عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

الشيخ جلال الدين علي الصغير

عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

المؤلف:

الشيخ جلال الدين علي الصغير


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأعراف للدراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) ومن الطبيعي أن تقترن هذه الخيارات بتحديد نموذج الأسوة البالغة لهما في السير تجاه ما طلبه الله ، وحتى تكون هذه الأسوة في حدود الايفاء وفي كمال التحفيز ، نوّه إلى طبيعة ما تفعله ارادة الله سبحانه وتعالى بالإنسان الراغب في طاعة الله جلّ وعلا والمؤهل لتلقّي الفيض الإلهي ، بحيث أنها تبلغ به درجات التطهير الكاملة بعد أن تذهب عنه كل أنواع الرجس.

وطالما اننا أدركنا أن المخاطب في مجموع الآيات ليس واحداً ، وإنما هو متعدد بجهتين متفاوتتين في الخصائص والمؤهلات ، فإننا لن نجد في وحده السياق في الآية الشريفة مبعثاً لمشكلة يمكن لها أن تعيق فهمنا للآية بطريقة تخلو من الاشكالات التي كنا سنواجهها لو قلنا بوحدة المخاطب في الآيات ، وهذا الأمر سنلمسه أكثر أثناء بحثنا لبقية المسائل المعترضة في هذه الآية.

إشكالية الارادة

وإشكالية طبيعة الارادة المطروحة في الاية الشريفة هي الأخرى تمثل أحد الإشكالات التي حاول غالبية المفسّرين والمتكلمين استغلالها للتعتيم على الجهة التي ميّزتها الآية الشريفة ، فمن رأى في الآية الكريمة عدم تمايز أهل البيت عمّن سواهم ، قال بأن هذه الإرادة تشريعية كما ذهب إلى ذلك ابن تيمية وأمثاله ، (١) ومن قال بتمايزهم قال بأنها تكوينية ، ومن حاول التنصل من أحدهما مع اعتماده له في مواضع أخرى وقع في تناقضات عدّة. (٢)

____________________

(١) أنظر منهاج السنة النبوية ١٧ : ٣ ، و ١٥٧ ، و ٢١ : ٤ ، وانظر شرح العيدة الطحاوية ١١٦ : ١.

(٢) أنظر ما فعله الآلوسي في روح المعاني فإنه مع اما يشعر قوله في تفسير الآية بأن =

١٤١

وحتى نعرف جهة الحق في هذا المجال علينا أن نعرف وجه الفرق بين الاثنين ، فالارادة التشريعية هي مراد المشرِّع من المشرَّع له ، كما يريد الأب من ابنه أن يؤدي فروضه المنزلية ، والطبيب من مريضه أن يأخذ الدواء ، وكقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١) ويلحظ على هذا النمط من الارادة أن المراد منه يمكن أن يتخلف ، فلا يؤدي الابن فريضته المنزلية ، ولا يأخذ المريض دواء الطبيب ، ولا تقام الصلاة ولا تؤتى الزكاة ، وسبب التخلف يعود إلى أن المريد ترك تنفيذ الارادة إلى المراد منه ، دون أن يؤثر على هذه الإرادة بنحو مباشر.

أما الإرادة التكوينية فيه تختلف عن التشريعية بكون الفاعل فيها هو المريد ، ولا دخل لارادة المراد فيها ، وهي لهذا لا تتخلف إن استطاع المريد أن يحقق مواصفات القدرة والقابل لما يريد ، وهي من سنخ قوله تعالى : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢) وقوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (٣) حيث لا يمكن تصور تخلّف ما يريده الله سبحانه وتعالى ، وهي أيضاً من سنخ قوله عزَّ وجلَّ : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا) (٤) فهي من سنخ الارادة التكوينية ، ولكن بلحاظ عدم توفر عنصر القدرة والمكنة في المريد تخلّف تحقيق المراد ولم يتمكن من تحقيق إرادته ، ومثل قوله تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ

____________________

= الارادة هنا هي تكوينية إلا أنه حاول التنصّل مما يترتب على ذلك من التزامات عقائدية ، فراح ينقض ما بنى ، ووقع في تمحلات عديدة سنشير إليها في موضعها إن شاء الله تعالى.

(١) البقرة : ١١٠.

(٢) يس : ٨٢.

(٣) الحج : ١٤.

(٤) المائدة : ٣٧.

١٤٢

وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ) (١) فهي وإن كانت من سنخ الارادة التكوينية ، ولكن يمكن أن لا يتحقق مراد المريد إن كان القابل الإنساني لا يستجيب لمراد الشيطان.

وفي ما يتعلق بمبحثنا نلاحظ أن الارادة المستخدمة في مجموع الآيات الشريفة عبارة عن ارادتين ، أولهما : ارادة نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) ، وكذا قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) ، والأخرى ارادة الله لأهل البيت (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) وما نسجله على ورود هذه الارادات بشكل سريع هو الأمور التالية :

أ ـ إننا لو قلنا بأن الارادة الموجودة في الاية هي ارادة تشريعية ، فإن متعلق هذه الارادة ينبغي أن لا يكون محصوراً بأداة الحصر «إنما» ، وذلك لأن خطاب التشريع بالتخلّص من الرجس والتطهر وما إلى ذلك ، هو خطاب موجّه إلى كل المكلّفين ، وليس خطاباً خاصاً بجهة دون غيرها ، وبالنتيجة وفق هذا القول يكون وجود أداة الحصر لا معنىً له ، وهو باطل حتماً ، فلا يبقى مجال إلا القول بتكوينية هذه الارادة.

وذلك إن ملاك الارادة التشريعية هو التشريع ، فهي تنطلق من كونها تريد تحقيق مادة التشريع ، ولئن لمسنا من الآيات السابقة لآية التطهير هذا الملاك بوضوح ، فإنه في آية التطهير غير ملموس بالمرة ، وذلك لوجود كلمة (إِنَّمَا) المتقدمة على هذه الارادة ، فالتشريع مادة عامة لكل المكلّفين ، فما المعنى بتخصيصه في هذه الحدود التي تضفيها أداة الحصر؟!

ب ـ إن خطاب الارادة التشريعية يتعلّق بفاعل غير المريد كما عرفنا ذلك من قبل ، وفي عموم الآيات لمسنا خطابين ، أولهما : طلب الله من

____________________

(١) المائدة : ٩١.

١٤٣

النساء أن يفعلن كما هو الأمر في الآيتين الأولى والثانية ، فيما كانت الآية الثالثة وهي مورد البحث متعلّقة بإرادة المريد نفسه دون غيره ، ومثلما أكّد في الآيات السابقة لها على تعلّق ارادة الفعل بالنساء كما نلحظ ذلك من لهجة التخيير ، (١) فإنه قد أكّد أيضاً في هذه الآية على ارادة الفاعل المريد فلم يكتف بقوله : (يُرِيدُ اللَّهُ) بل شفّعه بفعلي الارادة (لِيُذْهِبَ) و (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) مما يؤكد أن المحور في الحديث هو محور الارادة التكوينية ، فلا تغفل!.

ولا يمكن لزعم أمثال الآلوسي أن يستقيم حينما جعل الآية في مقام الشرط ليقول بأن ملاك الارادة التشريعية موجود في الآية فقال : أي يريد بنهيكم وأمركم ليذهب عنكم الرجس ويطهركم إن انتهيتم وائتمرتم .. قال : اذهاب الرجس والتطهير بعد الانتاء والائتمار لأن المراد الاذهاب المذكور بشرطهما فهو متحقق الوقوع بعد تحقق الشرط وتحققه غير معلوم إذ هو أمر اختياري وليس متعلق الارادة. (٢)

ومثله ما قال ابن تيمية حين ادعى أن الآية ليس : فيها اخبار بطهارة اهل البيت وذهاب الرجس عنهم ، وإنما فيها الأمر لهم بما يوجب طهارتهم وذهاب الرجس عنهم. (٣)

____________________

(١) يمكن النظر إلى أراد النساء المطروحة في الآيات بلحاظين ، فمرة يمكن أن تكون إرادة تكوينية لو تعلّق الأمر بهنّ ، وإرادة تشريعية لو تعلّق الأمر بالطلب الإلهي منهنّ ، ولو أخذنا بلحاظهنّ فإن مقتضى القابليات الذاتية لهنّ هي التي ستحكم هذه الارادة ، ولهذا فهي إرادة موقوفة على غيرها ، ولكن لو لوحظت هذه الارادة بمقتضى التخيير المطروح في الآيات فما من شك في تصنيفها ضمن نطاق الارادة التشريعية.

(٢) روح المعاني ١٩ : ٢٢.

(٣) منهاج السنة النبوية ٢١ : ٤.

١٤٤

وكان القاضي عبدالجبار المعتزلي قد ردد نفس هذه الأقوال. (١)

وليس أدلّ على عدم استقامة ما ذكروه من وجود أداة الحصر في مقدم الآية ، فلو كانت كلمة (إِنَّمَا) في مقام أداة الشرط ، لاقتضى ذلك أن تكون آية التطهير خالية من الخصوصية لوضوح أن الشرط وجزاؤه فيهما من العمومية ما يتعلق بكل المكلفين ، دون انحصاره في أهل البيت ـ أياً كانت هويتهم ـ.

كما إن كون ذلك في موقع الشرط فإنه لن يستطيع تبرير حرص الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عدم إدخال أحد مع الخمسة أصحاب الكساء عليهم‌السلام بما فيهم زوجتيه عائشة وأم سلمة ، أو عمته صفية ، أو ابن عمه جعفر ، أو أولاد ابنته فاطمة (صلوات الله عليها) غير الحسن والحسين عليهم‌السلام ، فإن قالوا بخصوصيتها لأي سبب سواء كانت هذه الخصوصية نابغة من كون أهل البيت هم من حرمت عليهم الصدقة فيدخل فيها آل عقيل وآل جعفر وغيرهم كما يذهب بعض مفسّريهم إلى ذلك ، أو قالوا بعموميتها لبني هاشم ودون سواهم ، أو قالوا بقرابته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو غير ذلك مما حفلت به كتبهم ، فإنها لن تبرز هذه الخصوصية بأي شكل من الأشكال ، فما خصصوا به غير خاص.

ولهذا لا بد من التخلّص من أحد الاثنين ، فهي إما أن تكون خاصة ـ وهو مذهب أشد المتوسعين منهم ـ وبالتالي ستكون الارادة هنا تكوينية وليست تشريعية وبها يحصل المطلوب ، وإما أن تكون تشريعية فيقتضي حذف أداة الحصر منها ، وهذا خرق لا يقول به أحد.

* * *

وقد يكون للبعض شبهة ترد على مقولة الارادة التكوينية ، إذ يرى أن

____________________

(١) المغني ٢٠ القسم الأول : ١٩٣ لقاضي القضاة عبد اجبار بن أحمد المعتزلي (ت ٤١٥ هـ) الدار المصرية للتأليف والترجمة.

١٤٥

ذلك لازمه سيكون القول بالجبر وبكلمة أخرى فإن لازمه سيكون اجبار أهل البيت على هذه الخصوصية ، او انهم سيعصمون بغير ارادتهم ، وإذا كان الجبر هو اللازم فلا فضيلة لمن أجبر على شيء ، وبالتالي فلا خصوصية في الآية.

وهذه الشبهة تبرز قصر فهم من يطرحها للآلية التي تعمل بها هذه الارادة ، وذلك لأمور عدّة أذكر منها الأمور التالية :

أ ـ إن مقولة الجبر تتنافى مع مسألة التكليف ، فالتكليف إنما يتقوّم بالاختيار وليس بالجبر.

ب ـ إن هذه المقولة تبتني بشعور ومن دونه على نظرية الأشاعرة بجزافية الارادة الإلهية ، وهي مردودة لتنافيها مع الحكمة الإلهية ، فهذه الارادة إن كانت قد خصّت أفراد هذه الآية بخصوصية ما ، فيفترض أنها قد خصّتهم بسبب مرجّح ما ، ولا يمكن أن يكون هذا المرجّح متعلّق بنفس ارادة المريد ، لأنه سيستلزم الترجيح بلا مرجح ، وهذا ما يتنافى مع بديهية العدل الإلهي كما بيّنا ذلك من قبل ، فلم رجّح هؤلاء ولم يرجّح غيرهم؟! وعليه فإن سبب الترجيح منحصر في طبيعة الخصوصيات التي يتمتع بها هؤلاء دون من سواهم.

ج ـ ذكرنا من قبل أن العلة الفاعلية ليست هي مقوّم الارادة الوحيد ، بل إن وجود العلة القابلية شرط من شروط تحقق هذه الارادة ، وهذا الشرط في حال عدم وجوده لا يمثل نقصاً في العلة الفاعلية ، بل قصوراً في علة القابل ، مثله مثل التحدث عن قدرة الله القادر على كل شيء على الجمع بين الوجود والعدم ، فهو مستحيل لقصور القابل عن مجاراة الفاعل ، ولهذا نقول : إن كانت ثمة إرادة إلهية في هذا المجال ، فلا بد وأن ترتبط بوجود خصوصية في أفراد هذه الآية ، فهم القابل للفعل الإلهي ، وهذه الخصوصية هي سبب الترجيح في الارادة الالهية ، وبالنتيجة فليس ثمة ضرورة للاجبار

١٤٦

هنا. (١) فلا تغفل!.

د ـ ومع هذا يتضح متعلّق الارادة ، فمع تحقق الفاعل من وجود القابل ، بإعلان الفاعل عن إرادته لا يمكن أن تكون جملة الآية إنشائية ، بل هي إخبارية حتماً ، على عكس آيات الخطاب الأخرى التي كانت جملها إنشائية جميعاً ، وواضح أن متعلق الجملة الإنشائية يبقى ينتظر التصديق في الواقع ، أما متعلّق الجملة الاخبارية فلا ينتظر مثل ذلك إذا كان المخبر صادقاً ، فانتبه!!

وسيأتي مزيد من الايضاح في الأسطر القادمة.

* * *

إشكالية الرجس والتطهير

ومفهوم الرجس والتطهير المطروح في هذه الآية هو الآخر يمثل إحدى الإشكاليات التي اعترضت فهم مراد الآية ، وتوزّع أهل التفسير في بقع شتى وهم يحاولون العثور على المراد من هذه الكمات ، ومن يتابع عمل هؤلاء سيجد إحن التعصب والتخزب تضرب بأطنابها بينهم ، وتتقاذفهم يميناً ويساراً ، وكما هي عادتنا فسنحاول استنطاق القرآن الكريم في تحديد مراده من هاتين الكلمتين ، ومن ثم لنحاول أن نعرف أبعادهما الحقيقية ، والله هو المستعان في الأمور كلها.

ونلاحظ في البدء استخدام القرآن لكلمة (لِيُذْهِبَ) في تقرير المراد الأول للارادة الإلهية ، وبتقرير أن الاذهاب هو الإبعاد ، والابعاد يستبطن عدم تعلّق المبعد بمن أبعد عنه ، فإنك لو قلت : إذا ذهب الخير جاء الشر ، فلا

____________________

(١) سنناقش فكرة جبرية العصمة في الفصل الرابع من الكتاب بتوسع أكثر أثناء مناقشتنا لأفكار تيار الاغتراب في قسم محمد حسين فضل الله نموذجاً إن شاء الله تعالى.

١٤٧

يعني التلاصق بين الخير والشر ، وإنما العلاقة بين المبعد والمبعد عنه هي علاقة تطارد وتدافع لا علاقة التقاء ، فإنهما لن يلتقيا أبداً ، مما يعني أن الاستخدام الإلهي لكلمة (لِيُذْهِبَ) يشير إلى حقيقة أن الرجس لم يك موجوداً في شخصية المبعد عنهم أثناء تحقق عملية الاذهاب ، مما يقرر بدوره حقيقة أن ارادة الاذهاب هي ارادة تكوينية وليست تشريعية ، وذلك لأن التشريع لا يتعلق بما هو كائن ، وإنما يتعلّق بما ينبغي أن يكون.

ثم نلاحظ ثانية أن الرجس والطهارة مفهومان متعارضان ، يطرد أحدهما بوجوده الآخر بصورة نسبية ، أي كلّما طرد أحدهما حلّ الآخر في موضعه ، وذلك لأن الآية استخدمت كلمة الاذهاب للرجس ، ثم استخدمت كلمة التطهير ، مما يشير إلى حقيقتين :

أولهما : عدم امكانية الالتقاء بين الرجس والطهر ، فمن طهر لا يصيبه الرجس ، ومن كان فيه رجساً لن يطهر إلاّ بعد زوال الرجس.

وثانيهما : عدم تعلّق التطهير بالرجس ، فلو تعلّق به لكان الأولى القول : ليطهركم حتى يذهب الرجس عنكم ، ولكن الاستخدام المعاكس لهما يشعرنا أن المراد الإلهي الإخبار بأن الطهر إنما حصل فبسبب انتقاء الرجس.

والرجس في اللغة : هو القذر ، واسم لكل ما استقذر من عمل ؛ على ما أشار إليه ابن منظور. (١)

وفي نهاية ابن الأثير قال : يعبّر عنه بالحرام والفعل القبيح والعذاب واللعنة. (٢)

وفي غريب ابن سلام قال : الرجس النجس الخبيث. (٣)

____________________

(١) لسان العرب ١٤٧ : ٥.

(٢) النهاية في غريب الحديث والأثر ٢٠٠ : ٢.

(٣) غريب الحديث ١٩١ : ٢.

١٤٨

وأغلب هذه التعريفات هي تعريفات لمصاديق الرجس ، وليس للكلمة بشكل مباشر ، وأنسبها على ما يبدوا هو تعريف ابن منظور وهو القذر ، شريطة أن يعمم لكل ما سيتقذر منه.

وقد استخدمت الكلمة في القرآن الكريم تسع مرات ، وفي جميعها كان استخدامها بلحاظ ما ترتبط به من مصاديق أو متعلقات ، ولكن نلحظ في الآية الكريمة : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) (١) اشارة حاسمة إلى منشأ الرجس ، إذ تشير الآية الكريمة إلى القلب المريض بعنوانه موطن هذا الرجس ، وبالتالي لتؤكد ان القلب السليم لا يدخل فيه الرجس ، ولعل هذه الآية هي التي تعطي الرجس معناه الواقعي ، إذ سيصبح كل قذر يلوث سلامة القلب من دون أو زيغ أو مرض أو ريب ، وهو بالتالي لن يتوقف عند الجانب المادي الظاهر من القذر ، بل يمتد إلى الجانب الباطني منه.

ويظهر قوله سبحانه وتعالى : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) (٢) ، وقوله تعالى : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) (٣) أن سبب جعل الرجس متعلّق بعاملين ، أولهما : عدم الإيمان ، وثانيهما : الجهل ، ولهذا فإن النفوس التي آمنت حق الإيمان وابتعدت عن كل صور الجهل ، سينتفي منها الرجس انتفاء محضاً ، وهي في مقامها تمثل تنافي العلة القابلية وهي هنا القلب السليم مع ارادة العلة الفاعلية وهي هنا عوامل الرجس ، فيستحيل معها ظهور المعلول. فانتبه!!

وانتفاء المرض من القلب الذي هو صورة الرجس ، سيؤهل هذا القلب لواحدة من مزايا القلب السليم الموعودة في القرآن ، وهي مزية «الرسوخ في

____________________

(١) التوبة : ١٢٥.

(٢) الأنعام : ١٢٥.

(٣) يونس : ١٠٠.

١٤٩

العلم» لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبَابِ) (١) وهي كما أشرنا من قبل نتيجة بديهية للقلب الخالي من الزيغ ، ولهذا فليس من قبيل الصدفة والاعتباط أن نجد التزامن الواحد في وجود الإيمان والعلم المضاد للجهل في هذا القلب مرة أخرى!

وعليه فإن الرجس في المفهوم القرآني سيكون بعد ذلك كله ، هو كل المصاديق المناقضة للعلم وللإيمان ، وبمعنىً آخر : سيكون الرجس هو كل عمل خاطىء في حكم العقول ، وآثم في حكم الإيمان.

والطهر بطبيعته نقيض للرجس ، مما يعني أن التطهير المستخدم في الآية الشريفة يعني تحقق ارادة إلهية تقضي بإنشاء نقيض الرجس في ذات المطهّرين ، فاذهاب الرجس ابعاد كل خطأ واثم ، والتطهير تنجيز فعل الصواب والكمال.

وبناءً عليه : فإن الصورة التي تفضي إليها الآية الكريمة ، بعد ملاحظة أن الرجس المستخدم فيها جاء محلّي بالألف واللام لينبىء عن أن الله أذهب عن أهل البيت كل أنواع الرجس .. تنبؤنا بالملازمات التالية :

أ ـ إن القرآن الكريم كان في صدد الإخبار عمّا تعتمل عليه قلوب أهل البيت ، وليس في صدد التشريع لها ، وذلك لعدم معقولية القول بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في قلبه رجس بسبب عدم إيمانه أو عدم عقلانيته ، ودعاه الله لإزالته ، لأنه داخل حكماً في مجموعة أهل البيت ـ أياً كان المراد منهم ـ.

ب ـ إن زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خارجات حكماً من مصداق هذه الآية

____________________

(١) آل عمران : ٧.

١٥٠

الكريمة ، وذلك لأن الله أنشأ التشريع لهنّ ، وهذا التشريع في أبسط صوره ينبؤنا بإمكانية تطرق الخطأ والاثم إلى سلوكياتهن ، وهو بعد تقرير هذه الحالة راح يخبر عن مجموعة أخرى غيرهن لا يمكن تطرق الخطأ والاثم إلى قلوبها.

ج ـ إن هذا الاذهاب للرجس هو الملازم البديهي لوجود الطهارة ، وبما أنه كان عاماً وشاملاً لكل أنواع الرجس ، فإن بديله سيكون عاماً وشاملاً لكل أنواع الطهر حتماً ، وهذا الآخر يحتم إخراج زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مفاد الآية الشريفة ، وذلك لأن مقتضى الطهارة زوال الدم منهنّ كمثال ، بدليل أن القرآن الكريم عدّ الحيض من النجاسات ودعا إلى التطهّر منه لقوله تبارك وتعالى : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (١) وهنّ لسن كذلك ، وهذا الأمر يوضحه لنا ماذا فعل الاصطفاء الإلهي والتطهير المتصاحب معه لمريم عليها‌السلام فجعلها بتولاً متميزة ببتوليتها عن سائر نساء العالمين.

ويحتم خروج سائر من أحلّت الزكاة والصدقات لهم ، لأن الزكاة والصدقات تطهير وتزكية لقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (٢) ومعه تسقط الروايات التي حاول البعض اقحام بعض الأشخاص فيها كواثلة بن الأسقع وغيره. (٣)

ويحتم خروج سائر من ترد عليهم النجاسة الحادثة أيضاً ، وذلك لقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ

____________________

(١) البقرة : ٢١٢.

(٢) التوبة : ١٠٣.

(٣) سيأتي الحديث عن ردّ هذا المعنى.

١٥١

وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١) وبالتالي فإن كل ما دخل في هذا القيد خرج من مفاد الآية ، ومعه يتضح لنا خطل التفسير بأن أهل البيت كلمة تشمل كل من حرمت عليه الصدقة كآل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس وغيرهم من بني هاشم كما يعمد إلى ذلك ، بعضهم ، لعدم توفر هذه المواصفات لهم.

وغني عن البيان أن القول بأن أهل البيت هم كل المتقين ، (٢) أو أنهم كل أمة محمد ، أو عشيرته .. وما إلى ذلك من أعاجيب المفسرين كلها لا قيمة لها وترد على أصحابها ، لتنافيها مع لوازم التطهير.

د ـ وبهذا يظهر لنا أيضاً صحة ما روته أم سلمة وعائشة وجعفر بن أبي طالب وغيرهم بعدم سماحة لهم بالانضمام إلى أهل الكساء ، لعدم تلاؤم مواصفاتهم الذاتية مع متطلبات عملية إذهاب الرجس والتطهير الإلهية.

ه ـ مع هذه الحقائق يتضح لنا معنى وحدود اذهاب الرجس والطهارة ، فهي لا تتوقف عند الجانب المعنوي فحسب ، بل إنها تمتد إلى الطهارة المطلقة في الجانب المادي ، بحيث يستلزم أن يكون تطهر أهل البيت ممتداً إلى نواحي الحدث والخبث وسائر النجاسات المادية ، فلئن استدعت الجنابة تطهراً ، فكيف يمكن أن تعرض لمن طهّر في الأصل تطهيراً تكوينياً؟ ولئن استدعى الحيض تطهراً فكيف يمكن نفي البتولية عمّن طهّرت سلفاً؟

____________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) روى المناوي في فيض القدير في شرحه للجامع الصغير أن آل محمد كل تقي. وعلّق عليه بالقول : قال الهيثمي : ضعيف جداً ، وقال البيهقي : حديث لا يحل الاحتجاج به ، ونقل عن ابن حجر العسقلاني قوله : رواه الطبراني عن أنس وسنده واه جداً. وأخرجه البيهقي عن جابر من قوله واسناده واه ضعيف ، وقال السخاوي : أسانيده كلها ضعيفة. فيض القدير ٥٥ : ١ ـ ٥٦ ح ١٥.

١٥٢

ومع هذا الحال تتضح لنا صورة أفضل لفهم واحد من الجوانب لجملة من الأحاديث النبوية الشريفة التي وردت بطرق العامة والخاصة كحديث سد الأبواب الذي تضافر القوم على نقله ، وتعددت لديهم طرقه ، وتحدثوا بتأكيد صحته.

فلقد روى النسائي في السنن الكبرى عن زيد بن أرقم قوله : كان لنفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبواب شارعة في المسجد فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سدّوا هذه الأبواب إلا باب علي ، فتكلم في ذلك أناس! فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي فقال فيه قائلكم!! والله ما أنا سددته ولا فتحته ، ولكني أمرت بشيء فاتبعته. (١)

____________________

(١) سنن النسائي ١١٨ : ٥.

وذكر الخبر بلفظه أو ما يقرب منه لفظاً أو معنىً كل من : النسائي في سننه ٥ : ١١٣ ، و ١١٩ ، وفي الخصائص : ٩٨ ـ ١٠٤ ح ٣٨ ـ ٤٤ ، والحاكم النيسابوري في المستدرك ١٢٥ : ٣ و ١٣٤ وصححه في الموضعين ، والحافظ الذهبي في تلخيص المستدرك ١٢٥ : ٣ ، ١٣٤ وصححه في الموضعين ، وأحمد في مسنده ٣٦٩ : ٤ ، وفي فضائل الصحابة ٥٨١ : ٢ ، والبخاري في التاريخ الكبير ٤٠٧ : ١ ، وأبو نعيم في الحلية ١٥٣ : ٤ ، والمباركفوري في تحفة الأحوذي ١١٢ : ١٠ ـ ١١٣ ، ٦٠ ، ١٦٢ ، وابن شيرويه في الفردوس ٣٠٩ : ٢ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ : ١١٤ ـ ١١٥ ، ١٢٠ ، والهيتمي في الصواعق : ١٢٤ ، والقرطبي في التفسير ٥ : ٢٠٨ ، والطبراني في المعجم الأوسط ١٨٦ : ٤ ، وفي المعجم الكبير ٢٦٤ : ٢ و ٩٨ : ١٢ ـ ٩٩ ، والبزار في مسنده ١٤٤ : ٢ ، و ٣٨٦ : ٣ ، وأبي يعلى في المسند ٦١ : ٢ ، والروياني في المسند ٢٧٧ : ١ ـ ٢٧٨ ، وابن أبي عاصم في السنة ٢ : ٥٩٩ ، ٦٠٣ ، ٦٠٩ ، وابن حجر العسقلاني في فتح الباري ١٤ : ٧ ـ ١٥ ، وحمل فيه بشدة على ابن الجوزي الذي كان قد كذّب الخبر وقال : وأخطأ في ذلك خطأً شنيعاً ، وعاود انتقاده في القول المسدد : ٦ ـ ٧ و ١٧ ـ ١٨ وقال : أخطأ في ذلك خطأً ظاهراً ، وفي الإصابة في تمييز الصحابة ٥٦٨ : ٤ ، وأورده أيضاً في لسان =

١٥٣

وكذا مارواه البيهقي عن أم سلمة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : ألا إن مسجدي حرام على كل حائض من النساء ، وكل جنب من الرجال ، إلا على محمّد وأهل بيته علي وفاطمة والحسن والحسين. (١)

وكذا ما روى عن أم سلمة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : ألا لا يحل هذا المسجد لجنب ولا لحائض إلا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، ألا قد بيّنت لكم الأسماء أن لا تضلوا. (٢)

____________________

= الميزان ٢٠١ : ٦ وضعّف فيه ما رووه ان الباب الذي أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإبقائه هو باب أبي بكر ، والقسطلاني في ارشاد الساري لشرح صحيح البخاري ٨١ : ٦ ، والبغدادي في التاريخ ٢٠٤ : ٧ ، والخوارزمي في المناقب : ٣١٥ ح ٣١٤ ، و ٣٢٧ ح ٣٣٨ ، والرافعي القزويني في أخبار قزوين ١٠ : ٣ ، والتبريزي في المشكاة ٣ : ح ٦١٠٥ ، والملا علي القاري في المرقاة ٤٧٢ : ١٠ ، ٤٧٧ : ١٠ ح ٦١٠٥ ، والعقيلي في الضعفاء ١٨٥ : ٤ وأصلح طريقه ، والمحب الطبري في ذخائر العقبى : ٧٦ ـ ٧٧ ، وفي الرياض النضرة ٩٢ : ٢ ، والقاري في العمدة ٩٢ : ٧ ، وأبي المحاسن الحنفي في المعتصر ٣٣٢ : ٢ ـ ٣٣٣ ، وزين بن إبراهيم في البحر الرائق شرح كنز الدقائق ٢٠٦ : ١ ، والمناوي في فيض القدير ٩١ : ١ ، وابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول : ٨٤ ، والسيوطي في الدر المنثور ١٢٢ : ٦ ، وفي الحاوي للفتاوي ٥٧ : ٢ ، وابن الأثير الجزري في أسد الغابة ٢١٤ : ٣ ، والمتقي الهندي في كنز العمال في مواضع عديدة منها ٥٩٨ : ١١ ح ٣٢٨٧٧ ، و ٦١٨ : ١١ ح ٣٣٠٠٤ ، و ١١٠ : ١٣ ح ٣٦٣٥٩ ، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب : ٢٠١ ـ ٢٠٤ ، وابن المغازلي في المناقب : ٢٥٣ ـ ٢٦١ ح ٣٠٣ ـ ٣٠٩ ، وابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية ٣٩٧ : ٧ ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ١٣٨ : ٤٢ ، وابن سعد في طبقاته ٢٦ : ٢ ، ومحمد بن سليمان الكوفي في المناقب في مواضع عديدة منها ٤٧٢ : ١ ، و ٤٠١ : ٢.

(١) سنن البيهقي الكبرى ٦٥ : ٧ ح ١٣١٨٠. وذكر المتقي الهندي مثله في الكنز ١٢ : ١٠١ ح ٣٤١٨٢ ، وابن دحلان في السيرة الحلبية ٣٤٧ : ٣.

(٢) سنن البيهقي ٦٥ : ٧ ح ١٣١٧٨ ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ١٦٦ : ١٤ ، ٤٢ : ١٤١.=

١٥٤

وكذا ما صح نقله في كتبهم من قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين عليه‌السلام : لا يحل لأحد ان يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك. (١)

و ـ إن الطهارة واذهاب الرجس التي تحدّثنا لا تتوقف عند جانب

____________________

= مع العلم أن أغلب كتب العامة روت الخبر إلى قوله : لحائض. واقتطعت بقية الخبر ، وبعضها أضاف كلمة : وأزواجه ، كما هو الأمر في حاشية ابن القيم الجوزية ٢٦٨ : ١ ، والمحلى لابن حزم ١٨٥ : ٢.

(١) سنن الترمذي ٣٠٣ : ٥ ح ٣٨١١ وحسّنه.

أقول : رواه المباركفوري في تحفة الأحوذي ١٤٠ : ٩ ، ١١٣ : ١٠ ، ١٥٩ ـ ١٦٠ ، ١٦٢ وفيه : نقل كلام ابن حجر وقال : طرفه كثيرة بلغت بعضها حد الصحة ، وبعضها مرتبة الحسن ، والأسعردي في فضائل كتاب الجامع : ٤٠ ، والبغوي في في المصابيح ١٧٥ : ٤ ح ٤٧٧٤ ، والتبريزي في المشكاة ٢٤٥ : ٣ ح ٦٠٩٨ ، والملا علي القاري في المرقاة ٤٧١ : ١٠ ح ٦٠٩٨ ، والبيهقي في السنن ٦٥ : ٧ ح ١٣١٨١ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ١١٥ : ٩ ، والبزار في مسنده ٣٦ : ٤ ، وابن حجر العسقلاني في فتح الباري ١٥ : ٧ ودافع عن صحته ، وكذا في تهذيب التهذيب ٣٤٤ : ٩ ، وفي تلخيص الحبير ١٣٦ : ٣ وقواه ، وفي القول المسدد : ١٩ ، والبغدادي في التقييد : ٩٨ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٥١٧ : ٢ وأورد مصحّفاً : «أن يجلس» بدلاً من «أن يجنب» وما فيه ظاهر ، وأبو المحاسن الدمشقي في ذيل تذكرة الحفاظ : ٢١٤ ، والذهبي في سير أعلام النبلاء ١٣ : ٢٧٢ ، وزين بن إبراهيم في البحر الرائق شرح كنز الدقائق ٢٠٦ : ١ ، والنووي في تهذيب الأسماء ٦٣ : ١ ودافع عن صحته ، وفي المجموع في شرح المهذب ٢ : ١٦١ ، والطحاوي الحنفي في حاشيته على مراقي الفلاح : ٩٥ ، والشرواني في حاشيته ٢٧١ : ١ ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء : ١٧٢ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٥٩٩ : ١١ ، ح ٣٢٨٨٥ ، والنبهاني في الفتح الكبير ٣٩٩ : ٣ ، والصديق الغماري في فتح الملك العلي : ٢٠ ، والمحب الطبري في الذخائر : ٧٧ ، وابن طلحة الشافعي في المطالب : ٨٣ ، وابن كثير في البداية والنهاية ٣٤٣ : ٧ ، وابن الأثير في جامع الأصول ٦٥٧ : ٨ ح ٦٥٠٢ ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ٤٢ : ١٤٠ ، و ١٤٢.

١٥٥

الاثم ، بل تمتد لتشمل جوانب الخطأ والسهو والنسيان أيضاً ، وذلك لأن أسباب الخطأ والاثم وغيرهما مشتركة في جانبين هما :

أولهما : الجهل : وقد رأينا أن الرجس يستلزمه وفقاً لمفاد الآية الشريفة : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) (١) وجهد الشيطان الرجيم منصب في الأساس على أن يوجد غشاوة على عقل الإنسان لينسيه ذكر الله وحقائق الأمور ، وفقاً لقول الله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) (٢) ، وكذا قوله تعالى : (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) ولهذا فمن يتطهر من الرجس ، سينضوي حتماً في دائرة الذين يعقلون ، وباعتبار إن التطهّر المشار إليه في الآية تاماً بدلالة ما فيه من مبالغة في التطهير ، فإن العقل (٣) المشار إليه سيكون هو الآخر تاماً ، على تفصيل سيأتيك في محله إن شاء الله.

وثانيهما : منافيات الإيمان : وقد رأينا أن وجود الرجس متعلق بها وفقاً لقوله تعالى : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) (٤) وهذه تأتي من اتباع الهوى ، الذي قد يطرح نفسه بديلاً عن الله جلّ وعلا ، (أَرَأَيْتَ

____________________

(١) يونس : ١٠٠.

(٢) المجادلة : ١٩.

(٣) لا نقصد بالعقل جانب النشاط الذهني ، وإنما نريد به القوة التي يشخّص بموجبها الإنسان حقائق الأمور وبموجبها يثيب الله ويعاقب ، وفقاً لصحيح محمد بن مسلم ، عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : لما خلق الله العقل استطقه ثم قال له : أقبل فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، ثم قال : وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك ، ولا أكملتك إلا في من أحب ، أما إني إيّاك آمر ، وإيّاك أنهى ، وإيّاك أُعاقب ، وإيّاك أُثيب. (الكافي ١٠ : ١ ب ١ ح١). وهو على ما في حديث الإمام موسى الكاظم (صلوات الله عليه) عبارة عن جنود العقل والجهل (الكافي ١٣ : ١ ب١ ح١٢) ويشتمل على ما نسميه اليوم بالعقلين النظري والعملي.

(٤) الأنعام : ١٢٥.

١٥٦

مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ) (١) وهو يفضي لمرض القلوب تبعاً لقوله تعالى : (وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (٢) ولهذا فإن من أُذهب الرجس عن قلبه لا بد وأن يكون سيّداً لهواه مخالفاً له ، ومن طهر قلبه لا بد وأن يكون سعيه باتجاه الكمال كاملاً لا عور فيه ، وإذا ما توافق الفاعل وهو إرادة واهب الكمال مع القابل المؤهل لهذه الهبة ، فإن خروج معلولهما من البديهيات.

ونفي هذين الطريقين وهو ما تعلقت به الارادة الإلهية في إذهاب الرجس ، ولو أضفنا إلى ذلك إرادة التطهّر ، فسنجد أن الملازمة الطبيعية لها ستكون متمحورة ليس في اذهاب الاثم والخطأ .. على حد سواء بشكل كامل فحسب ، بل وفي اضفاء لطف إلهي خاص مجعول لمن يصل إلى هذه المرحلة ليكشف عن بصيرته بشكل كامل وهو تعبير ما نطقت به الآية الكريمة : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٣) ، وهذا البصر الحديدي لن يخرج عن كونه بصيرة بكل شيء وفقاً لما صرّحت به الآية الكريمة : (هذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٤).

إن هذا اللطف وبهذه الحدود هو ما نعنيه بالعصمة الشاملة التي لا مجال فيها لخطأ في التعامل مع الواقع الحقيقي ، فضلاً عن الاثم بمعاييره الشرعية والواقعية كافة ، وقد مر في مبحث كيف تتشكل العصمة مزيد بيان حول هذا الموضوع.

* * *

____________________

(١) الفرقان : ٤٣.

(٢) الكهف : ٢٨.

(٣) ق : ٢٢.

(٤) الجاثية : ٢٠.

١٥٧

إشكالية أهل البيت

إلى هنا فإن البحث قد أفضى إلى التعرف على المواصفات الذاتية التي تستوجب مفاد الارادة الإلهية ، وبطبيعة الحال فستمكّننا هذه المواصفات من التعرف على المراد بمصطلح أهل البيت المشار إليه في الآية الكريمة ، لأن الآية الشريفة وضعت مواصفات ومؤهلات ، وأضفتها على من سمّتهم بأهل البيت ، ولهذا فإن العثور على النموذج الاجتماعي الذي توفرت فيه هذه المواصفات وهو الكفيل بتعريفنا على من يستحق أن يطلق عليه هذا المصطلح ، وبالتالي فسيجنبنا الكثير من عناء العثور على الحقيقة ، فمن المعلوم أن هذا المصطلح قد فسح المجال بسبب خصوصياته وما يترتب عليه في ساحة الصرع السياسي والطائفي ، لكي تعجّ هذه الساحة بالكثير من العجائب التي أفضى إليها النهج الطائفي في تحريف المراد القرآني وتطويع نصوصه وسوق الأكاذيب التي من شأنها أن تحقق كسباً طائفياً ، وإن استلزم ذلك الكثير من العنت والتمحل.

وقبل خوضنا في الحديث عن تفاصيل ذلك يتوجب علينا التذكير بما نعتقد أنه من بديهيات المسلمين وحقائقهم الأولية ، وهو أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما يتحدث بأي حديث فإنما هو ناطق من قبل الوحي الإلهي لوضوح الأمر في قوله تعالى : (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (١) ، ومن الواضح أن هذا الوحي لا علاقة له عاطفياً مع أحد بمعزل عن المعايير الرسالية البحتة ، ولا تعنيه الوشائج الرحمية للرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشيء إلاّ بمقدار تعلق الأمر بهذه الرسالة ، وإلا لما نزل ذلك التقريع الشديد بعم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وامرأته ، ولما مسّت قريش الجاهلية بذلك التعنيف الشديد الذي قد تراه يطال بيتاً كاملاً وأساسياً من بيوتاتها ليصفه بصفة الشجرة الملعونة ، ولهذا فإن

____________________

(١) النجم : ٣ ـ ٤.

١٥٨

تعرض القرآن الكريم والرسول الصادق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحديث عن الجانب الرحمي في آية المودة أو في آية التطهير أو في أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أهل بيته ، إنما تنطلق من هذا المنطلق ، وتنتهل من هذا المنهل.

كما ينبغي التذكير أيضاً بحقيقة تتعلق بالوحدة الموضوعية لما يصدر من الوحي والانسجام التام بين مفردات ما ينزل به ، وعدم تناقض هذه المفردات في ما بينها وفقاً لقوله تعالى : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) (١) ، وعليه فإن ما يصدر من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مجال موضوع محدد ، ينبغي أن ينسجم انسجاماً كاملاً مع بقية المجالات إن كان ثمة تلاق بين مفاهيمها ، ويستوجب ذلك أيضاً انسجام الكلام مع الواقع الخارجي المرتبط بهذه المفاهيم ، وإلا لزم ذلك تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الجهة الموحى إليها ، وتكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو تكذيب للوحي مما ينتفي مبرر وجوده ، وبكلمة أخرى نقول : إن كلام الوحي عن قضية معينة له ارتباط بجهتين ، واحدة تتعلق بجهة الخطاب ، وجهة تتعلق بالقيمة الموضوعية لهذا الخطاب ، فحينما يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي ، فمراد الوحي سيتعلق مرة بموضوع هذه التركة ، وأخرى في كون التمسك بهذه التركة لن يؤدي إلى الضلال مطلقاً ، وتلمّس آثار ذلك هو الواقع الموضوعي للتركة من حيث عدم سلوكها سبل الضلال ، وللأمة المتمسكة بها في أن لا ترد إلى ضلال ولا تخرج من هدى.

* * *

وبالعودة إلى موضوع البحث فإن أول ما سيواجهنا في مجال التعرف على المراد القرآني بأهل البيت هو محاولة العثور على المصاديق الاجتماعية للمؤهلات التي طرحتها الآية الكريمة ، وهذه المحاولة في تصوّري تحتاج

____________________

(١) النساء : ٨٢.

١٥٩

إلى تحقق شرطين :

الأول : إخبار الصادق عن توفر هذه الشروط في الجهة المعتمدة ، وهذا الصادق ينبغي أن يكون صدقه مطلقاً ، وبلحاظ أن أمر هذه العصمة لا يلاحظ بمقاييس الظاهر ، وبلحاظ منع الله سبحانه من تزكية النفوس ، وإيلاء هذه المهمة إليه ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهذا فإن هذا الشرط منحصر في إخبار المعصوم عليه‌السلام ، ولهذا نقول بأن : أقوال المفسرين من الصحابة (١) أو التابعين أو غيرهم ستفقد مصداقيتها إن افتقرت إلى إخبار متيقن من هذا الصادق.

الثاني : صدق التلازم بين المواصفات التي طرحتها الآية الشريفة ، وبين المؤهلات الذاتية للنموذج الاجتماعي المختار في هذا المجال.

وقبل أن نتصدى للبحث عن هذا النموذج يفترض بنا التذكير بأن هذه الآية مثل غيرها من الآيات لم تتحدث عن هذه المواصفات في الفراغ ، وإنما هي أشارت إلى النموذج الاجتماعي الموجود فعلاً في الوسط الاجتماعي الذي وجه الله سبحانه وتعالى خطابه إليه.

وكنا قد قدمنا سابقاً المتواتر من نصوص أهل العامة ، على أن أهل البيت هم أهل الكساء عليهم‌السلام ، وقد لاحظنا الأمور التالية :

١ ـ اصرار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إخراج من هم غير الأربعة المتبقين من

____________________

(١) نظرية عدالة الصحابي المطلقة والتي يطرحها الحديث المكذوب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أصحابي كالنجوم بأيهم اهتديتم اقتديتم ، تساوق معنى : عصمة الصحابي ، وإن لم يجرؤ علماء العامة على الاعتراف الصريح بهذه العبارة ، ولكن سيرتهم العملية وطبيعة تعاملهم مع الصحابة وتكفيرهم أو تفسيقهم لمن يمسّ أي صحابي وإن كان قاتلاً أو زانياً أو مجافياً لما أمر به الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحكي ذلك بوضوح ، وهي من النظريات التي ثبت خطلها ، وسنعود للتحدّث عنها في مطاوي بحثنا عن حديث إن شاء الله تعالى.

١٦٠