عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

الشيخ جلال الدين علي الصغير

عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

المؤلف:

الشيخ جلال الدين علي الصغير


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأعراف للدراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

خلال أنماط العصمة التالية :

عصمة العلم والتشريع

تحدّث القرآن الكريم عن عصمة المعصوم عليه‌السلام العلمية كما أشرنا إلى ذلك في آية الراسخين في العلم ، حيث ميّزهم بميزتين ، أولهما : انهم يفترقون عن الذين في قلوبهم زيغ نتيجة مؤهلاتهم الذاتية ، وهذا التمييز ليس تمييزاً عابثاً ، بل هو يشير بالتأكيد إلى ان قلوب هؤلاء الراسخين مصفاة من الزيغ ، مما يجعل قلوبهم قابلة لتلقي الفيض الإلهي الخاص بعلم تأويل الكتاب ، وهذه هي الميزة الثانية ، ولا ريب أن العلم الناتج عن هذا الفيض هو علم معصوم ، ويتعلّق بهذه العصمة كلّ ما يترتّب عليها من شؤون التبليغ.

وترينا الآية الكريمة : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (١) تقريب آخر لهذا الحد من حدود العصمة ، إذ لا يمكن أن يعلّق الحساب الإلهي (ثواباً أو عقاباً) على الأخذ بما أتى به الرسول ، أو التناهي عمّا نهى عنه إلا لكون ما يأتي به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ينهى عنه معصوماً.

عصمة الولاية

في قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (٢) وهذه الولاية الشاملة التي تمتد إلى كل خصوصيات الإنسان بما فيها حياته الذاتية فضلاً عن مسائل الحسبة والحكم ، لابد أن تكون تطبيقاتها معصومة ، لأن افتراض

____________________

(١) الحشر : ٧.

(٢) الأحزاب : ٦.

٨١

عدم عصمتها سيؤدي حتماً إلى إلحاق الظلم والأذى والضرر بالمكلّفين باتباع هذه الولاية ، مما يقدح بعدالة الآمر لهم باتباع هذه الولاية ، وهذا باطل جزماً.

كما إن افتراض عدم عصمة هذه الولاية سيجعل هؤلاء المكلّفين بين نقيضين ، بين أن يتبعوا ولاية النبي وينجّزون ما يترتب عليهم من شؤونها ، وبين أن يخالفوه عملاً بمبدأ عدم فعل الخطأ ، وهذا ما يبطل أصل الولاية لتعارض قدرة المكلّف في اتباع الأمرين معاً.

وعدم عصمة الولاية هذه سيؤدي إلى انحسار الالتزام بها ، لأنها قائمة على إرادة جزافية ، مما يغري المكلّف بعدم الطاعة ، وهذا خلاف حكمة البارىء جلّ وعلا.

وبملاحظة أن هذه الولاية مستمدّة من الله سبحانه وتعالى كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (١) وهذه الولاية لا يمكن لله أن يولّيها من لا قابلية ذاتية له في نفسه تمكّنه من الاعتصام عن الظلم ، وإلا كان الله شريك من يولّيه في ظلمه وخطئه في حال وقوعه في ذلك ، تعالى الله العدل عن ذلك علوّاً كبيراً.

كما ان الله تعالى لا يمكن أن يدخل في حزبه من يتولّى قوماً وهم من أهل الأخطاء والمعاصي ، فهو مخالف لحكمته سبحانه ، فكيف ينهى عن شيء ، ثم يثيب العاصي له في نهيه هذا (وقد نهى عن كل ذنب وخطأ) بأن يجعل له الولاية على عباده؟! وقد يكون فيهم من لم يعصه في نهيه هذا ، مما يوقعنا في خلاف آخر مع عدالته جلّت قدرته!

وحينما تكون الولاية الالهية الممنوحة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشمل الولايتين

____________________

(١) المائدة : ٥٥ ـ ٥٦.

٨٢

التشريعية والتكوينية ، (١) فما من شك أن عصمته (صلوات الله عليه وآله) تشمل كل ما يتعلق بساحة هاتين الولايتين ، لأنه لا يعقل أن يمنح الله ولايته لمن يخلّ بمتطلباتها ن لأنه سيكون بمثابة ثوابٍ على خطأ.

وتتبع هذه الآية آيات أخرى لا تقل دلالتها على ما نريد قوله ، إذ يظهر قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٢) ، وكذا قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٣) ، وعدّة آيات أخر مظهراً آخراً من مظاهر عصمة الولاية ، وذلك لأنه هنا ألزم بالطاعة ، وجعلها في طول طاعة الله سبحانه وتعالى ، ومن أمر الله بطاعته لا بد وأن يكون معصوماً ، لاستحالة أن يأمر الله بطاعة من يمكن أن يخطىء ، وسيأتيك بيانه بعد حين.

عصمة القضاء

في قوله جلّ تعالى : (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٤) نجد نفس العصمة ولكنها هذه المرة في ساحة القضاء ، فهذا الجزم في وجوب طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قضائه والذي لا يتوقف عند الصورة الظاهرية للأحكام بل تجده يمتد حتى أعماق شغاف القلوب ، لا يمكن إلا أن يكون صادراً إلا عن اطمئنان بعصمته ، لأن امتداد الأمر إلى أن لا يجدوا في أنفسهم أي حرج مما

____________________

(١) ننصح بمراجعة كتابنا : الولاية التكوينية الحق الطبيعي للمعصوم عليه‌السلام ففيه غنىّ للمستزيد.

(٢) آل عمران : ١٣٢.

(٣) النساء : ٥٩.

(٤) النساء : ٦٥.

٨٣

يقضي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويسلموا له بهذه الطريقة التي نرى توغّلها إلى القناعات الذاتية غير المهموسة ، لا بد وأن يعرب عن عصمة القاضي لأن أي خلل في قضائه ، وإن أجبر المتقاضين على الاستماع إليه والرضوخ إلى حكمه ، إلا انه لا يمكنه أن يولد هذه القناعة الذاتية الجازمة المطالب بها من يؤمن به.

عصمة الوجدان

في قوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (١) يشير الله سبحانه وتعالى في جملة ما يشير إليه إلى الطبيعة الوجدانية التي تتملك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي تدلّنا مرة أخرى على حد جديد من حدود العصمة ، فقلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يك معصوماً بالصورة التي تكون عواطفه في ما يحزنه أو يغضبه أو يؤذيه ، أو في ما يفرحه ويسعده وما ناظر ذلك لما كان هذا القلب بهذه الطبيعة من الرحمة التي لا تتوقف عند حدود شيء ، ولما رأينا تعليق الله سبحانه غضبه على من يؤذي رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومحبته على من يحبّ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما تشير إليه مفاد الآيات التالية : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (٢) ، وقوله : (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) (٣) ، وكذا قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً). (٤)

ولا يمكن توهم أن الآية الشريفة : (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ

____________________

(١) الأنبياء : ١٠٧.

(٢) التوبة : ٦١.

(٣) الأحزاب : ٥٣.

(٤) الأحزاب : ٥٧.

٨٤

يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١) تنافي هذه العصمة ، فالحديث هنا عن تمنيات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهداية الآخرين ، وهي الهداية المنطلقة من طبيعة رحمته بالعالمين بحيث يتمنى لجميع الخلق أن ينهلوا من مناهل الخير ، ولا يتمنى لهم الضلال لمعرفته بنتائج كلا الأمرين.

عصمة الشهادة

أولى الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهمة الشهادة على كل الأمم قديمهما وحديثها ، فقال سبحانه في الآية الكريمة : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هؤُلاَءِ) (٢) وقال : (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤُلاَءِ شَهِيداً) (٣) وشهادة كهذه وبهذه الشمولية لا بد وأن تكون مسداة إلى من لا يشهد بالزور ولا يخون الشهادة ولا يكتمها ، بل مثلها إنما تسدى لمن تملّكته العدالة الكاملة بحيث انه لا يحيد عنها مطلقاً ، وهو ما يطابق معنى العصمة.

عصمة التبشير والانذار

وفي هذه العصمة التي تشير إليها آيات عديدة منها الآية الكريمة : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) (٤) بنفس دلالات الآيات السابقة ، فالتبشير والانذار من مهمات الرسالة البديهية ، ولا يعقل أن لا يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهما معصوماً.

____________________

(١) القصص : ٤٦.

(٢) النحل : ٨٩.

(٣) النساء : ٤١.

(٤) البقرة : ١١٩.

٨٥

عصمة الأمانة

في الآية الكريمة يقول تبارك وتعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (١) عرضت الأمانة الإلهية التي يمثل حملها أحد الأهداف البارزة في مهمة الهداية اربانية عرض الاستعداد التكويني على المخلوقات ، وحملها الإنسان المتخلّي عن الظلم والجهل ، (٢) ويفترض ان هذا الحمل كان حملاً يتناسب مع طبيعة المؤهلات الذاتية لحاملها ، وقد التصقت هذه المؤهلات بصفتي العدالة والظلم التصاقاً ذاتياً ، فإوجدت بينهما نسبة طردية ، فبمقدار ما ينأى الإنسان عن الظلم والجهل يكون أكثر أهلية لحمل هذه الأمانة وأداء المسؤوليات المترتبة عليها ، وبمقدار ما يتخلى عن العدالة والعلم يكون عاجزاً عن حمل ذلك ، وعليه : فهذا العرض لازمه وجود المؤهل الذاتي لدى الإنسان على الحمل ، وهذا الحمل لازمه أنه لا بد من وجود جهة خاصة قادرة على النوء بمسؤوليات هذه الأمانة لأن الله سبحانه وتعالى لن يضع أمانته بيد كل من هبّ ودبّ ، إذ لا يمكن مع ذلك تحقق مقتضيات الحكمة من هذا الحمل. (٣)

وحين يكون هذا الحمل قد تمّ في صورته الكاملة ، لأنه لا يعقل أن يعرض الله عرضاً لا وجود لمتحمّله ، لأنه سيكون عندئذ عرضاً اعتباطياً ، وحاشى لله من ذلك لإخلاله الواضح في حكمته وعلمه ، فلا بد وأن يكون

____________________

(١) الأحزاب : ٧٢.

(٢) بعض السذّج قد يفهم ان حمل الأمانة كان من قبل الإنسان الظلوم الجهول ، والحال ان الله سبحانه وتعالى لا يثيب على الظلم والجهل ، ولكن هذا الإنسان قد يتخلى عن حمل الأمانة فيكون ظلوماً جهولاً.

(٣) الولاية التكوينية الحق الطبيعي للمعصوم عليه‌السلام : ١٦٥ ، جلال الدين علي الصغير ؛ دار الأعراف للدراسات ـ بيروت ١٩٩٨ ط ٢.

٨٦

من حملها هو الإنسان الكامل الذي نأى بنفسه عن الظلم والجهل وهو مفاد العصمة.

ولن تجد في سياق التربية الربانية بأفضل من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحمل هذه الامانة بصورتها الكاملة ، كيف لا؟ وهو الذي بلغ من ربّه نتيجة لمؤهلاته الخاصة ما لم يبلغه نبي مرسل ولا ملك مقرّب إذ (دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (١).

عصمة التسخير

سخّر الله جلّ وعلا ما في السموات والأرض للإنسان فقال : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٢) وعملية التسخير نجدها تنسجم فكرياً كل الإنسجام مع طبيعة الأمانة المعروضة في الآية السابقة بل يمكننا أن نفهم أن عملية التسخير هذه تمثل أحد المعطيات العملية لمسألة الأمانة ، وأيّاً كان فإن هذه العطايا التي تشمل ما حوى الكون لم تك لمجرد : الهبة والعطاء والإنعام المجرد من الغاية ، بل تظهر خاتمة الآية الكريمة : (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) تداخل هذه المنح والإيتاء مع مسؤولية المكلّف في هذا الكون ، فلا معنى لوجود كلمة الظلوم إلا في مصاف الحديث عن دور هذا المكلّف في هذا الوجود.

وهذا الأمر إذ يعكس وجود القابل الإنساني لاستيفاء مهام التسخير ،

____________________

(١) النجم : ٨ ـ ٩.

(٢) إبراهيم : ٣٢ ـ ٣٤.

٨٧

فإنه يقضي : بوجود المسخّر الإنساني الشامل الذي يكون مصداقاً إنسايناً لبقية الخلق بإمكانية التسخير من جهة ، وحجة على عالم التكليف بواقعية النعمة الربانية الشاملة التي لا تحصى من جهة ثانية. (١)

وهذا بدوره يقضي بضرورة أن يكون هذا المسخّر الإنساني معصوماً لخصيصتين ، أولاهما تتعلق بالشرط الإلهي الظاهر في آخر الآية وهو أن يكون بعيداً عن الظلم والكفر ، وثانيتهما : لكي لا تخرج عملية التسخير عن أهدافها الربانية ، لما يمكن لهذا الخروج أن يتسبب بدمار الكون ، مما سيوصلنا إلى نفس النتيجة التي حصلنا عليها في مسألة الامانة ، حيث سترتبط عملية التسخير بطبيعة المؤهل الذاتي المعصوم من الظلم والكفر الذي يتمتع به هذا المصداق الإنساني.

* * *

إن هذه الأنماط من العصمة التي قد تتداخل بعض مفرداتها ببعض من حيث التبعية ، (٢) والتي لم نجتهد في استقصاء كل ما ذكره القرآن الكريم في هذا المجال ؛ تظهر سذاجة المتحدّثين بجزئيتها وشمولها لبعص مناحي عمل المعصوم عليه‌السلام وعلمه دون مناح أخرى ، فنحن لو جمعنا هذه الحدود ضمن دائرة واحدة لرأينا ان هذه الدائرة أوسع بكثير من أن تنحصر بدائرة التبليغ أو دائرة الكبائر أو دائرة اليقظة لتذر ما عداها خارج دائرة العصمة كما يشترط ذلك بعض المتكلّمين من مدارس العامة ، بل نجدها تشمل كل مساحة النشاط الإنساني ، خاصة إذا ما ربطنا كل ما ذكرناه ، مع ما توصّلنا إليه في الفصل الأول من هذا الكتاب حيث عرفنا كيف تتداخل ذات

____________________

(١) الإمامة ذلك الثابت الإسلامي المقدّس : ١٨٧ ـ ١٨٨.

(٢) من الناحية الموضوعية فإن عصمة الولاية تشمل عصمة القضاء ، وعصمة الأمانة تشمل عصمة التسخير ، وإنما فصلنا بينهما لدواعي الإيضاح.

٨٨

المعصوم عليه‌السلام مع رسالته ، بالصورة التي تصعب إمكانية التفكيك ما بينهما وتجعلها كالمستحيلة.

٨٩

امتداد العصمة

أظهر البحث في حدود العصمة المساحة الأفقية التي يتمدد بها بساط العصمة أن المعصوم الواحد يتمتع في آن واحد بعصمة العلم والتشريع وعصمة الولاية وعصمة الأمانة وعصمة التسخير وغيرها بالصورة التي تظهر شمولية عصمته ، ويتبقى علينا أن نبحث عن المساحة الزمنية للعصمة ، وبكلمة أخرى يتوجّب علينا التساؤل عن مدى صلاحية العصمة للامتداد الزمني ، ففي ما سلف كان المبحث يركز على المقام أكثر من تركيزه على شخص ، فهل ان العصمة ترتبط بهذا المقام حتى إذا ما غاب الشخص امتدت مع من يحتل محلّه؟ أم أنها وقف على ذلك الشخص بحيث إنه إذا ما غاب غابت معه العصمة ومن ثم ليغيب معه المقام؟.

وهذا البحث رغم انه من المباحث الجوهرية التي تجابه الباحث في العصمة ، إلاّ ان الملاحظ ان العديد ممن تحدّثوا فيها لم يعطوه جانباً من الاهتمام الذي يستحق ، واكتفى بعضهم بالاشارة السريعة إلى منعه مدّعياً توقف مسألة العصمة على الوحي النبوي ـ كما مرّ معنا من قبل ـ أو على حجّية ما يحمله من الرسالة (١) ، ولكن مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام أولت هذا الأمر أهمية بالغة لتعلّقه بإمامتهم (صلوات الله عليهم أجمعين).

والمتأمّل في حقيقة الحال يجد أن ثمة لازمين منسجمين يؤدي أحدهما

____________________

(١) المغني ٢٠ / ١ : ٧٥ للقاضي عبد الجبار الأسدآبادي المعتزلي (ت ٤١٥ه) تحقيق : د. عبد الحليم محمود و د. سليمان دنيا ؛ الدار المصرية للتاليف والترجمة ـ القاهرة.

٩٠

إلى الآخر : أحدهما لازم عقلي ، والآخر لازم قرآني ، هذا في حال استبعادنا لما يلزمنا به الحديث النبوي الصحيح ، (١) فأما اللازم العقلي فمبني على إن الهدف الربّاني وهو تعبيد الخلق إليه قائم على طرفين متلازمين لا يغني أحدهما عن الآخر :

أولهما : الكتاب الإلهي المرسل.

وثانيهما : الجهة التي تعمل على تفسير وتوضيح هذا الكتاب ، وتعنى بإجرائه وتشرف عليه ، وتسهر على العمل بمقتضياته وما يترتب على ذلك ، بحيث تكون هذه الجهة هي الحجة في مابين الخالق وعباده ؛ مرة على الكتاب ، وأخرى على إمكانية تطبيقه ، ومن دون ذلك فالاحتجاج بعدم وضوح الحجة الربانية ، ودعوى عدم إمكان تطبيقها يبقى قائماً.

كما إن خلو ساحة الخلق من النموذج الأسوة يمثل في أحد جوانبه التكليف بما لا يطاق ، فالعملية التربوبية ليست قراراً يصدر ، وعلى الجميع تنفيذه ، بل هي عملية هداية تحتاج إلى من يحمل النور الإلهي ليدلّ الخلق عليه.

وهذه الحقيقة هي التي استدعت أن يتصاحب الكتاب المُرسَل والنبي الحامل له دائماً ، وهي التي منعت من أن تنزل الملائكة لتبلّغ الخلق بالإرادة التشريعية للرب المعبود.

ومن الطبيعي بمكان أن نتساءل عن كيفية تحقيق متطلبات هذا الهدف

____________________

(١) لم نستبعد هذا اللازم المبني على الحديث النبوي الصحيح والمتواتر لعدم أهميته والعياذ بالله ، بل استبعدناه لأغراض إلقاء الحجة القاطعة بعيداً عمّا تسببه العصبية الطائفية في هذا المجال من إرباك متعمّد للأخذ بسنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث ترينا هذه العصبية من التمحّلات العجيبة سواء على مستوى الجزافية في قبول الأحاديث وردّها ، أو على مستوى تأويل الحديث عند الكتّاب والمصنّفين ما يذهل له عقل الأريب! على إننا سنعود إليه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

٩١

الرباني ولوازمه؟ ومما يبدو فإن ذلك سيضعنا أمام أحد الاحتمالات التالية :

١ ـ فإما أن يبعث الله بكتاب يوضح فيه كل ما دقّ ، ويبيّن فيه كل ما يلزمهم في كل الشؤون المتعلقة بهذا الهدف ، ويكون عرضه هذا كله على مستوى المحكمات والبعد عن التكلّم بالمتشابهات التي يمكن أن تضع الخلق في شك من حقيقة المراد الإلهي.

وهذا الاحتمال ساقط بداهة لأن الكتب الربانية وإن عُنيَت بتوفير كل مستلزمات هذا الهدف ، ولكنها عرضت لهذه المستلزمات على طريقة المحكم والمتشابه ، بحيث يمكن أن يؤدي هذا العرض بالذين في قلوبهم مرض أو في عقولهم جهل إلى الضلال والفساد والبعد عن حقيقة تأويل هذا الكتاب.

٢ ـ وإنا ان يديم الله حياة الرسول إلى أزمان بعيدة جداً بحيث يوضّح فيها كل مستلزمات الحجة الإلهية ، ويحرص على تحقيق الهدف الرباني ، ولازم هذا الاحتمال أن يمدّ بعمر الخلق أيضاً.

وهذا الاحتمال ساقط أيضاً ، وليس أدلّ عليه من تجربة نوح عليه‌السلام الذي استمر به العمر قروناً متمادية ، ولكن كانت النتيجة هي عذاب الطوفان كما يعبّر عن ذلك القرآن الكريم (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) (١).

٣ ـ وإما أن يرسل الرسول ليؤدّي دور المبلّغ الإلهي ، ثم يتمّ دوره بمن يكون في سلوكه وعلمه ما يمثل حاله امتداد طبيعية لهذا الرسول ، ويكون دوره مماثلاً لدور الأنبياء المتعاقبين واحداً بعد آخر.

وإذا ما كان هذا الاحتمال هو المتعيّن وهو ما يدلّ عليه اللازم القرآني الذي سنشير إليه ، ولا يمنع منه الاستقراء التاريخي ، فإن الحديث يعود بنا

____________________

(١) العنكبوت : ١٤.

٩٢

إلى تفحّص مؤهلاته من حيث الصدق والكذب ومن حيث الانسجام الكامل مع الرسالة ، فإن قلنا بإمكانية كذبه وعدم انسجامه مع الرسالة عدنا إلى ما كنّا قد انتهينا منه من القول بضرورة تلازم التبليغ الرسالي مع صدق المبلّغ وانسجامه مع رسالته ، فإن احتاج الرسول إلى العصمة للضرورة كان هذا الآخر محتاج هو أيضاً إليها لنفس الضرورة.

وهذا الحال هو ما يدلّنا عليه نفس اللازم القرآني ، وذلك لأنه دلّ في كل مرة تحدّث فيه عن دور النبي الرسالي على وجود تابع له نفس مواصفاته ، تمتد به مسيرة الرسالة ، فحينما طرح القرآن أمر إكمال الدين وإتمام النعمة ويأس الكفر من إلحاق الأذى والضرّ بالدين في قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً) (١) لا بد لنا في البداية أن نتساءل عن طبيعة الحدث الذي حدث بالشكل الذي عبّر فيه الله سبحانه وتعالى بهذه القاطعية عن تمام الدين وإكمال النعمة ويأس الكافرين ، وهو حدث ليس من السهل الذي يمكن لنا أن نستهين به ، فنمرّ عليه مرور الكرام ، أو يمكن أن يستهين به الله جلّ وعلا ، فلا يعرضه في قرآنه الكريم. كيف لا؟ وقد علّق كل مهمة الهداية الربّانية به ، ولهذا فلا بد لنا أن نبحث عن معادل له نفس القيمة في هذه المهمة.

وفي الواقع فإن المرء لا يجد ما يمكن أن يحلّ به هذا اللغز بقدر هذه الآية الكريمة : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (٢) ففي هذه الآية تجد أن الله قد رهن كل عملية التبليغ الرسالية بحدث معيّن ، بمعنى أن حدوثه سيؤدي إلى إتمام أغراض هذه العملية ، وما من ريب أن إتمامها هو

____________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) المائدة : ٦٧.

٩٣

إتمام للدين وإكما للنعمة ، وهنا لا نريد أن ندخل في طبيعة الحدث وماهيته (١) ، ولكن ما يهمنا هو أن الحجّة الربانية لم تتعلق بهذا الكتاب وحده ، كما انها لم تتعلق بالرسول وحده ، فمن المعلوم أن الآية كانت من جملة أواخر الآيات التي نزلت من القرآن الكريم ، وقد نزلت بعدها بضع آيات أخرى.

وهذا يعني أن المعني بإكمال الدين ليس هو الكتاب ، إذ إن قوله تعالى بإكمال الدين إن ارتبط بالكتاب ، فإنه سيخرج عنه الآيات التي نزلت بعد هذه الآية ، وهذا يستلزم القول بوجود زيادة في القرآن الكريم هو مما لا يرضى به أحد.

وهو يعني أيضاً أنه ليس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإننا لو قلنا بأن الآية ربطت عملية الإتمام بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالآية نزلت في أواخر حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعلام يهدده القرآن كل هذا التهديد الذي يصل به الحد إلى اعتبار حياته السابقة وكأنها بلا قيمة رسالية ، إن لم يبلّغ هذا الأمر الذي به تمام الدين ويأس الكفر؟!

وهذا ما يصل بنا إلى تأكيد القول بأن ثمة امتداداً ربانياً للرسالة غير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما يبقى علينا ملاحقته هو ملاحظة العصمة في هذا الجانب ، فهل يوجد امتداد زمني للعصمة لا يتوقف عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدلالة القرآنية؟!

ولو لاحظنا آيات العصمة لوجدناها مع تأكيدها على وجود هذا الامتداد الرسالي ، فإنها تؤكد في نفس الوقت عصمته ، وتتحدّث عنه بنفس الطريقة التي تحدثت فيها عن عصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي إنها أجملت وعمّمت في مكان ، وفصّلت وخصّصت في آخر ، ففي آية التطهير (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ

____________________

(١) يمكن مراجعة أسباب نزول الآية في كتابنا : القائد .. القيادة والانقياد في سيرة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : ١٤١ ـ ١٥١ ؛ دار الزهراء ـ بيروت ١٩٨٨ ط ١.

٩٤

لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١) نراها تعرض للأمرين معاً ، حيث تؤكد عدم توقف وجود العصمة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل نراها تمدّ بهذا الوجود إلى خارج هذه الدائرة ، أياً كان المراد بأهل البيت عليهم‌السلام ، (٢) فإنها تتحدث عن هذا الامتداد الربّاني ، فإرادة الله بعصمة أهل البيت عليهم‌السلام حينما تعلّقت بجهة غير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا بد من سبب لذلك ، فهي ليست إرادة عابثة ، وكونها هادفة فإن هدفيتها لن تخرج حتماً عن نفس الهدف الرباني المتعلّق بإرسال الرسل والأنبياء عليهم‌السلام.

وتظهر لنا الآية الكريمة : (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (٣) تجلّياً واضحاً لحقيقتي الامتداد والعصمة ، فوجود الهادي لكل قوم تظهر أحقية هذه الأقوام بوجود هذا الهادي ، لأن عدم وجوده يمكن أي كون حجة في ما بينهم وبين الله سبحانه وتعالى ، فلقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوة لمن رافقه وصاحبه ، وبمقدار ما نقل عن سلوكه وحديثه فهو أسوة لمن بعده ، ولكن ما خفي من حياته (صلوات الله عليه وآله) كان هو الأكثر ، ولهذا فمن حق الأمم اللاحقة أن تسأل عن سبب محروميتها واستثنائها منالقاعدة التي التزمت بها عملية الهداية الربانية تجاه الأقوام السابقة لعهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث كانت ترتع ما بين نبي وإمام؟!

أقول : إذ تظهر هذه الآية الامتداد الرسالي فإنها تظهر عصمة هذا الهادي أيضاً ، فأيّ هداية يمكن تصوّرها والهادي ليس من أهل العصمة؟! وكيف يمكن للأمة أن تتبعه وهو يعيش بين ظهرانيها بخطئه وذنوبه؟! وإذا

____________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

(٢) ما كتب في أسباب نزول آية التطهير كثير جداً ، وأنصح بالرجوع إلى ما جادت به يراع الأخ الجليل الحجة السيد علي الحسين الميلاني في عدد من كتبه في هذا المجال ، وسيأتي المزيد من التفصيل عن هذه الأسباب ودلالاتها في متون هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

(٣) الرعد : ٧.

٩٥

كان ذلك محال ؛ فمما لا شك فيه أنه معصوم.

وتظهر لنا الآية الكريمة : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (١) نفس الصورة التي رأيناها في الآيتين السابقتين ، فهي تحدد جهة غير جهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كامتداد رسالي له نجد سماته بارزة في طبيعة نعتهم بأهل الذكر ، وحينما يطلق أمر السؤال يظهر لنا أن المسؤولين لا يمكن أن يخطئوا في أجوبته ، وإلاّ لما أمر بالرجوع إليهم ، وبالتالي فقد قدّمهم بعنوانهم مرجعية لطالبي العلم الإلهي في حال غياب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه يظهر السذاجة الفكرية لدى الذين يحاولون أن يظهروا أن أهل الذكر هم علماء أهل الكتاب ، فالقرآن الذي نعت أهل الكتاب لا سيما علماءهم بأشد النعوت المنافية للهدى ، ووصفهم بأبعد الصفات عن الذكر ، واتهمهم بتحريف الكتاب والضحك من الناس كما يظهر في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (٢) كيف يمكن أن يجعلهم مرجعية للعلم المرتبط بعملية الهداية الربانية؟! ساء ما يحكمون!.

كما ترينا الآيات الكريمة في سورة الإنسان : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ

____________________

(١) النحل : ٤٣.

(٢) التوبة : ٣٤.

٩٦

رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً * إِنَّ هذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) (١) حتمية أن تكون الجهة الممدوحة هنا بكل هذه الأوصاف الرائعة الجمال ، والمبالغة في الثناء من جهة معصومة ، فإطعام الطعام وبقية الأعمال المشار أليها يمكن أن يبادر إليها أي إنسان مؤمن ويبقى مصيره دائر بين الخوف والرجاء خشية تقلّب القلوب ، ولكن هذا المديح البالغ ، والثناء السامق ، والوعد القاطع لهم بالجنة ، وهو وعد سابق للحساب ، مما يشير حتماً إلى أن من مدح بالآيات لا يرتكب عملاً يتعارض مع دين الله في صورته الكمالية ، فاستحق هذا المدح ولما يزل حيّاً في الدنيا.

هذا على مستوى الإجمال أما على مستوى التفصيل فسنجد أن جميع الآيات التي رأيناها تتحدث عن عصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حدودها التفصيلية ، قد قرنت هي او مثيلاتها إلى جنبه جهة أخرى تماثله في عصمته ، فآية (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبَابِ) إذ لا تحصر علم التأويل في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن آية : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) (٢) بعد ان أظهرت تطابق علم «من عنده علم الكتاب» ، مع علم «الراسخين في العلم» فإنها أظهرت في نفس الوقت المرادف الآخر لعلم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٣)

وآية الولاية (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (٤) التي دلّتنا في ما دلّتنا عليه على عصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ولايته ، فإنها قد قرنت إلى جنبه امتداداً

____________________

(١) الإنسان : ٨ ـ ٢٢.

(٢) الرعد : ٤٣.

(٣) أنظر تفصيل الحديث عن هذا الموضوع في كتابنا : من عنده علم الكتاب؟ (١٩٩٨).

(٤) المائدة : ٥٥ ـ ٥٦ وأنظر أسباب نزولها في كتابنا : القائد .. ص ١٢٠ ـ ١٢٨.

٩٧

طبيعياً في شأن هذه الولاية هو جهة (وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) ، وأظهرت من ثم تطابق عصمة هذا الإمتداد في ولايته أيضاً مع عصمته الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومثلها آية اولي الأمر : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (١) فإنها في الوقت الذي ألزمت المسلمين بطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتبارها تجلياً لطاعة الله سبحانه ، فإنها قد قرنت بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله جهة أخرى تمثل امتداداً له وهي جهة «أولي الأمر» ، ولم تفرّق بينه وبينها فيا لإلزام بالطاعة ، وهذا الإلزام هو نفسه الذي يدلّنا على عصمتهما ، إذ لا يعقل أن يأمرنا الله بطاعة جهة على أي حال دون أن يكون قد ضمن عصمتها من الخطأ ، ولهذا تجد الفخر الرازي في تفسيره للآية يقول : إن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوماً عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ قد امر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهي عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وإنه محال ، فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أن كل من أمر الله تعالى بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ فثبت قطعاً أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون معصوماً. (٢)

____________________

(١) النساء : ٥٩.

(٢) تفسير الرازي ١٤٨ : ١٠ للفخر الرازي (ت ٦٠٤ هـ) ؛ دار الفكر ـ بيروت ١٩٩٠.

ورغم صواب هذا القول وأحقيّته إلاّ إنه أسفّ اسفافاً شديداً في تشخيص هوية هذا المعصوم ، فلقد أولجته عصبيته المذهبية إلى محاولة الولوج في ما لا يولج ، فعرّف هذا المعصوم بأنه أريد به الأمة ، ولم يشخّص ماهية هذه الأمة ، ومن ينتمي إليها ، وهي في عصره قد تمزقت أوصالاً قدداً كل يدعي العصمة لنفسه دون غيره!!.

وفي الوقت الذي أجمعت الإمامية على اختصاص الآية بالمعصومين ، إلاّ ان محمد =

٩٨

ومثل هذه الآيات في دلالتها على وجود الامتداد الرسالي ، وعصمة هذا الامتداد نجد الآية الكريمة : (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (١) تسير بنفس الاتجاه ، فهي تشخّص وجود امتداد رسالي آخر بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ لا يمكن فهم هذه المودة بعيداً عن الهدف الرباني.

وغني عن البيان ان الآية ليست في صدد تبيان أحقية كل قربى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه المودة ، فحيث إنه تحدّث عن زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلهجة

____________________

= حسين فضل الله ذهب بعيداً ـ كعادته في أمور كهذه ـ ففي الوقت الذي عزا سبب نزولها إلى أمثال خالد بن الوليد كأمير لسرية من سرايا المسلمين مورداً رواية عامية أكّد ضعفها ، إلا إنه قال بأن فكرتا العامة صحيحة ، مستنتجاً أن الأمر الإلهي بالطاعة لا يفرض عصمة الشخص المطاع ، وبعد أن استبعد الأحاديث الواردة في هذا المجال رأى بأنه لا يستطيع : اعتبار الأمر بالطاعة دليلاً على تعيين المراد من أولي الأمر بالمعصومين.

ثم عاد ليخفف من لهجته ليدعي : أن من الممكن السير مع الأحاديث التي تنص على إن المراد من أولي الأمر الأئمة المعصومون مع الالتزام بسعة المفهوم. «من وحي القرآن ٣١٩ : ٧ ـ ٣٢٥ ؛ محمد حسين فضل الله ؛ دار الملاك ـ بيروت ١٩٩٨ ط٢».

ولسنا في معرض الرد على هذه المزاعم التي لا تقوى أمام ظهور الآية في الجزم بطاعة أولي الأمر ، وجزم كهذا لا بد وأن يكون مبنياً على عصمة الجهة المطاعة ، إلا إننا لا نجده يوضح الأسباب التي ردّ بها الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام في شأن تفسير الآية ، رغم أن صحة هذه الروايات ودلالتها مما لا يناقش فيها أصحاب الاختصاص العلمي.

ولمتابعة تفسير الآية ننصح بالرجوع إلى كتابينا : القائد .. القيادو : ٥٩ ـ ٨٥ ، ومبحث إمامة السياسة والحكم في كتابنا الإمامة ذلك الثابت : ١٣٥ ، ففيهما تفصيل لا يستغني عنه المستزيد.

(١) الشورى : ٢٣.

٩٩

الحديث عن أي شخص يخطىء ويصيب كما في قوله تعالى : (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (١) فإنه لا يريد بالمودة هنا كل قربى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله رغم ما في زوجات الرسول من قربى قريبة ، وذلك لأن المودّة المفروضة هنا تشير إلى عصمة من طولبنا بمودتهم ، إذ لا يعقل أن الله الذي يخاطبنا بخاطبين مختلفين في شأن عواطفنا ، فينهانا عن موادة الذين حادّوا الله ورسوله حتى لو كانت قرابتهم من أمسّ القرابات كما يتبيّن من قوله تعالى : (لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢) بناء على مقتضيات الرسالة ، ثم يأمرنا بموادّة جهة اخرى بعيداً عن هذه المقتضيات ، وحينما يكون القربى عدلاً للرسالة ، فإن كيانهم كامتداد رسالي يكون كياناً ثابتاً لا محالة ، ومثل ما وجدنا هذا الامتداد ، فإننا نلحظ العصمة هنا تسير معه كصنوان لا يفترقان ، فالأمر بالموادّة هنا جاء مطلقاً ، وهذا الإطلاق في الأمر المعادل للرسالة أيضاً نجد فيه ما وجدنا في غيره من الآيات من أن الأمر المطلق بالموادّة يعكس حتماً عصمة المطلوب موادّتهم ، إذ لا يخلو الأمر من أن يخطىء هؤلاء فيكون أمر القرآن قد تناقض مع الآية التي تنهانا عن موادّة الذين يحادّون الله ورسوله ، ولا ريب أن كل خطأ مهما صغر هو محادّة وإن تضاءلت درجتها.

____________________

(١) الأحزاب : ٣٠ ـ ٣٣.

(٢) المجادلة : ٢٢.

١٠٠