشات تتعلق بطبيعة الشاهد الذي يستطيع أن يوفره فضل الله كي يفسر الهمّ اليوسف بهمّ الزنا أو بتعبيره : (أراد أن ينال منها ما كانت تريد نيله منه) فمحض تشابه مادة الفعل لا يدل على التشابه في هويته ، فكلاهما همّ بالآخر ، ولكن ما هو الدليل على إن مراد همّه قد تشابه مع مراد همّها ، فها هو القرآن يقدم أدلة كثيرة على طبيعة همّها به ، ولكن كل الدلائل القرآنية المقدمة لا تتحدث ولا بأي شكل من الأشكال عن أن همه كان همّ الزنا ، بل يمكن الجزم على إن الدليل القرآني استبعد هموم البغي جميعاً عنه ، فناهيك عن إن المتحدث عنه كان من الأنبياء الذين حرص القرآن على وصفهم بمنتهى أوصاف التبجيل والتعظيم ، فقد حفل على التأكيد على براءته بالكامل وقدم أدلة متعددة على ذلك ، ولا أوضح من الصورة التي يضع القرآن فيها أجواء هذه القصة ، فلقد قدمت ضمن أجواء ترغيبية ضخمة للاطلاع على القصة كما يتجلى ذلك بقوله تعالى وهو في مفترق الطرق الحاسمة إلى متون القصة : ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ) ، ولا تتقدم القصة بضع فقرات حتى يأتي وصف لكونه ممن علّمته السماء تأويل الأحاديث ( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ، ولتعقبها مباشرة الحديث عن ارتقائه لمرتبة من يوحى إليه ( وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) وهي مرتبة تؤذن بكمال مؤهلاته الروحية ، ثم عاد القرآن لوصف كماله الروحي هذا والذي لم يتوقف عند قيامه بأعباء الحكم والعلم لتتجاوزه إلى الحديث عن صبره بما وصفته بأنه من المحسنين ( وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَالله غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) وقد جاءت قصة مراودة امرأة العزيز له بعد

٤٠١

استعراض كل هذه الأوصاف مباشرة ، وقرنتها بممانعته الشديدة المبنية عن موقف واع لمهامه الإيمانية ومهامه الاجتماعية حين قرن ما بين استعاذته بالله وبين تبرير عدم اعتدائه على زوجة من أكرم مثواه ( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ الله إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُون) ، ثم عادت الآيات تترى في مدح موافقه فوصفته بالمحسن مرتين ، وتحدثت عن رحمة الله به ... إلى آخر ما في متن القصة ، ولم يتوقف الأمر عند ذلك فحسب ، بل إن الآية التي اعتبرها فضل الله مستنداً لحديثه عن الهمّ اليوسفي وصفته بصفة المخلصين ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) وهو وصف لم يختصه الله إلّا لبعض أنبيائه.

هذه هي المعطيات القرآنية في تقديمها لشخصية يوسف عليه‌السلام ، فهل تريد الآيات الكريمة في تقديمها لصورة أحسن القصص ، وفي عرضها لصورة من أوتي العلم والحكم وكان من المحسنين المخلصين لتقول : بأن هذا النبي سيسقط في أول امتحان له مع الإغراء الجنسي؟! علماً بأن الإحسان صفة لمن قام بأكثر من واجباته.

فأي قصة يريد القرآن سردها من أجل التكامل الروحي وإذا به يصور لنا نبي السماء بهذه الصورة الهزيلة والمشينة؟!

وأي عبرة يريد لنا القرآن أن نستلهمها وهو يحدثنا عن نزوات نبي السماء؟ لمجرد تعرضه لضغوط هذه النزوة!!

وأي إخلاص لهذا النبي الذي يتحدث عنه الله سبحانه وتعالى في نفس آية الهمّ؟ وهو قد كبا في واحد من أبسط الامتحانات الروحية أمام أولياء الله وأنبيائه ، فهذا الامتحان لربما يكون علينا صعباً ـ وهو ليس بالصعب على الكثيرين منّا ـ ولكن فرض صعوبته مع أمثالنا ، أما مع الأنبياء عليهم‌السلام فإمكان تصوره يغدو خرقاً من التفكير ، فلو صح ـ وهو صحيح ـ أن حسنات الأبرار

٤٠٢

سيئات للمقربين فما بالك بدرجات الأنبياء الذين هم أسمى درجة من المقربين؟ لا سيما لمثل يوسف الذي حظي بنعوت قرآنية ليس بالضرورة حصول العديد من الأنبياء عليها ، وقد وجدنا أن من هو دون درجة الأبرار من تأنف نفسه مقارفة هذا العمل أو التفكير به ، فكيف بمن هو أعلى من هذه الدرجة بكثير؟!

والملاحظ أن المعطيات القرآنية لم تتوقف عند ذلك فحسب ، بل راحت تقدّم الدليل تلو الآخر على براءة يوسف عليه‌السلام مما وصم به ، فنفس آية الهمّ امتدحت موقفه ووصفته بالاخلاص ، فهل يمتدح القرآن موقفه لأنه همّ بالزنا؟ ثم عادت الآية التي من بعدها بتؤكد أنها هي من هجم عليه حينما تحدّثت عن قدّ قميصة من دبر ، ثم جاءت شهادة شاهد البيت الذي تحدّث عن النظر إلى الأمور من خلال مقاييسها الطبيعية فالقميص إن كان قد قدّ من قبل فهو من هجم وهي ستكون الصادقة ، وإن كان قد قدّ من دبر فهي من هجم وهو الصادق ، ثم جاءت نتيجة حكم الحاكم بأنها هي المذنبة فطالبها بأن تستغفر ، ثم جاء اعترافها بما قامت به وتصريحها باعتصامه مما راودته ( وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ ) ثم تحدّثت الآية عن مدى عزوفة عن المنكر حتى إنه ينتخب طريق الأذى والضرّ بنفسه كي يتخلص من هذا المنكر ، وأعقبتها بموافقة الله على انتخابه لهذا الطريق ، ثم عادت الآيات لتصرّح علناً باعتراف مؤكد اللهجة من قبل النسوة بأنهنّ لم يرين منه سوءاً ، فيما أعلنت امرأة العزيز بصورة لا تبعث على أي شك بأنها هي من كانت وراء العمل متهمة نفسها بالأمر بالسوء ( قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ) وهذه المعطيات الزاخرة بشهادات الاثبات ببراءته مما نسبوه إليه ، وتلك المعطيات التي شهدت بعلو مقامه وكونه من المحسنين

٤٠٣

المخلصين لِمَ لم تثن عزم فضل الله وأمثاله من نسبة الهمّ بالاثم إليه؟ أترانا قرأنا القرآن بطريقة مغلوطة وقرأوه بصورة صحيحة؟!

ولا بد لنا من التساؤل عن المغزى الروحي الكامن ـ على فرض صحة فرضية هذا الرجل المولع بالولوج إلى دواخل الأنبياء رجماً منه بالغيب ـ في فضح الله سبحانه وتعالى لكوامن ذاتية في داخل نفسية نبيّه ، وهي لم تتحقق بالفعل في الواقع الخارجي ، وإنما ظلت مجرد نزوة نفسية عابرة كما يصفها هذا الرجل؟ فإذا كان التأديب الإلهي للمسلمين بأن يستتروا في حال ارتكاب المعاصي فهل يؤدبنا بشيء ليفعل نقيصه عن شيء لم يصل إلى حد الذنب بزعم الرجل؟!

وأياً كان الحال فجميع القرائن الحالية والمقامية والمعطيات المقدمة بين يدي النص القرآني لا تشير ولا بأي حال من الأحوال إلى ما تخرّص به هذا الرجل على مقام النبي يوسف عليه‌السلام علماً أن هذا الرجل هو نفسه الذي يقذع بالوصف على الكثير من مفسرينا لا سيما العلامة الطباطبائي (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين) بدعوى ان هؤلاء المفسرين لا يلتزمون بالظاهر القرآني ، فهذا هو ظاهر القرآن فما لك لا تعمل به طالما انك حريص على المدرسة الظاهرية المجانبة لمدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، أم أن باءنا غير منقّطة وباء غيرنا مفعمة بالنقط؟!

هذا من جهة ومن جهة ثانية ألا يتصور هذا الرجل ان مقتضى البلاغة القرآنية يستدعي وبدعواه أن يستوفي النص القرآني المفاد الإلهي ، فما السبيل إلى التفسير هذا النص بدعوى الهمّ بالزنا والانجذاب الغرائزي في الوقت الذي يحرص القرآن على تصوير النبي يوسف عليه‌السلام بما رأيناه من أوصاف التنزيه والكمال؟ أأغلقت البلاغة القرآنيه أبوابها بحيث لم تستطع التوفيق بين الوصف الإلهي لمقام النبي يوسف عليه‌السلام وبين النزعات الذاتية له ، أو بما يحلو لهذا الرجل أن يعبر دائماً عن نقاط الضعف الإنساني في شخصية الأنبياء عليهم‌السلام؟! وهل انحصرت المفردات التعبيرية لمفردة الهمّ حتى لم يبق

٤٠٤

إلا همّ الانجذاب الغرائزي؟!!

ثم ماذا سنفعل حين نرى هذا الرجل يأخذ بروايات العامة وأقوالهم ، ويدع روايات أهل البيت عليهم‌السلام في هذا المجال؟ فالباء واحدة في الجر ، فما السر الذي يجعل الرجل يكيل بمكيالين ، فيجد في باء أهل العامة ما يجر بها السماوات والأرض ، وباء أهل البيت عليهم‌السلام لا تقوى على جر شيء؟!

* * *

إلى هنا نكون قد قدمنا نماذج من فكر هذا الرجل حول مناهضته للعصمة ، ولو أردنا استيعاب كل ذلك لأفردنا لها كتاباً مستقلاً ، ولكن حيث لا سبيل لذلك اكتفينا بهذا القدر ، والحمد لله رب العالمين.

٤٠٥

تيار الاغتراب

ب ـ أحمد الكاتب

رغم ضحالة المضمون الفكري الذي يطرحه عبد الرسول اللاري الملقب بأحمد الكاتب في كتابه «تطور الفكر السياسي الشيعي» إلّا أن تطبيل وسائل إعلامية معروفة التوجهات له ولكتابه حتى جعلت منه أحد المجلات التي طالما أذكت نار الفتنة الطائفية أحد الكتب الذي بزعمها هزّت الفكر الشيعي! قد ادّى ببعض المتأثرين بكل نار إلى أن يحملوا من شظايا هذا الفكر أو يترك في نفوسهم بعض الآثار السلبية التي قد لا تعبر بالضرورة عن تأثّر بفكره بقدر ما قد يكون تأثّراً من الأجواء التي تجعل مثل هؤلاء الكتّاب يطفون على السطح.

والكاتب الذي جاء ضمن الموجة التي دفعت بالبعض إلى أن يستخدموا طريق نقد المذهب منهجاً لتحقيق بعض المصالح الفئوية أو الفردية تزامنت حركته مع حركة العديدين الذين أغواهم شعار التحديث فتصوّروا فيه بغيتهم للخروج من بعض الأزمات الاجتماعية والسياسية التي كانت تحاصرهم وتضيق الخناق عليهم ، ولهذا لا عجب من أن يقدم أحمد الكاتب من واقع أفرز جملة من الاحباطات المتكررة على الأصعدة العلمية والاجتماعية والسياسية ، ورغم ما قد تظهره مقدمة كتابه من تعمّق في البحث العلمي ، إلّا أن من يعرفه علمياً أو شخصياً يعرف حجم مجانبة ذلك للحقيقة ، ومهما يكن الامر فقد أقدم الكاتب على نقد العصمة وهو يتصوّر

٤٠٦

انه بذلك قد نقض عماد المذهب ، وما نقض في الواقع إلّا بنيانه!!

ولا أنوي ملا حقة كل ما كتب في شأن نقده للعصمة ، ولكن أنوي التوقف عند بعض المحطات الرئيسية التي حاول أن يؤسس عليها فكره ، ومن هذه المحطات أذكر ما يلي :

١ ـ ادعى الكاتب أن العصمة هي وليدة القرن الهجري الثاني ، (١) وقد عرف القاريء أن الأدلة التي يؤؤسس الفكر الإمامي عماد العصمة عليها إنما تعود إلى النص القرآني والرسولي ، ولست بحاجة بعد الذي قدّمناه في أبحاث الكتاب إلى التدليل على ذلك.

٢ ـ وزعم أن : نظرية العصمة التي قامت عليها نظرية الإمامة الإلهية نظرية حادثة مرفوضة من قبل أهل البيت وعموم الشيعة! حيث كانت فلسفة العصمة تقوم على مبدأ الاطلاق في الطاعة لولي الأمر وعدم جواز أو امكانية النسبية فيها ، وذلك مثل الرد على الإمام ، ورفض اطاعته في المعاصي والمنكرات لو أمر بها ، والأخذ على يده عند ظهور فسقة وانحرافه. وهو المبدأ الذي كان الحكام الأمويون المنحرفون يدأبون على ترويجه ومطالبة المسلمين بطاعتهم على أساسه طاعة مطلقة في الخير والشر ، وهو ما أوقع فلاسفة الإمامية في شبهة التناقض بين ضرورة طاعة الله الذي يأمر بطاعة أولى الأمر في الآية الكريمة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) وضرورة طاعة الحكام بصورة مطلقة حتى في المعاصي والمحرمات. (٢)

وهذا الكلام الخالي من الاستدلال والمملوء بالتناقضات والافتراء على الشيعة وفلاسفتهم ، إنما يفضح نفسه بنفسه ، فالشيعة لا تؤسس فلسفة

____________________

(١) تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه : ٨ ، دار الشورى ـ لندن ١٩٩٧ ط ١.

(٢) نفسه : ٧١.

٤٠٧

العصمة على مبدأ الاطلاق في الطاعة لأولى الأمر ، بل العكس هو الصحيح تماماً ، فالطاعة كمبدأ تقنين للعلاقة ما بين التابع والمتبوع ، تحتاج إلى مرجعية تشريعية تحدّد هوية التابع والمتبوع ، بالشكل الذي تجعل التابع يسلم القياد إلى المتبوع ، وهذه المرجعية التي قد تلحظ وهي تبني نفسها على أساس نص تشريعي لا يراعي جانب العصمة في المنصوص له ، كما يلحظ في تأميرات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبعض الصحابة على من سواهم في سرايا الحروب وما إلى ذلك والزامه للمسلمين بالطاعة لمن أمّره عليهم ، إلا ان المدقق يعرف أن هذا النص إنما يصدر مع وجود جهة تشريعية أعلى ، وهو لهذا واضح النسبية ، ولكن ما العمل لو أن هذه الجهة التشريعية غابت عن الوجود؟ فمن هي الجهة البديل؟ وعلى ضوء ماذا سيتم تحديدها؟!

وهنا لا مناص من الركون إلى مواصفات محددة تجعل الانقياد إلى المجسّد الاجتماعي لها أمراً يستساغ شرعاً ، وفي هذا الحال سنجد أن هذا المجسّد إما أن يكون شخصية معصومة أو غير معصومة ، فإن قلنا بعصمتها ، فقد أرجعنا الطاعة للعصمة وليس العكس ، وإن قلنا بعدم عصمتها فسنلحظ أن هذه الشخصية إما أن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فعندئذ ستكون طاعتها مبنية على أساس صوابها في صدور الأمر ، وبالتالي فإن هذا الصواب هو أحد انماط العصمة ، ومعه فقد أرجعنا الطاعة للعصمة مرة أخرى ، وإما أن تأمرنا بالمنكر وتنهانا عن المعروف ، فعندئذ سوف يسقط عنا إلزام الطاعة لأنها أخطأت الحكم الشرعى ، ومعه سوف يكون سبب سقوط إلزام الطاعة خلو هذه الشخصية من خصيصة العصمة ، وبذا نكون قد أرجعنا الطاعة مرة ثالثة إلى العصمة ، ومن هنا أسّس الفكر الإمامي مقولته عن الأمر الملزم بشكل مطلق ، وعن الأمر الملزم بشكل نسبي ، فعلّق الأول على عصمة الآمر ، وخصّ الثاني بعدم عصمته ، ولهذا يقول الدليل القرآني والعقلي أن الشارع المقدّس متى ما كان في صدد الأمر الملزم بطاعة شخص أو جهة على أي حال فإنه يكون في صدد التصريح بعصمة المطاع ، ومتى ما كان

٤٠٨

الأمر قاصراً عن ذاك فالمطاع ليس من أهل العصمة.

ولو دققنا في النص القرآني لوجدنا أن الله سبحانه قد تحدّث عن الامرين معاً ، فقد ألزم بطاعة جهات بشكل مطلق دونما تقييد ، وألزم بطاعة جهات ولكن بصورة مقيّدة ، ومثال الأمر الأول الآيات الكريمة التي تأمر بطاعة الرسول على أي حال ، فقد قرن طاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطاعة الله سبحانه وتعالى وجعلهما في عرض واحد ومثاله الآية الكريمة : ( مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) (١) ، وقوله تعالى : ( وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (٢) ، وكذا قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا) (٣) ، فهنا نلحظ ان طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هنا هي طاعة ملزمة بشكل مطلق ، وهي باطلاقها إنما تتحدّث عن عصمته (صلوات الله عليه وآله) ، فهو إما أن يكون معصوماً أو غير معصوم ، فإن أطلقت طاعته على أي حال كما هو منطوق الآية ، فقد لزمت طاعته في الصواب والخطأ ، فإن أطعناه في خطئه فقد نقضنا أمراً إلهياً عاماً بعدم فعل الخطأ وعدم طاعة المخلوق في معصية الخالق ، وإن تخلفنا عن طاعته فقد نقضنا أمراً إلهياً بعدم معصية الرسول ، وحيث لا يعقل تناقض الأوامر الإلهية ، فقد لزم أن يكون الأمر المطلق بالطاعة هو النص في شأن عصمة المطاع.

ونظير هذا الأمر ما جاء في الآية الكريمة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) فالآية قد جعلت طاعة الله وطاعة الرسول وأولي الأمر في مصاف واحد ، وحيث لا يعقل أن تكون طاعة الله وطاعة رسوله هو من سنخ الأوامر النسبية ، فإنّ جعْل طاعة ولي الأمر في مصاف طاعتهم هو

____________________

(١) النساء : ٨٠.

(٢) النور : ٥٢.

(٣) الأحزاب : ٣٦.

٤٠٩

اطلاق لطاعته أيضاً ، وهو ما نلحظه في خلو آية طاعة ولي الأمر من أي قيد يخرجه عن طاعة الله ، مما لزم أن يكون ولي الأمر من أهل العصمة ، لأن خلوه من العصمة سيؤدي إلى تناقض الامر الإلهي وفق ما بيّناه في الحديث عن عصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ونظير هذه الآية الآية الكريمة : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (١) ، فالولاية التي هي مرجعية الطاعة وأساسها الفلسفي ، قد جعلت لجهات ثلاث وعرضت في مصاف واحد باطلاق واحد وحيث لا مجال للشك في عصمة ولاية الله ورسوله ، فلا مجال أيضاً للشك في عصمة ولاية الجهة الثالثة ، وكي لا يكون مصطلح الذين آمنوا فضفاضاً قامت الآية بتخصيص هذه الجهة بقيد يوضح المراد منه ، ولأنّ اقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يمكن لكل أحد من أفراد الذين آمنوا ادعاؤه فقد ربطت الآية المراد بحدث تاريخي لن يتكرر بسابقته لا بصورته ولا بشكله ، وهذا الحرص على التقييد يعبّر بدلالة التزامية صارمة عن وجود مؤهل يميّز من عنته الآية عمّن سواه ، ولن يكون هذا المميز غير العصمة ، فلا تغفل!!

هذا في شأن الأمر الملزم بالطاعة على شكل مطلق ، بينما نرى أن الأمر الملزم بشكل نسبي قد قيّدته الآيات القرآنية بقيد يحدد اطلاقه من نسبيته كما في قوله تعالى : ( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا) (٢) ، وكذا قوله تعالى : ( وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا) (٣) ، فالطاعة المطلوبة هنا قيّدت بقيد هو عدم الشرك بالله ، فتحول الأمر إلى النسبية ، ولو دققنا في مصطلح الشرك وعلاقة الذنب به ، لوجدناه يدلّ ببساطة على عصمة من أطلقت الآيات طاعته ،

____________________

(١) المائدة : ٥٥.

(٢) العنكبوت : ٨.

(٣) لقمان : ١٥.

٤١٠

فالذنب ـ كما هو معلوم ـ هو أحد صور الاشراك بالله سبحانه ، وحيث أطلق الطاعة هناك ، وقيدها بهذه الصفة فإنه يدلّنا على إن من أطلق طاعته لم بشرك بالله ، وهذا الإشراك المعروض بشكل مطلق يشير إلى كل أنواع الإشراك كبر أم صغر ، مما يعني عدم تخلل الذنوب إلى داخل شخصية أولئك.

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن دعواه بوقوع الفلاسفة الإماميين في شبهة التناقض بين ضرورة طاعة الله الذي يأمر بطاعة أولي الأمر ، وبين طاعة الحكام ، فهي فرية لا يصدقها أدنى من له خبرة فب تأريخ الشيعي ، فمنذ متى كان الفكر الشيعي يرى في الحكام صورة ولاة الأمر؟ ولماذا حرص الحاكم على تسمية الشيعة بالروافض؟ أليس بسبب رفضنا لهذه النظرية؟ ولم اتهمت الشيعة بالخروج عن الاجماع ؛ أليس بسبب عدم إيمانهم بولاية من يتولى الأمر دون ضوابط الولاية الشرعية؟!

٣ ـ وقد ادعى بعد ذلك أن أئمة أهل البيت كانوا يرفضون العصمة أشد الرفض مستنداً إلى خطبة امير المؤمنين والتي مرت بنا في الفصل السابق في شأن قوله : ولست في نفسي بفوق أن أخطيء ، ليعقبها بالقول : ولم يكن الإمام علي ليقول لهم ذلك لو كان هناك أي حديث عن العصمة في أوساط الأئمة والشيعة والمسلمين ، وذلك لأن هالة العصمة تحتم أن يضع الإمام نفسه فوق النقد ، وأن يحرّم المعارضة او التجرؤ بتوجيه النصح والمشورة ، وهذا ما لم يكن يفعله الإمام علي الذي ضرب أورع الأمثلة في التواضع والمساواة .. ومطالبة أصحابه بأداء دورهم السياسي في مراقبة الإمام. (١)

وقد حكم الكاتب على نفسه بكلامه هذا بعدم الفهم أكثر من أي شيء آخر ، فأين حديث العصمة من تربية الوعي السياسي والاجتماعي في مواجهة الحكام الطغاة؟! ففرق بين فكر يريد إشاعة الوعي ترقباً لأحداث قد تدهم

____________________

(١) تطور الفكر : ٧٣.

٤١١

المجتمع فتجعله في قبالة استحقاقات التعامل مع الطغاة ، وبين معصوم يمارس مهمة الحكم ويدعوهم لمحاسبة الحاكم لو أخطاء ، والكلام هنا أين أخطاء المعصوم ومتى؟!

وبقية حديثه مجموعة من التخبطات التي لم تستقر عند قرار ، فحاول أن ينفي حديث أهل البيت عليهم‌السلام عن عصمتهم ، بطريقة تبعث على الاشمئزاز ، وإلا ما يمكن مخاطبة من يكذّب أوضح الواضحات؟ فحديثهم (صلوات الله عليهم) من الشهرة بمكان بحيث عرفوا به ، ونوقشوا به واستدلوا عليه كثيراً ، يمكن ملاحظته بمنتهى السهولة في أي كتاب متخصص في موضوع العقائد ، فنكران الوجود لا ينفيه.

٤١٢

ثانياً : التيار الأكاديمي

ينعت هذا التيار نفسه بنعت التيار الباحث عن الحقيقة المجردة بمعزل عن التأثيرات الطائفية والمسبّقات المذهبية ، ورغم أن هذا التيار متشعب الأطراف ومتباين التوجهات قد يبتديء بالتيار التغريبي وهو التيار الذي يستخدم المناهج المعرفية الغربية في تحليل المفاههيم الإسلامية ، بالصورة التي تحاول بعمد ومن دونه سوق المجتمع نحو هذه المناهج وتحكيمها فيهم ، انتهاء بالتيار الذي يحاول أن يصل إلى الحقيقة الأكاديمية المجردة ، غير إن الملاحظ في أغلب كتابات هذا التيار أنه ما أن يدخل إلى الساحة الفكرية الإسلامية بشكل عام والتشيّع بشكل خاص حتى ينتكص على أعقابه اللهمّ إلا ما ندر ، ومن ثم لتأتي هذه الكتابات وهي تعرب عن طائفية مقيتة تطيع الكثير من هذه الكتب ، فهي إن تحدّثت عن الفكر الإسلامي اتخذت كتابات المستشرقين وشهادات الغربيين لتحاكم هذا الفكر ، وإن تحدّثت عن الفكر الشيعي تحديداً تراها تتخذ من شهادات أعدائه والمناهضين له وأفكارهم عنه معيناً معلوماتياً لا يتخلف في صدقة! ومن ثم لتحاكم هذا الفكر من خلال هذا المعين! وإذا ما عنّ لأحدهم الاعتماد على المنابع الأصلية لهذا الفكر فستجده يسوق فهم الآخرين لنصوص هذه المنابع ويترك فهم أصحابها!! وأسبابهم في ذلك تعدد ، وتتداخل السياسة والطائفية ورغبات الأساتذة وطموحات التلاميذ في صياغة الكثير من معالم هذه الكتابات.

والحديث عن الكتابات الأكاديمية عن الفكر الشيعي يثير الكثير من

٤١٣

الشجون ، ويحتاج إلى حيز كبير لملاحقة ما اختطته يراعات كتّاب هذا التيّار ، وهو ما لا يمكننا في هذا الكتاب لتخصصه بعنوان محدد ، ولطبيعة الحيز المحدود المتاح له ، فسنأخذ ما كتبه الدكتور حسن حنفي والدكتور علي سامي النشّار لنقدمه كنموذج لطبيعة هذه الكتابات التي كنا نتوخى فيها الدقة العلمية بعد التحرر المفترض لكتّابها عن الروح الطائفية والمذهبية ، وإذا بها تعتنق هذه الروح ـ ولربما بغير قصد من الكاتبين ـ وتستخدم نفس أغراضها وأساليبها وإن بصورة تسمى بالأكاديمية.

وبمعزل عن طبيعة دوافعهما ، وطبيعة الفارق الذي يميّز ما بين الكاتبين ، فالأول صاحب مشروع سياسي تغريبي وإن كان تحت شعار ما يسمى باليسار الإسلامي والثاني يفتقر إلى هذا المشروع بل هو بالروح التحقيقية والبحثية ألصق ، وتبدو مصداقيته الأكاديمية أفضل من سابقه ، فإنهما قد تعرضا لفكر العصمة من خلال المنهج الذي صاغ فكرهما ، ولهذا وبسبب طبيعة الكتاب فسنقصر مناقشتنا في حدود ما تعرضا لهذا الفكر دون غيره مما تعرضا له.

٤١٤

أ ـ د. حسن حنفي

وقد خصّ الدكتور حسن حنفي العصمة بمجموعة من الانتقادات التي إن أعربت عن شيء فهي تعرب عن اعتماده على خزين من المعلومات الكاذبة التي سوّقت ضمن الحروب الطائفية ضد الشيعة ، فجعلته يبني نتائج ما أفضت إليه انتقاداته على مقدمات خاطئة ، فجاء حديثه في أعمّه الأغلب وهو يعاني من هذه المشكلة التي تعاني منها الكثير من الكتابات التي تصف نفسها بالأكاديمية ، فهؤلاء يعتمدون على المصادر المعلوماتية التي كانت أحد أدوات تلك الحرب أو من جملة الفرازاتها ، ثم يحملون ما فاضت به جعبة تلك المصادر من الأكاذيب والغربة عن الحقيقة على فكر بريء منها تماماً ، فجاءت الأحاديث وهي تحكي واقع الجهل المركب الذي عاش غماره هؤلاء الأكادميون!!

والناقد لفكر الدكتور حنفي يجد أن الرجل لم يحمل نفسه عناء التأكد من المعلومات التي يقدّمها لقارئه كمعلومات دقيقة يعمل على ترتيب الأثر عليها ففي مبحث العصمة الذي يدمجه كمفهوم مزدوج مع التقية ليبرز من خلاله طبيعة الدقة في ما يعتمد عليه من معلومات تراه يتحدّث عن الإمام المحبوس في جبال رضوى عقاباً لبيعته للإمام الظالم ، ويتحدّث عن عصمة الأعوان وكذا عن عصمة السيدة خديجة (صلوات الله عليها) كأحد المعصومين الأربعة عشر ، وعن هشام بن الحكم (رضوان الله تعالى عليه) الذي يعتقد أن الرسول يجوز أن يعصي لأن الوحي يصحح له ذلك ولكن الإمام لا يخطيء ، إلى آخر ذلك من المعلومات التي لا مبالغة في القول بأن

٤١٥

بسيط الفكر من الشيعة ما يضحك لعقلية من يقول بذلك ، لما فيها من مخالفة بديهية لأبسط المعلومات والأفكار الشيعية.

وقد قام الدكتور حنفي بتقديم خليط غير متجانس عن فرق الغلاة والضلال والزيدية وسائر الفرق الشيعية مع فكر الإمامية ليحاكم به الفكر الشيعي ، وقد استند في ذلك على مجموعة الكتب المعلوماتية التي ألمحنا الإشارة إليها كمقالات الأشعري وملل الشهرستاني ومواقف الإيجي ومخصل الرازي وفصل ابن حزم غيرها ، ولا تظفر في استناده على ذلك على منهجية علمية بسيطة وهي محاكمة الفكر من مصادره الحقيقية ، فكيف برجل يريد أن يحاكم الفكر الإمامي من خلال ما دبجته أقلام مناهضية؟!

وعلى أي حال فالرجل بعد أن قدم العصمة كمفهوم مزدوج مع التقية ، فرأى أن المعصوم الذي لا يخشى من شيء لا يمارس التقية! قدم العصمة بعنوانها رد فعل نفسي على الفتنة وتخبط الآراء ، رأى ـ أسطورياً ـ أن تكون العصمة في الإمام كصفة بصرف النظر عن تطبيقها في هذا الإمام أو ذاك. (١)

وقد أخطأ الدكتور هنا ثلاث مرات ، مرة حينما زواج بين التقية والعصمة ، فهي مزاوجة لا تستند على ضابطة علمية محددة المنهج ، فالتقية ضمن تعريفها الفلسفي نمط سلوكي يحاول ـ من خلال عدم الجهر بالمعتقد ومسايرة المجتمع في ما يعتقد دون اعتقاد ذلك ـ أن يخفف من حالة الاحتقان الاجتماعي الناجم عن تعارض الآراء والأفكار السياسية والمذهبية ، لمصلحة بقاء المجتمع في حالة استقرار ، إن كان عرض هذه الأفكار في الأجواء الثقافية غير السليمة أو في ظروف العنف السياسي لن يحسم الجدل بشأنها وقد يؤدي إلى فتنة في داخل المجتمع ، ضمن تفصيل لا يتسع له المقام ، وهي ـ أي التقية ـ بهذا الوصف تشمل جميع أفراد المجتمع ،

____________________

(١) من العقيدة إلى الثورة (التاريخ المتعيّن : الإيمان والعمل والإمامة) ٥ : ٢٢٤ ـ ٢٢٥ المركز الثقافي العربي ودار التنوير ـ بيروت ١٩٨٨ ط ١.

٤١٦

وتنتفي جملة وتفصيلاً إن كانت الحالة الفكرية في المجتمع من النضج ما يسمح للأفكار والمعتقدات أن تتنفس في الهواء الطلق دون حالة عنت فكري أو طائفي ، وهي بهذا الوصف ليست سلوكية سياسية واقعية تمارس ضمن حالات الطواريء فحسب ، بل هي مفهوم قرآني لا غبار في أصالته ، كما في قوله تعالى : ( لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وَإِلَى الله الْمَصِيرُ) (١) ، وشتّان ما بين التقية بهذا الوصف وبين العصمة المخصوصة بشريحة خاصة جداً من المجتمع التي تميّزت بمؤهلات وصفات استثنائية.

وأخطأ ثانية حينما رأى في الخشية دون تحديد ماهيتها نقيضاً للعصمة ، والحال ليس كذلك ، ومثاله يتضح فيما لو وضعنا المعصوم في بؤرة اجتماعية لا تطيق أفكاره ولا تتحمل صرامته في تطبيق مفاهيم العدالة الإلهية ، فهو إما أن يدفع بالمجتمع نحو حافة التصادم حين يصرّ على إبراز مخالفته له ويجهر بحالة التناقض بينه وبينهم فيفقد صفة الرحمة بهذا المجتمع الذي عصم لأجل هدايته وقيادته باتجاه التربية الإلهية ، لصالح أن

يعطي الغوغاء الاجتماعية الفرصة للنيل من مقامه ، وإما أن يتريّث الفرص وينتظر المستقبل عسى أن تجود فرص العيش المشترك بما يمكنه أن يدفع بعلمية الهداية الربانية نحو مواقع أكثر تقدماً في المجتمع ، وهذا ما أثبتته الواقعية الحياتية والتاريخ العالمي في كل حضاراته وأمكنة أحداثه ، ولهذا فمن الطبيعي أن يمارس المعصوم التقية في داخل المجتمع لو كان هذا المجتمع عصي الوعي بفكر المعصوم ، وإلّا لما اختص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عباداته بعيداً عن الناس في غار حراء ، لما نزلت الآيات التي تتحدث عن هواجس الخيفة والحذر في سلوكيات الأنبياء عليهم‌السلام ، وبطبيعة الحال فمن الخطل بمكان أن هذا الخوف بعنوانه جبناً ، فالمعصوم أشجع من أن يخاف

____________________

(١) آل عمران : ٢٨.

٤١٧

المخوّفات العارضة والزائلة ، فإن كان الخوف خشية على دنيا فهو الزاهد فيها ، وإن كان خوفاً على حياة فمن أوله منه بالحياة الآخرة التي يرى فيها المنجاة الحقيقية له من معاناته.

وعاود الخطأ ثالثة حينما عرّف العصمة بكونها رد فعل نفسي على الفتنة وتخبّط الآراء ، فلقد عرف القارىء أن العصمة أبعد ما تكون عن كونها ردة فعل ، بل هي حالة علمية يبلغ بها الوعي بحقائق الأشياء صورته المتكاملة ، بالشكل الذي تجعل المتصف بها يميّز بصورة دقيقة ما بين الحقّ والباطل والصواب والخطأ ، ولأن العصمة كمقام لا يمكن أن يتوصل إليه إلا من خلال ارادة صلبة لا تتزعزع ، فإن علمية التمييز هذه لن يتناقض فيها الفكر مع العمل ، وهي لهذا لا ترتبط بالجانب السلبي فحسب لتكون ردة فعل مضادة لسلبيته ، بل هي مرتبطة أساساً في الجانب الإيجابي فتدفع بالمتصف بها نحو الكمال ، ومن سار باتجاه الكمال ووصل إليه أين سيجد نقيض الكمال فيمارس ردة الفعل ضده؟!

وقال الدكتور حنفي : إذا كان اعتراف بإمامة الشيخين أو الخلفاء الأربعة فإنهم غير معصومين ، وإذا كانت العصمة لأحد الأئمة فإنه قد أخطأ ببيعته للإمام الظالم ، وإذا كان الإمام الرابع معصوماً فمن الخطأ القول بكفره لأنه لم يقاتل الشيخين على حقه الذي تركه ، وهل قال أحد من الخلفاء الأربعة إنه معصوم؟ وهل تمتد العصمة إليهم من الأئمة؟ وإذا امتدت فلماذا تتوقف عليهم ولا تمتد إلى التابعين والتابعي التابعين إلى ما لا نهاية؟ وإذا كان الإمام معقباً لبيعته للإمام الظالم ، محبوساً في الجبال «رضوى» فكيف يكون معصوماً وهو على هذا الحال يلقى هذا المصير؟ وإذا كان الأئمة اثني عشر فكيف يكون المعصومون أربعة عشر؟ هناك إذن معصومون غير أئمة وبالتالي لاتكون العصمة أحد أوصاف الإمام ، وإذا كانت العصمة وصفاً له فكيف لا تكون وصفاً ثابتاً ، بل توجد وتعدم تأتي وتختفي بعد مدة معينة؟ بهذا المعنى تكون العصمة مرتبطة بالأفعال وليس بالأشخاص ، وإذا كانت العصمة ممتدة

٤١٨

إلى الخلفاء والأعوان فهي ليست خاصية فريدة للإمام ، ولأمكن استغناء الإمام عنها ، أو كان الخليفة أو الوالي المعصوم إماماً مثل الإمام المعصوم ، وإذا كانت العصمة للإمام وحده فكيف تكون لآل بيته؟ لذلك من الأفضل أن تكون العصمة مجرد وصف نظري دون تحقق عيني في التاريخ ، وفي هذه الحالة لاتكفي وحدها على الاطلاق بل تصاحبها المعجزة والنبوة وتنتهي إلى الألوهية ، بل قد يعصي النبي لأن الوحي يصححه ، وبالتالي تكون العصمة أولى بالإمام من النبي. (١)

وفي هذا النص الذي يختلط فيه السؤال الجاد مع غيره ، وتمتزج فيه الحقيقة بالوهم ، وتتناثر أطرافه وكأنها بلا جامع موضوعي يجمعها ، نلاحظ ما يلي :

١ ـ الإمامية لا تعترف بإمامة الشيخين وثالثهما ، وهي لا تضفي صفة الإمامة على الحاكم ، بل تجد أن الحاكم يجب أن يكون إماماً أو من طرف الإمام ، وهي في هذا الشرط لا تنطلق من تأسيس اجتماعي لهذا المقام ، وإنما تنطلق من أن الإمامة منصب إلهي ، والمناصب الإلهية لا تمنح من قبل المجتمع ، وإنما من قبل الله سبحانه وتعالى وذلك ضمن تفضيل لا يسع له المقام هنا ويمكن أن يطلب في كتابنا : «الإمامة ذلك الثابت الإسلامي المقدس».

٢ ـ إن بيعة الحاكم الظالم تارة تكون بيعة إقرار شرعي ، وأخرى بيعة يفرضها الأمر الواقع بكل تداعياته واسقاطاته ، فهي بالمعنى الأول لم تحصل من الإمام علي عليه‌السلام أبداً ، وليس أدلّ على ذلك من تخلّفه عن البيعة طوال مدة كافية للإعراب عن ممانعته عن اضفاء الشرعية على هذا الحكم ، وتبرز معارضته له ، أما البيعة بالمعنى الثاني فقد حصّلت بعد إبراز الموقف من البيعة بالمعنى الأول ، دون أن تمنع من تعمد الأمير (صلوات الله عليه) من

____________________

(١) من العقيدة إلى الثورة ٥ : ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

٤١٩

اظهار مظلوميته كلما سنحت له فرصة ذلك ، وقد انطلق موقفه عليه‌السلام من منطلقين أحدهما موضوعي يفرضه منطق الأشياء ، إذ لا بد من وجود نظم إداري معين للمجتمع يكون مرجعية لعموم الناس ، بغض النظر عن الطبيعة المعيارية لهذا النظم ، وفي هذا الصدد يحدد الأمير (صلوات الله عليه) مقاييس ذلك حينما يقول : لا بد للناس من أمير برّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ، ويستمتع فيها الكافر ، ويبلغ الله فيها الأجل ، ويجمع به الفيء ، ويقاتل به العدو ، وتأمن به السبل ، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح برٌّ ، ويستراح من فاجر ، (١) والمنطلق الثاني ينطلق من ناحية فكرية من نفس المنطلق الأول ولكن مع اعطاء الواقعيات السياسية أولوية في التعامل مع الطموحات والأهداف العامة ، وهنا تسمعه بأبي وأمي وهو يتحدّث بمنطق يؤسسه على قاعدة أن الأمير الفاجر وإن كان فاجراً ، ولكن ظلمة في العادة متوجّه إلى خاصة المجتمع لا إلى عامته ، والخاصة في العادة قادرة على تحمل أعباء خصوصيتها ، أو قل قادرة على الارتفاع إلى درجات المسؤولية التي تترتب على خصوصيتها ، ومع هذه القاعدة لا ينسى التأكيد على بيان حقيقة الظلم الذي لحق به من غيره ليوضّح الواقع المعياري للأمير الذي تسالم معه ، ولهذا يقول (صلوات الله عليه) : لقد علمتم أني أحقّ الناس بها من غيري ، والله لأُسلِمَنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلّا عليَّ خاصة. (٢)

وعليه فإن بيعة الاجبار والإكراه والرضوخ لواقعيات الحياة التي لا تسمح للشرعية أن تتنفس لا يمكن أن تكون بيعة عن إرادة ورضا ، ولا تخطئته بعدم قتاله للشيخين عن الحق الذي تركه فهو أمر تفرضه الواقعيات السياسية وطبيعة المصالح التي تعتمل في ذهن الأمير ، والمتفحّص الخبير لا

____________________

(١) نهج البلاغة : ٤٤ خ ٤٠.

(٢) نهج البلاغة : ٦١ خ ٧٣.

٤٢٠