عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

الشيخ جلال الدين علي الصغير

عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

المؤلف:

الشيخ جلال الدين علي الصغير


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأعراف للدراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

لو اجتمع بعضها لدى اعرابي من الأعراب ما قبلوا له شهادة!! فهو حسب مروياتهم : نزق يقفز من بيت لآخر ، لاهث وراء الدنيا رغم ان الدنيا كانت كلها بين يديه ، يتلصص النظر من على أسطح الناس ، لايتورع من النظر إلى المحرمات ، تستحي منه امرأة ولا يستحي هو من ربه ، وتدفع به الخطيئة إلى حد ارتكاب جريمة قتل ، بهدف مضاجعة امرأة!! يا لله ولعقول القوم أي فرية افتروها على نبي الله ، وأي وصمة وصموها لمن طهره الله!!

وأيّاً كان فالقصة القرآنية ليس فيها أي أمر يشير إلى ما قصّوه ، وكل حديثها أن خصمان من الملائكة اختبروا حكمة داود عليه‌السلام ، فحكم لأحدهما دون أن يستمع إلى حجة الآخر ، وكان ذلك بمثابة تذكير له على ما ظنّ أن الله لم يخلق خلقاً أعلم منه ، وفي هذا الصدد نرى الإمام الرضا عليه‌السلام بعد أن سأل ابن الجهم عما يقوله الناس في تفسير الآيات ، فقصها على نحو ما ذكرناه يضرب بيده على جبهته ويقول : إنا لله وإنا إليه راجعون! لقد نسبتم نبيّاً من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته ، حتى خرج في أثر الطير ، ثم بالفاحشة ، ثم بالقتل! فقال ابن الجهم : يابن رسول الله فما كان خطيئته؟ فقال : ويحك! إن داود إنما ظن أن ما خلق الله عزّ وجلّ خلقاً هو أعلم منه ، فبعث الله عزّ وجلّ إليه الملكلين فتسورا المحراب فقالا : (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب) فعجل داود عليه‌السلام على المدعى عليه ، فقال : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) ولم يسأل المدعي البينة على ذلك ، ولم يقبل على المدّعى عليه فيقول له : ما تقول؟ (١)

٨ ـ قصة سليمان عليه‌السلام مع الخيل : وهي القصة التي عرضت لها الآيات الكريمة : (وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ

____________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١٧٢ : ١ ب ١٤ ح ١ للشيخ الصدوق ؛ مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ١٩٨٤ ط ١.

٣٢١

الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) (١) ، وقد اعتبرها القوم من الآيات الدالة على عدم عصمة الأنبياء عليهم‌السلام ، فلقد رووا انه عليه‌السلام شغله التشاغل باستعراض الخيل عن ذكر ربه وعن صلاته ، فقال : لا تشغلني عن عبادة الله تعالى ، فراح يضرب أعناقها ويقتلها! (٢)

والواقع القرآني يشير إلى غير ذلك بالمرة ، فوق التفسير الذي يعتمده القوم فإن سليمان كان قد ترك صلاته ، ثم اتهم بريئاً بالتسبب بذلك ، ثم راح يبذر مال الله المؤتمن عليه ، وأي مال هو؟ (٣) وهذا ملا ينسجم بحال من الأحوال مع المديح القرآني لسليمان عليه‌السلام بالمرة ، فأين نعم العبد من العبد التارك لصلاته؟!! وأي الأوّاب من المسرف في أمر ربه وخلقه؟!! وأين النبي من ظلم الأبرياء؟!!

وقد كان بامكان القوم حمل الآية على سياقها الظاهر ليحفظوا فيها خصائص النص القرآني وخصائص مقام النبوة ، فلقد استعرضها بالليل ، والليل ما من استعراض للهو فيه ، فمن يريد أن يلهو عادة ما يلهو في النهار ، خاصة في تلك الأزمان التي ينعدم فيها الضوء! وما استعرضها في الليل إلاّ

لأمر مهم ، فحاشا لأنبياء الله أن يكونوا من اللاهين العابثين ، وحين ذهبت الخيل في استعراضها إلى المدى الذيتنعدم فيه الرؤيا طلب أن يرجعوها ، حتّى إذا ما رجعت راح يغسل أقدامها وأعناقها ، وهو الأنسب بخلق الأنبياء وسجاياهم.

٩ ـ قصة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع امرأة زيد : وقد عرض القرآن لهذه القصة في الآية الكريمة : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ

____________________

(١) سورة ص : ٣٠ ـ ٣٣.

(٢) الدر المنثور ٣٠٩ : ٥.

(٣) كان المال المشار إليه هو خيل الجهاد في سبيل الله.

٣٢٢

زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً) (١) وقد اعتبرها القوم من الآيات الدالة على القدح بعصمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلقد رووا انه طلب زيد بن حارثة ، فلم يجده في بيته فرأى زينب فوقعت في قلبه!! وذهب يهمهم مع نفسه ويقول : سبحان مصرف القلوب فأخبرت زينب زوجها زيد فجاء إلى الرسول يسعى وهو يقول له : يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها؟ فقال له الرسول : أمسك عليك زوجك وهو يخفي عن زيد مشاعرة تجاه زوجه!! (٢)

وإن اللسان ليعجز عن وصف جرأة هؤلاء على رسولهم ، أفلرسول الله الحيي يقال ذلك؟ أم لرسول الله الزاهد في الدنيا وما فيها ينسب ذلك؟ أم لرسول الله الورع المتقي يعزا طمعه في زوج غيره؟!!

وبمعزل عن تفاهة هذا المقال واجحافه المرير بحق رسول الله بأبي وأمي ، فإن الآية ناظرة إلى أمر يختلف كلية عما ذكروه ، فزينب هي قريبة رسول الله وبنت عمته ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو من أمر بزواج زينب من زيد مولاه ، وكان زيد ينعت بابن محمد ، ومن شأن الجاهلية أن من مثل زيد ممن ينتسب إلى البيوت إن طلق زوجته ، فلا يتزوجها مربيه ، وأراد الإسلام أن ينقض ذلك ، وكان من علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أمر زينب سيؤول إليه في النهاية ، ولكن هذا العلم كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يخفيه ولا يبديه ، فجاء زيد وهو يشكو زوجته لرسول الله لأمر يعرض لزوج مع زوجته ، فيطلب الرسول من أن يمسك زوجته ويتقي الله ، ولم يتكلّم بأمرها حتى طلقها زيد نتيجة ما ثار بينهما من مشاكل ، وانقضت عدتها ، وأراد الله من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتزوجها ، فيما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخشى أقاويل المحيطين به ، فنزلت الآية الشريفة وهي تطرح

____________________

(١) الأحزاب : ٣٧.

(٢) الدر المنثور ٢٠٢ : ٥.

٣٢٣

الموضوع بالصورة التي طرحته فيه.

١٠ ـ أمنية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقاء الشيطان : وقد وجد القوم في الآية الكريمة : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١) منفذاً للقدح بشخصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرووا واحدة من أشنع القصص المجحفة بحق الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلقد أخرج أغلب رواتهم ومفسريهم ومؤرخيهم وأصحاب صحاحهم ومسانيدهم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، والذي كان دأبه مواجهة العقائد الفاسدة ، والذي جاء نبيا للتوحيد لا تأخذه في سبيل ذلك لومة لائم ، حاول أن يستميل المشركين بذكر آلهتهم بخير ، فألقى الشيطان العاجز عن التأثير على من هو أدنى مرتبة من خدّام الرسول بأبي وأمي فضلاً عن الرسول نفسه على لسانه ما يرضي هؤلاء ، فبينما كان يقرأ : (أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) (٢) ألقى الشيطان في لسانه فقال : تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ، (٣) وإذا بنبي التوحيد والإخلاص يتحول بين عشية وضحاها ليبشّر بالشرك ويطلب معونة آلهة المشركين وشفاعتها!!

ولكن الحال هو غير هذا التفسير المتجني على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصورة لا تقل عن تجني المشركين على حقه ، فالأمنية ـ أي أمنية ـ تتكون من طرفين ، أحدهما داخلي يرتبط بوعي وادراك وأحاسيس المتمني ، والآخر خارجي يرتبط بتحقق ما يتمناه ، ولو خصصنا الكلام ضمن مدار الواقعة فسنجد ان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له أمنية يرتبط أحد طرفيها بأحاسيسه وفكره ، وهذه الأمنية هي رغبته في أن يهتدي أكبر قدر ممكن من الناس ، والطرف الثاني

____________________

(١) الحج : ٥٢.

(٢) النجم : ١٩ ـ ٢٠.

(٣) الدر المنثور ٣٦٦ : ٤ ـ ٣٦٨.

٣٢٤

يرتبط في قبول الناس الذين يرغب أن يهتدوا ، وما من ريب أن النصّ القرآني يمنع من تدخل الشيطان في الواقع الداخلي للشخصية النبوية ، فالشيطان كما تقدم لا سلطة له على أولياء الله سبحانه ، فكيف برسول الله وسائر النبيين؟ ولا يبقى عندئذ غير الواقع الخارجي للأمنية وهو الواقع المتصل بمن يحب هدايته ، وهذا الواقع نجد امكانيات الشيطان في النفاذ إليه مفتوحة ، فأي الطرفين يصح تصنيف القاء الشيطان في أمنية الشخصية النبوية ضمنه؟! (١)

١١ ـ غفران الذنوب المتأخرة والمقتدمة والتوبة : وقد أعرب القوم عن أن الآية الكريمة : (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٢) فيها من الوضوح الكافي للقدح بهذه العصمة ، فما كان الله ليغفر الذنب المتقدم إلا بسبب وقوعه وتحققه ، تذرعوا لذلك بقوله تعالى : (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) (٣) ، وكذا قوله تعالى : (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (٤) ، ولا توبة من شيء إلا من بعد وقوعه.

وهذه الشبهة من الأمور الواضحة البطلان ، فعلاوة على ما تقدم بشأن ضوابط النص القرآني الذي لا يمكن أن يكشف عيوب مؤمن ويعرّض به ، فضلاً عن رسول هذا النص لو كان لديه وحاشاه من ذلك كله ، وخصائص المقام النبوي الذي لا يمكن أن يصل إليه من له ذنب واحد ، نلحظ أن الآية

____________________

(١) سنعود لهذه الآية من جديد في الفصل القادم أثناء مناقشتنا لأفكار محمد حسين فضل الله المضادة للعصمة.

(٢) الفتح : ١ ـ ٣.

(٣) التوبة : ٤٣.

(٤) التوبة : ١١٧.

٣٢٥

الأولى جاءت ضمن سياق مع الآية المتقدمة والمتأخرة عنها ، مما يعطي لتفسيرها وضوحاً كافياً ، فالحديث عن النصر والفتح وبينهما حديث عن الذنب المغفور ، وهذا ما يعطي الحديث عن المغفرة القرائن الكافية لتكون متعلقة بما يترتب في العادة على الفتح والنصر ، مما يجعل الذنب متعلقاً بما بدر من الرسول تجاه الذين انتصر عليهم ، بحيث إن الفتح جاء ليقضي على كل ما كان القوم الذين انتصر عليهم يعدونه ذنباً ويمحوه ، وما من دلالة ـ ولو بسيطة ـ تتحدّث عن وجود ذنوب دينية أو أخلاقية لديه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومثل هذا الحديث حديث الآيات القرآنية المماثلة التي نجدها واضحة في الحديث عن المترتبات الاجتماعية المتخلفة عن جهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خدمة رسالته ودينه ، وهو جهد تميّز بصوابيته ، ولكن العمل الصائب لا يمنع من نشوء آثار سلبية في الطرف المقابل للعمل ، وهو الأمر الذي تتحدث عنه آية : (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يريد أن يخفف من احتقان النفوس ، وأراد الله أن يشير إلى هذه الخصيصة من خلق الرسول الاجتماعي ، فجاء الحديث القرآني بلهجة المستزيد. فافقه وانتبه لذلك!!

١٢ ـ قصة العابس الذي تولّى : وهي القصة التي استعرضتها آيات سورة عبس العشرة الأُول : (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (١) ، فلقد رأى القوم أن السورة نزلت بحق الرسول الذي جاءه ابن أم مكتوم أثناء جلوسه مع رهط من القوم المشركين بهدف هدايتهم طالباً منه أن ينفعه بالذكر ، فعبس بوجه ابن مكتوم الأعمى ، وأقبل على ذلك الرهط ، فنزلت الآيات الأولى من السورة ، لتكشف ما يقدح بعصمته مطلقاً ، أو بامكانية أن يرتكب الذنوب الصغيرة.

____________________

(١) عبس : ١ ـ ١٠.

٣٢٦

ولكن السورة من خلال ملاحقة جميع القرائن المرتبطة بها ، لا تتفق مع ما يزعمون ، فلدينا هنا مجموعة من القرائن الحالية والمقامية تؤكد جميعها براءة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما وصموه به ، فمن جهة لدينا الرسول الذي وصف بأنه صاحب الخلق العظيم ، ومن الواضح أن العبوس صفة سيئة لو جاءت من أي إنسان ، فما بالك برسول الله؟ وكذلك لدينا الرسول المأمور بالمرابطة مع الذين يذكرون ربهم ، وما من شك أن ابن أم مكتوم تنطبق عليه هذه الصفة ، وكذلك لدينا الرسول الحريص على رفع العنت عن المؤمنين ، والمتصف بالرحمة والرأفة بهم (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (١) وما من ريب أن ابن أم مكتوم واحد من أصدق من تنطبق عليهم ضرورات الرأفة والرحمة بهم ، فهو من أهل الصفّة ، وله رحم بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو أعمى ، فهل يمكن القول بأن رسول الله قد خالف كتاب الله؟!

ومن جهة نجد العتاب القرآني للعابس انحصر في المهمات اللصيقة في صلتها بمهمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالتزكية والتذكير المعربة عنهما الآية بعنوانهما هدف ابن أم مكتوم هما من صلب وظائف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما تعرب عن ذلك الآيتين التاليتين : (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ) (٢) ، وقوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (٣) ، وعندئذ فإن قيل : إن الآية نزلت وهي تعرّض بموقف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي نسي عهد ربه إليه محبة لهداية أحد مجالسيه ، فلقد طرحوا بذلك عظيماً ، كيف لا؟ وهم بذا ينقضون تعهد الله سبحانه بأنه لن يجعل رسالته إلا حيث يعلم بأهلية الحامل لها ،

____________________

(١) التوبة : ١٢٨.

(٢) آل عمران : ١٦٤.

(٣) الغاشية : ٢١.

٣٢٧

كما يقول الله سبحانه : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (١) ، كما ونسوا أن الله قد أمر الرسول بأن لا يذهب نفسه عليهم حسرات كما قال الله سبحانه : (فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) (٢) ، وأنه أمر هدايتهم ليس إليه وإنما هو إلى الله سبحانه كما تشير الآية : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (٣).

ومن جهة ثالثة جاءت الآيات وهي جادة في تعريضها وازرائها بالعابس في أمور لا تتناسب مع مقام النبوة ، فهو عابث يسعى وراء من لا يستحق ، ويترك المستحق ، وهو يلهو عن واجب التلبية لمن يسعى إليه ليلهو بالمستغني عن ذلك كله ، فهل يمكن لمسلم أن يتصور أن رسوله بهذه الصفات؟!

ومن جهة رابعة فثمة أعمى ، وآخر يعبس الوجه لقدومة ، وثالث رأى عبوس العابس كما رأى قدوم الأعمى ، ومن الواضح أن الآية لا تعرّض بالأعمى ، كما أن الأعمى لا يتأثر بعبوس العابس ، فهو لا يرى عبوس وجهه ولا بشاشته ، فلا يبقى لدينا غير الرجلين ، رجل وصف بأنه صاحب الخلق السيىء وآخر قالوا عنه بأنه أحد المشركين (٤) ، وهو وصف يتحمل أكثر من الازراء الذي تعرض إليه الآيات الكريمة ، فهل إن الله أراد أن يهين رسوله أمام هذا المشرك كما يزعمون؟! تالله أي اساءة في ما تحكمون!! (٥)

* * *

____________________

(١) الأنعام : ١٢٤.

(٢) فاطر : ٨.

(٣) البقرة : ٢٧٢.

(٤) سياق الآيات وحديثها عن مهمات الأعمى وطبيعة التعريض بشخصية العابس تؤكد أنه ممن أسلم ، وعلى ذلك روايات أهل البيت عليهم‌السلام.

(٥) سنعاود الحديث عن الآية في مجالاتها الأخرى وذلك في معرض حديثنا عن آراء محمد حسين فضل الله إن شاء الله تعالى.

٣٢٨

نكتفي بهذا القدر من استعراض شبهات القادحين بعصمة الأنبياء بقصد ومن دونه ، وهو في تصوري كاف في تفنيد الشبهات المتبقية منها والتي أجد أن الكتاب لا يتسع للحديث عنها جميعاً ، وقد رأينا أن هذه الشبهات فيها من التهافت والضعة القدر الكبير ، وقد صدرت لتعرب عن فهم متدن للآيات القرآنية ، وقد تداخلت عوامل السياسة والتعصب والسذاجة في بناء عجز هذا الفهم وتعزيز قصوره وتقصيره.

* * *

التفاضل بين الأنبياء لا يقدح بعصمتهم

وتبقى ثمة شبهة أخرى على عصمة الأنبياء قد تتداعى صورتها في أذهان البعض من حديث القرآن الكريم عن وجود حالة من التفاضل بين الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي حالة ما كانت لتوجد إلا بسبب وجود اخطاء أو ذنوب تستدعي أن يتفاضل أحدهم على الآخر ، وقد يعززها الحديث المتكرر عن تأديب الله سبحانه لأنبيائه.

ومع تأكيدنا على وجود حالة التفاضل هذه ، غير إن العصمة شيء والتفاضل شيء آخر فهما موضوعان مختلفان ، ووجود أحدهما لا يعني نفي الآخر ، فالعصمة هي بوابة العهد الرباني ، والتفاضل مضمار طويل في مدراج الكمال ، والسير في هذا المدارج كلما سبرت أغواره كلما رأينا أن ميزاته تزداد دقة ، وتوضيح ذلك أننا نخصص النظر بين الموحد والمشرك فلدينا الموحد الفاسد أفضل من المشرك كائناً ما كانت شاكلته ، وحينما نضيق الدائرة فنجعلها مقتصرة على الموحدين عندئذ سنعطي لدرجة التمييز دقة أكثر وعندها سيكون الموحد المسلم كائناً من كان أفضل من الموحد النصراني أو اليهودي أو غيرهما من أصحاب الديانات ، ولو أردنا التخصيص أكثر احتجنا إلى دقة أكثر في معايير التفاضل ، فعندها سيكون المسلم المؤمن أفضل من

٣٢٩

المسلم الأعرابي ، ولو قصرنا النظر إلى دائرة المؤمنين فعندها ستتخصص معايير التمايز لتكون أكثر دقة وصرامة ، فسيكون لدينا المؤمن المجاهد أفضل من المؤمن القاعد ، ومن بعدها سنجد أن الأبرار أقل درجة من المقربين ، رغم علو درجة الأبرار ، وهكذا سيستمر الأمر حينما سنصل إلى المعصومين حيث سنجد أن معايير التفاضل تغدو متشددة جداً وتبلغ من الدقة درجة قد لا نشعر حتى بضرورتها ، ولكن هذه الدقة المتشددة هي من بديهيات هذه المعايير ، فيوسف المعصوم عليه‌السلام يؤاخذ مؤاخذة شديدة من قبل الله بسبب قوله : (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) (١) ، وهو قول في معاييرنا لا ضير فيه ، ولكن في دائرة الخلة فإن يوسف الصديق عليه‌السلام كان ينبغي أن لا يطلب ذلك من الملك لأن الله ومن بيده كل شيء ، ومن شأن الخليل الصادق في خلته أن يحاسب خليله حساباً شديداً حرصاً على بقاء الخلة في مستواها الممكن ، أو انه يستحثه كي يتقدم بمستوى هذه الخلة إلى ما هو أفضل من وضعها الحالي ، ولكن هذا الحساب لا علاقة له بمنزلة العصمة ، فهي منزلة قد بلغها النبي من قبل أن يصل إلى هذا المضمار ، وعندئذ فمن الطبيعي أن يتفاضل عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذي بلغ بخلته مرحلة الدنو والقرب كقاب قوسين أو أدنى ، حتى بلغ به الحال أن الله سبحانه وتعالى يرأف باندفاعه نحو تحقيق واجبات خلته مع عظيم السماوات والأرض ، فيطالبه برأفة أن لا يشقى كما وصفت آية سورة طه : (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) (٢) ، وهي مطالبة تختلف عن مطالبات الأوامر والنواهي ، إنما هي مطالبة رأفة به من جهة أن لا يهلك لكثرة تعبّده ، وأراد أن يضرب بها المثل عن طبيعة عبادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

* * *

____________________

(١) يوسف : ٤٢.

(٢) طه : ١ ـ ٣.

٣٣٠

مسألة سهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وثمة شبهة أخيرة في هذا المبحث هي شبهة سهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه الشبهة متداولة بشكل متسالم عليه في كتب العامة ، وقد تورطت بها بعض كتب الشيعة ، ولكن من حيث التحقيق العلمي ، فالشبهة في أصولها تعتمد على رواية عامية تماماً ، والتشيع بما يمثله من فكر مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام بريء منها جملة وتفصيلاً ، وبالرغم من أه هذه الشبهة لها بحث هو ألصق بعلم المعصوم عليه‌السلام من مبحث عصمته ، إلا إننا سنقتصر على مناقشتها بمقدار تعلّق الأمر بعصمة المعصوم ، والمتبقي منها كنا قد استوعبنا الحديث عنه في كتابنا : «علم المعصوم عليه‌السلام» الذي نأمل أن يرى النور بعد هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

ومدار الشبهة ناظر في أذهان هؤلاء إلى أن القرآن الكريم تحدّث عن سهو النبي ونسيانه كما في قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) (١) ، وكذا في قوله تعالى : (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ) (٢) ، وكما في بعض الأخبار التي تشير إلى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسهو في صلاته مثلاً ، كما ورد في الخبر الذي رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه ؛ وأحمد في مسنده عن أبي هريرة قوله : صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر فسلّم في ركعتين ، ثم أتى جذعاً في قبلة المسجد فاستند إليها مغضباً ، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يتكلما وخرج سَرَعان الناس (٣) قصرت (٤) الصلاة ، فقام ذو اليدين فقال : يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فنظر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يميناً وشمالاً فقال : ما يقول ذو اليدين؟ قالوا : صدق لم تصلّ إلا ركعتين فصلّى

____________________

(١) الكهف : ٢٤.

(٢) الأنعام : ٦٨.

(٣) سرعان الناس كما يقول النووي : المسرعون في الخروج منهم.

(٤) هكذا المصدر ولربما المراد هو أنهم خرجوا مسرعين يقولون : قصرت.

٣٣١

ركعتين. (١)

وجاء في خبر آخر : إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون. (٢)

وحين يسهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلاته ، فهو على الأقل دليل على عدم شمولية عصمته ، هذا إن لم يكن بطبيعه دليلاً حازماً في رد هذه العصمة بكل تفاصيلها.

وهذه الشبهة لا تقوى في الواقع على الصمود أمام النقد الموضوعي ، فإن كان مستندها مثل هذه الأحاديث فهي مضطربة سنداً ومتناً وتركيباً ، ولست في صدد مناقشتها ولكن يكفي هنا الإشارة إلى أن ذا اليدين هذا قد احتار القوم في هويته ، فأغلبهم على إنه ذو الشمالين ، ومن المعلوم أن ذا الشمالين قد استشهد في بدر ، فمن أين التقاه أبو هريرة؟ ومنهم من قال انه غير ذي الشمالين واسمه عمير بن عبد عمرو ، وسمّاه بالخرباق السلمي ، وقد ضعّف البخاري حديثه هذا (٣) ، وأفضل ما لديهم من أسانيد الخبر تنتهي بأبي هريرة ، ومن أولى من أبي هريرة بأحاديث كهذه؟!!

وكيفما كان أمر السند ، فإن المتن واه جداً ، كيف لا؟ وقد خالفوا فيه جملة من الآيات القرآنية ، فالقرآن حريص على عدم نسبة النسيان إلى الله سبحانه ، بل في كل المرات التي تعرّض فيها إلى أسباب النسيان كان الايعاز فيها إلى الشيطان كما نجد ذلك في قوله تعالى : (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) (٤) ، وكما في قوله : (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) (٥) ، وهكذا قوله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ

____________________

(١) مسلم بشرح النووي ٦٨ : ٥.

(٢) مسلم بشرح النووي ٦٦ : ٥.

(٣) انظر الكامل في ضعفاء الرجال ١٢٠ : ٣ ، والضعفاء للعقيلي ٢٥٠ : ٤.

(٤) يوسف : ٤٢.

(٥) الكهف : ٦٣.

٣٣٢

فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (١) ، ومن الواضح ان الشيطان لا سبيل لتأثيره على من له مقام العبودية الصادقة فكيف بمثل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

والرسول الذي اتفق المسلمون على إنه تنام عينه ولا ينام قلبه ، فكيف يمكن أن نصف نسيانه؟! والأنكى من كل ذلك أن ما عرضته الأخبار هو النسيان في حال الصلاة ، ولك من بعد ذلك أن تتأمل في رسول المسلمين يصلي وقلبه ساه عن ذكر ربه؟!! يا قومنا ما لكم تؤذون الله في رسوله (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً) (٢).

وبذا يعلم ان امكانية النسيان والسهو عند النبي معدومة ، لأن القول به يستدعي تكذيب الآيات التي عزت النسيان إلى الشيطان ، وتكذيب الآيات التي أخبر الله فيها بأن الشيطان لا سبيل له على أوليائه ، ومعه يعلم قيمة الأخبار التي تحدثت عن أن الرسول بأبي وأمي ينسى كما ننسى!! كما ويعلم حال الآيات التي تحدثت عن النسيان ، إذ ينبغي تأويلها إلى ما يبتعد بها عن هذا المعنى ، وتفصيل كل ذلك في كتابنا عن علم المعصوم عليه‌السلام إن شاء الله تعالى. (٣)

____________________

(١) المجادلة : ١٩.

(٢) الأحزاب : ٥٧.

(٣) لمناقشة موجزة لما وقع فيه غير كتاب من كتب الشيعة في مطب هذه المشكلة سنعود بحول الله إلى الحديث عن سهو المعصوم عليه‌السلام في القسم اللاحق ، إذ ان طريقة الحديث عن ذلك تختلف عنها في هذا القسم.

٣٣٣
٣٣٤

القسم الثاني

الإشكالات المطروحة حول عصمة أهل البيت عليهم‌السلام

بعد أن انتهينا من اثبات عصمتهم (صلوات الله عليهم) ، نستعرض في هذا القسم ثلاثة إشكالات طرحت حول عصمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد يأتي من يطرح أكثر من ذلك ، ولكن ما طرحه هؤلاء وغيرهم محكوم بضوابط أساسية هي التي تحكم مفهوم العصمة ، وبالتالي فإن أي إشكال يجب أن ينسجم مع هذه الضوابط ، ويستجيب لاشتراطاتها ، وهذه الضوابط تتمحور في التالي :

أ ـ إن أهل البيت عليهم‌السلام قد أولتهم الارادة الإلهية العصمة في غير مورد من الكتاب الكريم ، وذلك بشكل شخصي لا يعتدى إلى بقية الناس ، ولئن حاول البعض ـ فاشلاً كما رأينا من قبل ـ تعديته فإنما يعدّيه لفئة قليلة كأزواج النبي أو أقاربه وما إلى ذلك ، فإنه في أسوأ الظروف لن يتمكن من اخراجهم من هذا الإيلاء ، ولن يدخل الكثير من غيرهم ، ولو أدخل غيرهم فلن يسلم من انتقادات في منتهى الجدية والمصداقية ، كما رأينا ذلك في آية التطهير ، (١) وفي آية الولاية ، (٢) وفي آية المباهلة ، (٣) وفي آية المودة ، (٤)

____________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

(٢) المائدة : ٥٥.

(٣) آل عمران : ٦١.

(٤) الشورى : ٢٣.

٣٣٥

وفي أية الإطعام. (١)

وهذا الإيلاء تمسك به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبنفس التشخيص ، وأعرب عنه في مواضع كثيرة ، كما رأينا في حديث الثقلين ، وحديث الكساء ، وحديث الغدير ، وحديث المنزلة ، وغيرها.

ب ـ إن الكثير من الآيات القرآنية قد أولتهم من خلال دلالاتها الإلزامية هذه العصمة أيضاً دون غيرهم ، ولا تقبل التخصص إلا بهم ، كما نرى ذلك في آية ولاية الأمر ، (٢) وفي آية الراسخين في العلم ، (٣) وفي آية من عنده علم الكتاب ، (٤) وفي آية الانذار. (٥)

ج ـ إن الآيات المنضوية تحت الفقرتين (أ) و (ب) تنضوي من جهة العصمة تحت شرط الآية الكريمة : (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٦) ، وهذا الشرط لا ينسجم مع الخطأ ، لأن أي خطأ مهما صَغُر أو عظم هو في الواقع الأمر نمط من أنماط الظلم.

د ـ عرفنا سابقاً إن الخطأ من بنات الجهل ، ولم يعرف أئمة أهل البيت عليهم‌السلام بعلمهم فحسب ، وإنما بأعلميتهم أيضاً ، وعرفنا أيضاً ان وساوس الشيطان وكيده المتسم بالضعف ، وجهده الموصوف بالقصور عن أن يجاريهم لأن سلطانه محدود ، وبان شأن ترفعهم على تزيينات هوى النفس واغواءاتها فقد زكاهم الله في أكثر من موضع لا أقل ما نراه في آية التطهير.

____________________

(١) مفتتح سورة الدهر.

(٢) النساء : ٥٩.

(٣) آل عمران : ٧.

(٤) الرعد : ٤٣.

(٥) الرعد : ٧.

(٦) البقرة : ١٢٤.

٣٣٦

وهذه الضوابط بمحضها قابلة لرد ما يناقضها نتيجة لدلالتها القطعية ، فكيف إذا عرفنا أن ما أشكلوه به لا يناقض هذه العصمة ، بل في بعض الأحيان يؤكدها.

وأيّاً كان فإن الإشكالات التي طرحها المشككون بعصمتهم (صلوات الله عليهم) هي :

أولاً : ولست في نفسي بفوق أن أخطىء!

وهذا الإشكال يبتنى أساسه إلى قول أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في نهج البلاغة أثناء حثّه للناس على عدم المصانعة مع الحاكم فقال : ولا تخالطوني بالمصانعة ، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي ، ولا التماس إعظام نفسي ، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه ، كان العمل بهما أثقل عليه ، فلا تكفّوا عن مقالة بحق ، أو مشورة بعدل ، فإنّي لست في نقسي بفوق أن أُخطىء ، ولا آمن ذلك من فعلي ، إلاّ أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني ، فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره ، يملك منا ما لا نملك من أنفسنا. (١)

وقد وجد بعض أهل العامة ، وبعض من ارتد من التشيع كمحمد حسين فضل الله معرّضاً ، وكأحمد الكاتب ناصّاً ، في هذا القول دليلاً ولا أقوى منه على ضعف المستند الشيعي على العصمة ، وذلك لأن نفس من يعصمونه من الخطأ والزلل يقول عن نفسه بأنه ليس في نفسه بفوق أن يخطىء. (٢)

____________________

(١) نهج البلاغة : ٢٤٥ خ ٢١٦ جمع الشريف الرضي (ت ٤٠٤ هـ) دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت ١٩٩٠ ط ١.

(٢) انظر كلمات محمد حسين فضل الله في العدد الثاني من مجلة الجدار اللبنانية ، وقد تحدث فيها بعد أن أورد الكلمة مع حرصه على حذف كلمة في نفسي عن ضرورة محاسبة الإمام علي عليه‌السلام وانتقاده ، وكذا في ص ١٥ ـ ١٦ من العدد : ٩٤ ـ ٩٥ من =

٣٣٧

ولكن خطاب أمير المؤمنين عليه‌السلام شيء ، ونفي العصمة شيء آخر ، بل يمكننا القول بأنه صلوات الله عليه قد أكّد عصمته في هذا الخطاب ، وبعيداً عن أجواء الخطاب وأسباب ذكره لهذه المطالب ، فإنه صلوات الله عليه قد طرح مطلبين في طول واحد ، فلقد طرح أنه في نفسه ليس بأعلى ممن يخطىء ، ثم أعقبه مباشرة باستثناء وشرط بقوله : إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني ، فأين نفي العصمة في ذلك؟ فلقد قلنا مسبقاً : إن النفس الإنسانية مجبولة على تصارع التقوى مع الفجور ، ومتى ما تغلب عنصر التقوى على الفجور كان إمداد الله ولطفه حاضراً لتسديد الإنسان وتوجيهه ، وتفاقم غلبة هذا العنصر يؤدي إلى تفاقم الإلهي ، ومداه لا يتوقف عند العصمة فحسب ، بل يمتد إلى أعظم من ذلك ، ولم يشير أمير المؤمنين عليه‌السلام في كلامه إلى غير هذا المفهوم ، وهو في ذلك يشير إلى نفس مؤدى الآية الكريمة : (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) ، فمع وجود الاستثناء ينتقض السابق له ، ولقد كان ابن ابي الحديد المعتزلي أكثر انصافاً من هؤلاء حينما رأى في شرحه لهذا الكلام ان الظاهر فيه هو الاعتراف بعدم العصمة ، ولكنه أعقب قوله هذا بالقول : أو يكون قاله على سبيل هضم النفس كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولا أنا إلاّ أن يتداركني الله برحمته. (٢)

____________________

= مجلة المنطلق بلهجة أخف وأخفى مع حذف نفس ما حذفه في مجلة الجدار ، وقد نقل عنه الأخ الحجة السيد جعفر مرتضى (حفظه الله تعالى) في ص ٢٤ ـ ٢٥ من كراسه : «لست بفوق أن أخطىء» قوله عن هذا النص بأنه يكاد يكون صريحاً على امكان وقوع الخطأ من المعصوم : ولكنه الخطأ غير المعتمد الذي لا يوجب عقوبة ، ولا بعداً عن الساحة الإلهية ، ولا يعدّ من الذنوب لا من كبيرها ولا من صغيرها. وانظر أيضاً كلام أحمد الكاتب في كتابه : تطور الفكر السياسي الشيعي ص ٧٣.

(١) يوسف : ٥٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٠٧ : ١١ ـ ١٠٨ ابن أبي الحديد المعتزلي (ت ظ ٦٥٦ هـ) دار =

٣٣٨

على إن ظاهره لا ينطوي على ما قرره ابن أبي الحديد ، فهو ظاهر من خلال وجود أداة الاستثناء ، وهي ظاهرة في تقرير ما تحدثنا عنه.

ولو قبلنا أن الكلام خال من ذلك الاستثناء ، أو أن الاستثناء ليس بتلك الصرامة الشديدة التي يخرج كل ما عداه ، وهو كلام من سنخ فرض المحال ليس بمحال! ولكن هب أنه قال إنه ليس في نفسه بفوق أن يخطىء مكتفياً بذلك فقط ، قلنا : لو كان ذلك ، فعلينا أن نتساءل عن أي خطأ يتحدث ، ولم حدد هذا الخطأ بعبارة : «في نفسي»؟ فمن المعلوم أن ما يعتبره الإنسان العادي خطأ ، ليس هو ما يعتبره من يفضله ويتفاضل عليه ، وفق قاعدة : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فتلك النفس السابحة في غمرات بحار الأنوار الملكوتية العظيمة كيف نقايس ما تعتبره خطأ مع ما نعتبره نحن بالخطأ بأنفسنا الراكسة في غمار الجهل؟! أرأيت عظيماً يقاس بمقاييس الوضيع؟! أم رأيت جباناً يستطيع تقييم شجاعة الشجعان ، فقد تجد النفوس العالية لو أنها غفلت لحظة عن ذكر الله قد تعتبر تلك الغفلة من الجرائم العظيمة التي لا يمكن أن تغتفر ، في الوقت الذي لايعتبر الإنسان العادي غفلته لدهور بالخطأ ، وليس هو فحسب ، بل إن الله سبحانه وتعالى لن يحاسبه لو أنه اكتفى بأداء الفروض الأولية لأحكام الحلال والحرام ، وسدر في غفلة بقية عمره!! أما لم حوسب يوسف عليه‌السلام في مسألة تشفّعه بالملك ليطلق سراحه ولم يسأل الله ذلك؟ فهو لأن خطأ يوسف وهو السابح في غمرات الملكوت والمربى من قبل الوحي السماوي يعد عظيماً ، رغم انه لم يرتكب بذلك محرماً ، وتتحدث الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام بأنه ما لبث في السجن إلا بسبب هذا الموقف ، (١) وهو حساب شديد لو أدرك كنهه!!

____________________

= إحياء التراث العربي.

(١) تفسير العيّاشي ١٨٨ : ٢ ـ ١٨٩ ح ٢٧ و ٢٩.

٣٣٩

وخطأ أمير المؤمنين عليه‌السلام إن كان ثمة خطأ بفرض المحال ، فهو خطأ وفق هذه النظرة من هذا النسخ ، هو خطأ المقرب قياساً لحسنة البار ، فالبار يعتبر نفسه باراً بربه ، ولكن المقرّب ينظر إليه بعين الشفقة لحجم تقصيره مع ربه ، ولكن ما هي طبيعته؟ ذلك ما يبقى مجهولاً وموقوفاً على من يستطيع أن يداني القرب الذي وصل إليه أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) من الذات المقدسة ، وأنعم به من قرب لم يضاهيه فيه غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لاشك في أفضلته على كل من سواه!! وأمثله ذلك كثيرة في الحذيث القرآني عن الأنبياء ، ففي حديثهم عليهم‌السلام مع الله سبحانه وتعالى ثمة طلب للرحمة والمغفرة والعفو وهذا حديث تذلل وتصاغر بين يدي الله سبحانه وتعالى.

على ان كلام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) هذا هو تعميم لفكر يستهدف إثارة وعي سياسي في كيفية التعامل مع الطغيان السياسي في حال حصوله ، ولهذا لم يبق الإمام نفسه بعيداً عن أي حاكم كي يعطي لسامعيه مثلاً يحتذى ، وقدوة يتأسون بها ، حتى إذا ما أتم الغرض من تصنيف نفسه موضوعياً ضمن طبقة الحكام عاد ليرتفع بنفسه إلى درجة الصديقين حين ذكر الشرط المشار إليه.

* * *

ثانياً : أدعية أهل البيت عليهم‌السلام

وهذه الإشكالية تتحدّث عن أن أهل البيت عليهم‌السلام تحدّثوا في أدعيتهم عن ذنوب اقترفوها وأخطاء اجترحوها كما في دعاء كميل ودعاء أبي حمزة الثمالي وأدعية الصحيفة السجادية ومناجياتها ودعاء الافتتاح ودعاء علقمة وغيرها من الأدعية ، وهي ذلك دالة على عدم عصمتهم ، فما كان لهم أن يدعوا بتلك اللهجة الضارعة والتوسلة المألوفة في أدعيتهم لو لا وجود هذه الذنوب والخطايا ، هذا وقد أقذع محمد حسين فضل الله في وصف حال أمير

٣٤٠