عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

الشيخ جلال الدين علي الصغير

عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

المؤلف:

الشيخ جلال الدين علي الصغير


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأعراف للدراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

يسلّم عليهم ، ولا يعادون ، (١) ولا يناكحون ، ولا يشهّدون ، ولا تؤكل ذبائحهم!! (٢)

وبطبيعة الحال فقد أخذت فكرة العصمة وهي أحد أعمدة مذهب أهل البيت عليهم‌السلام حصتها الوافية ، فجاء كتاب البخاري وهو يعلن تكذيب الأنبياء وتفسيقهم ، ولم يسلم الرسول بأبي وأمي من لظى نار البخاري فخصّه بجملة ليست قليلة من الأحاديث القادحة بشخصيته وبكماله! ووفقاً لمنهجنا في الكتاب فسأكتفي بذكر نماذج من أحاديثه القادحة بالعصمة ، ولعلّي أحظى بفرصة في المستقبل لكتاب مختص بصحاح العامة ومسانيدهم ، وما توفيقي إلّا بالله.

جاءت أحاديث البخاري وهي تعكس رغبة حثيثة في نقض العصمة ، وكان مسعاه هذا قد أنجزه عبر طرق عديدة ، وفي قراءة للجزء الرابع فقط من الكتاب وما حفّ به تجد البخاري يروي في مرة روايات تتحدث عن نقض مباشر لعصمة نبي من الأنبياء عليهم‌السلام أو لعصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتارة يروي روايات لها دلالة التزامية في نقض هذه العصمة ، وثالثة حاول أن يحيط الأنبياء عامة والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة بجو من عدم الوقار والخفة وعدم الاتزان ، بصورة يمكن لها أن تجعل الصنفين الأول والثاني من الأحاديث مقبولة في نظر المسلمين ، وفي مقابل ذلك فإن الأحاديث التي رواها الرجل في الفضائل الحقيقة (٣) للأنبياء عليهم‌السلام ومناقبهم تكاد تنعدم في الكتاب ، ومن نماذج هذه الأحاديث أذكر ما يلي :

____________________

(١) أي لا يزارون إذا مرضوا.

(٢) الأسماء والصفات : ٣٢٥ للبيهقي ؛ دار الكتب العلمية ـ بيروت.

(٣) أقول ذلك بسبب روايته لبعض الروايات التي يسميها بالمناقب ، ولكنها في واقع الحال ليست كذلك لا من قريب ولا من بعيد ، بل بعضها جاء على طريقة : أراد المدح فذمّ!!

٤٤١

القسم الأول : عن الانبياء

موسى يبطش بملك الموت

روى البخاري بسنده لأبي هريرة قال : أرسل ملك الموت إلى موسى فلما جاءه صكّه فرجع إلى ربه فقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، قال : ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور ، فله بما غطّت يده بكل شعرة سنة! قال : أي رب ثمّ ماذا؟ قال : ثم الموت ، قال : فالآن ، قال : فسأل الله أن يدينه من الأرض المقدّسة رمية بحجر. (١)

ويبدو أن البخاري لم يكمل بعض فقرات الرواية ، فعلى ما في كتاب مسلم جاء لفظ الرواية كالتالي : فلما جاءه (أي ملك الموت) صكّة ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، قال : فردّ الله إليه عينه وفي صدر رواية ثانية رواها مسلم جاء فيها التصريح بأن حديث أبي هريرة كان حديثاً عن رسول الله!. (٢)

والرواية على ما فيها من عجائب ، دافع عنها القوم بشدة حتى إن النووي في شرحه على مسلم وصف من ينكرها بالملحد. (٣)

ولم يلتفت هؤلاء إلى جملة من الأمور الفاضحة ، منها أن الملائكة

____________________

(١) البخاري ٢ : ٩٢ ـ ٩٣ (كتاب الجنائز) باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة ، و ٤ : ١٣٠ (كتاب بدء الخلق) باب وفاة موسى.

(٢) مسلم بشرح النووي ١٥ : ١٢٧ ـ ١٢٨ (كتاب الفضائل) باب فضل موسى.

(٣) شرح النووي على مسلم ١٥ : ١٢٩.

٤٤٢

مخلوقات نورانية ، وليست مادية فتوصف لأوصاف المادة ، وهي وإن تمثّلت بعض الأحيان بتمثّلات بشرية إلا إن هذه التمثّلات لا تعكس جسمانيتها لتفقأ عينها أو لتصك وجوهها ، ولو قدّر إمكانية أن تتمثّل بشرياً فما لها لم تعد لحالتها الأولى وهي في محضر الجلالة إذ يعيد إلى ملك الموت ما ذهب من عينه.

وهي على أي حال تعرّض بعصمة رسول وصف بأنه كليم الله ، إذ يفترض أن الأنبياء إنما يسعدون في محضر ربهم وفي الاستجابة لأوامره ، وقد برهن موسى عليه‌السلام من خلال حديث شيخ المضيرة هذا على عدم رغبته بلقاء ربه وجنته وحواريه وتخلّصه من أوزار الدنيا وعوارضها الزائلة وحسب ، بل تمرّده على ربه.

ولم تكتف بما صدر من ظلم من قبل موسى عليه‌السلام بحق رسول ربه فحسب ، بل وأظهرت مليك السماء يابل الظلم بالإنعام والمكافأة ، فيمنح موسى عمراً جديداً ، ويحقق له رغبته حينما يستجيب لرغبته!!

الساتر يفضح المستور بحجر راكض!!

روى البخاري عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض ، وكان موسى يغتسل وحده ، فوضع ثوبه على حجر ففرّ الحجر بثوبه ، فخرج موسى في إثره يقول : ثوبي ياحجر! ثوبي يا حجر! حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى فقالوا : والله ما بموسى من بأس ، وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضرباً ، فقال أبو هريرة : والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضرباً بالحجر. (١)

وإنك في حديث أبي هريرة هذا تحار مع الرب الذي أمر بالستر ، فلم

____________________

(١) البخاري ١ : ٧٣ (كتاب الغسل) من باب اغتسل عرياناً ، و ٤ : ١٢٩ ـ ١٣٠ (كتاب بدء الخلق) باب بلا عنوان.

٤٤٣

يستر نبيّه فحسب بل إنه فضحه!! وتعجب من الرب الذي يبالي بسمعة نبيه إزاء أمر تافه هو قول لبني إسرائيل في شأن جسد موسى ، ولا يبالي لافتضاح نبيه ووقوعه في أمر أعظم!! وتعجب من نبي يتمادى عقلياً فلا يكتفي بمناداة حجر فحسب ، وإنما يأخذ بضرب الحجر ويعاقبه!! فإذا لم تعجب من ذلك كله ، فلا تعجب من حيرة أبي هريرة حين لم يحسن إحصاء عدد ضربات موسى للحجر هل كانت ستاً أم سبعاً؟!!

أكاذيب نبي لا غيرة له!!

عن أبي هريرة ، عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاثاً!! (١)

وفي حديث آخر شرح شيخ المضيرة هذه الأكاذيب فقال : لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة السلام إلا ثلاث كذبات ثنتين منهنّ في ذات الله عزّ وجل! قوله (إِنّىِ سَقِيمٌ) (٢) ، وقوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وقال : بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له : إنّ هاهنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس ، فأرسل إليه فسأله عنها فقال : من هذه؟ قال : أختي!! فأتى سارة قال : يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإنّ هذا سألني عنك فأخبرته أختي فلا تكذّبيني!! فأرسل إليها فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأُخذ ، فقال : ادعي الله لي ولا أضرّك فدعت الله فأُطلق ، ثم تناولها الثانية فأُخذ مثلها أو أشد ، فقال : ادعى الله لي ولا أضرّك فدعت الله فأطلق ، فدعا بعض حجبته فقال : انكم لم تأتوني بإنسان إنما اتيتموني بشيطان ، فأخدمها هاجر فأتته وهو قائم يصلي فأومأ بيده مهيا (٣) قالت : ردّ الله كيد الكافر أو الفاجر في نحره ، وأخدم هاجر. قال أبو

____________________

(١) البخاري : ٤٤ ١١٢ (كتاب بدء الخلق) باب واتخذ الله إبراهيم.

(٢) الصافات : ٨٩.

(٣) أي : ما حالك؟.

٤٤٤

هريرة : تلك امكم يا بني ماء السماء! (١)

ولقد كنا قد تحدّثنا عن طبيعة الخبر من حيث مفاد العصمة في الفصل السابق ، ولكن ما يثير هنا أن البخاري في كتابه ـ الذي يعدّونه من أصح الكتب بعد كتاب الله ـ ورواية اللذان أخذا الرواية من التوراة كما سلفت الإشارة من قبل ، لم يكتفيا بالكذب على نبينا الأكرم ونبي التوحيد الأكبر ، وإنما راحا يصفان نبي الله إبراهيم عليه‌السلام بصفات عجيبة مقززة للنفوس منفّرة لها ، فتراه لم يكتف بإبراز عدم غيرته على أهله ، ولم يكتف بذكر جبنه وخوفه من هذا الجبّار ، بل راحا ينسبان لإبراهيم عليه‌السلام في هذا الخبر مطالبته لسارة بأن تكذب هي أيضاً!! والحال ان إبراهيم نبي التوحيد العظيم كان مبرأً من الكذب ، ونسبة الكذب إلى مثل البخاري ورواية شيخ المضيرة أليق من نسبته لنبي رباه الوحي واحتضنه الله العلي العظيم احتضان الخليل لخليله.

نبيان يتناقضان في القضاء!

روى البخاري عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن احدهما فقالت صاحبتها : إنما ذهب بابنك ، وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك ، فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان بن داود عليه‌السلام فأخبرتاه فقال : ائتوني بالسكين أشقّه بينهما فقالت الصغرى : لا تفعل يرحمك الله هو ابنها! فقضى به للصغرى!! (٢)

وهنا يقدّم البخاري وروايته العتيد أنبياء الله لا سيما الذين عرفوا

____________________

(١) البخاري ٤ : ١١٢ (كتاب بدء الخلق) باب واتخذ الله إبراهيم.

(٢) البخاري ٤ : ١٣٦ ـ ١٣٧ (كتاب بدء الخلق) باب ووهبنا لداود سليمان.

٤٤٥

بالحكم الواقعي دون الحكم الظاهري كداود وسليمان عليهما‌السلام بهذه الصورة الوضيعة فهما لا يختلفان في الحكم بقضيتين مختلفتين فحسب ، وإنما يتناقضان تناقضاً تاماً في قضية واحدة!! فهل هذه الرواية تريد أن تفسّر طبيعة ما آتاه الله لنبييه حينما قال : ( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ) (١)؟! وحينما قال : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) (٢)؟!

الشيطان يمس أنبياء الله

وروى البخاري عن أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ما من بني آدم مولود إلّا يمسّه الشيطان غير مريم وابنها. (٣)

وبهذا تكون مريم عليها‌السلام أفضل من أنبياء الله عليهم‌السلام جميعاً!!

نبي يبطش بنمل

وروى البخاري ، عن أبي هريرة أيضاً عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : قرصت نملة نبيّاً من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت ، فأوحى الله إليه إن قرصتك نملة ، أحرقت أمة من الأمم تسبح لله؟! (٤)

وروى عن أبي هريرة أيضاً أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة ، فأمر بجهازة من تحتها ثمّ أمر ببيتها فأحرق بالنار فأوحى الله إليه : فهلّا نملة واحدة.(٥)

____________________

(١) الأنبياء : ٧٩.

(٢) النمل : ١٥.

(٣) البخاري ٤ : ١٣٨ (كتاب بدء الخلق) باب واذكر في الكتاب مريم.

(٤) البخاري ٤ : ٢٢ (كتاب الجهاد والسير).

(٥) البخاري ٤ : ١٠٠ (كتاب بدء الخلق) باب إذا وقع الذباب ..

٤٤٦

ووفقاً للحكيم الترمذي فإن هذا النبي كان موسى عليه‌السلام. (١)

وأياً كان فإن الخبر يقدح بكمال الأنبياء لا سيما من جهة معاقبة من لا ذنب له ، هذا إن كان في لدغ النمل للإنسان ما يشكّل ذنباً لها ، والخبر يظهر نبياً من الأنبياء عليهم‌السلام بمظهر من الخفة والطيش والبطش بما لا يتناسب مع مقامهم!!

نبي يطوف بمائة امرأة!!

وفي قصة أخرى تشابه ما يروى في خلاعيات قصص ألف ليلة وليلة يروي البخاري عن أبي هريرة أيضاً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : قال سليمان بن داود عليهما‌السلام : لأطوفنّ الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كلهنّ يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، فقال له صاحبه : قل : إن شاء الله ، فلم يقل : إن شاء الله ، فلم يحمل منهنّ إلّا امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل ، والذي نفس محمد بيده لو قال : إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون. (٢)

ولكن البخاري تجده يروي نفس الخبر عن أبي هريرة نفسه ولكن باضطراب فاضح في المتن ، ففي خبر آخر ذكر أن النساء كن سبعين امرأة ، (٣) وفي خبر ثالث ذكر أنهنّ : تسعين امرأة ، (٤) وفي رابع : أصبحن ستيناً. (٥)

____________________

(١) نوادر الأصول في أحاديث الرسول ١ : ٤٠٧ للحكيم الترمذي ؛ دار الجيل ـ بيروت ١٩٩٢ ط ١.

(٢) البخاري ٣ : ٢٠٩ (كتاب الجهاد والسير) باب من طلب الولد للجهاد.

(٣) البخاري ٤ : ١٣٦ (كتاب بدء الخلق) باب ووهبنا لداود سليمان.

(٤) البخاري ٧ : ٢٢٠ (كتاب الأيمان والنذور) باب كيف كانت يمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ٧ : ٢٣٨ باب الاستثناء في الأيمان.

(٥) البخاري ٨ : ١٩١ (كتاب التوحيد) باب في المشيئة والارادة.

٤٤٧

وبغض النظر عن الإمكانية المادية والزمانية للطواف بهؤلاء النسوة ومباضعتهنّ إن كان لهنّ وجود ، وهي إمكانية تقصر عنها إمكانات الإنسان العادي وإمكانات الزمان العادي ، وبغض النظر أيضاً عن طبيعة ما يشغل الأنبياء عليهم‌السلام من هموم ، ومقدار عنايتهم بمباضعة النساء ، (١) لكن يلفت النظر غياب ذكر الله من على لسان نبي من أنبيائه ، وحضوره على لسان صاحبه ، وما يلفت النظر أكثر أن هذا النبي رغم تذكير الصاحب له بذلك ، إلّا إنه ـ ولربما بسبب سيطرة الشهوة عليه!! ـ لا يتذكّر ربه.

يبقى أن ألفت نظر القاريء الكريم إلى ما واجهني بشكل عفوي ، حينما رأيت أن هذه الأخبار كان بطل روايتها راو واحد ووحيد!!

____________________

(١) ما أشار إليه إنما هو همّ رجولي خيالي قد تتطلع إليه نفس المجتمع الذي عاش به شيخ المضيرة ونظراؤه!!

٤٤٨

القسم الثاني : عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

لحق بالرسول الكريم بأبي وأمي من صحيح البخاري ورواته كمٌّ كبير من أخبار التشويه والقدح ، وسأكتفي بذكر النماذج المتعلقة بمبحث العصمة ، ومنها :

فرية شق الصدر

روى البخاري في عدّة مواضع من كتابه قصة «شق الصدر» عن أنس بن مالك ، عن أبي ذر ، عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فُرج عن سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبرئيل ففرج صدري ثمّ غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيماناً فأفرغه في صدري ثمّ أطبقه ، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا .. الخبر. (١)

والخبر الذي رواه البخاري بمفرده يعاني من جملة من الاضطرابات التي تسقطه لا أقل من جهة المكان الذي تمت فيه هذه العملية ، فتراه مرة يتحدّث عن بيته مطلقاً أو محدداً بسقفه ، وثانية عن بيت الله مطلقاً أو محدداً بجهة الحطيم ، وفي مجموع أحاديثه تجد الملائكة ينزلون تارة من سقف البيت ، وأخرى تجدهم يأتون مشاة وأحدهم يشير إلى الآخر بشأنه ، أما إذا ما قورن بما ذكره غيره فتسجد أن بعضهم يروي أن الحادثة تمت في الجحر

____________________

(١) البخاري ١ : ٩١ (كتاب الصلاة) باب كيف فرضت الصلاة في الاسراء؟ ، و ٢ : ١٦٧ (كتاب الحج) باب ما جاء في زمزم ، و ٤ : ٧٧ (كتاب بدء الخلق) باب ذكر الملائكة ، و ٤ : ١٠٦ ـ ١٠٧ (كتاب بدء الخلق) باب ذكر إدريس.

٤٤٩

وليس في الحطيم ، (١) وفي أخرى كانت وهو منطلق إلى زمزم ، (٢) وفي غيرها أن الحادثة تمت في بني سعد أيام رضاعته لدى حليمة السعدية (رضوان الله تعالى عليها) ، (٣) ومرة تجد الامر في حال النوم ، وأخرى في حال اليقظة ، وثالثة في حال اللعب مع الغلمان ، وهكذا بقية الأمور الكافية لرد الخبر لما فيه من تعارض.

ويلاحظ على هذا الخبر تعليقه أمر العصمة من الشيطان على علقة في قلب الإنسان إن أزيلت زال أثر الشيطان عنه! فلقد جاء في بعض تقاطيع الخبر قول الراوي : فشق قلبه فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة فقال : هذا حظ الشيطان منك!! (٤) وما فيه أسخف من أن يناقش.

كما ويلحظ فيه اعتباره العلم صورة مادية تتمثل بما يصوّره الخبر بما حواه الطست المذهّب الذي حشيت به الحكمة والإيمان في قلب الرسول ، وفي بعض تقاطيع الخبر أن لغاديده وقلبه حشيا معاً!! والخبر في مضمونه العلمي مشابه لما سبق ومرّ معنا في شأن العلم الذي بسطه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رداء أبي هريرة وضمه إلى صدره فأصبح بقدره قادر من نخبة العلماء الأفذاذ!! (٥) وأمره في السخف أشدّ من سابقه!!

____________________

(١) تفسير الطبري ١٥ : ٣.

(٢) المسند المستخرج على صحيح مسلم ١ : ٢٣٠.

(٣) مسند أبي عوانة ١ : ١١٣.

(٤) مسلم بشرح النووي ٢ : ٢١٦ ، وصحيح ابن حبان ١٤ : ٢٤٢ و ٢٤٩ ، ومسند أحمد ٣ : ٢٨٨ ، وابن حجر في فتح الباري ١ : ٤٦٠ ، ٦ : ٥٨٤ ، ٧ : ٢٠٥.

(٥) الخبر كما رواه البخاري عن أبي هريرة وقد هذّب في الخبر الشيء الكثير من حديث غيره ممن روى نفس الخبر ، قال : قلت : يا رسول الله إني سمعت منك حديثاً كثيراً فأنساه ، قال : صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ابسط رداءك ، فبسطته ، فغرف بيده فيه!! ثم قال : ضمّه! فضممته فما نسيت حديثاً بعد!! البخاري ٤ : ١٨٨ (كتاب بدء الخلق) باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آية.

٤٥٠

وغاية الخبر الترويج لمسألة جبرية العصمة ، فقد أوكل الخبر مهمة العصمة إلى رفع تلك العلقة من قلب الرسول والتي كانت حسب مضمونه من حظ الشيطان! وإذ ترفع هذه العلقة عن قلبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتحول الرسول إلى إنسان آخر لا أثر للشيطان عليه!!

والأدهى أن هذه العلقة الشيطانية رغم رفعها في حديث البخاري وغيره إلا انهم ظلوا يتحدّثون عن أخطاء الرسول بأبي وأمي ومعاصيه ، فهل أخطاء الجراح جبرئيل!! عمليته الجراحية المزعومة!!

الرسول المسحور!!

روى البخاري عن عائشة قولها : سُحِرَ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى كان يخيّلُ إليه أنّه يفعل الشيء وما يفعله ، حتى كان ذات يوم دعا ودعا ثم قال : أَشَعَرتِ أنَّ الله أفتاني في ما فيه شفائي ، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما للآخر : ما وجع الرجل؟ قال : مطبوب (١) قال : ومن طبَّه؟ قال : لبيد بن الأعصم ، قال : في ماذا؟ (٢) قال : في مشط ومشاقّة وجُفّ طلعة (٣) ذكر ، قال : فأين هو؟ قال : في بئر ذروان ، فخرج إليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم رجع فقال : لعائشة حين رجع : نخلها كأنها رؤوس الشياطين ، فقلت : استخرجته؟ فقال : لا ، أمّا أنا فقد شفاني الله وخشيت أن يثير ذلك على الناس شراً ، ثم دفنت البئر!! (٤)

ورغم أن هذا الخبر هو من أوضح الافتراءات التي نالت من شخص

____________________

(١) يقال للمسحور : مطبوب تفاؤلاً برفع السحر عنه!.

(٢) أي في ماذا جعل السحر.

(٣) وفقاً لشراح البخاري فإن المشاقة هي ما يستخرج من الكتان ، وجفّ الطلع : وعاؤه إذا جفّ.

(٤) البخاري ٤ : ٩١ (كتاب بدء الخلق) باب صفة إبليس.

٤٥١

الرسول الأكرم بأبي وأمي ، ولكن أودّ أن أذكّر بما ينبغي التذكير به ، فالخبر يتعارض مع خبر البخاري السابق في شأن عصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الشيطان لرفعه العلقة الشيطانية عنه ، فما له أعاد الشيطان إليه من خلال عمل لبيد بن الأعصم الملقى في بئر ذروان؟!! وإذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتخيل فعل ما لم يفعل ، ما يلزمه فعله ، فكيف وعى ما أنبأه به الرجلان؟ وكيف وعى الذهاب إلى بئر ذروان؟!! وإذا فقد الوعي فما له عاد ليتذكر تحصين الله له؟ ولم يك قد تذكّره من قبل!!

وما كنت لأخال البخاري ومن قبله روايته أم المؤمنين لم يقرأ الآية الكريمة في شأن عدم نطفة (صلوات الله عليه وآله) إلّا بما يوحى إليه ، (١) ولم يقرأ الآية الكريمة : ( إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) (٢) ، فلم رووا هذه الرواية؟ ولربما يزداد الأمر دراماتيكية خاصة حينما نسمع كتب القوم تتحدث عن أمر رسول الله المزعوم بشأن أن نأخذ شطر ديننا من هذه الحميراء أم المؤمنين!!

إن كان ثمة حكم في هذا المجال فلندع نفس البخاري هو الحكم حينما روى في كتابه عن عبد الله بن مسعود قوله : قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيباً فأشار نحو مسكن عائشة فقال : هاهنا الفتنة ـ ثلاثاً ـ من حيث يطلع قرن الشيطان. (٣)

اللهمّ إليك المشتكى فإن هذا الرسول المسحور لا نعرفه ، وأم المؤمنين لا تعرف رسولهم ، بل نعرف الرسول الذي عرفتنا به آياتك رسولاً كريماً بلّغ ما ائتمنته عليه ، وما نطق من فيه كلمة ولا تصرف بتصرف إلّا وهو

____________________

(١) النجم : ٣ ـ ٤.

(٢) الجن : ٢٧ ـ ٢٨.

(٣) البخاري ٤ : ٤٦ «كتاب الجهاد والسير» باب ما جاء في بيوت أزواج النبي.

٤٥٢

ينطق عن وحيك ويفرغ عن الملائكة أمرك ، أما هذا الرسول المسحور فهو ممن نبرأ إليك منه!!

رسول الله يحرم حلال الله!!

وروى البخاري عن المِسْوَر بن مخرمة قال : إن علي بن أبي طالب خطب ابنة أبي جهل على فاطمة عليها‌السلام فسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب الناس في ذلك على منبره هذا ، وأنا يومئذ محتلم فقال : إن فاطمة مني وأنا أتخوّف أن تفتن في دينها ، ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس (١) فأثنى عليه في مصاهرته إيّاه قال : حدّثني فصدقني ، ووعدني فوفى لي ، وإني لست أحرّم حلالاً ، ولا أحلّ حراماً ، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبنت عدو الله أبداً. (٢)

وبغض النظر عن صحة وعدم صحة أصل هذا الزواج المزعوم من بنت أبي جهل ـ وهي غير صحيحة جملة وتفصيلاً ـ ومع الاغماض عن التعريض الواضح في لهجة الخبر بأمير المؤمنين عليه‌السلام ومفاضلة العاص بن الربيع المشرك عليه ، وهو تعريض ترفضه الكثير من روايات العامة التي تحدثت عن شكوى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإدانته لأي حديث يمكن أن يمسّ بشخص الإمام عليه‌السلام أو سلوكه ، ومع عدم التطرق إلى منشأ الخبر ، وعلاقته بخبر زواج عمر المزعوم من أم كلثوم بنت الأمير (صلوات الله عليه) بحجة حرصه على الاتصال بنسب الرسول الذي لا ينقطع نسبه يوم القيامة ، واظهار عمر بصورة المتودد إلى رحم الرسول ونسبه الحريص عليه ، واظهار الإمام علي عليه‌السلام بصورة القاطع لهذا الرحم الذي يخطب ودّ عدو الله بعد أن خطب عمر ود

____________________

(١) أراد به العاص بن الربيع زوج زينب ربيبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) البخاري ٤ : ٤٨ (كتاب الجهاد والسير) باب ما ذكر من درع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورواه في مواضع عدة غير هذا الموضع.

٤٥٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!! مع الاغماض عن ذلك وغيره ، فإننا لو أخذنا الخبر على علّاته لوجدنا رسولاً لا نعرفه كرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالرسول الذي نعرفه لا يثأر لابنته من خلال ايقاف أحكام الله سبحانه وتعالى ، فالخبر يظهر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمظهر المعتدي على حق مسلم يريد الزواج بما أحلّ الله له ، ثاراً لابنته في أمر طالبنا بعدم الاعتراف به ، وهذا ما لا يقبله عاقل من العقلاء فكيف يمكن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المؤتمن على رسالة الله أن يكون أسوة سيئة (والعياذ بالله) فيطالب بتحريم حلال الله؟!! وهل يريد البخاري أن يبيّن لنا ان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حريص على غيرة ابنته ، وعديمها على بقية نساء المسلمين؟!! إذاً لم تم تشريع الزواج المتعدد؟!

الرسول الراضي بالمنكر

وروى البخاري عن عائشة قولها : إنّ أبا بكر دخل عليها وعندها

جاريتان في أيام منيً تدففان (١) وتضربان والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متغشٍ بثوبه فانتهرهما! فكشف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن وجهه فقال : دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد. (٢)

وعنها قالت : إن أبا بكر دخل عليها والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندها يوم فطر أو أضحى وعندها قينتان تغنيان بما تقاذفت الأنصار يوم بعاث ، فقال أبو بكر : مزمار الشيطان ، مرتين ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دعهما يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً ، وإن عيدنا هذا اليوم. (٣)

والخبر بطبيعة الحال لا يجيب لماذا ينتهر أبو بكر الجاريتين؟ وعن سبب تغشية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوجهه؟ ولماذا يعلل الرسول نهيه لأبي بكر أن ينتهر الجاريتين بأيام العيد؟ فإن كان فعل ابن أبي قحافة صحيحاً لاستظهاره أن

____________________

(١) في نسخة العيني : تغنيان ، وتدففان أي تضربان الدف.

(٢) البخاري : ٤ : ١٦١ (كتاب بدء الخلق) باب قصة الحبش.

(٣) البخاري ٤ : ٢٦٦ (كتاب بدء الخلق) باب مقدم النبي وأصحابه المدينة.

٤٥٤

ذلك من الغناء والغناء محرم كما يظهر من تعليل الرسول لسماحة للجاريتين بأن يدففن أو يغنين ، فلو لم يك محرماً ما كان الرسول بحاجة إلى تعليل لعمل الجاريتين ، فهل كان تعليل الرسول في محله؟ ولو كان تعليله في محله فلم غشّى وجهه؟!

ولم يك للعيد ـ كمصطلح تشريعي ـ أي أثر في تحليل محرم ، بل إن المتيقّن أن عيد الأضحى من أيام الله ، وفيها تأكيد على اجتناب سخط الله ، فهل ترى في الرواية العائشية رغبة في اظهار رضى الرسول (وحاشاه) بمنكر فعلته؟ أم رغبة في اظهار كرامة لأبيها في تناهيه عن المنكر رغم تهاون الرسول (بأبي وأمي) عن هذا المنكر؟!

نبي لا غيرة له على زوجته! ويجلس في مجالس الشيطان!

وعن عائشة أيضاً قالت : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد ، فزجرهم عمر فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعهم أمناً بني ارفدة. (١)

ويبدو أن البخاري ـ الذي عرف بتقطيعه للأخبار في كتابه ـ لم يرو القصة كاملة خوفاً من المحاذير الحافة بها ، لذا سأنقل القصة من سنن الترمذي الذي أوردها في فضائل عمر لنتبين ما مراد البخاري من لعب الأحباش في المسجد فلقد روت عائشة فقالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالساً فسمعنا لغطاً وصوت صبيان ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا حبشية تزفن (٢) والصبيان حولها فقال : يا عائشة تعالي فانظري فجئت ، فوضعت لحيي (٣) على منكب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه فقال

____________________

(١) البخاري ٤ : ١٦١ ـ ١٦٢ (كتاب بدء الخلق) باب قصة الحبش.

(٢) الزفن : الرقص.

(٣) اللحي : حائط الفم ، وأرادت أنها وضعت ذقنها على منكب الرسول.

٤٥٥

لي : أما شبعت أما شبعت؟ قالت : فجعلت أقول لا لأنظر منزلتي عنده ، إذ طلع عمر قالت : فارفضّ (١) الناس عنها قالت : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني لأنظر إلى شياطين الجنّ والإنس قد فرّوا من عمر.(٢)

ولا تدري من اي مضامين الخبر تعجب؟ أمن عدم غيرة الرسول على زوجه؟ أم من سماحة لدخول الراقصين والراقصات إلى مسجد؟ أم من سماعه للغناء ومشاهدته للرقص؟ أم من فرار الشياطين من عمر وعدم فرارها من الرسول؟ أم شدة تناهي عمر عن المنكر وعدم تناهي الرسول عنه؟! لا أعلم من بعد ذلك لم بعث الله رسولاً كهذا ولم يبعث عمر بديلاً عنه؟!!

النبي في حفلة غنائية!!

وروى البخاري عن الربيّع بنت المعوّذ قولها لخالد بن ذكوان : دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غداة بني عليّ (٣) فجلس كمجلسك مني وجويريات يضربن بالدف يندبن من قتل من آبائهنّ يوم بدر حتى قالت جارية : وفينا نبي يعلم ما في غد ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تقولي هكذا وقولي ما كنت تقولين. (٤)

ولا يحتاج المرء إلى كثير عناء لتفكّر في طبيعة جلوس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاستماع الغناء وسماع صوت الأجنبيات المرخّم ، وحرصه على حثّ المغنيات للبعد عن الموضوع العقائدي والعودة للحديث عما يخلو منه!!

ولولا أني ألزمت نفسي في أن أقتصر على ورد في الجزء الرابع من كتاب البخاري وما حفّ به لرأيت نبيّاً يبول قائماً ويباشر حائضاً وينسى قرآنه ويكاد يصلي وهو جنب ويسهو في صلاته ويدعو للغناء وغير ذلك كثير تركته

____________________

(١) ارفضّ الناس : ابتعدوا.

(٢) سنن الترمذي ٥ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ ح ٣٧٧٤.

(٣) يقال بُني على المرأة إذا دخل بها زوجها.

(٤) البخاري ٥ : ١٥ (كتاب المغازي) باب بلا عنوان بعد باب شهود الملائكة بدراً.

٤٥٦

خوف الاطناب والخروج عن منهجية الكتاب ، هذا والأمر في خصوص كتاب البخاري الذي يعدّه القوم أصحّ الكتب بعد القرآن!! أما لو أضفت لها ما في بقية ما يسمّونه بالصحاح فمدى الطامة لا يعلمه إلا الله ، والناظر بعين التحقيق والتدقيق في هذه الكتب!!

وعلى أي حال فهذه النماذج قدمتها كي تكون أمثلة تشير إلى طبيعة تميّزت به منهجية كتاب البخاري ، وهي طبيعة عامة ميزّت الاتجاه الروائي الذي نتحدّث عنه.

٤٥٧

رابعاً التيار التاريخي (١)

لمحة عامة

مثلما رأينا الأمر في التيار الروائي ، فإن هذا التيار الذي عُنى بتاريخ المتعقدات لم يك وليد ظروف مختلفة عن ذاك ، بل هو وليد نفس الظرف السياسي والاجتماعي الذي أوجد ذاك ، ولهذا تراه يتكامل في أغراضه وأهدافه مع الأهداف والأغراض المطروحة مع ما استهدفه التيار الروائي ، ففي هذه الفترة برزت العقيدة الأشعرية التي سرعان ما أصبحت عقيدة الدولة الرسمية ، وتم تعميمها على كل مؤسسات الدولة ، وهي في الأعم الأغلب شاملة لجميع مناحي الحياة الدينية عند العامة ، ومهمة هذه العقيدة كانت تتضمن بفترقات رئيسية ثلاثة ، فهي من خلال فكرها التقليدي الجامد الذي لا يسمح بأي نمط تغييري شمولي في الحياة العامة ، تحاول أن تعيد وصل الفكر الجماهيري العام مع الكيان العباسي الحاكم من دون أن تعنيه هو بالذات ، وهذا ما يفسّر اعتمادها من قبل غالبية الكيانات والأنظمة السياسية المتلاحقة من بعد بني العباس وحتى يومنا هذا.

وهي من خلال تنظيرها الفكري والعقائدي تدفع بالاتجاه المضاد للتيارات الفكرية والعقائدية المناهضة للواقع السياسي العام وما يترتب عليه من اسقاطات في المناحي الحياتية كافة ، ولهذا فلا غرابة من أن تضع العقيدة

____________________

(١) المقصود هنا هو تاريخ العقائد والفرق.

٤٥٨

الأشعرية نفسها في قبال التيارات السياسية التي تحوم حول أحد أو كل القواسم المشتركة لمدرسة أهل البيت عليهم‌السلام والمعتزلة والخوارج.

ومن البديهي أن يتركز المفترق الثالث عند تعبئة الجمهور لقبول المذهبية الدينية في أبعادها الفقهية والتاريخية والروائية والتي تسهم مع هذه العقيدة في تشكيل نمط الذهنية الطائفية القادر على إرساء القواعد الشعبية للأنظمة الحاكمة.

ومن هذا المنطلق جاء كتاب «مقالات الإسلاميين» لأبي الحسن الأشعري (ت ٣٣٠ هـ) ، ومن بعده كتاب «التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع» للملطي الشافعي (ت ٣٧٧ هـ) ، ومن بعده كتاب «الفرق بين الفرق» لعبد القاهر البغدادي الاسفراييني (ت ٤٢٩ هـ) ، وكتاب «الفصل في الملل والأهواء والنحل» لابن حزم (ت ٤٥٦ هـ) ، وكتاب «التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين» لأبي المظفر الاسفراييني (ت ٤٧١ هـ) وهي بمجموعها تمثل عمدة كتب القوم هذا المجال من حيث الأسبقية التاريخية ، وما لحق بها من كتب ككتاب «الملل والنحل» لعبد الكريم الشهرستاني (ت ٥٤٨ هـ) وغيره هو عالة على ما طرح في هذه الكتب إن تشابه مورد البحث.

ويلحظ على هذه الكتب عامة تخيلها عن أدب الحوار بشكل سافر ، فهي لا تعتمد في ما تنقله عن الآخرين على ما كتبه هؤلاء ، وإنما تستند في غالبية الحالات على ما ورد في الكتب المضادة لها ، فلو راجعت غالبية أبحاثها عن الشيعة الإمامية كمثال تجدهم يؤسسون جلّ أفكارهم على خرافات رددتها الكتب والوثائق المضادة سلفاً للإمامية ، ولهذا فقد جاءت هذه الأبحاث ، وهي غريبة كل الغرابة عن الموضوعها ، وقد يحدث أنهم يأخذون قضية من الإمامية ليحيطوها بالكثير من الأكاذيب والأضاليل ليلبسوها الطابع الذي يريدونه ، كما هو الحال في قضية «عبدالله بن سبأ» التي استطاع الإعلام الأموي ، والعباسي بشكل أكبر ، أن يوظّف كل جهده من

٤٥٩

أجل أن يخرجها من اطارها كحدث بسيط مر في حياة أمير المؤمنين عليه‌السلام سرعان ما انتهى باحراق هذا الرجل الذي ادعى كفراً ومغالاة ألوهية الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومن ثم ليحوّلها هذا الإعلام السلطوي إلى حركة اسطورية تعم المناطق الإسلامية وتقف وراء جلّ الأحداث الصاخبة التي عصفت بالمجتمع منذ أواسط خلافة عثمان وحتى أيام معاوية ، وقد جاءت هذه الكتب لتتلقف سقطات المؤرخين وأكاذيب المحدثين ومن ثم لتجعل منها مفتتحاً لحديثها عن المعتقد الشيعي.

ولم يفت هؤلاء الكتاب ملاحقة ظاهرة الغلو التي نشأت في أوساط العديد من المدارس كافراز شاذ عن حالة القمع الفكري والسياسي الذي وسم صراعها مع النظام العباسي ، وكان منها ما انتشر في أوساط محددة من المجاميع المدعية للانتساب إلى أهل البيت عليهم‌السلام لتعطيها التعميم المطلوب لتشويه صورة هذه المدرسة النبوية ، ولهذا يجد القارىء لها أنها تتحدث عن فرق شيعية في الوقت الذي يلعن الشيعة هذه الفرق وأصحابها والمنتمين إليها ويتبرأون منهم بل ويرتبون عليهم جميع الآثار التي تترتب على المرتد عن الدين.

وكالعادة فقد حفلت هذه الكتب بظاهرة التكفير المشفوعة بالكثير من الذم والقدح والشتائم واللعن لما عدا الفرقة الأشعرية ، وبطبيعة الحال فقد نال شيعة أهل البيت عليهم‌السلام القدح المعلى من هذه الظاهرة.

٤٦٠