عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

الشيخ جلال الدين علي الصغير

عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

المؤلف:

الشيخ جلال الدين علي الصغير


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأعراف للدراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

يحيف على مثل رسول الله بهذا الظلم الفادح.

د ـ وتبقى مسألة فلسفية في الموضوع ، فالقرآن تحدّث عن الإلقاء الشيطاني بعنوانه ارادة خاصة للشيطان ، ولم يطرح هذه الارادة بالشكل الذي لا يتخلف ، بل العكس هو سياق القرآن الذي رأى في هذه الارادة الضعف الذي أشارت إليه الآيات السابقة ، وأياً كانت صورة هذه الارادة فهي لا تلتقي بالضرورة مع ارادات الآخرين ـ أيّاً كانوا ـ ، فهي ارادة مستقلة عن ارادات الآخرين وبالنتيجة فقد تصيب التأثير ، وقد تتخلّف عنه ، وقد لا تلتقي بالمطلق مع تلك الارادات ، بينما القرآن يتحدّث هنا عن جهد شيطاني متلازم مع أمنيات الأنبياء والرسل ، فإن قلنا بأن هذه الملازمة ناجمة من وجود سلطان للجهد الشيطاني على ارادة هؤلاء الذاتية ، فقد تقوّلنا بما لا دليل عليه ، بل الدليل قائم على خلافه لما تقدم في مواضفات الجهد الشيطاني وخصائص النبي ، وإن قلنا بأن هذه الملازمة ناجمة عن جهد تجاه ما يريد هؤلاء الأنبياء تحقيقه ، فهو امر طبيعي إذ إن هذا هو شأن الكيد الشيطاني ، وبه يكون كلام هذا الرجل لا معنىً له أبداً.

ه ـ ومن الحق مساءلة فضل الله عن دور الوحي في شخصية الرسول الذي لا يجد فيه فضل الله تلك المواصفات والمؤهلات التي تمكنه من التغلب على كيد الشيطان الضعيف؟ فهل هو دور تسديد بعد الوقوع في الخطأ؟ أم هو دور عاصم له من الوقوع في الخطأ ، فإن قال بأنه يسدده بعد وقوعه في الخطأ فقد كذّب نفسه أو كذب على غيره حين قال في ردّه على أجوبة الميرزا التبريزي (مدّ ظله الشريف) بشأن الخطأ النبي في التبليغ الآيات المتقدم ذكره حين قال بأنه أراد من قوله ذاك أن يبرهن على خطأ الاستدلال (١) ، لا خطأ الفكرة وهي ضرورة العصمة في التبليغ بالدليل

____________________

(١) وهو استدلال العلامة الطباطبائي (أعلى الله مقامه) حول العصمة في التبليغ.

٣٨١

العقلي. (١)

وإن قال بأنه عاصم له من الوقوع في الخطأ ، فقد ناقض نفسه بنقضه لتفسيره لهذه الآية! فأي عصمة هذه التي جعلت ذات الرسول مرتعاً لتلاعب الشيطان؟! ولا ينفعه الادعاء بأنه لم يشر إلا لشيء ما يخطر في البال ولكنه لا يثبت في النفس ، بل يطفو على سطح بعض الممارسات ثم ينتهي بشكل حاسم! لوضوح ان ما جاز قليله أمكن كثيره. فلا تغفل!!

جبرية العصمة!

ويجرنا هذا الحديث إلى مساءلته عن طبيعة دور هذا الوحي العاصم ، وسنجد انه يبرر ذلك بتبني فكرة «جبرية العصمة» الذي نلاحظ في البداية غربتها التامة عن الفكر الإمامي ، وفي هذا الصدد تسمعه يقول : المعصوم ينطلق بارادته نحو الطاعة ، ولكن إذا أراد أن يعصي فإن الله يعصمه في ذلك عندما تتوفر له ظروف المعصية فإن الله يخلق له حواجز تصده عن هذه المعصية. فليس معنى العصمة انه هنا لا يملك الاختيار بل هو يملك أن يفعل ، ولكنه عندما يتوجه الضعف البشري في نفسه ، فإن الله يتدخل ، فالله قد يعصمه من ناحية داخلية ، وقد يعصمه من ناحية خارجية ، لذلك فإن الحتمية التي نقول بها لا تسلب عنصر الاختيار ، لأن الحتمية إنما تأتي في الجانب السلبي فهو يندفع إلى الطاعة بكل ارادته وبكل إيمانه وبكل معرفته بالله ، ولكن إذا انطلقت نقاط الضعف البشري في نفسه ، فإن الله يعصمه منها إما بطريقة وقائية بأن يزرع في نفسه ما يعتصم به ، أو أن يحدث هناك شيئاً يعصمه من الوقوع في الخطأ ، بحيث ينطلق فيه بشكل ارادي. (٢)

____________________

(١) انظر رده على جواب الشيخ التبريزي (أيده الله بتأييداته) على سؤالنا الثالث في مجموعة ردوده الصادرة في ١١ / ج٢ / ١٤١٧ ص ٢.

(٢) فقه الحياة : ٢٧٢ ، وفي رحاب أهل البيت : ٤٠٨.

٣٨٢

وفي موضع آخر قال : ما هو المانع من اختيار الله بعض عباده ليكونوا معصومين باعتبار حاجة الناس إليهم في ذلك ، وما هي المشكلة في ذلك انطلاقاً من مصلحة عباده ، وإذا كان هناك اشكال من ناحية اسحقاقهم الثواب على أعمالهم إذا لم تكن اختيارية لهم ، فإن الجواب عليه هو أن الثواب إذا كان بالتفضّل في جعل الحق للإنسان به على الطاعة لا بالاستحقاق الذاتي ، فلماذا لا يكون التفضل بشكل مباشر إذ لا قبح في الثواب على ما لا يكون بالاختيار ، بل القبح في العقاب على غير المقدور. (١)

وقال : إننا نتساءل انه إذا كانت المعصية تنطلق من حالة اختيارية ذاتية فكيف يمكن أن يكون معصوماً وهو في بداية الطفولة؟

واستعان بعد ذلك بمن يقول في تبرير هذا النمط من العلم بأن الله قد أعطاه مرتبة من العلم توجهه في درء المعاصي ، فيعمد فضل الله للمشابهة بين ذلك لينتهي إلى القول : أي فرق بين الحتمية حينما تكون بشكل مباشر أو تكون بواسطة بأن يعطيه الله شيئاً لم يعطه لغيره مما يمنعه من المعصية. (٢)

ونقاش هذه الأفكار يستلزم تفكيكها ، فبحث جبرية العصمة يختلف عن مبحث طبيعة الاستحقاق ولوازمه ، وعن مبحث العصمة في زمن الطفولة ، وإن تعلق الجميع من وجه بمبحث العدل الإلهي ، ومبحث جبرية العصمة نناقشه مرة بطبيعة توافقه مع الدليل القرآني ، وأخرى في ضوء الأحكام العقلية ، وسنجد أن الطريق أمام نفاذه من كلا الطريقين مغلق تماماً ، ففي ضوء القرآن نجد في البداية أن لا دليل في الآيات القرآنية يدلّ على هذه الجبرية ، بل العكس هو الصحيح ، إذ ان جملة الأوامر القرآنية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

____________________

(١) مع الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد ؛ مجلة الفكر الجديد ؛ العدد التاسع ص ٦٢.

(٢) فقه الحياة : ٢٧٣ ، وفي رحاب أهل البيت : ٤٠٩.

٣٨٣

ولبقية الأنبياء عليهم‌السلام تثبت خيار الارادة لديهم ، فقوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (١) في الوقت الذي يثبت فيه عدم تغلغل أي نمط من انماط الشرك إلى المرسلين الذين يوحى إليهم ، فهو يحمل دلالة واضحة على وجود الخيار الارادي في سلوكياتهم ، وإلا لما كان في الكلام معنىً ، فالمجبر لا يقال له لا تفعل ، ولا يهدد على فعل أمر ما ، إلا مع وجود حالة الاختيار التي تبيح له امكانية عصيان الأمر ، فالآية الشريفة في الوقت الذي تبرز نتائج الاشراك الوخيمة ، فهي تتحدّث في نفس الوقت عن الامكانية الفعلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذين من قبله عليهم‌السلام ، لو أرادوا أن يشركوا ، إذ مع انتفاء هذه الامكانية ينتفي معنى الحديث عن هذه النتائج ، فلو أوثقنا إنساناً ما في حبال ، وربطناه وهو موثّق بوتد حديدي مثبت في أرض ضخرية بشكل لا يمكن معه من الحركة والفعل ، فهل سيبقى من معنىً لكلامنا له بأنه لو تحرك من مكانه فسينال العقاب الكذائي؟!.

وقوله سبحانه وتعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٢) هو الآخر مع اثباته عدم تقوّل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمثل هذه الأقاويل ، فإنه يبرز خيار الاختيار الارادي عنده ، فأي معنىً لمن ربط على لسانه أن يهدد بعدم التقوّل ، وإلا لفعل به الأفاعيل؟!

وقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (٣) هو الآخر يبرز نفس هذه الدلالة ، فلولا امكانية عدم الفعل ، لما قيل له افعل ، ولولا قدرته الارادية على التخلي عن التبليغ وكتمانه لما أنذر الانذار الذي حملته الآية الشريفة.

____________________

(١) الزمر : ٣٩.

(٢) الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦.

(٣) المائدة : ٦٧.

٣٨٤

وهكذا بقية الآيات الكريمة التي تتحدّث عن الأوامر الخاصة الموجهة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن سلف من النبيين عليهم‌السلام ، ومعه فإن الادعاء حول جبرية العصمة ضمن النص القرآني ادعاء بلا دليل ، يبرز قلة معرفة القائل به بالنص القرآني ودلالاته!

وبطبيعة الحال فإن المقتضى العقلي ينسجم تماماً مع التزامات النص القرآني ، وبالتالي فهو يؤكد اختيارية الارادة لدى المعصوم ، وذلك لأنه لو كان مجبراً في فعله فيسترتب على ذلك جملة من التناقضات التي تفضي إلى القدح بالعدالة الإلهية ، فمن جهة سوف لن نستطيع تبرير عصمة الله لشخص ، وحرمانه آخر! فعصمة من هذا القبيل سوف لا تكون مرهونة بمرجحات ، وعدم اتهانها بمرجحات ، يعني عبثية الارادة الالهية ، لأن المسلّم عند العقلاء أن ترجيح أمر ما ، لا بد وأن يرتهن بمرجّح يسوّغ ميل الارادة الفاعلة إليه دون غيره ، وإلا الاختيار الارادي عند ذلك سيكون عابثاً بلا هدف ما ، وهذا مما لا يمكن توصيف الفعل الإلهي به.

ومن جهة أخرى يكون المثال الرسولي مثال طوباوي خيالي ، فالمعصوم بالاجبار لا تبقى لديه أية فضيلة فهو مثل الروبوت الآلي الذي لا قيمة فيه بمعزل عن الأجهزة التي تحركه ، مما يجعل فضيلته الظاهرة هي فضيلة من يحركه بشكل واقعي ، ولهذا فإن منطق التأسي والاقتداء المطروح في القرآن سينتفي ، فلا تأسي بآلة ، ولا اقتداء بمجبور ، بل العكس هو الصحيح ، فغير المعصوم سيكون بامتناعه عن الفعل المحرم أفضل من المعصوم بالاجبار عن ذلك الفعل!! بل سيكون الظلم الإلهي فادحاً!! حينما أعطى المجبر الذي لا يملك من فعله أي شيء مقاماً محموداً وجعله شفيعاً مشفّعاً وأحاطه بكل العلوم علماً ، وأشهده على من ذرأ وبرأ ، وحرم المقبل على ترك معصيته طوعاً مع رغبة نفسه فيه وتزيين الشيطان المعصية له من كل ذلك ، فبالله عليكم هل ثمة عقل في هذا المنطق؟! أنبئوني إن كنتم تعقلون؟!!

٣٨٥

ثم أي دلالة يريد أهل هذا المنطق أن يسوّقوها في وسط الفكر الإسلامي ، فهل يريدون القول بأن الله لم يجد في البشر فضيلة تجعلهم يتخلصون من الكيد الضعيف للشيطان ، ويندفعون لمتطلبات العشق الإلهي تاركين أهواءهم النفيسة الدنيوية وراء ظهورهم لأنهم رأوا في الأهواء الأخروية غنىً؟!

أم يريدون القول بأن النفس البشرية التي خلقها الله سبحانه وتعالى تركها دون لطف منه ودون هداية فاستولى عليها الشيطان فاحتاجت إلى عاصم يجبرها على الفعل والترك؟!

والحديث عن الاستحقاق بالتفضل لا يحلّ هذه المشكلة ولا ينهيها ، بل يضاعفها ، فهو يجعل الثواب والعقاب مرتهن بارادة جزافية على طريقة مذهب الأشاعرة ، فالاستحقاق وإن كان تفضلاً من الله أساساً ، ولكن الله سبحانه وتعالى ألزم نفسه بأن لا يساوي بين المؤمن والفاسق والعالم وغيره كما يظهر من قوله تعالى : (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ) (١) وقوله تعالى : (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢) ، وقوله تعالى : (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) (٣) ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تشير إلى أن مبدأ المفاضلة وفق مؤهلات الأشخاص وصفاتهم كما في قوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) (٤) ، هو مبدأ متسالم عليه في القرآن كما هو الأمر عند سائر العقلاء.

وتبقى مسألة العصمة في حال الطفولة ، إذ نجد انها هي الأخرى لا

____________________

(١) السجدة : ١٨.

(٢) فصّلت : ٤٠.

(٣) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ١٤.

(٤) الزمر : ٩.

٣٨٦

دلالة فيها على ما يدّعيه ، فمع تأكيدنا على عصمة المعصوم عليه‌السلام منذ ولادته ، إلاّ ان ذلك لا يعني وجود تعامل آخر لله معه بعيداً عن طبيعة مؤهلاته الذاتية كما أشرنا إلى ذلك من قبل (١) ، فإن هذا التعامل يفرض عدم العدالة الإلهية سواء قلنا ان الله أعطاه مرتبة من العلم أو أوجد فيه ما يجبره على عدم المعصية ، فبمعزل عن طبيعة هذه المؤهلات يكون كلا الحديثين في البطلان سواء ، فهو كما هو واضح يعيدنا إلى عدم الحكمة الإلهية في ترجيحها بلا مرجحات ، ويقدح بالعدالة الإلهية لجزافية إرادتها في هذا الحال.

وكيفما يكن فالحديث عن جبرية العصمة هو حديث بعض العامة الذين يستندون إلى القصة الموضوعة في شأن شق صدر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بداية طفولته ، وتعليق عصمته على قطعة من جوفه متى ما اقتلعت انقطع عنه الشيطان ، وهذا إلى الخرافة العلمية أقرب منه إلى أي شيء آخر ، أما حديث أهل البيت عليهم‌السلام فكثير الحديث عن اختيار المعصوم (صلوات الله عليه) في أفعاله وتروكه ، فَلْيَرَ القارىء فضل الله من أي معين قد أخذ فكرته ، ومن أي منهل انتهل؟!

ولو أغمضنا الطرف عن كل ذلك ، وقلنا بأن المعصوم مجبر في أفعاله وتروكه ، فأي معنىً يمكننا فهمه من حديث فضل الله الكثير جداً ، عن خطأ الأنبياء والأئمة وامكانية وقوعهم في ذلك ، فمن أجبر على ترك المعصية من قبل الله كيف سيرتكبها اذن؟ فهل يريد القول ان المعصوم سيستغفل الله ويتسلل بعيداً عن ارادته المجبرة ليمارس خطيئته؟!! اللهمّ غفرانك يا رب الأرباب فلقد ساء الزمان بنا كثيراً حتى بتنا نسمع من يسيء إلى ساحة قدسك وجلالك وإلى أشرف مخلوقاتك بمثل هذه الأفكار!!

____________________

(١) انظر مبحث : زمن العصمة وبدايتها في الفصل الثاني من الكتاب.

٣٨٧

عبس وتولى من جديد!

في قصة عبس وتولى طرح فضل الله العديد من الأفكار التي مرق فيها عن طريق أهل البيت عليهم‌السلام وطبيعة ما يطرحونه في شأن العصمة بشكل عام ، وفي شأن القصة بالذات ، فبعد أن أثبت في تفسيره وغيره من كتبه ونشراته أن العابس كان هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (١) راح يقرر تبعات ذلك فقال : لقد عاتب الله نبيه عتاباً ايحائياً على إعراضه عن الأعمى ، وإقباله على الأغنياء ممن جاؤوا إليه. (٢)

وقال في موضع آخر ان النبي : يقوم بتجربة غير ذات موضوع ، الأمر الذي يجعل من الاستغراق في هداية الشخص الغني الذي عبس النبي بموجبه مضيعة للوقت وتفويتاً لفرصة مهمة أخرى. (٣)

وما دام الأمر كذلك ، فإن الله ـ كما يقول فضل الله ـ : يطالبنا أن لا تكون منطلقات النبي ، فلا تفعلوا مثل ذلك!. (٤)

____________________

(١) من وحي القرآن ٥٧ : ٢٤ ـ ٦٨ ، المسائل الفقهية ٤٥٣ : ٢ ، ومجلة الموسم العدد : ٢١ ـ ٢٢ س ١٠٧٧ ، وسار أنصاره على منواله من بعده فطرحها دفاعاً عنه محمد الحسيني في كتابه : مطارحات في قضايا قرآنية ، وعبد السلام زين العابدين (أبو مالك الموسوي) في كتابه : مراجعات في عصمة الأنبياء من منظور قرآني. وقد حفل الكتابان بالتدليس والاعتماد علىما لا يصلح كدليل ، معتمدين على ما وجدوه في ثنايا التفاسير الشيعية التي نقلت عن العامة فقدموها بعنوانها تفاسير أهل البيت ، مع غض النظر التام عن الرأي التفسيري المخالف لفكر فضل الله والذي يطرحه نفس من نقلوا عنه ، وقد حسب الاثنان انهما قد أحسنا صنعاً لنفسيهما ولصاحبهما ، وما زادا في الواقع أنفسهم وما زادوه إلا رهقاً!

(٢)مجلة المعارج الهدد : ٢٨ ـ ٣١ ص ٥٥٥ ، ومجلة الثقافة الإسلامية العدد : ٦٥ ص ٦٠.

(٣) من وحي القرآن ٦٧ : ٢٤.

(٤) الموسم ، العدد المذكور : ٢٩٥ س ١٠٧٧.

٣٨٨

ولم يفوت الرجل الفرصة فاعتبر أن : رواية أهل البيت في شأن نزول الآية في خصوص بعض الناس من بني أمية غير واضحة عندنا. (١)

والكلام في الآيات أشمل من أن يستوعبه هذا البحث ، ولكن سنحاول أن تقدّم نقداً اجمالياً للأفكار التي طرحها هذا الرجل ، وبداية لن يكون من السديد متابعة أقوال المفسّرين والاحتجاج بقول فلان وفلان منهم في تفسير هذه الآيات ، فمع عميق اجلالنا لهم إلا ان من البيّن انهم ليسوا بحجة بقدر القرآن وروايات أهل البيت عليهم‌السلام ، ونضع هذا الأمر كمقدمة حتى لا يقال للاعتذار للرجل بأن فلاناً أو فلاناً من المفسرين قد قالوا مثل قوله ، فمن المعلوم ان الرجل لم يقل بهذا القول دون غيره مما وافق أقوال بعض المفسرين ، بل تعدّاه لما لم يقل به أحد من الأفكار التي يكفي بعضها للحكم على قائلها بمفارقة المذهب كما مر بعضه في شأن امكانية خطأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التبليغ وما إلى ذلك ، وبالتالي فإن النقد الموجه إلى فضل الله لو صحّ هنا فهو نقد لا خصوصية فيه ، بل هو نقد لكل من يحمل هذه الفكرة سواء كان من المتقدمين أو من المتأخرين ، على اننا لا نغفل الاشارة إلى أن الكثير من هؤلاء المفسرين كالشيخ الطبرسي رحمه‌الله في مجمع البيان كان قد أورد رأي أهل السنة لأسباب لا تخفى على المتابع الحصيف لطبيعة ثقافة عصورهم ، دون أن يغفل رأي الإمامية.

وأياً كان الأمر ، فإننا لا نجد في الدليل القرآني والروائي ما يساعد هذا التوجه ، وأول ما سنلاحظه في عموم الآيات عدم وجود أي دليل على اختصاص خطاب الآية بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهي عامة لا دليل في سياقها الظاهر على أن المخاطب فيها هو الرسول أم غيره ، فتخصيص هذا الرجل وغيره نزول الآية بحق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حكم التخصيص بغير مخصص وهو معيب ، وكونها عامة في الخطاب فتخصيصها سيؤول حكماً إلى القرائن الحافة بها ،

____________________

(١) المعارج ، العدد المذكور : ٥٥٦.

٣٨٩

وإلى الروايات التي وردت عن أهل بيت العصمة والطهارة عليهم‌السلام ، وبغير ذلك فلا سبيل للحكم على اختصاصها بأحد.

ولو لاحقنا منطق القرائن في تخصيص عموميات القرآن ، فسنجد أن من ضروري القرآن ابتعاد اختصاص الآية عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! وذلك لأمور عدة أذكر منها ما يلي :

أ ـ اقتران العبوس مع التولي وهو الاعراض ، يسجل نقطة أخلاقية سلبية مهما حاولنا توجيهها وتفسير مبرراتها ، فإن لم يره الأعمى فلقد رآه الجليس ، وهو يمثل قطعاً توجهاً أخلاقياً يمكن للجليس ترتيب الأثر عليه ، هذا فضلاً عن أن القيمة الأخلاقية إنما تنطلق من الذات وتعبّر عنها ، ولا أثر في حساب هذه القيمة بأن الطرف المقابل رأى ذلك أم لا! وعندئذ فإن القرينة القرآنية ستبعد هذا الحديث عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو صاحب الخلق العظيم ، (١) وهو المخاطب بأنه إنما أرسل فلكي يكون رحمة للعالمين ، (٢) وهو لين العريكة المطالب بأن لا يكون فظاً غليظ القلب كما أشارت الآية الكريمة : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) ) ، وهو المطالب بأن لا يفارق عين الرأفة بالذين يدعون ربهم بالغداة والعشي كما قال الله سبحانه : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (٤) ، ومن الواضح أن حديث الآية عن العبوس والاعراض لا يتفق مع المعايير الأخلاقية التي تكمن وراء هذه الآيات ، فخلف هذه الآيات هناك أمر رباني من جهة ، ومواصفة أخلاقية تمتع

____________________

(١) القلم : ٤.

(٢) الأنبياء : ١٠٧.

(٣) آل عمران : ١٥٩.

(٤) الكهف : ٢٨.

٣٩٠

بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتوجه إليه الأمر من جهة ثانية ، وفي كلا الحالتين تتناقض الآية مع هذا الأمر أو تلك المواصفة ، فلا تغفل!!

على انه كان بإمكان الرسول حين جاءه الأعمى أن يستمهله برهة ، دون أن يعبس في وجهه وهو المألوف من أخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم تألف الكتب الروائية سوء خلق وفظاظة من جانب ابن أم مكتوم وهو الأعمى إلى الحد الذي يجعله يقاطع حديث الرسول مع الآخرين ، بالصورة التي وصفها فضل الله وأمثاله ، ولم يك ذلك ببدع في أخلاق الرسول بحيث تغيب عن ذهن الرسول ولا تغيب عن أمثال هؤلاء المفسرين!!

ب ـ ولو وجّهنا العبوس بأنه يمثل خطأ سلوكياً مهما دق شأنه ، فما كان لفضل الله أن يطالبنا بأن لا تكون منطلقاتنا متشابهة مع منطلقات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لولا أنه يعتبر ما قام به الرسول يمثل خطأ ، فإنه في واقع الحال يمثّل انعكاساً محتماً لنوازع الجهل أو لتداعيات النزغ الشيطاني ، كما تقدّم في الحديث عن أسباب الخطأ ، وهذا ما لا يمكننا نسبته للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الوقت الذي صانه القرآن عن ذلك كله.

ج ـ قوله تعالى : (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى) كما أشرنا من قبل يفيد أن الذي تولّى قد خالف مهمتين أساسيتين من المهام الرسولية ، فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو من بعث لغرض التزكية فوصفه الله سبحانه بقوله : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ) (١) ، وهو من وصف بالتذكير (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (٢) ، ولهذا فإن الآية الكريمة لا بد وأن يكون خطابها لمن خالف هذه الأغراض ، فإذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكلّفاً بها ، فهل نقول بأنه لم يعمل بتكاليفه؟! أم أن الأولى حمل الآية على غيره؟!

____________________

(١) الجمعة : ٢.

(٢) الغاشية : ٢١.

٣٩١

د ـ وأما قوله سبحانه وتعالى : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى) فهو الآخر يبعد خطاب الآية عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلئن فسّرنا الاستغناء بالحالة الاجتماعية التي تعبّر عن الثراء المالي والترف الطبقي ، فما كان من خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحفل بالمال وأصحابه أما كان هو من قال لعمه أبي طالب (رضوان الله تعالى عليه) حين جاءت قريش تعرض عليه الأموال وما هو أعظم منها : والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته؟! ولا كان أصحاب الأموال هم أصحاب القيمة الاجتماعية القصوى التي لا يجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدّاً من تخطيّهم ، خاصة واننا إن قلنا بأن سورة عبس قد نزلت في مكة فلقد كان الرسول في ذلك الوقت يملك من مال خديجة (صلوات الله عليه) ما يفوق امكانيات من سمّوهم في الروايات ، هذا فضلاً عن استقذاره لطبيعة المال الذي كان هؤلاء يتملكونه فبعضه من تجارة الخمور وأغلبه من الربا والتجارات التي كان الرسول بأبي وأمي يأنف منها ، أما إن قلنا بأن سورة عبس مدينة ، فإن الأمر يغدو واضحاً أكثر ، فأي أهمية للمال وقد عرف عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدم اهتمامه بالمال في حال مطاردته من قبل قريش ، في الوقت الدي غدا في المدينة هو المطارد لها!!

ولئن فسرنا الاستغناء المشار إليه في الآية بالحالة الأخلاقية ، ولعله هو الأوفق بسياق الآية الكريمة ، فهو أمر أبعد ما يكون عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف؟ وقد وصف القرآن المستغنين بطريقة مزرية فقال : ( وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ) (١)

وقد عادت الآية لتذكر ببعد الخطاب عن الرسول حينما تحدّث عن عدم مبالاة المستغني عن تزكية الأعمى وطالب الزكاة ، وقد عرفنا أن التزكية هي من أعمال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرئيسية ، ولا يعقل تخلية عن عمله هذا ، وإلا

____________________

(١) الليل : ٨ ـ ١٠.

٣٩٢

لا نسلخت منه النبوة والرسالة فوراً.

ه ـ وأما قوله تعالى : ( وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) فهو يثير الأمر مجيء شخص يسعى في شأن هدايته ، فيما المخاطب يتهلّى عنه ، وهذا القول يؤذي نفس ما رأيناه في سابقه ، وبالتالي فهو لا يمكن أن يختص برسول الله ، فصفة اللهو تمثل حالة لا تتناسب مع مقام النبوة ، سواء قلنا بأن المشار إليها هو الحالة الأخلاقية للّهو ، أو الحالة التي تعبّر عن الاعراض عمّن جاء يسعى بين يدي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ يلزمنا القول بأن الرسول إما أن يكون قد لها عن أمر ربّه ، وإما أن يكون قد أعرض عن مؤمن وأقبل على مشرك ، وهو ما لا يحسن برسول الله القيام به ، بل يحرم عليه ذلك لوضوح الأمر القرآني له القاضي بالتناهي عن ذلك كله.

د ـ أما الحديث الروائي هنا فنحن بين صنفين من الحديث ، صنف دأب حديث أهل العامة على الترويج له وهو ما حكاه فضل الله ، وقد تسرّب هذا الحديث في كتب التفسير الخاصة لأسباب عديدة منها : حالة التقية التي كانت تحكم الأوضاع الاجتماعية والثقافية للمفسرين المتقدّمين كالطبرسي وغيره والتي كانت تلزمه بأن يورد حديث القوم ، ولكن يلاحظ على غالبية هؤلاء مزجهم حديث أهل البيت عليهم‌السلام مع حديث العامة لأسباب ليس من العسير فهمها مع ترجيحهم لحديث أهل البيت عليهم‌السلام ، ولربما حاول بعضهم أن يعطي للقارىء أفقاً ثقافياً في حالات فأورد التفسير القوم ، وأتبعه بتفسير أهل البيت ليبرز الاختلاف بين الفريقين ، مع وضوح ترجيحه لتفسيرهم (صلوات الله عليهم أجمعين) ، وقد تقصر حالة الوعي والعلم بالعديد من المتبقين كما هو حال العديد من المتأخرين ، فتراهم يناسقون وراء الحديث العامي دون حجة واقعية يستندون إليها اللّهم إلا بعض الاستحسانات التي قد تجد في عقولهم راجحاً يتمسكون به ، وهي مجموعة من الظنون التي لا تغني عن الحق شيئاً ، خاصة بعد وجود حديث أهل البيت عليهم‌السلام المخالف لما جاءت به تفاسيرهم ، وقد حاول البعض من هؤلاء

٣٩٣

أن يعمد لتخفيف لهجة الآية الشريفة كي تكون غير قادحة بعصمته (صلوات الله عليه وآله) وما كان عليهم أن يقوموا بذلك بعد أن كفاهم أهل البيت عليهم‌السلام مؤونة ذلك.

هذا ، وقد أكثر فضل الله في أكثر من موضع من ذكر الرواية المنسوبة للإمام الصادق عليه‌السلام والتي يوردها الطبرسي في مجمع البيان : مرحباً مرحباً ، لا والله لا يعاتبني الله فيك أبداً.(١)

والكلام في هذه الرواية لا يؤيد ما ذكره أبداً ، فالرواية من حيث الأصل لا مستند حقيقي لها ضمن موازين علم الحديث والدراية ، فهي مرسلة ، ولا يعرف لها وجود في المصادر المعتبرة ولا غيرها من كتبنا المتداولة حالياً ، ولهذا فإن علمها يوكل إلى الشيخ الطبرسي ، ولا يلزمنا ذلك بشيء ، ولو صحت لأمكن حملها على محامل كثيرة لا تؤدي المعنى الذي يروّج له هذا الرجل ، إذ يمكن أن تكون قد جاءت لنفي العتاب جملة وتفضيلاً ، كما في قولنا للآخر : والله لا يصل إليك منا مكروه أبداً ، فهو لا يعني ان المكروه قد وصل منّا إليه وقد تبنا من أيصاله من بعد ذلك ، ويمكن حملها لو حصرنا ظاهرها في العتاب على التقية ، وهو أمر شائع وسائغ ، فهل ندرت هذه المحامل فلم يجد هذا الرجل (المبتلى بتوفيقه في فهم مقام أهل البيت عليهم‌السلام) غير توجيه العتاب الإلهي إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

ز ـ ويبقى علينا التذكير في ما أشرنا إليه من قبل ، وهو التساؤل عن السبب الذي يجعل القرآن يتحدّث عن لوم رسول الله في العلن؟ أو ما يسميه فضل الله بالقسوة الملحوظة في حديث الآيات مع النبي والتي يعتبرها ـ أي القسوة ـ ظاهرة واضحة في أكثر الآيات التي تتصل بسلامة الدعوة واستقامة خطها ، (٢) ويبقي هذا اللوم على مدى الدهر يقرأ كل قارىء! علماً أن هذا

____________________

(١) مجمع البيان ٥ : ٦٦٤.

(٢) من وحي القرآن ٢٤ : ٦٣.

٣٩٤

الأمر قد جرى بمحضر رجلين أحدهما لا يفقه من أمر التربية الإلهية شيء ، والآخر أعمى لم ير من العبوس شيء! في وقت كان بالامكان تأديب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يحلو لهذا الرجل أن يقوم في الخفاء! فهل يريد القول بأن القرآن كان في صدد التعريض برسول القرآن؟! اللهم إليك المشتكى من أمة سفهت نبيّها ودافعت عن أعدائه!!

عصمة الزهراء عليها‌السلام!

ومما يتصل بفكر هذا الرجل حديثه عن طبيعة شخصية الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وهو الحديث الذي أفضى إلى أن يكون أحد المستندات التي كانت كافية للحكم عليه بالخروج من المذهب وفقاً لحكم العلمين التبريزي والوحيد (أعلى الله مقامهما) فلقد قال وهو يتحدّث عن جملة من النساء من بينهنّ الصديقة الزهراء عليها‌السلام ، وهي من يعيننا أمر الحديث عنها هنا : وإذا كان بعض الناس يتحدّث عن بعض الخصوصيات غير العادية في شخصيات هؤلاء النساء ، فإننا لا نجد هناك خصوصية إلا الظروف الطبيعية التي كفلت لهن إمكانات النمو الروحي والعقلي والالتزام العملي بالمستوى الذي تتوازن فيه عناصر الشخصية بشكل طبيعي في مسألة النمو الذاتي ، ولا نستطيع اطلاق الحديث المسؤول القائل بوجود عناصر غيبية مميزة تخرجهن عن مستوى المرأة العادي ، لأن ذلك لا يخضع لأي إثبات قطعي.(١)

ورغم أنه أعقب هذا الحديث لأحاديث كثيرة عن عصمة الزهراء عليها‌السلام في جملة من النشرات الكراسات إلا أنه حرص على بقاء هذا النص على حاله ، دون أن يكلّف نفسه عناء درء الشبهة عنه ، رغم أن الكتاب طبع عدة مرات بعد صدور حكم المرجعية الدينية المبتني على وجود هذا النص.

____________________

(١) تأملات اسلامية حول المرأة : ٩ ؛ دار الملاك ـ بيروت ١٩٩٥ ط ٥.

٣٩٥

ولا نريد أن نستدلّ هنا على عصمة الصديقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام فلقد مرّ بنا أثناء الحديث عن آية المباهلة والتطهير وحديث الثقلين وغيرها ، كما أنني لست في صدد الحديث عن نفيه لعصمتها وفق هذا النص ، ولكن وددت الحديث عن طبيعة المنهج الفكري الذي أجده يتناقض ما بين قول وآخر ، فالحديث عن الظروف الطبيعية التي كفلت لهؤلاء النساء امكانات النمو الروحي والعقلي .. إلخ أجده يتناقض تناقضاً واضحاً مع حديثه عن العصمة الجبرية التي تجعل الله يضع في ذات المعصوم ما من شأنه أن يمنعه من المعصية وفق ما يدعيه فضل الله ، فمن أجبر على العصمة ماذا ستفعل له الإمكانات الطبيعية للنمو التي يتحدّث عنها هذا الرجل ، وهذا السر الغامض الذي تنشاء به الجبرية في شخصية المعصوم إن كان مادياً فلدينا عليه فكلنا بحاجة إلى هذا النمط من العصمة ، وإن كان روحياً فهو غيبي ، فلم تحدث عن عدم وجود العناصر الغيبية التي رأى أن إثبات وجودها لا يخضع لأي اثبات قطعي؟!

ولا يمكنه النفاذ من هذه الورطة إلا من خلال نفيه لعصمة الصديقة الزهراء عليها‌السلام جملة وتفصيلاً ، عندئذ سنجده يقع في ورطة مخالفة آية التطهير والمباهلة وحديث الثقلين والحديث المتفق بشأنه بين الفرقين حول تعلق غضب الله ورسوله بغضب فاطمة (صلوات الله عليها) وأذاها ، كما رأينا ذلك في ما سبق ، فليختر أي طريق شاء ، وسيجد أن ما بعد الحق ليس إلا الضلال!!

قصة الهم اليوسفي

ونضع الرحال عند أعتاب قصة نبي الله يوسف عليه‌السلام ، لنقدّمها كنموذج في مناقشات فضل الله لعصمة الأنبياء وسعيه الدؤوب لاخراجهم منها ، فلقد أقدم هذا الرجل أثناء حديثه عن قصة الهمّ اليوسفي المعروض في الآية الكريمة : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ

٣٩٦

عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (١) على تقديم فكرة بالغة السوء عن نبي الله يوسف عليه‌السلام ، بل عن جميع الأنبياء عليهم‌السلام ، فقال : عزم على أن ينال من امرأة العزيز ما أرادت أن تنال منه. (٢)

وقال : انجذب لها غرائزياً. (٣)

وقال : فما صدر من يوسف في الأجواء المعقدة خلال اندفاعها إليه وربما ملامستها له عند إمساكها به هو الانجذاب الغريزي. (٤)

وقال : فقد أحس بالانجذاب نحوها لا شعورياً ، وهم بها استجابة لذلك الإحساس كما همّت به ، ولكنه توقف وتراجع .. لكن انجذابه الجسدي كان يشبه التقلص الطبيعي والاندفاع الغريزي.

وقال : بأنها : حرّكت فيه قابلية الاندفاع وكاد أن يندفع إليها.

ثم راح يحلل البواطن الداخلية في نفسية النبي يوسف عليه‌السلام فقال : وبدأت التجربة الصعبة في حياته ، فها هو يواجه الإغراء بأشد صوره ، مما لا يملك الامتناع عنه ، إذا أراد لحياته أن تستمر في النعيم الذي يتقلب فيه ، والامتيازات التي يملكها ، وإلا فقد ذلك كله ، مع خطر على الحرية التي يعيش فيها ، وخوف على حياته من الهلاك .. إنه في سن المراهقة حيث تتفتح الغرائز في فضاء الشهوة ، وتضيع المشاعر في أجواء العاطفة ، ويلتهب فيها الجسد في نيران الأحاسيس ، ويتحرك فيها الإنسان في غيبوبة الأحلام الضبابية المبهمة التي تثير الجو من حوله ، ليحس لأنه يسبح في بحور من الحب والخيال ، مواجهاً المزيد من أمواج الحس التي تطغى على فكره

____________________

(١) يوسف : ٢٤.

(٢) شريط مسجل بصوته.

(٣) دنيا الشباب : ٣٦.

(٤) حركة النبوة في مواجهة الانحراف : ٢٩١.

٣٩٧

وحكمته.

وهكذا انتهى من قصته وختمها بالقول : اندفع يوسف إلى الباب ليهرب منها ويتخلص من ضعفها العنيف الذي كاد أن يسقطه في الإغراء .. (١)

وغاص في بواطن يوسف من جديد ليقول : إنه يخشى على نفسه أن يميل إليهن ، ويسقط في التجربة أخيراً ، لأن القدرة على المقاومة قد تضعف وتتلاشى أمام ضغوط الإغراء ونداء الغريزة. (٢)

أما تفسير أهل البيت عليهم‌السلام للهمّ بها بمعنى أراد ضربها وصدها فقد وجد انه يتنافي مع طريقة التعبير في الآية. (٣)

والحديث عن القصة النبي يوسف عليه‌السلام ومسألة الهمّ التي أشارت إليها الآية القرآنية واستقصاء الرد على كل الأفكار التي طرحها هذا الرجل في هذا المجال والتي حاكى فيها أقوال العامة لا يمكن أن يستوعبه حيز هذا الكتاب ، وإنما سنكتفي هنا بالتركيز على بعض الأمور التي روج لها هذا التيار.

وسننظر إلى هذا الأمر بعدة لحاظات إذ نرى في اللحاظ الأول : إن تحليله لموقف النبي يوسف عليه‌السلام قد استصحب فهمه البشري في محاولة تقييم موقف نبي معصوم ربته السماء وتعهده الوحي منذ صغره ، وهذا الفهم الذي ابتلى فيه تقييمه لشخصية الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ، لا يتملك عليه أي دليل علمي يستند إليه وذلك من جهتين :

الأولى : في طريقة التحليل الرامية لفهم شخصية النبي المتداخلة مع الوحي والمحاطة بجو العصمة كما يفهم بعضنا بعضاً بطريقة القياس ، وهي طريقة سرعان ما ستجعلنا في معزل عن فهم ذواتهم الشريفة ، لأننا لانتملك

____________________

(١) من وحي القرآن ١٢ : ١٨٦ ـ ١٨٩.

(٢) من الوحي القرآن ١٢ : ١٩٨.

(٣) الندوة ١ : ٣٠٤.

٣٩٨

الأدوات الكفيلة لفهمهم إلا بمقدار ما أفصحوا عن أنفسهم أو أفصح النص عنهم ، وبالتالي ففاقد الشيء لا يعطيه ، فلا نحن من أهل العصمة حتى نستقصي فهم المعصوم ، ولا هم عليهم‌السلام من أهل الذنوب كي نقيسهم على أنفسنا.

هذا على الرغم من التأكيدات العلمية المعاصرة بأن فردانية كل نفس إنسانية لها خصوصية لا يمكن تطابقها مع فردانية أي نفس أخرى ، ولهذا فإن عملية القياس هذه لو تمت ما بين نفسين متساويتين ـ على طريقة فرض المحال ليس بمحال ـ فإنها تبقى في أحسن الأحوال عملية ظنية لا يمكن معها الخروج بعلم يحتج به ، فما بالك في عملية قياس نفس ـ لو تمت ـ فإنها على أحسن الأحوال الظنون لتمت من قبل نفس لا يدّعي نفس صاحبها لها العصمة ، كي تفهم نفساً رفلت منذ نعومة أظافرها بعناية السماء ورعاية الأنبياء بكل ما يمكن لهذه الكلمة أن تؤدي إلى نزاهتها وعصمتها وطهارتها ، خصوصاً وأن عملية المقايسة المطلوبة لو تنزّلنا وقلنا بإمكان تحققها فإنها تستدعي أن تكون جميع عناصر الشخصية التي نريد مقايستها ومكوناتها وصفاتها ومعطياتها حاضرة بين أيدينا ، فما بالك بمقايسة أغفلت أبسط القرائن المقامية والكلامية التي أشير إليها في القرآن الكريم كما سيتضح في ما بعد عند تناولنا لهذا الموضوع!!

والثانية : إن هذه الطريقة تغفل الجانب التوثيقي في بحث مسألة تاريخية ، خصوصاً وأنه يتحدث عن هواجس قلب ، وهذا الحديث طبيعته مادة ظنية ما لم تكن هناك وثيقة تاريخية تحول هذا الظن إلى يقين.

وفي كل هذه الحالات نجده لا يمتلك أي منهج علمي يمكنه من الحصول على دليل علمي يمكن له أن يدعم نظرية في اتهام النبي يوسف عليه‌السلام ، اللهم إلا بضع ظنون تم استحصالها من طريقة مقايسة نظرته لذاته على نظرته للنبي يوسف عليه‌السلام ، مدعومة بخلفية روائية عامية ، وفي كل ذلك لن نجد إلا تخرصات ومزاعم لا تغني عن الحق شيئاً.

٣٩٩

هذا على مستوى تحليل المنهج الذي أودى به إلى أن يفكر بهذا الموضوع على هذه الشاكلة ، وهو منهج أقل ما فيه انه خلاف مدرسة ونهج أهل البيت عليهم‌السلام وقد تضافرت النصوص الشريفة الداعية لنبذه ، بل إن المروي عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه صرح بجلد من يقول ذلك لفريته على نبي من أنبياء الله تعالى.

أما على مستوى تحليل الحدث ضمن المعطيات التي تضعها النصوص بين أيدينا ، فلا أعتقد أن هذا الرجل سيحظى بفرصة ضئيلة يمكن لها أن تشفع له في تحصيل بعض العلم فضلاً عن يقينه ، وقبل أن نحلل هذا الأمر لا بد من أن نشير إلى أن طريقته في فهم همّ يوسف عليه‌السلام مخالفة جملة وتفصيلاً لما تسالمت عليه مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام والنصوص الواردة عنهم تتحدث في الجانب المعاكس تماماً لما قدمه تحليله ، وطريقة تحليله مقتبسة مما طرحه أبو نصر القشيري في تحليل الحدث على ما نقله عنه القرطبي في تفسيره للآية عنه ، (١) هذا إذا لم نقل بأنه استفاد من عالم النفس اليهودي سيجموند فرويد Sigmund Freud وطريقته في التحليل النفسي في ترتيب نظريته هذه ، وباعتبار أننا في معرض تحليل ما جرى سعياً وراء الحقيقة فلن نبالي ضمن البحث المجرد من أي معين استقى فكرته هذه ، فالفهم في حال دراسة الأفكار ليس من قالها ، بل النظر في محتواها وقدرتها على حشد الأدلة الكافية للقبول بها.

أما الحدث على صعيد الفهم القرآني فهذا النمط من التفسير ما هو إلا نكبة في التفسير أكثر من أي شيء آخر ، وإن المرء ليعجب في كيفية انسياق من له أدنى تصديق بنبوة الأنبياء عليهم‌السلام إلى الاعتقاد بإمكانية أن يتهور خاطر النبي (حاشا لله) فيهفو قلبه إلى الزنا بمحصن ائتمنه زوجها عليها وعلى ما

____________________

(١) الجامع الأحكام القرآن للقرطبي ٩ : ١٦٧.

٤٠٠