عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

الشيخ جلال الدين علي الصغير

عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

المؤلف:

الشيخ جلال الدين علي الصغير


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأعراف للدراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

المؤمنين عليه‌السلام أثناء شرحه لدعاء كميل ، بما لا يدع مجالاً للشك معه بعدم عصمته ، فتسمعه يقول : وفي مطلق الأحوال إن علياً يشرع في هذا المقطع من دعائه في تبيان ما من أجله كان يتوسل مقسماً بأسماء الله تعالى وصفاته ، وهو يبدأ بسؤال المغفرة للذنوب التي من شأنها أن تمس كيانه وشخصيته ، فتحليها إلى شخصية متهالكة ضعيفة لا حول لها ولا قوة ، فاقدة لأي اعتبار او موقع ، أو دور فاعل وإيماني في الحياة. (١)

____________________

(١) في رحاب دعاء كميل : ٧٢؛ الطبعة الأولى ، وقد حاول في الطبعة الثانية أن يعتذر عن ذلك بالقول بأنه أراد أن يكون : سؤاله قدوة لغيره لمن هو دونه في الكمال المعنوي والإيماني ، بحيث إذا ما أراد الوقوف بين يدي الله تعالى ، فإن عليه أن يتذكر ذنوبه .. (المصدر ؛ الطبعة الثانية : ٧٢) ، وبفعله هذا قام بتصحيح عبارتين فقط ولكن العبارات التي حوت أشد أنماط الإساءة أبقاها على ما هي عليه. ورغم انه تحدّث مؤخراً مدّعياً انه حذف هذه العبارات في الطبعة الثانية (فكر وثقافة العدد ٢٠٦ ص ٣) ، إلا ان الواقع الذي حكم الطبعة الثانية المطبوعة من قبل دار الملاك عام ١٩٩٩ م يشهد بخلاف ذلك ، فراجع.

وكنا قد علقنا على ذلك في هامش كتابنا من عنده علم الكتاب؟ وقلنا : ولعمري لقد كان العذر أقبح من الذنب ، حيث كان بالإمكان أن تصاغ العبارة هذه وغيرها من العبارات التي سنذكرها ، بألفاظ أكثر تهذيباً مع شخصية الإمام عليه‌السلام والكتاب يقرأ من قبل العاقل وغيره ، والشيعي وغيره ، والمثقف وغيره ، والعالم والجاهل ، ولو كان الأمر كما يريد أن يقول فما بال هذا الإصرار على إبقاء الضمائر المرجعة إلى شخصية الإمام عليه‌السلام عاملة وبفعالية فاقعة ، ولو تلافينا كل ذلك وتم الإغضاء عن هذه العباراة ، فما بال العبارات الأخرى لم تتغير في الطبعة الثانية من الكتاب ، خصوصاً بعد أن لاحظ الكاتب أنه في الطبعة الثانية حاول قطع الطريق كما يقول على المصطادين بالمياه العكرة. فمع احتمال ان يساء فهم شخصية الإمام عليه‌السلام أما كان بالإمكان تلافي العبارات جميعاً؟!

ولقد كان من السهولة بمكان أن يقتدي بمن سبق من العلماء ممن كتب في مثل هذه الأمور فلم تندّ منه حتى ما يشبه التقصير ، فكيف بك وأنت ترى تصوير مولى المتقين بالصورة التي لم يتجرأ على وصفها حتى أشد النواصب لؤماً. من عنده =

٣٤١

وقال في موضع آخر (ولاحظ معي الضمائر المرجعة إلى شخصية الإمام بأبي وأمي) : ماذا نشعر ونحن نرى علياً يسأل المغفرة تلو المغفرة ، ثم لا يكتفي بذلك ، بل يتجاوزه إلى سؤال شفاعة الله سبحانه وتعالى له. ألا تشعر أن علياً لا يزال خائفاً ، ولا سيما أن الذنوب والخطايا التي طلب من الله سبحانه وتعالى أن يغفرها له هي من الذنوب الكبيرة التي يكفي ذنب واحد لينقصم الظهر منها. (١)

وقال في موضع آخر : ويتابع الإمام ببيان حاله (وانظر مرة أخرى إلى مرجعية الضمائر) قائلاً : «ولا تفضحني بخفي ما اطلعت عليه من سرّي» يا رب هنالك الكثير من الأشياء التي أقوم بها من دون أن يراني أحد ، أو أتكلم بشيء ولا يسمعني أحد ، وأنت الساتر الرحيم فيا رب لا تفضحني في الدنيا وفي الآخرة ، واعدك بأني سأتراجع عن خطئي وإسائتي ومعصيتي. (٢)

وقال في موضع آخر : ولذا فالإمام يقول يا رب لقد خلقت لي هذه الغرائز ، ومن حولي أجواء تثير هذه الغرائز ، (٣) تستيقظ غرائزي عندما تحفّ بها الروائح والأجواء الطيبة التي تثيرها أعطيتني عقلاً ، ولكن غرائزي في بعض الحالات تغلب عقلي فأقع في المعصية. (٤)

وقال في مكان آخر وبلهجته العامية وهو يتحدث عن أمير المؤمنين : كان إذا سمع أحداً يمدحه شو (ماذا) كان يقول : اللهم اجعلني خيراً مما يظنون ، واغفر لي ما لا يعلمون ، كل الناس بتظن بيّه (بي) الخير ، أريدك تجعلني احسن مما يظنون الناس فيّ ، ولكن يا رب أنت تعرف خفاياي ، في

____________________

= علم الكتاب؟ : ١٨٢ ـ ١٨٣ دار الأعراف للدراسات ١٩٩٨ ط ١.

(١) في رحاب دعاء كميل : ٩٤.

(٢) نفسه : ١٥٩.

(٣) غرائز الجوع والعطش والجنس وحب الذات.

(٤) نفس المصدر : ١٦٩.

٣٤٢

أشياء أنت بتعرفها ، والناس ما بتعرفها اغفر لي هذه الأشياء. (١)

وأيّا كان حال كلمات هذا الرجل وغيره ، فإن هذه الشبهة أوهن من سالفتها ، فبالاضافة إلى ما أشرنا من قبل في استحالة أن يرتكب المعصوم منهم (صلوات الله عليهم) ذنوباً وخطايا من سنخ الذنوب التي تقبح في عين المشرّع وذلك لطبيعة الضوابط التي تحكم النظرة إليهم ، فما كانوا ليكونوا في هذا الموقع لولا طهارتهم وذهاب الرجس عنهم ، وعلاوة على ما تحدّثنا عنه آنفاً بشأن هضم النفس في مقام التعامل مع الله تعالى ، فإن واجب المعصوم عليه‌السلام لكونه هادياً لعباد الله في كل ساحات تفاعلاتهم أن يمارس دوره في توجيه الناس لواحدة من أمهات المسائل التي ترتبط بهداية الناس لتقوى الله ، وأعني بذلك كيفية التواصل مع الله سبحانه وتعالى ، وبأي لهجة يتخاطب معه ، وهي كيفية لا يمكن للإنسان العادي أن يعرفها من دون تعليم ، فتراه مرة يغوص في أعماق النفس ليكشف للمبتلي بنار فجورها أسرارها ليحذر من اغواءاتها ، وأخرى يغور فيها ليدلّ الحريص على تهذيبها وتشذيبها على مكامن التأثير ومواضع التغيير ، وثالثة يتحدّث مع الخالق ليبرز أوجه عظمته وأسرار تقديسه ، ورابعة تراه يتحدّث عن حالات أهل التقوى ، فيشخص خصائصهم ويكشف للملأ عظم نفوسهم ، وذلك بصورة لا يمكن لأحد غيره أن يتحدّث عنها ، وخامسة يهبط ويضع نفسه بين يدي ربه موضع من قارف عظيم الذنوب وجسيم الآثام ، ليدل على حقيقة هذه الذنوب والآثام من جهة ، وليكسر عتو القلوب الصدئة الغافلة عن ذكر ربها أو الآيسة من ذلك ، وذلك كله في لمسة تعبيرية بالغة الروعة اسمها الدعاء ، وهذا الأسلوب لم يميّزهم وحدهم (صلوات الله عليهم) بل تجده منتشراً كأسلوب رئيس من أساليت التربية الإلهية والنبوية للخلق ، ومراجعة الأدعية النبوية تحاكي هذا الامر تماماً.

____________________

(١) من شريط مسجل بصوته بث من قبل إذاعة محلية في لبنان نحتفظ به.

٣٤٣

وهذا الأسلوب الذي لا يخلو من أكثر من هدف اجتماعي وفكري و سياسي ، لم يك منفرداً بي أساليبهم عليهم‌السلام التربوية الهادية ، بل ثمة ما يعاكسه في الظاهر أيضاً ، ففي حديثهم عن عظمة مقامهم ، وسمو منزلتهم ، ورفعة درجتهم ما يعاكس ظاهر منظق ذلك الأسلوب ، وما ذلك إلا ليحقق نفس ما توخوْه في الأسلوب السابق ، مع اضافة مادة تربوية تعيد الأمور إلى نصابها في حال لو أخل ذلك الأسلوب فهم بعض النفوس فحاولت أن تنزلهم من مقامهم الذي وضعهم الله فيه.

وحتى لو قيل بوجود واقعية في طلبهم للمغفرة كما يشير إلى ذلك بعض الأعلام باعتبار أن دعاءهم (صلوات الله عليهم) يتوجه مرة لنا كمتعلمين ، ويتوجه أخرى إلى الله سبحانه وتعالى كملب لرغبات الداعي ، فإنها تبقى في اطار ما أشرنا إليه من قبل عن حديثنا عن سيئات المقربين التي يعدها الأبرار من الحسنات ، فليس المقرّب كالقريب ، وليس القريب كالبعيد!! ولكل له درجة من التأدب بين يدي خالقه ، وإلا لما وجدت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يثير الحديث الإلهي عن شدة جهده في عبادة ربه ، ولا يمكنك أن تتأمل هذه العبادة المضنية من دون النظر إلى أساليبها وطرقها في تجسيد مواقع التذلل والتواضع بين يدي عظيم السماوات والأرض! وأي مواقع للتذلل تخلو من الحديث عن الاستغفار والتضرع إلى الله ، وإن رجعت إلى كتب العامة والخاصة التي أوردت أدعية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوجدتها تطفح بهذه الأدعية ، من دون أن تثير في الفهم جو التشكيك في عصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا تغفل ذلك.

* * *

ثالثاً : مسألة سهو المعصوم عليه‌السلام ونسيانه

وقد أثار هذه المسألة في الفكر الشيعي المنهج الاخباري الذي اعتمده

٣٤٤

أستاذ الشيخ الصدوق ، وأعني به الشيخ محمد بن الحسن بن الوليد وما نسب لوالد الشيخ الصدوق (١) (رضوان الله تعالى عليهم) وقد تشدد التلميذ في رد القائلين بعدم سهو المعصوم عليه‌السلام ، وجميع اعتماده وحجته قائمة على رواية ذي اليدين المتقدمة في مبحث سهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى انه اعتبر ذلك تبعاً لاستاذه ابن الوليد أو درجة في الغلو. (٢)

وكان الشيخ الكليني في الكافي والشيخ الطوسي في التهذيب قد أوردا رواية ذي اليدين المشار إليها ، والروايات الشيعية التي ذكرت حديث ذي الشمالين كلها منحصرة في عهد واحد هو عهد الإمام الصادق عليه‌السلام ، وكلها تنسب السهو إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٣)

وكذا ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن محمد بن إبراهيم بن اسحاق الطالقاني ، عن ابن عقدة ، عن علي بن الحسن بن علي بن فضال ، عن أبيه ، عن الإمام الرضا عليه‌السلام قوله عن الإمام : إن الإمام مؤيد بروح القدس وبينه وبين الله عمود من نور ، يرى فيه أعمال العباد ، وكلما احتاج إليه لدلالة اطلع عليه ويبسطه فيعلم ، ويقبض عنه فلا يعلم والإمام يولد ويلد .. إلى أن قال : وينسى ويسهو. (٤)

ومناقشة ذلك يستدعي البحث في أكثر من محور ، وكي لا أطيل فقد أشرنا من قبل إلى مناقشتنا للموضوع في كتابنا : «علم المعصوم عليه‌السلام» ، فسأقتصر على المحاور التالية بحديث موجز :

١ ـ إن المعول في قضية سهو الصلاة على حديث ذي اليدين ، وقد

____________________

(١) لم أستطع التحقق من مواضع هذه النسبة ، وعهدتها عند الله على من ينسبها إليه.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ٣٥٨ : ١ ـ ٣٦٠ ذيل ح ١٠٣١ للشيخ الصدوق ؛ جماعة المدرسين في الحوزة العلمية ـ قم ط ٢.

(٣) النظر الكافي ٣٥٥ : ١ ب ٢٠٨ ح١ ، وتهذيب الأحكام ٣٤٥ : ٢ ـ ٣٤٧.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١٩٣ : ١ ب ١٩ ح ٢.

٣٤٥

علمت عاميته ، بل واختلاف العامة في شأنه ، فمنهم من قال هو ذو الشمالين ، وقد علمت أن ذا الشمالين قد قتل يوم بدر ، والراوي عنه وهو أبو هريرة الدوسي لم يسلم إلا بعدها بخمس سنين ، أما كيف ورد الحديث على لسان الإمام الصادق عليه‌السلام ، فإذا ما استثنينا مسألة الكذب عليه ، ولربما يؤيدها أن المروي عنه متطابق مع ما رواه أبو هريرة ، فإمكانية حمله على التقية هو الأولى من حمله على الواقع ، وذلك ما تميّزت به بعض فترات حياة الإمام الصادق عليه‌السلام من عنت بني العباس الشديد ، وما يدلّ عليه عدة أمور أذكر منها :

أ ـ عدم وجود حديث مماثل له في غير عهده (صلوات الله عليه).

ب ـ إن الكثير من حديث الإمام الصادق عليه‌السلام يؤكد عدم حصول ذلك ، ففي حديثه عن صفات الغافل والذي يرويه نفس الشيخ الصدوق بسند معتبر عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : وللغافل ثلاث علامات : السهو واللهو والنسيان. (١)

فهل يستطيع الشيخ الصدوق أن يلتزم بالقول بغفلة المعصوم عليه‌السلام؟!

وفي حديث جنود العقل والجهل الذي يرويه غالبية أصحاب الكتب الحديثية بما فيهم الصدوق نفسه يشير الإمام الصادق عليه‌السلام المروي بسند موثق إلى أن النسيان والسهو هما من جنود الجهل ، وما يناقضهما هما من جنود العقل قال : والتذكر وضده السهو ، والحفظ وضده النسيان. (٢)

فهل يريد الشيخ الصدوق وأستاذه الالتزام بما يترتب على ذلك؟!

وفي جملة الأحاديث التي تشير إلى تميز الأئمة على من سواهم

____________________

(١) الخصال : ١٢٢ ب ٣ ح ١١٣ للشيخ الصدوق ، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ١٩٩٠ ط ١.

(٢) الكافي ٢١ : ١ ب ١ ح ٢١ ـ ٢٢.

٣٤٦

بخصيصة وجود روح القدس في أرواحهم وهو الذي يخبرهم ويسددهم ، وفي الأحاديث التي يتراوح أغلبها بين الصحيح والموثق ، فإن لم يخبرهم بالسهو ويسددهم بعدم النسيان ، فعن أي شيء سيخبرهم ويسددهم ، وقد غفل هو بنفسه عن سهوهم وغفلتهم؟! على إن بعض هذه الأحاديث تنص على إن روح القدس ينتقل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد قبضه بأبي وأمي فيصير : في الإمام ، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يسهو. (١)

ولا أعتقد أن الشيخ الصدوق لو ربط بين مؤديات قوله وهذه الأخبار يبقى على التزامه هذا وتشديده النكير على من لا يقول بسهو المعصوم (صلوات الله عليه).

أما ما رواه عن الإمام الرضا عليه‌السلام فهو ضعيف سنداً ومتناً ، ففي السند ضعف الظاهر ، بل والشك فيه هو المقطوع به بين العلماء المحققين ، فهو ضعيف من جهة راويه الأول إذ من المعلوم أن الغالبية العظمى من مشايخه في غير كتاب من لا يحضره الفقيه يعدون من المجاهيل ، وروايه هنا هو من جملة هؤلاء ، ومقطوع بالشك فيه وذلك لتصريح الشيخ النجاشي (أعلى الله مقامه) بأن علي بن فضال لم يرو عن أبيه الحسن شيئاً ، (٢) وقد أكّد المحقق السيد الخوئي (قدّس الله سرّه) ذلك بالقول بعد أن أورد عدداً من الروايات التي روى فيها ابن فضال عن أبيه : فلا مناص من الالتزام إما بعدم صحة ما ذكره النجاشي أو بعدم صحة هذه الروايات ، والظاهر أن الالتزام بعدم صحة هذه الروايات أهون ، فإن مشايخ الصدوق الذين ذكرناهم في هذه الروايات كلهم ضعاف ، فلا يمكن رفع اليد بأخبارهم عما حكاه النجاشي عن

____________________

(١) بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمد عليهم‌السلام : ٤٧٤ ج ٩ ب ١٥ ح ١٣ لمحمد بن الحسن الصفار (ت ٢٩٠ هـ) مؤسسة الأعلمي ـ طهران ١٤٠٤.

(٢) رجال النجاشي ٨٣ : ٢ رقم ٦٧٤ للشيخ النجاشي (ت ٣٧٢ هـ) دار الأضواء ـ بيروت ١٩٨٨ ط ١.

٣٤٧

علي بن الحسن بن فضال ، ومما يؤيد صحة قول النجاشي ان الروايات المزبورة كلها عن أحمد بن محمد بن سعيد (وهو ابن عقدة) ، وهو من مشاهير المحدثين ، فلو كانت له رواية عن علي بن الحسن بن فضال ، عن أبيه ، لكثر نقلها في الكتب الأربعة. (١)

أما المتن فلما علمت مما تقدم في شأن الحديث السابق ، ويؤكده اضطرابه أن نفس الحديث مسبوق بقطعة قبله تؤيد دلالاتها الالتزامية نقض هذا الخبر برمته حيث قال معرّفاً بعلامات الإمام : ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه .. وينام عينه ولا ينام قلبه ، ويكون محدّثاً. (٢)

فإذا كان الوضع كذلك فمن أين سيرد عليه السهو والنسيان؟!

٢ ـ قد عرفت أن السهو والنسيان عارض شيطاني ، وهو ما لا يمكن له أن يمسّ بمقام المعصوم أو يدنو منه ، لما عرفت بأن كيده كيد ضعيف على ما أشارت إليه الآيات القرآنية ، ولهذا كان سلطانه على من دون أولياء الله ، فكيف يجرأ أحد على القول بأن السهو والنسيان يمكن أن يعرضا للمعصوم؟! وعجبنا لا ينقضي من مثل الشيخ الصدوق وابن الوليد كيف عنّ لهما مثل هذا التكفير؟ وكيف خلد في بالهما ان النبي أو المعصوم يمكن ان يغفل عن ذكر ربه في صلاته؟ في الوقت الذي لم يغفل فيه ذو اليدين عن ذلك؟!

٣ ـ إن السهو والنسيان فعلان سلبيان من المعصوم عليه‌السلام ، ولو أقررنا بوجودهما في سلوكه ، فسيلزمنا القول بأن فعل المعصوم عليه‌السلام ليس بحجة على من سواه ، لامكان أن يطرأ على هذه الحجة طارىء السهو والنسيان فيلحق بالمكلف ، تكليف ما لم يكلف به ، فيكون ذنبه معلق بالإمام ،

____________________

(١) معجم رجال الحديث ٣٣٦ : ١١ رقم ٨٠٠٥ ، للسيد الخوئي ؛ مدينة العلم ـ قم ١٩٨٩ ط٤ بيروت.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١٩٢ : ١ ب ١٩ ح ١.

٣٤٨

وهو أمر مستحيل ، فالإمام رحمة للعباد ، وليس نقمة عليهم. فلا تغفل.

٤ ـ سيأتي الكلام في مباحث علم المعصوم عليه‌السلام ان طبيعة هذا العلم طبيعة حضورية ، والعلم الحضوري لا يمكن أن ينسى ما لم يطرأ طارىء على قلب صاحبه بحيث يشغله كلية عن ذلك ، وفي خصوص العلوم الإلهية فإن هذا الطارىء لن يكون إلا من خلال مصادر الجهل والشيطان ، وهذا أمر لا يمكن أن يلحق بالإمام لما تقدم.

٥ ـ هذا وقد اتفقت الطائفة ما عدا من ذكرنا على إن المعصوم عليه‌السلام لا يمكن أن يغرض له مثل هذه الأمور ، وفي هذا الصدد يمكن مراجعة أقوال الشيخ المفيد الذي شدد النكير على الشيخ الصدوق ومن تكلم بكلامه في كتابه عدم سهو النبي أو في المسائل السروية وغيرها ، وكذا ما كتبه العلامة الحلي في التذكرة وفي الألفين ، وغيرهم ، وأكتفي في هذا الصدد ينقل قول الشيخ المفيد في المسائل السروية فلقد قال وهو يتحدث عن المعصومين (صلوات الله عليهم) : لا يجوز منهم سهو في شيء من الدين ولا ينسون شيئاً من الأحكام ، وعلى هذا مذهب سائر الإمامية إلاّ من شذ منهم وتعلق به ظاهر روايات لها تأويلات على خلاف ظنه. (١)

وهكذا فإن هذه الشبهة كما سواها لا قيمة لها على صعيد البحث التحقيقي الجاد.

____________________

(١) أوائل المقالات : ٦٥.

٣٤٩
٣٥٠

الفصل الرابع

العصمة في مهب التيارات المضادة

٣٥١
٣٥٢

في هذا الفصل سنقدم لمحة موجزة عن جملة من التيارات ذات الاتجاهات المختلفة وقد توحدت في نقدها لمفهوم العصمة ، وهدفنا من ذلك ليس نقدياً فحسب ، وإنما نستهدف فيما نستهدف التأكيد على سلامة نفس المفهوم ، وقوة الدليل الذي يستند إليه الفكر الإمامي ، وان ما سواه سواء انطلق من فهم فكري مختلف ، أو من عقدة طائفية ، أو من جهل في حقيقة فهم المفهوم ، أو من غير ذلك ما هي إلا محاولات بائسة على المستوى الصراع الطائفي.

وفيه سنقدم دراسة نقدية لأربعة تيارات انتقدت النظرة الإمامية حول العصمة أو خالفتها ، وسنلمس في التيار الأول وهو تيار اغترب عن مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام حجم التناقض في التعبير عن العصمة ، ومدى البون الشاسع الذي قطعة هذا التيار في البعد عن الحقيقة ، ودراسة هذا التيار قد أخذت حيّزاً أكبر من سواه ، وهذا لا يرتبط بقيمة هذه الأفكا على ما سواها في التيارات الأخرى ، بل لربما تمثل في بعض صورها ، انحطاطاً فكرياً أكبر ، ولكن لطبيعتها الخصوصية ، ولأنها أكثر احتكاكاً في الوسط الذي نحياه.

أما في التيار الثاني فيمكننا فهماً أبتر حاول التيار الأكاديمي أن بقدّمه للعصمة ، مستعيناً بمقدمات خاطئة أخذ منهجها إما من الفهم المعرفي الغربي ، أو من مسبقات طائفية سيطرت على محاولات هذا التيار ، فسنرى أن بعض ما يسمى بالكتابات الأكاديمية ليست أكثر من اجترار لمعطيات قدّمتها الطائفية التاريخية ، دون أن يتجشّموا أبسط حقائق البحث الأكاديمي القائم على الحياد.

٣٥٣

اما في التيار الثالث وهو التيار الذي سميناه بالتيار الروائي فسنجد أن مرجعية المادة المسمومة ضد مفهوم العصمة تعود لبنتها الحقيقة إليه ، فهو من قدّم لأعداء العصمة الغطاء الروائي الذي يطلبونه.

أما التيار الرابع والذي أسميناه بالتيار التاريخي فسنجد أن ما يسمى بمؤرخي الفرق والعقائد ، لم يقدّموا سوى دراسات ومعلومات هي إلى الفهم الطائفي المتحيّز أقرب منها إلى الحياد الموضوعي في نقل المعلومة التاريخية ، مما جعلهم يقدّمون معلومات عن الفهم الإمامي للعصمة لا أساس لها من الصحة.

وبطبيعة الحال فإننا لم نأخذ من هذه التيارات إلا نماذج ، لأن الاستقصاء يفوق حدود الكتاب ، ولأن الكثير مما طرحوه متشابه من حيث المضمون والدلالة.

وقد حرصنا في هذا الفصل على أخذ عينات مختلفة من هذه التيارات ، فمن الفكر العلماني ناقشنا أفكار د. حسن حنفي ، ومن الفكر الطائفي ناقشنا أفكار البخاري والأشعري وعبد القاهر البغدادي ، ومن غير ذلك كانت لنا وقفة مع الدكتور سامي علي النشار ، و قبل هولاء جميعاً توقفنا لمناقشة أوسع مع التيار الذي اغترب بعيداً عن مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو التيار الذي يحكي قصة تلبيته لأغراض لا يمكن أن تقف عند حدود الحرب السياسية المعلنة من قبل الاستكبار العالمي على التشيع الذي برز كأحد أعتى القوى ذات التأثيرات الشمولية في مواجهتها للمنطق الاستكباري ، بل يتعدى ذلك إلى تلبية عقد ذاتية من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، لا تقل انفعالاتها وافرازاتها عن أشد النواصب تحاملاً عليهم ، وفي هذا الصدد كان لنا وقفة مع مجموع الأفكار التي طرحها محمد حسين فضل الله في ثنايا كتبه ومقالاته ونشراته ، وفي خاتمة هذا القسم وقفنا بصورة مختصرة عند أفكار المدعو بعبد الرسول اللاري والمعروف باسم أحمد الكاتب.

٣٥٤

وما في هدف لنا بالتجريح في هذا أو ذاك ، ولا عناية لنا بذلك ، فإنما يحتاج إلى ذلك الضعيف في فكره والعاجز في أدلته ، وإنما غاية ما نبتغيه أن نعزز مواقع الدفاع عن الحقيقة ، فما فكر أهل البيت عليهم‌السلام بعاجز حتى يحتاج منها إلى تجريح أو تهريج كما اتهمنا بذلك محمد حسين فضل الله كثيراً ، (١) وهذا الكتاب فضلاً عن بقية كتبنا هو خير شاهد على ذلك ، وإن شددنا الوطء في بعض الأحيان في تعرية واقع هذه الأفكار وما يقف خلفها ، فليس لسبب شخصي وإنما بسبب خشيتنا من عملية التغرير التي تجري على قدم وساق لشباب الشيعة لا سيما في مناطق الاغتراب الذين جهدت وسائل دعائية لا تخفي ارتباطاتها بألد نواصب اليوم على تقديم رواد هذا التيار وكأنهم أبطال التشيع ، وهو أسلوب يؤكد حقيقة أن التاريخ يعيد نفسه ، فهو نفس التاريخ الذي صنع من أعداء أهل البيت عليهم‌السلام أبطالاً في عالم الإسلام من خلال الزيف والدجل والخداع ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

____________________

(١) انظر نشرة بينات العدد : ٢٠٧ / ١١ ، الصادرة بتاريخ ١٦ / ٢ / ٢٠٠١ ، وهو من جملة حديثه الذي تحدّث به عبر تلفزيون أبو ظبي الفضائي بتأريخ ١٩ / ١٢ / ٢٠٠٠.

٣٥٥

أولاً : تيار الاغتراب

١ ـ محمد حسين فضل الله نموذجاً

لمحة تاريخية (١)

يتحدّر محمد حسين فضل الله المولود في النجف الأشرف عام ١٩٣٦ م من أسرة علمائية وأدبية عرفت في جبل منذ عقود القرن الهجري الماضي تمتد منذ كان وهج الأسرة يتألق بوجود المقدّس السيد محمد نجيب فضل الله (قدس سره) ، وهو ـ أي محمد حسين ـ ابن المقدّس السيد عبد الرؤوف فضل الله (رضوان الله تعالى عليه) ، وحسب الظاهر فإن سلالتهم الحسنية تتصل بالأشراف الحسنيين في مكة المكرمة ، وقد ارتدى الزي الديني في النجف منذ صباه ، تبعاً لتقليد عائلي محض ، وخرج منها وعمره لا يتعدّى الثلاثين عام ١٩٦٦ م ، وكان فيها قد عاش الكثير من الشبهات الموجهة للفكر الإسلامي بشكل عام والشيعي بشكل خاص والتي كان يستقبلها عبر المجلات والنشرات العلمانية والشيوعية القادمة من مصر ومن لبنان إلى النجف الذي كان يعيش في مطلع شبابه ضمن هذه الأجواء التي زرعها حكم عبد الكريم قاسم والحقبة التي سبقته ، ويشير هو إلى ذلك في معرض حديثه

____________________

(١) هذه الدراسة وما سيعقبها بشأن المناقشة العامة لمحور العصمة في فكر الرجل كانت في الأصل جزءاً من كتابنا : التحريفية الجديدة الذي كان قد أتلفته وغيره فيروسات الكومبيوتر الشخصي ، ولم أك قد احتفظت بنسخة بديلة.

٣٥٦

عن والده (رض) بالقول : كنت أتحدّث معه بما يسمى في المجتمع النجفي بالكفريات ، كدلالة على الأشياء التي لا يمكن للإنسان أن يناقشها مع الناس ، لأنهم قد يتهمونه بالكفر والمروق. (١)

وقد قضى حياته في النجف متميزاً عن أقرانه والمقاربين له في السن كالمرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر ، والعلامة الفقيد الشيخ محمد مهدي شمس الدين ، والسيد علي مكي العاملي ، والشيخ عبد الامير قبلان ، ومجموعة من أولاد خالته من أسره الإمام الراحل السيد محسن الحكيم (قدس سره الشريف) وغيرهم بكونه كان عازفاً عن الجدية التي كانت تميزهم في تلقي العلم ، (٢) فما بين الحياة التي قضاها بين المجامع الأدبية التي كان

____________________

(١) فضل الله وتحدي الممنوع : ٣٦ لعلي حسن سرور.

(٢) نشير إلى مغالطة بيّنة كثيراً ما رددها فضل الله عن موضوع دراسته في النجف ، وهي دعواه بأنه درس فيها ما يقارب ٢٥ سنة. انظر مجلة الموسم العدد : ٢١ ـ ٢٢ (عدد خاص به) ص ٦٧٦ س ٢٧٢٢.

أقول : يعني ذلك انه درس وعمره خمسة سنوات! والواقع غير ذلك بالمرة ، فلقد ابتدأ دراسته البدائية وهو في أواخر عام ١٩٤٦ بعد أن أمضى في المدرسة الرسمية سنوات الدراسة الابتدائية إلى الصف الثالث ، وأبعده والده (قدّس سره) إلى لبنان عام ١٩٥٢ مع خاله الوزير علي بزي ، وذلك تلافياً لما كان يعيشه من اجواء لم يرتضها الأب ، وكان ذلك بنصيحة من أخيه المقدّس السيد محمد سعيد فضل الله (رض) ، وقد أمضى هناك قرابة العام ، قبل أن يعود إلى النجف ، واحتاج لكي يقطع مرحلة المقدمات والسطوح مدة تنيف على تسع سنوات أي تقريباً في أواخر العام ١٩٥٦ م ، ولم يك في دروس المقدمات والسطوح بذاك الذي يشار إليه ، ثم انهمك بكثير من انشغالات ما سنشير إليه في المتن ، وقد حضر درس خارج السيد محمود الشاهرودي (قدس سره) بشكل جزئي جداً ، وادعاؤه بحضور درس المقدّس الشيخ حسين الحلي (قدس سرّه) كما يشير في مجلة الموسم ليس صحيحاً اطلاقاً ، نعم حضر شطراً من دروس زوج خالته الإمام السيد الحكيم والسيد الخوئي (أعلى الله مقامهما) ولم يتم أي من دوراتهما الفقهية أو الأصولية ، وكان معروفاً بكثرة الغياب.

٣٥٧

يحاول أن يبرز من خلالها إلى أن هيأ له المقدّس الوالد الشيخ علي الصغير (رضوان الله تعالى عليه) فرصة البروز حين أشركه في أحد احتفالات الرابطة الأدبية في النجف الأشرف (١) التي كانت تمثل واحدة من أهم الأندية الاجتماعية والسياسية فضلاً عن توجهاتها الأدبية والدينية ، وما بين تطلعات الشباب التي كانت تحتوشها أزمات الأمة الكبيرة المتمثلة بأزمة فلسطين واستحقاقات الانتقال من مرحلة الاستعمار المباشر إلى مرحلة الاستعمار غير المباشر ، وما يفرضه واقع التخلف الذي كان يسدر بكلكله على كاهل الأمة ، فضلاً عن احتفانات نفسية كانت تثيرها بعض الأجواء والسلوكيات الاجتماعية في هذا الشاب ، ما بين كل ذلك فإنه كوّن أساساً علمياً هشّاً لا ينسجم مع الطبيعة العلمية المتعمقة التي كانت تميّز الجو العلمي في النجف.

وكأي شاب عاش طفولة مرهقة كالتي يتحدث عنها هو ، أو كما هو معروف عنها بين أقرانه المعاصرين له ، وكما هو معروف عن سيرة العائلة الذاتية فقد تقاذفته الأمواج التي كانت تتلاطم في أجواء النجف على صعد مختلفة ، وهي الأمواج التي جعلته يغادر حلقات الدرس الجدية بسرعة ، (٢) ومن ثم لينهمك في أتون أجواء أخرى ، وهي أجواء كان لها بريقها الديني ، ولكن أهميتها الدينية شيء ، والواقع العلمي الذي أفضى بشاب لم يتعدّ نصف عقدة الثاني في أتونها شيء آخر ، فطبيعتها مهما كانت رفيعة غير انها تقضي بأن تنصرف هموم طالب العلم إلى غير حلقات طلب العلم ، ومن يعرف الواقع العلمي في النجف ويعرف طبيعة عمقه ، يعرف أن المسألة لا تتوقف عند حضور درس أو إتمام كتاب درسي ، بقدر اعتمادها على ملاحقة

____________________

(١) كان المقدّس الوالد (رض) في وقتها نائب أمينها العام وبعد رحيل أمينها العام الشيخ محمد علي اليعقوبي (رض) أصبح رئيساً لها ، وعمله هذا كان انسجاماً مع ما عرف عنه (رض) باهتمامه الشديد بالشباب.

(٢) بمعزل عن الادعاءات التي تطرح حالياً بعد رحيل أغلب الزملاء ، لأسباب لا تخفى على ذي لب.

٣٥٨

علمية مضنية على صعد عديدة لا مجال لتفصيلها هنا ، ولهذا تراه بعد أن انضوى في سلك حزب الدعوة الإسلامية الذي كان يعرف آنذاك بتأثره الشديد بفكر سياسيي أهل العامة كحزب الإخوان المسلمين وحزب التحرير ، ولهذا الأخيرة تأثيره الأميز على فكر فضل الله ، يعرفه كل من يعرف تأثّر الحزب بشكل حاسم بفكر عبد الهادي سبيتي (١) الذي كان يقود حزب الدعوة بشكل صارم ، يخرج من النجف في عدة مهمات تبليغية في قرى العراق النائية عن النجف (٢) ، حيث الثقافة المبسطة والنفوس الخام بمعية بعض العلماء أو منفرداً ، وهذه ليست بالمعيبة قطعاً ، ولكن طبيعة العمل التبليغي هو الآخر يفرض العبد عن الأجواء العلمية.

ثم ما أن بدأ جيله يأخذ لنفسه حيزاً اجتماعياً في أوساط المتحمسين ، حتى كان العراق قد دخل مرحلة الحكم الجمهوري ، وكان فضل الله فيها قد أتمّ عقده الثاني للتو ، وهي مرحلة تميزت باضطرابها الشديد ، وسرعة تحركاتها وتقلباتها السياسية ، وهو الاضطراب الذي كانت أمواجه تتلاطم في النجف التي تعدّ واحدة من أهم المواقع تأثيراً في الحياة السياسية آنذاك ، وفي هذه الفترة كان العراق قد شهد عدة انقلابات عسكرية تميز بعضها بدمويتها الشديدة التي ضربت كل المحافظات العراقية لا سيما النجف الأشرف ، وقد امتدت هذه الفترة حتى عام ١٩٦٥ م حين بدأت النجف تشق طريق السيطرة السياسية إبان حكم طائفي بغيض ، ولهذا فإن خروجه من النجف عام ١٩٦٦ م ـ ولم يك قد أتمّ عقده الثالث ـ يمكّننا من القول بأن حصيلته العلمية كانت ضعيفة جداً ، لا سيما في مجال الدراسات التي لم تكن داخلة ضمن المنهج الدراسي بشكل رسمي كأبحاث التأريخ والعقائد

____________________

(١) لبناني ، اعتقل في الأردن في مطلع الثمانينات ، وسلمته السلطات الأردنية إلى العراق حيث اختفت أخباره منذ ذاك.

(٢) واحدة من تقاليد النجف خروج طالب العلم للتبليغ في فترة المعطلة الدراسية التي كانت تستغرق رجب وشعبان ورمضان.

٣٥٩

والفلسفة وعلم الحديث وما إلى ذلك ، وبهذا اللحاظ نجد ان كلمته عما يعدّه المجتمع النجفي بالكفريات ، إنما تؤشر في واقع الحال على هذا الضعف الذي كان يكتنف بنيته العقائدية وما يتصل بهذه البنية من أبحاث ، ولا أعني بهذا الضعف حالة القراءات العامة ، وإنما أعني الحالة التي تجعله مؤهلاً في مواجهة أعباء الأزمات العقائدية والسلوكية ، وهي الحالة التي تحتاج إلى منظومة من المعلومات القرآنية والروائية المعمقة ، إضافة إلى استيعاب الموضوع العقائدي بشكل مقارن مع بقية المذاهب ، وقدرة على التحليل والاستدلال ، ناهيك عن سبر متعلقات الموضوع العقائدي في الساحة التاريخية.

وقد دخل المجتمع اللبناني وانهمك سريعاً في خضم استحقاقات البروز في هذا المجتمع ، وهو بهذه الحصيلة العلمية المتدنية على المستوى العقائدي ، وطبيعة ظروفه في هذه الحياة لم تمكنه من فرصة تعويض ما فات في النجف ، وأي شيء يمكن أن يعوّض عما فات في النجف في تلك الفترة؟ (١) فلقد كان يتميز بالنشاط الاجتماعي الواسع وسط الكثير من حوافز القفز على السلّم الاجتماعي ، اضافة إلى ما يفرضه انضواؤه في حزب الدعوة من التزامات الاجتماعي مع رموز النسقين الصاعد والنازل ، والمطالعات الحزبية الخاصة والممنهجة ، فضلاً عن الهموم الحزبية العامة ، وكل ذلك أسهم بشكل جاد في حرمانه من النمو العقائدي في حال رغبته ، فكيف لو كان عازفاً عن ذلك؟!

وفي منطقة النبعة وبرج حمود في بيروت حيث استقر راح يعزف على

____________________

(١) أشير في هذا الصدد إلى فرية رددها الرجل وأنصاره كثيراً في الأعوام القليلة الأخيرة عن أن المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رض) قال : كل من خرج من النجف خسر ، إلا فضل الله فإن النجف قد خسرته!! ومن يعرف الرجلين يعرف جيداً استحالة صدور مثلها!!

٣٦٠