عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

الشيخ جلال الدين علي الصغير

عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

المؤلف:

الشيخ جلال الدين علي الصغير


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأعراف للدراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

بحث علم الكلام مفهوم العصمة نفياً وإثباتاً ؛ توسعة وضيقاً من زوايا مختلفة ، وفي الكثير من الأحيان جاءت هذه الأبحاث وهي تحكي اسقاطات الصراعات المذهبية والسياسية لدى المثبت والنافي على حد سواء ، أكثر من نتعبيرها عن محاولة الوصول إلى تقديم فهم متكامل عن العصمة وفق النص المعصوم ، ولم تتخل أكثر الأبحاث رصانة من الابتلاء بافرازات الواقع السياسي والمذهبي على مثل هذه الأبحاث اللهمّ إلاّ ما ندر! ولا يعني ذلك أني أحاول أن أغمط قدر المحاولات الجليلة التي أبداها علماؤنا الأجلاّء ـ والعياذ بالله ـ فلقد أدّت وهي تعايش ظروف الصراع الموجّه نحو الإمامية على مدى الأزمنة الماضية وتلبي أغراضه ، أضل الخدمات في عملية التحصين العقائدي ، ولكن وجود هذه الأبحاث ضمن بوتقة هذه الصراعات جعلها تحاط بحاجز لا أرادي يدفع بقارئها بعيداً عنها وعن نتائجها ، ومن ثم لتشكل مشكلة مهمة أمام طالبي الحقيقة.

وثمة مشكلة أخرى تختص في بحث مثل هذه المفاهيم ، هي مشكلة الفاصل بين «المفهوم الإلهي» وبين «المفهوم البشري» ، فكثيراً ما ظل هذا التقسيم وطريقة فهمه خاضعة للمقاييس العقلية المحدودة ، ومشكلة هذه المقاييس أنها تحاول تعميم طرق معرفتها للمفاهيم البشرية ، على طريقة فهم المفاهيم الإلهية ، مما جعلها تتنكب طريق الصواب في الغالب ، لأن الآلية التي نفهم فيها الأول لا تتفق بالضرورة مع تلك التي نفهم بها الثاني.

وقد تكون مهمة الباحث الحديث أكثر صعوبة من سواها لسهولة وصمه بالكثير من تراكمات وعقد هذه الخلفيات التي تركت بصمتها واضحة على

٢١

الكثير من ثنايا هذه الأبحاث.

وحتى الباحث أن يقدّم صورة دقيقة عن هذا المفهوم ، عليه أن يتجرّد عن الكثير من ملابسات ذلك الصراع ، فلقد طرحت مسألة العصمة قبل أن يوجد هذا الصراع الذي لم يك فكرياً مجرداً في بدايته بقدر ما كان محاولة فكرية لتبرير الأحداث السياسية التي حفلت بها مرحلة ما بعد الرحيل المفجع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن الحق على طالب الحقيقة الذي يريد أن يتجرّد عن تأثيرات هذا الصراع الرجوع إلى مرحلة أصالة المفهوم ، أي إلى نقطة البداية التي شهدت ولادة هذا المفهوم ، وأعني بها منابعه الفكرية التي استند إليها يوم ولد.

ونحن قبل أن نلج في صلب هذا الموضوع علينا أن نمهّد للموضوع بمبحثين يستهدف الأول التعريف بالعصمة لغوياً ، والنزوع منها لتعريف المصطلح ، وقد أضفنا لتعريف المصطلح نبذة يسيرة وموجزة عن معتقدات الفرق الإسلامية بالعصمة لا بهدف مناقشتها ، فليس مهمة الكتاب هنا مناقشة هذه الأفكار ، وإنما لتقديم صورة موجزة كي يتكامل الموضوع في ذهن القارىء الكريم ، تاركين المناقشة لذلك في الكتب المخصصة لذلك ، ككتاب دلائل الصدق ، للشيخ المظفّر وتنزيه الأنبياء والشافي للشريف المرتضى وأمثالها ، فيما سيستهدف التمهيد الثاني البحث في طبيعة التداخل ما بين شخصية المعصوم عليه‌السلام الذاتية ، وشخصيته الرسالية ، فقد أتاح الغبش في هذه المسألة للكثيرين من إساءة فهم مفهوم العصمة ، فمن قال بجزئيتها لبعض الأفعال دون جميعها إنما استند على التفكيك ما بين الشخصيتين ، ومثله من قال بجبرية العصمة ، ومن قال بشمولية العصمة انطلق في ذلك من عدم تفكيكه بين الشخصيتين ، وباعتبار أن البحث يتعلق بالعصمة وبغيرها كمسالة علم المعصوم عليه‌السلام ، وترابطها اللصيق مع مسألة الشفاعة والولاية والشهادة ، لهذا كان من اللازم تقديم هذا المبحث قبل الدخول في تفاصيل المفهوم ، وإن كان القارىء الكريم سيجد أن الانتهاء من حسم طبيعة العلاقة

٢٢

ما بين الشخصيتين سيتيح له سلفاً اسقاط الكثير من الشبهات التي تعلق بالموضوع.

العصمة في اللغة

مادة عصم كما يعرّفها الفيروزآبادي : اكتسب ، ووقى ، واعتصم بالفرس : أمسك بعرفه ، وبالبعير إذا أمسك بحبل من حباله ، والعصمة بالكسر : المنع. (١)

وقال ابن منظور الأندلسي : العصمة في كلاب العرب : المنع. وعصمة الله عبده : أن يعصمه مما يوبقه. عصمه يعصمه عصماً : منعه ووقاه. والعصمة : الحفظ. واستعصم : امتنع وأبى ، والمنعة. والاعتصام : الامتساك بالشيء. وأعصمه : هيّأ له شيئاً يعتصم به ، ونقل عن الزجاج قوله : أصل العصمة الحبل. وكل ما أمسك شيئاً فقد عصمه. (٢)

وهكذا يتبيّن لنا أن العصمة في اللغة التمسّك بالشيء ليمتنع به عن شيء آخر ، فمن اعتصم بالله ، فقد تمسّك به من أجل أن يمنعه من شيء آخر ويحول عنه ، ولا معنى لتمسّك بشيء دون ان تكون هناك خشية من تسبب شيء آخر بضرر وما يشبهه ، والمتسّك بهذا الشيء مشروط بقدرته على المنع.

العصمة في المصطلح

ومن هذا المعنى اللغوي اشتق المصطلح فهي تعني أن الله جلّ وعلا يهيّىء للمعصوم ما من شأنه أن يحول بينه وبين الخطأ لطفاً منه سبحانه وتعالى ، ومن خلال كلمات المتكلّمين من غير الإمامية في هذا المجال

____________________

(١) القاموس المحيط ١٥١ : ٤ «مادة عصم».

(٢) لسان العرب ٢٤٤ : ٩ ـ ٢٤٦ «مادة عصم».

٢٣

يمكن القول بأن مساحات العصمة لديهم تنحصر في أربعة أنحاء ، يفصّلها الفخر الرازي بالصورة التالية : ما يتعلق بالأمور الاعتقادية ، وما يتعلق بجميع الشرائع والأحكام ، وما يتعلق بالفتوى ، ورابعها : مايتعلق بأفعال المعصوم وأحواله. (١)

أما العصمة في فكر الإمامية فإن مساحة العصمة تشمل كل كيان المعصوم عليه‌السلام ، سيّان في ذلك بين فكره نطق به أو لم ينطق ، وإرادته سواء عبّر عنها فعله أو تقريره ، ومشاعره أظهرها أو لم يظهرها. حيث يقول العلامة الحلي (قدّس سرّه الشريف) مفصّلاً ذلك بأن المعصومين عليه‌السلام معصومون : عن الصغائر والكبائر ، ومنزّهون عن المعاصي قبل النبوة وبعدها. على سبيل العمد والنسيان ، وعن كل رذيلة ومنقصة ، وما يدلّ على الخسة والضعة. (٢)

والعصمة من المفاهيم الإسلامية التي تداولتها الفرق الإسلامية كافة على اختلاف يتسع ويضيق في ما بينها.

قال ابن حزم الأندلسي مبيّناً ما اختلف فيه الناس من أهل الملل والنحل في شأن العصمة : ذهبت طائفة إلى أن رسل الله (ص) يعصون الله عزّ وجلّ في جميع الكبائر والصغائر عمداً حاشا الكذب في التبليغ فقط ، وهذا قول الكرامية من المرجئة ، وقول ابن الطيب الباقلاني من الأشعرية ومن اتبعه ، وهو قول اليهود والنصارى.

قال : ورأينا في كتاب صاحب الباقلاني أبي جعفر السمناني قاضي

____________________

(١) عصمة الأنبياء : ١٤ فخر الدين الرازي (ت ٦٠٦ هـ) ؛ مؤسسة البلاغ ـ بيروت ؛ ١٩٨٨ ط ١.

(٢) نهج الحق وكشف الصدق : ١٤٢ للعلامة الحسن بن يوسف المطهّر الحلي (ت ٧٣٦ هـ) ؛ دار الكتاب اللبناني ١٩٨٢ ـ بيروت.

٢٤

الموصل (مقدّم الأشعرية في وقته) (١) أنه كان يقول : إن كل ذنب دقّ أو جلّ ، فإنه جائز على الرسل حاشا الكذب في التبليغ فقط ، وقال : وجائز عليهم أن يكفروا ، قال : وإذا نهى النبي عن شيء ثم فعله فليس ذلك دليلاً على أن ذلك النهي قد نسخ ، لأنه قد يفعله عاصياً لله ، قال : وليس لأصحابه ان ينكروا ذلك عليه ، وجوّز أن يكون في أمة محمد من هو أفضل من محمد مذ بعثه الله إلى أن مات!! ثم قال : وذهبت طائفة إلى أن الرسل لا يجوز عليهم كبيرة من الكبائر أصلاً وجوّزوا عليهم الصغائر بالعمد وهو قول ابن فورك الأشعري ، وذهب جميع أهل الإسلام من أهل السنة والمعتزلة والنارية والخوارج والشيعة إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبي أصلاً معصية بعمد لا صغيرة ولا كبيرة ، وهو قول ابن مجاهد الأشعري. (٢)

وقال التفتازاني : الأنبياء معصومون عما ينافي مقتضى المعجزة كالكذب في التبليغ ، وجوّزه القاضي سهواً (٣) ، وعن الكفر ، وجوّزه الأزارقة حيث جوّزوا الذنب مع القول بأن كل ذنب كفر ، وعن تعمد الكبائر سمعاً عندنا وعقلاً عند المعتزلة ، وجوّزه الحشوية ، وعن الصغار المنفرة ، وكذا تعمّد غير المنفّرة خلافاً لإمام الحرمين وأبي هاشم. إلى أن قال : وجوّز

____________________

(١) ما بين القوسين منا توضيحاً. انظر للتفصيل : تاريخ بغداد ٣٥٥ : ١ والوافي بالوفيات ٦٥ : ٢ ، والكامل في التاريخ ٢٩٥ : ٢.

(٢) الفصل بين الملل والأهواء والنحل ٢٨٤ : ٢ ـ ٢٨٥ لابي محمد علي بن احمد المعروف بابن حزم الأندلسي الظاهري (ت ٤٥٦ هـ) ؛ دار الكتب العلمية ـ بيروت ١٩٩٦ ط ١.

(٣) أراد به الرازي. قال : معصومون في زمان النبوة عن الكبائر والصغائر بالعمد. أما على سبيل السهو فهو جائز. أنظر عصمة الأنبياء : ١٥. وقال الايجي وشارح موافقه الشريف الجرجاني : (أما) صدورها عنهم (سهواً) أو على سبيل الخطأ في التأويل (فجوّزه الأكثرون). المواقف وشرحه ٢٦٥ : ٨ ؛ عضد الدين الايجي (ت ٧٥٦ هـ) وشرحه للشريف الجرجاني (ت ٨١٢ هـ) مطبعة السعادة ـ مصر ١٩٠٧ ط ١.

٢٥

الشيعة إظهاره (أي الكفر) تقية واحترازاً عن إلقاء النفس في التهلكة. (١)

وقال الايجي في المواقف وشارحه ما يقرب من الفقرة الأخيرة : (وجوّزوا الشيعة اظهاره) أي اظهار الكفر (تقية) عند خوف الهلاك لأن اظهار الإسلام حينئذ إلقاء للنفس في التهلكة. (٢)

وظاهر كلام محيي الدين بن عربي ، وجمع من الصوفية أنه كان يقول بالعصمة الشاملة قال : الأنبياء لهم العصمة من الشيطان ظاهراً وباطناً ، وهم محفوظون من الله في جميع حركاتهم ، وذلك لأنهم قد نصبهم الله للتأسي ولهم المناجاة الإلهية فالأنبياء المرسلون معصومون من المباح أن يفعلوه من أجل نفوسهم ، لأنهم يشرّعون بأفعالهم فإذا فعلوا مباحاً يأتونه للتشريع ليقتدى بهم. (٣)

وقد اختلف الجمع في شأن طبيعة وجوبها ، فمنهم من قال بعدم وجوبها عقلاً ونقلاً ، ومنهم من أوجبها عقلاً ، ومنهم من أوجبها نقلاً ، وقد أوجبها الإمامية عقلاً ونقلاً ، ورأوا أن الاثبات العقلي يحتاج إلى كاشف لحصوله ، فقالوا بضرورة وجود النص الكاشف عن حصولها لدى المعصوم.

ومن هنا يتبيّن لنا أن مفهوم العصمة وإن اختلف المسلمون في تحديد

____________________

(١) شرح المقاصد ٤٩ : ٥ ـ ٥٠ سعد الدين التفتازاني (ت ٧٩٣ هـ) تحقيق د. عبدالرحمن عميرة ، أوفست منشورات الشريف الرضي ـ قم ١٩٨٩.

(٢) شرح المواقف ٢٦٤ : ٨.

أقول : وما ذكراه محض افتراء ما أنزل الله به من سلطان ، فالتقية في أصولها البديهية ـ لمن يعرف رأي الشيعة فيها ـ لا تجوز في هذا المورد اطلاقاً ، فالتقية إنما شرّعت لحفظ الدين والنفس ، ومن الواضح أن المعصوم عليه السلام لو جاز له ذلك لما بقي للدين من أثر ، ولا تعلم من أين أخذوا هذا الكلام وروّجوه في كتبهم ، وكم لهم من مثيل بذلك؟!

(٣) الفتوحات المكية ٤٤١ : ٧ رقم ٦١٥ ، محيي الدين بن عربي (ت ٦٣٨ هـ) الهيئة المصرية العامة للكتاب ؛ تحقيق د. عثمان يحيى ١٩٨١.

٢٦

جزئياته وحدوده ، إلاّ إن الفهم الإمامي للعصمة هو الوحيد القادر على التوافق مع المفهوم القرآني لها ، وإن جميع ما قيل من نظريات العصمة عند الفرق الإسلامية الأخرى تعاني من تناقضات كثيرة مع هذا المفهوم ، كما سيتبيّن لنا ذلك في ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

٢٧
٢٨

تمهيد في طبيعة العلاقة بين الرسالة والذات

المتحدّثون عن العصمة صنفان ، فمنهم من يتحدّث عن العصمة التي تشمل كل أفعال المعصومون دون فرق بين أن يكون هذا الفعل مختصّاً بالرسالة والمهمة التبليغية التي أوكلت إلى المعصوم أو لا ، فيرى أن المعصوم لا يخطىء في كل أفعاله وسلوكياته وقراراته ، ويسمّى هذا النمط من العصمة «بالعصمة المطلقة» ، وعلى ذلك قام رأي الإمامية جميعاً على تفصيل ستأتي الإشارة إليه في محله ، ومنهم من يفصّل بين المهمة التبليغية للمعصوم وبين سائر شؤونه الحياتية ، فيراه معصوماً في الأولى قابلاً للخطأ في الثانية ، ويسمّى هذا النمط من العصمة «بالعصمة التبليغية» وعلى هذا الرأي قام معتقد أهل العامة ومن تبعهم بخلاف نسبي بين فرقهم ومفكريهم.

ومنشأ هذا التفريق بين المقامين يرتبط ارتباطاً عضوياً بطبيعة نظرة الطرفين للعلاقة بين الرسالة والذات حيث يلاحظ أن أغلب الرافضين للعصمة المطلقة يقرّقون ما بين شخصيتين للمعصوم ، (١) فهو مع كونه رسالياً إلاّ انه

____________________

(١) أقصد بالعصمة هنا عصمة كل معصوم (صلوات الله عليهم أجمعين) وإن تحدثت عن العصمة المطلقة فإني أقصد ما هو خاص برسول الله وأهل بيته من الأئمة الطاهرين علاوة على الزهراء (صلوات الله عليهم أجمعين).

٢٩

ذات مثلها مثل أي ذات أخرى في الدنيا في عواطفها ونقاط ضعفها البشرية ، ولهذا فإن مسألة العصمة في الوقت الذي تتلازم مع شخصيته الرسالية إلا انها لا مجال لها في شخصيته الذاتية ، لأن الحاجة إلى العصمة إنما تتعلق في تصورهم بالشخصية الرسالية ، وبالتالي يمكن أن يعتور هذه الذات ما يعتور الذوات الأخرى المشابهة لها ، والمراد هنا ليس ما يعترض الذات من أحوال المرض والعافية والحزن والغضب وما إلى ذلك. بل أقصد كل ما يعترض هذه الذات خارج البنية الرسالية ، (١) فيصبح رباط العصمة بالخطأ منفكّاً هنا ، وبالنتيجة يمكن لنا أن نراها في أجواء بعيدة عن العصمة.

والمعصوم عليه‌السلام شخصية اصطفتها السماء للقيام بأعباء الرسالة ، وحيث كان الأمر كذلك فهي بحاجة إلى العصمة ، حيث يراد منها أن تصدّه عن الوقوع في الخطأ وهو يمارس أعماله الرسالية ، وقد احتاج هؤلاء إلى مقولتين كي يبرروا عملية التفريق بين الذات والرسالة ؛ وبالتالي ليصلوا إلى ما يريدون الوصول إليه ، وهاتان المقولتان هما :

الأولى : إن الجعل الإلهي يرتبط بالتفضّل الإلهي لا بالاستحقاق ، وبالنتيجة فإن الاصطفاء عملية تتم من طرف واحد هي الذات المقدسة ، ولا شأن لها فيما إذا كان المصطفى مؤهلاً أو مستعداً لتحمل الأعباء المترتبة على الاصطفاء. (٢)

____________________

(١) قد يشخّصه البعض بكل موضوع خارجي عن التبليغ ، وقد ابتدع الوضاعون حديث تأبير النخل للدلالة على عدم عصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما يخرج عن نطاق الرسالة ، واختصاص عصمته في المواطن التي كلف بالتبليغ بها.

(٢) وفي ذلك يقول محمد حسين فضل الله : إننا نقول إن الفضل من الله ، والله هو الذي يعطي الفضل ، والله هو الذي يعطي القيمة ، والله هو الذي يصطفي في الناس رسلاً ومن الملائكة رسلاً ، فالقيمة للإنسان المعصوم ان الله قد اصطفاه وعصمه واختاره ، فلا بد ان يكون اختيار الله واصطفاؤه له الحكمة ، أما ما هي الحكمة ولماذا اصطفى هؤلاء دون غيرهم نقول : (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء : =

٣٠

الثانية : وباعتبار أن ذلك لا ينفي فعل القبائح والمعاصي ، ولهذا احتيج إلى المقولة الثانية التي تبرر عدم فعل المعاصي من خلال تدخل الإجبار الإلهي لمنع الوقوع في المعصية. (١) وفي هذا الشأن نسمع من يقول منهم : إن المعصوم ينطلق بإرادته نحو الطاعة. ولكنه إذا أراد أن يعصي فإن الله يعصمه في ذلك عندما تتوفر له ظروف المعصية ، فإن الله يخلق له حواجز تصدّهب عن هذه المعصية ، فليس معنى حتمية العصمة (٢) انه هنا لا يملك الاختيار ، بل هو يملك أن يفعل ، ولكنه عندما يتوجه الضعف البشري في نفسه فإن الله يتدخل. (٣)

وعلى أساس هذه الأفكار انطلقت فكرة العصمة التبليغية في باحات علم الكلام لتتناغم مع عملية التفريق المشار إليها ، بعد أن احتيج إلى الحديث عن العصمة الجبرية لكي تبرر التفرقة المزعومة.

وعلى العموم فإن الرأي العام في مدارس أهل العامة يتمحور في

____________________

= ٢٣].

وبزعمه فإن : المسألة في هذا المقام ليس من الضروري دائماً أن تكون مسألة قيمة تنطلق من عمق الذات ، بل إن القيمة تنطلق من الله سبحانه وتعالى الذي يجعل في هذه الذات أسراراً تجعل هذه الذات ذات قيمة من ناحية موضوعية. «فقه الحياة : ٢٧١ ط ١ مؤسسة العارف ـ بيروت» ونفسها في كتاب : «في رحاب أهل البيت : ٤٠٧».

(١) أنظر مقالة محمد حسين فضل الله : مع الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد ، المنشور في العدد التاسع من مجلة الفكر الجديد ص ٦٢ ، وكذا انظر نفس المقالة في مجلة المعارج العدد : ٢٨ ـ ٣١ ص ٣٧٧ ، ويلحظ أيضاً كتابه فقه الحياة : ٢٦٧ ـ ٢٧٤ ، وكذا نفس المطلب في كتابه : في رحاب أهل البيت : ٤٠٣ ـ ٤٠٩ ط ٢ ؛ إعداد سليم الحسني ؛ دار الملاك ـ بيروت.

(٢) ينبغي الالتفات إلى أن المقصود بالحتمية هنا إرادة الجبر ، وليس إرادة الوجوب.

(٣) فقه الحياة : ٢٧٢ ، وفي رحاب أهل البيت : ٤٠٨.

٣١

اتجاهين وإن كانت بعض فرقهم الشاذة قد تذهب ببعض البعد عن هذا أو ذاك ، فلقد قالت الأشاعرة : إن العصمة في ما وراء التبليغ غير واجبة عقلاً (١) فيما منع المعتزلة وقوع المعصوم (وهو النبي عندهم) في الكبائر ، ولكنهم جوّزوا وقوعه في الصغائر التي لا حظ لها في تقليل الثواب دون التنفير حيث رأوا أن لا مانع يمنع منها. (٢)

ومن المعاصرين من تراه قد يذهب إلى أبعد من ذلك فتراه يوسع الدائرة عن الاتجاهين معاً فيرى في البداية بعض رأيهم في العصمة التبليغية ، ثم سرعان ما ينقضّ عليها فيبيح الخطأ حتى في دائرة التبليغ فتسمع داعية هذه الفكره يقول أولاً : لو فرضنا أن النبي أو الإمام يخطىء في أمور حياتية ، او أنه ينسى بعض الأشياء العادية ، يسهو في صلاته ، فإن العقل لا يحكم بامتناع الخطأ أو النسيان أو السهو في هذا المجال .. إلى أن يقول : إن العقل لا يحكم بضرورة ان يكون معصوماً في القضايا الأخرى كما إن النبي لا يفقد ثقة الناس به لمجرد خطأ هنا أو خطأ هناك ، مما لا يتصل بالقضايا الحيوية الأساسية التي تمسّ خط الاستقامة في الإيمان والإسلام ، وما إلى ذلك. (٣)

وتراه يعاود توسيع دائرة الخطأ عند المعصوم في تفسيره فيقول : إن من الممكن ـ من الناحية التجريدية ـ أن يخطىء النبي في تبليغ آية أو ينساها ، في وقت معين ليصحح ذلك ويصوّبه بعد ذلك ، لتأخذ الآية صيغتها الكاملة الصحيحة .. إلى أن يقول : إن قضية الغرض الإلهي في وصول الوحي في نهاية المطاف من غير خطأ ، ولكن لا مانع من حدوث بعض الحالات التي

____________________

(١) شرح المواقف للايجي (ت ٧٥٦) ٨ : ٢٤٦ للشريف الجرجاني (ت ٨١٢ هـ) وما يقرب منه في شرح المقاصد للتفتازاني (ت ٧٩٣) ٥٠ : ٥.

(٢) شرح الأصول الخمسة : ٥٧٣ ـ ٥٧٥ للقاضي عبدالجبار المعتزلي (ت ٤١٥ هـ).

(٣) فقه الحياة : ٢٧٢. في رحاب أهل البيت : ٤٠٤.

٣٢

يقع فيها الخطأ لا ليستمر بل لينقلب إلى صواب. (١)

ولطبيعة الحاجة لإثبات ذلك رأينا حديث ما يسمّى بشق صدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإخراج علقة من جسده الشريف ينساب ليستقرّ في الكتب الروائية ، ومن ثم ليتقرر معه معرفة الكيفية التي تتحقق معها العصمة الاجبارية ، ولتوحي أن ثمة شيئاً مادياً في الصدر أو القلب (٢) ـ حسب اختلاف

____________________

(١) من وحي القرآن ١٥٣ : ٤ ـ ١٥٤ محمد حسين فضل الله ، دار الملاك ط ٢ بيروت ١٩٩٨.

(٢) مفاد القصة على ما رواه مسلم في كتابه المسمى بالصحيح بطريقه إلى أنس بن مالك أنه قال : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتاه جبرئيل ، وهو يلعب مع الغلمان ، فأخذه وصرعه ، فشقّ عن قلبه ، فاستخرج القلب ، فاستخرج منه علقة ، فقال : هذه حظ الشيطان منك!! ، ثم غسله في طست من ذهب ، بماء زمزم ، ثم لأمه ، ثم اعاده في مكانه ، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه ـ يعني ظئره ـ (أي مرضعته حليمة السعدية رضوان الله تعالى عليها) فقالوا : إن محمداً قد قتل ، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. «صحيح مسلم ٢١٥ : ٢ ـ ٢٢٦».

وقد رواها مسلم بستة أسانيد وجميعها عن أنس بن مالك وجميعها يختلف بعضه عن البعض الآخر ، لا سيما في خصوص المكان الذي تمت فيه الحادثة فمرة نجدها في بني سعد كما هو حال الرواية التي ذكرناها ، وثانية نجدها في داخل الكعبة ، وثالثة في بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورابعة في بئر زمزم ونفس الأمر نجده في الزمان وكذا في طبيعة التفاصيل المتعلقة بالقصة ، وقد توهم البعض هذا التعارض فتصور أن الحادثة قد وقعت عدة مرات ، وقد نقل الشيخ محمود أبو رية ـ والذي ناقش الرواية نقاشاً موضوعياً ننصح بقراءته ـ أبياتاً شعرية لأحدهم يشير إلى أن هذا الوقوع المتعدد عند العامة تكرر أربعاً متفق عليها ، وخامسة اختلفوا في شأنها. «أضواء على السنة المحمدية : ١٨٧».

ومعلوم لدى علماء الحديث ان اختلافاً بهذا المستوى الذي يحكي التعارض في ما بينها يسقط الأخبار.

) يلحظ هنا أن رواية مسلم تحدثت بهذه الطريقة : فانطلقوا بي إلى زمزم فشرح عن صدري ثم غسل بماء زمزم. وقد شرحه النووي فقال مفسراً : معنى شرح : شق. «ينظر =

٣٣

الروايات ـ هو الذي يتسبّب في نفوذ الشيطان ووقوع الأخطاء السلوكية (١).

وبناء على كل هذا فقد خصص التيار المعني بالرد على أفكار الإمامية في شأن العصمة لا سيما التيار المعاصر منها مساحة مهمة في ثقافته لموضوعات فصل ما يسمى بالشخصية الذاتية عن الشخصية الرسالية. (٢) أو

____________________

= شرح النووي لمسلم ٢١٥ : ٢».

وسيأتي مزيد من الكلام حولها في الفصل الرابع أثناء حديثنا عن التيار الروائي.

(١) يلحظ أن هذه الرواية لا تحل المشكلة القائمة في الأسباب المؤدية لعدم وقوع لخطأ في التبليغ ، ووقوعه خارجه ، وتتناسى أن الوقوع في المعصية لا يشترط أن يكون بناء على وسوسة الشيطان ، وإنما قد نجد في المعاصي الناجمة عن أهواء النفس ما هو أشد بكثير من وساوس الشيطان.

وما يلزم ذكره هنا ان هذه الروايات مجمع على بطلانها ووهنها في مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، غيرإن ثقافة الانحراف دافعت عنها وعبرت عنها بأنها : لا تتعارض مع العقل والثوابت الدينية ، ولربما يقال أيضاً : إن قوانا الفكرية ستتطور يوماً لاكتشاف هذه الكرامة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. «هوامش نقدية : ٤٥ محمد الحسيني ؛ مؤسسة العارف للمطبوعات ١٩٩٧ ط ١».

ولعمري أن يجانب عقلي يرى في الوقت الذي تؤكد فيه هذه الثقافة أنه لا امتيازات في أجساد الأنبياء ، فهل كانت العلقة المستأصلة من جسم النبي بدعاً في جسمه دون غيره من الأجسام؟ وهل كانت فيها قابلية النمو حتى إنها عادت لتستأصل من جديد؟ وما علاقة علقة مادية بعمل الشيطان؟ وهل أن هذه العلقة إن أزيلت من جسم غير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستجعل منه معصوماً من تدخلات الشيطان في قلبه.

أما الثواب الدينية فمن المسلّم أنها تنقضها وذلك لما يتوقف على ذلك بالقول بالعصمة الجبرية المتعلّقة بإزالة علقة في الجسم ، وهذا ما يرفضه أهل البيت عليهم‌السلام جملة وتفصيلاً كما سيتبين لنا بعد ذلك.

(٢) أنظر على سبيل المثال كتاب محمد حسين فضل الله : خطوات على طريق الإسلام ، مقال : الحركة النبوية وكيف ندرسها؟ : ٤١١ ـ ٤١٨ دار التعارف للمطبوعات ط ٥ ، حيث يطالب هنا بضرورة التفريق بين الرسالة والرسول ، ويستعين ببعض التصرفات السلبية لتصوير خطأ التعلّق بالرسول ، وإنما المطلوب هو التعلّق بالرسالة ، ومن =

٣٤

موضوعات جوانت الضعف البشري في شخصية الأنبياء عليهم‌السلام. (١) ومن

____________________

= السهولة بمكان العثور المتكرر على مفردات من قبيل : شخصيته الرسولية ، أو صفاته الرسالية ، أو الرسولية في شخصية الرسول .. في الكثير من مقالاته «انظر على سبيل المثال : مجالة المعارج : ٢٨ ـ ٣١ مقال : الاقتداء بمنهج النبي (ص) في ضوء القرآن : ٥٤٢ ـ ٥٤٣» وهو نفس المقال الذي انتشر في مجلة الثقافة الإسلامية تحت عنوان صورة النبي محمد (ص) في القرآن. انظر العدد : ٦٥ ص ٤٨ ـ ٤٩.

هذا وقد يجد المرء أحاديث مضادة لهذا الطرح ، كما في قوله عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو رسالته لا شيء فيه غير رسالته ، اختصر كل رسالته في عقله ، في قلبه ، وفي كل سيرته «مجلة المعارج م. س : ٦٣٠».

وهذا في واقع الامر يعود إلى أمور متعددة ، منها أنه يتكلم في مكان وينقضه في آخر وفقاً للأجواء المحيطة ، وطبيعة المخاطب العلمية والعقائدية من حيث العمق والسذاجة ، ومن حيث الوعي والجهل ، ولذلك شواهد عديدة جداً ، وأخرى لربما تعود إلى الإمكانية المترتبة على كثرة كلامه وخطاباته حيث لا يكون في العديد من الأحيان دقيقاً في مراعاة الأصول الفكرية التي يتعمد عليها ، ولذلك قد تجده متناقض الأفكار ، وإن كنا نلمس من خلال التجربة والمتابعة الدقيقة لأفكاره ، أنه يراعي الأجواء المحيطة فتراه يضمر في مكان ، ليفيض بالتحدّث عنه في مكان آخر.

وسنعاد التعرض بشيء من التفصيل إلى هذه المواضيع في الفصل الرابع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ، كما يمكن مراجعة كتابنا : لهذا كانت المواجهة! للاطلاع على كامل نصوصه في هذا المجال.

(١) حيث يعبّر فضل الله في هذا الصدد أثناء حديثه عن فصة موسى عليه‌السلام في طلبه الرؤية فقال : نحن نرى أن الحديث القرآني يركّز في بعض آياته على نقاط الضعف لدى الأنبياء ، كما يركّز على نقاط القوة عندهم ، من موقع بشريتهم التي يريد أن يركّزها في التصوّر القرآني في أكثر من اتجاه. «من وحي القرآن ٢٣٩ : ١٠ الطبعة الثانية الجديدة».

أو قوله في قصة موسى وهارون عليهم‌السلام : إن أسلوب القرآن في الحديث عن حياة الأنبياء ، نقاط ضعفهم يؤكد القول بأن الرسالية لا تتنافى مع بعض نقاط الضعف البشري في الخطأ في تقدير الأمور. «من وحي القرآن ٢٥١ : ١٠» وننصح القارىء =

٣٥

الطبيعي أن الأمر لو كان كذلك فسيكون الحديث عن عدم كمال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله المطلق أمراً لا مندوحة عنه. (١)

وهكذا ومن هذا المنطلق انطلقت الأفكار القائلة بالتفريق بين شخصيتين ، الأولى ما يعبر عنها بالرسولية وهذه قد حظيت بالعصمة الجبرية في موارد التبليغ ، وبين الثانية التي تتسم بالبشرية بكل ما حوت من أخطاء وجهل أو خلافها.

وما يعنينا من عموم هذه الأفكار هو معرفة واقع العصمة ضمن الهدي القرآني ومدى تلافي هذه الأفكار مع هذا الهدي في حال كان النقاش ضمن الدائرة الإسلامية العامة ، أما إذا كان الحديث موجّهاً في الدائرة الخاصة ـ هو الأكثر إلحاحاً ـ فإن المطلوب سيكون معرفة مقدار تناسب ذلك مع دليلية الواقع القرآني ومتطلبات أياته؟ وما هو مقدار الانسجام الذي سيحققه هذا الفكر مع النص المعصوم؟.

ولملاحظة هذا الموضوع يتوجّب علينا تارة أن ننظر إليه من خلال طبيعة «العلة الفاعلة» في موضوع العصمة ونعني بها الله (جلّت آياته وعظمت آلاؤه) حيث إن الله هو الذي منح هذه العصمة ، وأخرى من خلال مواصفات «العلة القابلة» ونعني بها المعصوم ، وثالثة من خلال «العلة المادية» للفعل وهي العصمة ، وسنجد ان البحث سيفرض علينا اكتشاف وجود الترابط

____________________

= المستزيد أن يرجع لكتابنا : لهذا كانت المواجهة : ٣١ ـ ٦٩.

(١)نلمس في أفكارها هذا التيار حديثاً موسعاً عن نفي الكمال عن الرسولية في الأمور التي تخرج عن دائرة التبليغ حيث يسجل داعية هذا التيار تحفّظه على : ما يفيض فيه الكثيرون من علماء الكلام ، عندما يتحدثون عن صفات النبي ـ أي نبي كان ـ فيوجبون له التفوّق في كل علم ، وفي كل صفة ذاتية على أساس القاعدة العقلية المعروفة لديهم ، وهي قبح قيادة المفضول للفاضل. أنظر : محمد حسين فضل الله في مقال : السيرة النبوية في حركة القرآن والواقع المعاصر ؛ مجلة المعارج ؛ العدد : ٢٨ ـ ٣١ ص ٦٥٥.

٣٦

الموضوعي بين الفاعل والقابل انسجام مادة الفعل مع طبيعة القابل ، لنستطيع من خلاله أن نتلمس «العلة الغائية» التي تشكّل مبرر الفعل في العلة الفاعلة ، حيث لا يمكننا أن نجرّد العلة الفاعلة عن أن تكون هادفة وساعية وراء غاية محددة في فعلها ، وهذه الغاية ستجعل الفاعل يطرح مادة فعله في ساحة تقبل هذا الفعل وتستوعبه ، فنحن نجرّد الذي يريد ان يرمي كل ما في دلو الماء في قدح صغير من العقلانية ، لسبب بسيط أن قدح الماء لا يمكن أن يستوعب كل ما في الدلو ، وأن أي عمل يخالف ذلك سننسبه إلى الخرق فوراً ، فهنا عزونا الخرق إلى الفاعل لأنه يطرح مادة فعله في ساحة لا تقبله كلاً أو جزءاً ، ولهذا جرّدنا غاية الفعل من العقلانية ، لأن الترابط ما بين الفاعل والقابل لم يكن موضوعياً ، ومن الطبيعي أن يتم التأكّد من أهلية مادة الفعل للتناغم مع طبيعة القابل ، فالحديث عن أن الله القادر على كل شيء لا يعني سؤاله أن يجمع ما بين الوجود والعدم وبين العدل والطلم وسائر المتناقضات حيث نعبّر عن ذلك بالمستحيل لا لنقص في قدرة الفاعل (سبحانه وتعالى) ، بل لعدم إمكان تحقيق الانسجام بين العلتين المادية والقابلية للنقص الذي فيهما.

ولو دخلنا في التفصيل فمن أول الأسئلة الملحة التي تواجهنا ستتعلق بالسبب الذي بموجبه يتفضّل الله بالعمصة على شخص دون آخر ، في الوقت الذي نعتقد فيه بأن الله عليم حكيم ، وكلا الصفتين تقتضي أن يكون عليماً بأن العصمة التي يريد أن يمنحها تنسجم مع الممنوحة له ، ولكن صفة الحكمة ستقتضي منه أن يكون عادلاً ، وعندئذ فإن الكلام سيتمحور في محورين :

فهو إما أن يجعل مادة العصمة قابلة لكل البشر دون استثناء ، وإما أن يجعلها مخصوصة بخواص.

فإذا ما جعلها قابلة لكل البشر ، فالتساؤل سيكون عن سبب هذه القابلية هل يعود لمادة العصمة نفسها؟ أم لقابلية البشر؟!

٣٧

فإذا قلنا بأن هذه القابلية متعلّقة بنفس مادة العصمة دون اختصاص بالبشر ، فسنقول عندئذ بإمكانية أن تنطبق على غير البشر من سائر المخلوقات العاقلة وغيرها.

فإن قيل باستحالة ذلك.

قلنا : فإن السر يكمن في المخلوق العاقل.

وعندئذ سنتسائل عن سبب هذا الاختصاص ، فسيعزا ذلك إلى وجود خصوصية في هذا المخلوق تجعله قابلاً للعصمة ، مما سينحو بنا إلى التساؤل عن طبيعة هذه الخصوصية ، فإنها لن تخرج عن كونها إما : متعلّقة بمانح العصمة ؛ وإما بالممنوح له ، فإن مانت متعلّقة بالمانح ، قلنا : بأن المانح لم يعطها لجميع خلقه بل أوقفها على فئة محدودة من خلقه ، فما هو السر في ذلك : هل يعود لنقص في عدله وحاشاه من كل ذلك؟! أم يعود لقابليات المخلوق؟!

وسيقول بعض الحشوية : بأن لا علاقة لقابليات المخلوق ، ولا لنقص في عدل الله ، بل لأن أمراً خفياً تعلّق بالمسألة والله لا يسأل عما يفعل!!

ولكن الواقع القرآني لن ينفع هؤلاء بشيء فالله سبحانه وصف نفسه بأن له الحجة البالغة على خلقه : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (١) وطبيعة الحجّة الكاملة تقتضي أنه سيحتجّ بحجة كاملة تخرس ألسن المحتجّين في أي مسألة سيحتجّون بها ، وهذا ما لا يتناسب مع منطق هؤلاء الحشوية ، مما يعيدنا إلى أول الكلام.

ولا مندوحة من رفض فكرة أن الله سيرجح وضع بعض عباده بلا وجود راجح في أنفسهم ، فهذا ما يتناقض مع فكرة العدل الإلهي التي توجب أن يتم الترجيح متلازماً مع وجود المرجّح أولاً ، لأن الترجيح بلا مرجّح

____________________

(١) الأنعام : ١٤٩.

٣٨

يقتضي عدم حكمة المرجّح ثانياً ، لأنه قد يضع مادة الترجيح مع وجود الراجح في المرجوح عليه ، وهذا خلاف الحكمة التي تقتضي وضع الشيء في محله ، وهذا محال على الله حكيم ، أو عدم علمه بوجود الراجح ، وهو الآخر منقوض بعلم الله العليم! فلا تغفل.

لا يبقى أمامنا إلاّ نقول : بأن السر سيكون لصيقاً بوجود مؤهلات ومواصفات موجودة في ذات الممنوح له تؤهله لقبول عبء المادة الممنوحة له ، بحيث يجد المانح في الممنوح له قابلية تحقيق أسباب المنحة ، وعندئذ سنجد أن هذا الكلام يصحّ حينما نرى أن مواقع المنح الإلهية وإفاضتها على الرسل والأئمة عليهم‌السلام مبنية على أساس الترابط ما بين اللطف الإلهي وبين طبيعة المؤهلات الذاتية التي يتمتع بها من كان محلاً لهذا اللطف ، وهذا ما يجعل الترجيح الإلهي قائماً على وجود المرجّح ، ولا يوجد ما يعارض ذلك من الناحية الشرعية والعقلية ، بل إن الدليل قائم على إثباته ، وبغير ذلك فإن المنحة الربانية في حال اختصاصها بأح ستكون مرجحة بلا راجح ، وهذا باطل قطعاً لتعارضه مع مقتضيات العدل الإلهي.

ولو كان الأمر بهذه الصورة فوفق أي مقياس سنفصل ما بين الرسالة والذات في الوقت الذي نجد فيه أن هذه الذات هي التي اجتذبت الرسالة ، ولو لا هذه الذات لما كان بالإمكان أن تتعلق بها الرسالة؟.

ولو افترضنا جدلاً وجود المائز بين الرسالية والذاتية في شخصية المعصوم عليه‌السلام ، فمن حقّنا أن نطالب بفاصل دقيق يفصل ما بين الشخصيتين ، لأن مسألة حساسة كهذه يرتبط بها التشريع ارتباطاً دقيقاً ، خصوصاً وأننا نرى أن السنّة التي هي الأصل الثاني من أصول التشريع تعتبر سلوك وإقرار المعصوم عليه‌السلام من دون أن تخصصه من جملة أركانها الأساسية ، ومن حقّنا أن نعرف أين السلوك الذي ينبع من موقف الرسالة حتى نتبعه؟ وأين ذلك السلوك الذي ينطلق من مواقع الذات حتى لا يكون مستنداً شرعياً علينا؟ ونفس هذا الارتباط نلحظه مع الفكر الإسلامي الذي يبني على

٣٩

الفاصل المزعوم هياكل متعددة للعديد من مفاصله ، فمفهوم الطاعة ومفهوم القدوة والاتباع يتعلق بسلوك المعصوم عليه‌السلام وفكره .. فأين نلزم بالطاعة والاقتداء والاتباع؟! وأين يتوقف هذا الإلزام؟! وأي حديث من أحاديثه سنتعبّد به كنص فكري يلزمنا بصياغة أفكارنا وفقاً لمقتضياته؟! وأي نصّ سندع؟! ووفق أيّة آلية سنكتشف الفرق على الدوام وبوضوح بين حديث وسلوك الذات وحديث وسلوك الرسالة؟!

فمن الواضح ان الشارع المقدّس وهو يلوّح بطبيعة رسالته القائمة على إتمام الحجة وكمالها (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً) (١) ويتحدّث بجزم عن أن حجته لم تتم فحسب بل هي بالغة ووافية بصورة تامة كما هو الحال في قوله تعالى : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) (٢) لا يمكنه أن يدع حجته وهي بهذه المواصفات لتختلط أوضاعها على المكلّفين بها وتعيش حالة التكليف ضبابية لا يمكنها أن تبعث الطمأنينة في نفس المكلّف ، فهو مع عدم وجود الفاصل الموضوعي الصارم ما بين الشخصيتين سيعمد إلى واحدة من احتمالات ثلاثة : فهو إما أن يعمل بما ينقص عن الحجة الإلهية ، وإما أن يزيد عليها ، وإما ان تدركه الصدفة ليعمل دون زيادة أو نقصان وهو أندر من أن يحصل! فإن عمل بالزيادة فهو تكليف بما يزيد على حدود التكليف وهو ظلم ، وإن أنقص فغير ملزم بجزاء النقيصة وإن تخلّف في الواقع عن الحجّة الإلهية ، وكلا الحالتين تستوجب الخلل في طبيعة الحجة الإلهية التي ألزم الله نفسه بايضاحها وتبيانها بصورة كاملة ، فانتبه!

ولا أعتقد أن ثمة أجوبة موضوعية على هذه المسائل في جعبة من يدّعي الفصل ، فإن قالوا بأن المقصود بالجانب الذاتي هو كل ما عدا

____________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) الأنعام : ١٤٩.

٤٠