عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

الشيخ جلال الدين علي الصغير

عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

المؤلف:

الشيخ جلال الدين علي الصغير


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأعراف للدراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

ولهذا تجدهم حينما أحسّوا بمأزقهم مع هذا الحديث أضافوا إليه تتمة وضابطة ، لتنتج بالتالي واحدة من أخطر المخاطر التي عصفت بسنة الرسول ومسختها بصورة ماحقة ، فالتتمة ما رواه البيهقي والخطيب البغدادي وابن شيرويه عن ابن عباس ، عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه ، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني مضية ، فإن لم يكن سنتي فما قال أصحابي ، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء ، فأيّما أخذتم به اهتديتم ، واختلاف أصحابي لكم رحمة. (١)

وهذا الخبر سنعلم زيفه من خلال الحديث القادم إن شاء الله تعالى.

أما الضابطة فهي ما رواه أحمد والبيهقي والخطيب البغدادي وابن حبان عن أبي حميد وأبي أسيد ، عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به! وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه. (٢)

وهذه الضابطة في واقع الحال مثالية في ترك زمام قبول الحديث والسنة ورفضها في يد القوم!! يعملون بمقتضاه في القبول بالحديث النبوي ورفضه وفق عواطفهم ومصالحهم ، دون ضوابط موضوعية يمكن الوقوف عندها ، ودون حدود معلومة يمكن التحاكم إليها ، فمتى ما شاؤوا قبلوه بدعوى انه ينسجم مع قلوبهم وتطمئن له نفوسهم ، ومتى ما أرادوا رفضوه بحجة أنّه تنكره القلوب وغريب على عواطفهم!! ولقد جاؤوا بها هنا عريضة والله!! فأي مقياس علمي هذا الذي يتحدثون عنه؟! وهل وعوا أي فرية ينسبونها إلى

____________________

(١) المدخل إلى السنن الكبرى ١٦٢ ح١٥٢ للبيهقي ، والخطيب البغدادي في الكفاية في علم الرواية : ٤٨ ، وابن شيرويه الديلمي في الفردوس ١٦٠ : ٤.

(٢) انظر : مسند احمد ٤٩٧ : ٣ ، وصحيح ابن حبان ٢٦٤ : ١ ح٦٣ ، والكفاية في علم الرواية : ٤٣٠ ، والسنن الكبرى ٣٨٧ : ١.

٢٤١

الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! فإن كان الأمر على هذه الشاكلة فما فائدة الوحي والنبوة؟! ألا جعلوها للقلوب والأبشار والأشعار!! اللهمّ إليك وإلى رسولك المشتكى!!

* * *

ب ـ أصحابي كالنجوم وعدالتهم

وقد أوجد القوم لأنفسهم مخرجاً آخر من حديث الثقلين بالخبر السابق وبالخبر المشهور لديهم : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم! (١) ومقولتهم العجيبة المبنية على الخبر في شأن عدالة جميع الصحابة.

قال الآمدي وهو يعترض على حديث الثقلين : ما ذكروه معارض بقوله : أصحابي كالنجوم. (٢)

وروى البيهقي والخطيب البغدادي وابن شيرويه الديلمي عن عمر قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سألت ربي عزَّ وجلَّ في ما اختلف فيه أصحابي فأوحى إليّ : يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء ، بعضها أضوأ من بعض فمن أخذ بشيء مما هو عليه من اختلافهم ، فهو عندي على هدى. (٣)

والكلام عنه كسابقه يقع في محورين واحد يتعلق بالسند والآخر في دلالات المتن ، ولارتباطه الوثيق بمقوله : عدالة الصحابة التي يعمل بها العامة ، وارتباط هذا الموضوع بموضوع العصمة ، فسيجرنا إلى الحديث

____________________

(١) نوادر الأصول في أحاديث الرسول ٦٢ : ٣ للحكيم الترمذي ؛ دار الجيل ـ بيروت ١٩٩٢ ط ١.

(٢) الإحكام في أصول الأحكام ٣٠٨ : ١.

(٣) الفردوس بمأثور الخطاب ٣١٠ : ٢ رقم ٣٤٠٠ واللفظ له ، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى : ١٦٢ ، والخطيب البغدادي في الكفاية : ٤٨.

٢٤٢

بإيجاز عن هذه المقولة.

وللوهلة الأولى فإني لا أخفي عجبي مما كنت أحسب أن أحاديث لنجوم هذه متواترة لدى القوم بالصورة التي ادت إلى أن يتناقلها فقهاؤهم وأصوليّوهم تناقل المسلمات ، ويرتبون عليها الآثار الجازمة في التشريع ولتقنين الفقهي والأصولي ، ومراجعة بسيطة لأبحاث الاجماع وخبر الواحد في كتبهم تخبرك بأهمية هذا الخبر لديهم ، بل لقد وجدنا أن بعضهم يكفرون من يردّه أو يرد العمل بمفاده ، وكم من شاتم للشيعة ولا عن لهم بسبب ما يدّعون بأنه سباب منهم لصحابة عدول مواثيق كالنجوم بأيّها اقتديت اهتديت! ولكن كم كانت دهشتي وانا أقلّب صفحات صحاحهم ومسانيدهم فلا أعثر عليه أبداً ، إذ لم يرد له ذكر في أي جامع صحيح أو معتبر لهم ، فلا تجده لا في الصحاح الستة ، ولا في المسانيد العشرة ، ولا في غيرها من الكتب التي يعوّلون عليها في الأحكام!!

وفي المحور الأول لن أرهق القارىء الكريم بذكر الأسانيد ومتابعة رجالهم وشؤون جرحهم وتعديلهم ، كما فعلنا في سابقه ، فلقد أغنانا القوم مؤونة ذلك ، فلقد اعتبر الحافظ الذهبي وابن حجر العسقلاني خبر أصحابي كالنجوم الذي رواه جعفر بن عبد الواحد من بلاياه ، وقد وصفه بوضع الحديث والكذب. (١)

ونقل الخبر في ترجمة حمزة بن أبي حمزة النصيبي ، بعد أن نقل وصف رجالات القوم له بأنه متروك ، منكر الحديث ، ولا يساوي فلساً ، وأن عامة ما يرويه موضوع. (٢)

وفي ترجمة زيد العمي وهو راوي حديث عمر قال بعد أن اعتبره من

____________________

(١) ميزان الاعتدال ٤١٣ : ١ ـ ٤١٢ رقم ١٥١١. لسان الميزان ١١٨ : ٢ رقم ٤٨٨.

(٢) ميزان الاعتدال ٦٠٦ : ١ ـ ٦٠٧ رقم ٢٢٩٩.

٢٤٣

مناكيره : باطل ، وعبد الرحيم (وهو ابن زيد) تركوه ، ونعيم صاحب مناكير. (١)

وفي ترجمة جميل بن يزيد قال ابن حجر العسقلاني عن الخبر الذي نقله جميل عن مالك : لا يثبت عن مالك ، ورواته مجهولون ، (٢) وعاد في ترجمة الحسين بن محمد بن خسرو البلخي الذي روى نسخة قال إنها كلها مكذوبة على الدقيقي ، وعدد جملة من الأخبار من بينها : أصحابي كالنجوم. (٣)

وقال في تلخيص الحبير في تعليقه على الخبر : باسناده إلى حمزة النصيبي ووصفه بالضعيف جداً ، ومن طريق جميل ، وهو لا يعرف ولا أصل له. (٤)

وقد شدد ابن عدي الوطء على طرق الخبر وقال بعد تضعيفها : هذا منكر المتن. (٥)

أما ابن الجوزي فقال عن طريق الخبر إلى عمر : وهذا لا يصح ، نعيم (وهو ابن حماد) مجروح ، قال يحيى بن معين : عبد الرحيم (وهو ابن زيد العمي) كذاب. (٦)

وقال ابن الملقن الأنصاري : وأسانيده كلها ضعيفة ، قال البزار : لا

____________________

(١) ميزان الاعتدال ١٠٢ : ١ رقم ٣٠٠٣.

(٢) لسان الميزان ١٣٧ : ٢ رقم ٥٩٤.

(٣) لسان الميزان ٣١٢ : ٢ رقم ١٢٨.

(٤) تلخيص الحبير ١٩٠ : ٤ رقم ٢٠٩٨ لابن حجر العسقلاني (ت ٨٥٢ هـ) تحقيق عبد الله هاشم اليماني المدني ؛ المدينة المنورة ١٩٦٤.

(٥) الكامل في ضعفاء الرجال ٢٠٠ : ٣ رقم ٦٩٩.

(٦) العلل المتناهية في الأحاديث الواهية ٢٨٣ : ١ رقم ٤٥٧ لابن الجوزي (ت ٥٩٧ هـ) دار الكتب العلمية ـ بيروت ١٤٠٣ ط ١.

٢٤٤

يصح هذا الكلام عن رسول الله. (١)

وقال العجلوني في كشف الخفاء : فيه ضعف. (٢)

أما ابن حزم الظاهري فقد شدد النكير على الحديث ووصفه في عدة مواضع من كتابه بالسقوط. (٣)

ولهذا فأنت خبير بما تسمعه في شأن تقييم الرجاليين للخبر على المستوى السندي ، وفي تقييم بعض هؤلاء ـ كابن الجوزي والذهبي ـ من يصح وصف الخبر بمصداق المثل : «ويل لمن كفّره نمرود!».

ولا يختلف الحال في الحديث ضمن المحور الثاني وأعني دراسته من حيث المتن ودلالاته ، ويعلم ذلك من خلال النظر إلى حال الصحابة أنفسهم ، وقبل بحث الموضوع يتوجب علينا معرفة تعريف الصحابة عند القوم وموضعهم في مجال بحثنا هذا ، ورغم تعدد آرائهم إلاّ إننا يمكن أن نعتمد على تعريف ابن حجر العسقلاني وهو تعريف يكاد يجمع بين غالبية آراء المتقدمين من سلفييهم كالبخاري وأبي زرعة وأحمد بن حنبل ونظرائهم.

في مقدمة كتابه الاصابة في تمييز الصحابة قال ابن حجر أصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤمناً به ، ومات على الإسلام ، فيدخل في من لقيه من طالت مجالسته له ، أو قصرت ، ومن روى عنه أو لم يرو ، ومن غزا معه أو لم يغز ، ومن رآه رؤية ولم يجالسه ، ومن

____________________

(١) خلاصة البدر المنير تخريج أحاديث الشرح الكبير ٤٣١ : ٢ رقم ٢٨٦٨ لعمر بن الملقن الأنصاري (ت ٨٠٤ هـ) ؛ مكتبة الرشيد ـ الرياض ١٤١٠ ط ١.

(٢) كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس ٦٦ : ١ رقم ١٥٣ لاسماعيل بن محمد العجلوني (ت ١١٦٢ هـ) مؤسسة الرسالة ـ بيروت ١٤٠٥ ط ٤.

(٣) الإحكام في أصول الأحكام ٢٤٣ : ٦.

٢٤٥

لم يره لعارض كالعمى. (١)

أما الموضوع عدالتهم وطبيعة الموقف منها ، فقد انقسم القوم إلى قسمين ، الأول منهم رأى أن جميع الصحابة هم موضوع الاقتداء فقال الآمدي : جعل الاقتداء بكل واحد من الصحابة هدىً مع اختلافهم في الأحكام نفياً وإثباتاً ، فلو كان فيهم مخطىء لما كان الاقتداء به هدىً بل ضلالة. (٢)

وقال ابن حجر : اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ، ولم يخالف في ذلك إلاّ شذوذ من المبتدعة ، ثم قال بعد أن ذكر بعض الآيات التي زعم أنها تفيد مطلوبه : جميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم ، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحد من الخلق ، ثم قال : وهم أفضل من جميع الخالفين بعدهم ، والمعدلين الذين يجيؤون من بعدهم ، هذا مذهب كافة العلماء. (٣)

ولهذا تلحظ ان أبا زرعة الرازي يعتبر كل من ينتقص واحداً من هؤلاء زنديقاً. (٤)

ومنهم من يرى أن الصحبة تتوقف على طول نسبي لهذه المعاشرة ، إذ ينقل ابن الأثير عن القاضي البلاقلاني قوله بأن استعمال هذه التسمية موقوف على من : كثرت صحبته ، ولا يجيزون ذلك إلاّ في من كثرت صحبته ، لا على من لقيه ساعة أو مشى معه خُطىً ، أو سمع منه حديثاً.

ولكن ذلك لا يعني عدم الوثاقة والعدالة ، فالأمر موقوف على صحابيته

____________________

(١) الاصابة ١ : لابن حجر العسقلاني (ت ٨٥٢ هـ) دار احياء التراث العربي ـ بيروت ١٣٢٨ ط ١.

(٢) الإحكام في أصول الأحكام ٣٠٨ : ١.

(٣) الإصابة ٩ : ١ ـ ١٠.

(٤) الإصابة في تمييز الصحابة ١٠ : ١.

٢٤٦

فلو ردّت هذه الصفة ردّ خبره. (١)

ومؤونة ردّ هؤلاء هيّنة جداً ، إذ ان التسليم بكلامهم سينقض جميع أحكام الحلال والحرام ، بل سيسفّه القرآن ، ويعتبر ناقل الوحي الكريم زنديقاً ، بل وسيسقط الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحاديثهم عنه ، كيف لا؟ وحال الصحابة وأحاديثهم تكذّب هذا الأمر جملة وتفصيلاً ، ولا أريد في هذه العجالة أن أناقش المطلب مناقشة شاملة ، ولكني سأكتفي بالاشارة إلى الملاحظات التالية التي أعتقد انها تكفي لتكوين فهم عام لهذا الرد ، ومن أراد التفصيل فعليه أن يرجع للدراسات المختصة في هذا المجال : (٢)

١ ـ من المسلّم به أن لفظ الصحبة الوارد في اللغة بشكل عام ، وفي القرآن الكريم بشكل خاص ، لا ينطوي على أي قيمة معيارية ؛ سلبية كانت أو إيجابية للفظ ، فهو يطلق على أي قيمة السلبية كما قد يطلق على القيمة الإيجابية ، فقد يعني صاحب السوء كما العكس وفق ما ما تتحدث به آيات سورة الكهف عن الصاحبين اللذين تحاورا في جنتيهما ، وقد يعني الصاحب بما يختار الإنسان وبما لا يختار كما نجد ذلك في أصحاب السجن في قصة بني الله يوسف عليه‌السلام ، وقد تكون للعاقل ولغيره كما في تسمية نبي الله يونس عليه‌السلام بصاحب الحوت ، وكما في تسمية أصحاب الفيل ، وهكذا فكون الرجل من أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفق الظهور اللغوي والعرفي للكلمة مهما طالب صحبته لا يمنحه أي امتياز أخلاقي على من سواه ، والعكس

____________________

(١) أسد الغابة في معرفة الصحابة ١٩ : ١ لعزّ الدين ابن الأثير الجزري (ت) ؛ دار الفكر ـ بيروت ١٩٨٩.

(٢) أنوه بالدراسات الجدية التي عالجت هذا الموضوع ، وأهمها مبحث سنّة الصحابة في كتاب الأصول العامة للفقه المقارن لسماحة آية الله السيد محمد تقي الحكيم (مد ظله) ، ومبحث عدالة الصحابة للشيخ محمد السند المنشور في مجلة تراثنا الصادرة في قم ، وكتاب نظرية عدالة الصحابة للمحامي الأردني أحمد حسين يعقوب.

٢٤٧

صحيح أيضاً ، وإلاّ فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد صاحبه الكثير من المنافقين والمؤلفة قلوبهم ومن ألجأه حد السيف إلى هذه الصحبة وقد عرّض القرآن الكريم بهذه الأصناف بصورة واضحة وصريحة.

٢ ـ إن الحديث القرآني عن أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تضمن قسمين ، قسم عبّر عنهم بصفات تعاملهم الحسنة معه (صلوات الله عليه وآله) فجاء حديثه يتضمن المدح والثناء النسبي لا المطلق ، لأن المدح والثناء المطلق مختص بأهل العصمة ، كما في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) (١) ومن هنا نعلم كذب الحديث الذي يضعونه على لسان الأمير عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أصحاب بدر قوله لعمر بعد أن عرض على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة : وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. (٢) لأنه إما أن يجعلهم من أهل العصمة وهو باطل قطعاً ، وإما أن يوقف قلم الحساب عنهم ، وهو مخالف لعدالة الله سبحانه وتعالى.

وقسم وقع التنديد بهم لطبيعة أعمالهم كما في الآيات التي نزلت في سورة التوبة علىسبيل المثال ، وقد استعرضت طائفة كبيرة من الشرائح التي كان مجتمع الصحابة يتكون منها كما سنتكلم عنها في ما يأتي ، أو في آية : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (٣) وغيرها من الآيات الشريفة.

وفي بعض الأحيان جمع القرآن بين الشريحتين المؤمنة ومن سواها في آية واحدة ، وهي كافية لحسم الجدل في هذا الشأن كما في قوله تعالى :

____________________

(١) محمد : ٢.

(٢) البخاري ١٩ : ٤.

(٣) الحجرات : ٦.

٢٤٨

(أَ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ) (١) وهي ـ كما هو متواتر ـ قد نزلت في صحابين هما الإمام علي عليه‌السلام والوليد بن عقبة ، (٢) للإشارة إلى حقيقة أن الصحبة لا تمنح الصحابي ذلك الموقع الذي أولاه العامة لهم.

٣ ـ يمكننا ملاحظة القرآن الكريم من خلال ما حدّثنا به من حديث تعريضي لاذع في وصف ما سيؤول إليه حال هذا المجتمع من بعد الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله تعالى : (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (٣) أن يكشف لنا أن المعنى الذي تريد مفاهيم العامة تسويقه لا وجود له البتة ، وهو نفس الأمر الذي أكدته السنة الشريفة كي تقطع المحاولات التي قد تحاول أن تفرغ الآية الكريمة من محتواها الحقيقي ، من خلال الادعاء بأن هذه الآية لها علاقة بما يأتي من مجتمعات ، ولا دخل للمجتمع الصحابي بها ، فلقد روى القوم متفقين عن أنس وغيره أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ليردنّ عليّ الحوض رجال ممن صاحبني ، حتى إذا رأيتهم ورفعوا إليّ اختلجوا (٤) دوني ، فلأقولن : أي رب أصيحابي أصيحابي ، فليقالنّ لي : إنك لا تدري بما أحدثوا بعدك. (٥)

ورووا عن ابن عباس ، عن النبي قوله عن أحوال يوم القيامة : ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : يا رب أصيحابي! فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) فيقال : إن

____________________

(١) السجدة : ١٨.

(٢) أسباب النزول : ٢٦٣ للواحدي النيسابوري (ت ٤٦٨ هـ) عالم الكتاب ـ بيروت.

(٣) آل عمران : ١٤٤.

(٤) اختلجوا : اضطربوا في مكانهم واقتطعوا من موضعهم.

(٥) كتاب البخاري المسمّى بالصحيح ٢٠٧ : ٧ ، وكتاب مسلم المسمى بالصحيح ١٥ : ٦٤ ـ ٦٥ واللفظ له.

٢٤٩

هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. (١)

ورووا عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : بيننا أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلمّ ، فقلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم؟ قال : إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلمّ ، قلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : ما شأنهم؟ قال : إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم. (٢)

وعن أسماء بنت أبي بكر قالت : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم ، وسيؤخذ ناس من دوني فأقول : يا رب مني ومن أمتي؟ فيقال : هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم. (٣)

ومن خلال ملاحظة كلماته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتضمنة تعرفه عليهم وقوله المتكرر : «أصحابي ، أصحابي» ، أو بالمصغرة : «أصيحابي ، أصيحابي» ، والتأكيد على طبيعة ما سيعملوه من بعده لا يمكن أن تتعرى هذه الشبهة في ما يتعلق بصحابته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، بل وتفضح كذب ما يرويه القوم في صحاحهم عن الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : إن خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم. (٤) وذلك لاعتماده على مفهوم يتناقض مع النص القرآني والرسولي ، ويتعاكس مع ما أفرزه الواقع التاريخي بشكل مفتضح ،

____________________

(١) البخاري ١٩١ : ٥ (كتاب التفسير باب سورة المائدة) والآية في سورة المائدة : ١١٧.

(٢) البخاري ٢٠٨ : ٧.

(٣) البخاري ٢٠٨ : ٧. أقول : في بعض مروياته : فأقول : سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي.

(٤) البخاري ١٨٩ : ٤ ، ومسلم ٨٧ : ١٦.

٢٥٠

فضلاً عن تهافته من الناحية الفكرية المجردة ، فلو صح القبول بمزية للذين عاشوا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو غير صحيح بالمرة ، فأي مزية للذين سيأتون من بعده؟!

٤ ـ لو صحّ ادعاؤهم بأن ما يقوم به الصحابة في أعمالهم إنما يعبّر عن صلاحية اجتهادية ، واجتهاداتهم مثلها مثل اجتهادات المجتهدين ما أصابوا فيها فلهم أجران ، وما أخطأوا فيها فلهم أجر واحد ، ولا يضيرهم في ما عملوا من شيء! ومع إنهم لا يملكون على ذلك أي دليل غير هذا الخبر الذي عرفت وهنه وضعفه ، ولكن سنساير القوم ما ساروا لنتساءل عن طبيعة حدود العملية الاجتهادية؟ فما من شك ان أحداً لن يقول : إنها بلا حدود ، بحيث إنها يمكن ان تتخطى النص القرآني والرسولي ، فإن قال بذلك أحد قلنا : أين ذلك من الآية الكريمة : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)؟ (١) ولا خلاف في أن حدود الاجتهاد هو النص ، فما من اجتهاد في مقابل النص ، والحال ان أعمال الكثير من الصحابة تناقضت مع النص القرآني والرسولي بشكل صريح جداً ، ولن اضرب المثال بالمجهولين من الصحابة ، ولكن تعال معي أخي القارىء لنتصفح حادثة جرت بين صحابيين يعلن الغالبية من القوم بكافة طوائفهم أنهم أفضل الصحابة ، فمن المعلوم المتواتر ان أبا بكر وهو من يعدّوه أفضل صحابي بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! انتزع فدك (٢) من يد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام بعيد رحيل الرسول (بأبي وأمي) بأيام قليلة ، وهي من يعدّها الغالبية منهم بأنها سيدة نساء العالمين ، ويجمعون على إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بحقها : فاطمة بضعة مني ، من

____________________

(١) الحشر : ٧.

(٢) فدك : قرية كانت لليهود مما بعد خيبر ، وقد دخلها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا أن يوجف عليها بخيل ولا رجال ، وهي من الخوالص التي أخلصت للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد وهبها للزهراء الصديقة عليها‌السلام في حياته ، وكانت حال وفاته (بأبي وأمي) تحت يدها وملكيتها.

٢٥١

أرضاها فقد أرضاني ، ومن أغضبها فقد أغضبني ، (١) وهو القول الذي استدل به بعضهم على انها أفضل من الشيخين ، (٢) وبناء على وضوح ما يترتب على هذا الحديث ، من حيث إن من يؤذيها يؤذي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن يؤذي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما يؤذي ربه لوضوح قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً) (٣) ، ومن حيث إن غضبها

____________________

(١) في هذا الحديث وألفاظه المروي بها ، او في لفظ يؤذيني ما يؤذيها ، معناهما انظر : البخاري في صحيحه ٢١٠ : ٤ ح ٣٥١٠ ، ٢١٩ : ٤ ح ٣٥٥٦ ، ومسلماً في صحيحه ٣ : ١٦ ، والنسائي في سننه ٩٧ : ٥ ح ٨٣٧١ و ١٤٨ ح ٨٥٢٠ ، وفي فضائل الصحابة : ٧٨ رقم ٢٦٦ ، وأحمد بن حنبل في الفضائل ٧٦٥ : ٢ ، والضحاك الشيباني في الآحاد والمثاني ٣٦١ : ٥ رقم ٢٩٥٤ ، والطبراني في المعجم الكبير ٤٠٤ : ٢٢ رقم ١٠١٢ ، وابن أبي شيبة في المصنف ٣٨٨ : ٦ رقم ٣٢٢٦٩ ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة ٣١٥ : ٩ ح ٢٧٥ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٢٠١ : ١٠ ، والدارقطني في علله ١٠٣ : ٣ رقم ٣٠٥ ، وابن حجر العسقلاني في فتح الباري ٧٩ : ٧ ، وفي تهذيب التهذيب ٤٦٨ : ١٢ ، وفي الاصابة ٣٧٨ : ٤ رقم ٨٣٠ ، وابن شيرويه الديلمي في الفردوس ١٤٥ : ٣ رقم ٤٣٨٩ ، وأبا عوانة في مسنده ٧٠ : ٣ ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ١٨٤ : ٣ ، والسيوطي في الجامع الصغير والمناوي في فيض القدير ٤٢١ : ٤ ، و ١٨ : ٦ ، وابن سعد في الطبقات ٢٦٢ : ٨ ، وابن الجوزي في صفوة الصفوة ١٣ : ٢ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١١٢ : ٢ رقم ١٨٣١ ، وابن بشكوال في غوامض الأسماء المبهمة ١ : ٣٤١ ، وابن طلحة في مطالب السؤول : ٤٦ و ٩٠ ، والشبراوي في الاتحاف بحب الأشراف : ٢٣ ، والخطيب التبريزي في المشكاة ح ٦١٣٩ ، والملا علي القاري في المرقاة ٥١٣ : !٠ ح ٦١٣٩.

(٢) كالسهيلي الذي استدل بذلك أيضاً على كفر من يسبها (بأبي وأمي) على ما نقل المناوي في فيض القدير ٤٢١ : ٤.

أقول : هذا لمن سبّها ، فما بالك بمن روّعها بالنار ، ثم أحرق عليها الدار وأسقط جنينها بالضرب والعصر بين الحائط والباب؟!

(٣) الأحزاب : ٥٧.

٢٥٢

ورضاها عليها‌السلام لا يمكن له أن يخرجها عن طاعة الله ورسوله ، وإلا لما علّق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غضبه ورضاه على غضبها ورضاها ، ففي هذه القصة سنرى التالي :

أ ـ إن وجود فدك بيد الزهراء البتول (صلوات الله عليها) حال وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكد ملكيتها لها ، لوضوح أن اليد امارة الملكية في التشريع الإسلامي ، وتعمد ابن أبي قحافة على انتزاع فدك من يدها يثير في النفس جملة من التساؤلات ، مرة عن سبب الانتزاع؟ ومقتضى الحال أن لأبي بكر مجرد دعوى ، بينما فدك في يدها عليها‌السلام وهي امارة الملكية كما تقدم وهي بيّنة محضة ، والدعوى ما لم تشفع ببيّنة ، فهي كلام مثله مثل عدمه ، فاذا ما كانت البينة معها ، ولا بينة بين يديه ، فكيف أمكنه ـ ضمن مسارات الهدى ـ أن يطالبها بالبينة والشهود؟! وهو المطالب بذلك ، لا هي (صلوات الله عليها)!! فالبينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر وفق الحديث المتفق عليه ، وأخرى عن سبب الاسراع في انتزاع ما لم ينتزعه نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ والرسول لما يزل قبره (بأبي وأمي) خضراً طرياً بعد!!

ب ـ إن دعوى أبي بكر كانت قائمة على ما رواه هو دون غيره ، وهو ما يسمى بخبر الواحد عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنا معاشر الأنبياء لا نورث ، وما تركناه صدقة ، مردودة بصورة بديهية من خلال أكثر من أمر متسالم عليه.

أما الأول : فهو تناقض هذا الكلام مع النص القرآني القاطع ، وهو الأمر الذي أشارت إليه الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) في خطبتها الشهيرة إذ قالت : أيها المسلمون أأغلب على إرثي؟ يابن أبي قحافة أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول : (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ) (١) ، وقال في ما اقتص من خبر يحيى بن زكريا عليهما‌السلام إذ قال : رب

____________________

(١) النمل : ١٦.

٢٥٣

هب (لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً) (١) ، وقال : (وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) (٢) ، وقال : (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (٣) وقال : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) (٤) وزعمتم ألاّ حظوة لي ، ولا إرث من أبي ، لا رحم بيننا! أفخصّكم الله بآية أخرج منها أبي؟! أم هل تقولون أهل ملتين لا يتوارثان؟! أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟! أم انتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟!! (٥)

والثاني : وما يفضح الأمر طلب ابن أبي قحافة الشاهد على كلام الزهراء عليها‌السلام ، فلو كان الأمر كما يروي ، فما معنى الاحتياج إلى الشاهد؟ فهل بعد كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يجعلنا نحتاج إلى شاهد ضده؟!

والثالث : من الواضح ان متعلق إرث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أهل بيته ، فإن كان حديث أبي بكر صحيحاً ، فلم لم يسمعه من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل بيته وهم أكثر الناس احتياجاً له؟ وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن كان يخشى على إرثه من أحد حتى يورثه الدولة ، فمما لا شك إنما يخشاه عليه من ذويه وخاصته! هذا مع ملاحظة أن أمثال أبي بكر هم أبعد الناس حاجة لسماع هذا الحديث! فلا تغفل!!

والرابع : من المسلم أن فدك بيد الصديقة الطاهرة عليها‌السلام في

____________________

(١) مريم : ٥ ـ ٦.

(٢) الأنفال : ٧٥.

(٣) النساء : ١١.

(٤) البقرة : ١٨٠.

(٥) بلاغات النساء : ٦١ ـ ٦٢ لابن طيفور أحمد بن ابي طاهر طيفور (ت ٢٨٠ هـ) دار الفضيلة ـ القاهرة ١٩٩٨ ، والاحتجاج : ١٠٢ لأحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي (ت ٦٢٠ هـ) مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ١٩٨٩ ط٢ واللفظ له.

٢٥٤

عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما وان نساءه كانت في الحجرات التي أسكنهن فيها ، فلم انتزعت فدك من يد الزهراء عليها‌السلام ودلالتها في الملكية أصرح ، ولم تنتزع من نسائه ولا دلالة فيه على الملكية؟!

والخامس : إن شأن فدك من وجهة نظر دستورية بحتة يفتح المجال في مناقشة ومراجعة قرارات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما أصدره من مراسيم وهذا نقض لمنصوص القرآن الذي يسلب شرعية ذلك ، فهو الذي يخاطب الرسول بقوله : (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (١) ، فهو الذي ملّك فدك للزهراء ، وابن أبي قحافة حينما يعمد لانتزاعها من يدها ، فإنه ولا شك يطعن بشرعية القرار القرآني أو يعمل بمعزل عنه!.

والسادس : لقد عمد القوم لا قرار حديث ابن أبي قحافة وهو خبر الواحد ، فإن اعتبروا خبر الواحد حجة ، فلم لا تقبل شهادة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام من قبل أبي بكر؟ علماً ان هذه الشهادة لم تك وحيدة فلقد عضدتها أم أيمن بشهادة مماثلة ، هذا إذا ما عزلنا خصوصيات المتحاكمين عن البين ، فهم صحابة ، فإن كانوا عدولاً كما يزعم القوم ، فإن العدل إنما نحتاجه في موضع الشهادات أكثر من أي موضع آخر!

والسابع : لو أخذنا خصوصيات المتحاكمين فإن الصورة ستكون بتقاطيع بارزة الوضوح ، فمن جهة هناك رجل تخاصم مع نفس الجهة في شأن توليه منصب ما بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدعوى منقوضة الجوانب مفصومة العرى ، جاء إلى مال ضخم واستولى عليه بخبر واحد هو من رواه ، وهو بحاجة إلى هذا المال لأسباب عديدة أذكر منها ما يلي :

١ ـ حاجته الشديدة للمال والحكم في طور التأسيس ، والمخاطر به

____________________

(١) النساء : ٦٥.

٢٥٥

محدقة جداً.

٢ ـ سلب نفس هذا المال من جهة معارضة لكل كيانة الذي قام به.

٣ ـ افتعال أزمة سياسية تنسي الأزمة الأولى ، وإدخال الجمهور في أتون تفاصيل صغروية تنسيهم المعركة الأساسية المتعلقة بأصل شرعية وجوده في منصب الخلافة.

٤ ـ كان بحاجة إلى ما يقدح بخصوصيات الحزب المعارض ، فالزهراء عليها‌السلام يمكن أن تكذب ، وأمير المؤمنين يمكن أن يهتم بالمحاباة من أجل الدنيا ، وبالتالي فإن حجج ما قبل فدك كلها وهي التي تتعلق بمنصب الإمامة يمكن ان ترد كلها لأسباب خارجة عن الدين ، ومنغمسة في أوحال الدنيا وأدرانها ، وصولاً إلى النتيجة الخطرة التي تستهدف سلب أهل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المرجعية الدينية التي وضعهم الرسول فيها!!.

ومن جهة أخرى تجد أن الطرف الثاني من المحاكمة هم الصديقة الزهراء عليها‌السلام بنت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي قال بروايتهم انها بضعة منه وأن من يغضبها يغضبه ومن يؤذيها يؤذيه ، وفيهم أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي رووا أنه ولي لكل من دان بالولاء للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهما من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، ومن الذين ألزم القرآن الكريم بموالاتهم ، وهي فوق كل ذلك مالكة المال ، أو قل : كان المال بيديها ، وبالنتيجة فإن جميع المؤهلات الموجبة لتصديقهم متوفرة على أرض الواقع ، بينما جميع الموجبات للتشكيك إن لم نقل لرد دعوى الطرف السابق هي الأخرى موجودة ، ولكن مع ذلك قلب الحكم المعادلة ودعا من لا يتهم بقوله إلى الشهادة ، وأبقى من يلزم تقديمه للبيّنة على ما يدعيه مصوناً ومحصّناً من ذلك ، وقلبها أخرى حينما ردّ شهادة الطرف الذي لا يلزم أن يقدم شهادة وكذبهم وفيهم من قال عنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه منه ، وهو منه! فهل سمعت مثل هذا الوضع القانوني؟!

٢٥٦

والثامن : وهو الأخير الذي أود ذكره هنا ، والتفصيل بأكثر من ذلك سيأتي في محله إن شاء الله تعالى ، (١) وهو متعلق بدعوى القوم حول ردّ شهادة أمير المؤمنين عليه‌السلام وأم أيمن ، وعدم قبول طلب الصديقة البتول (صلوات الله عليها) ، إذ زعموا أن أمير المؤمنين عليه‌السلام وإن كان مصدّقاً فهو واحد ، والشهادة إنما تقام باثنين ، ورده أهون من الادلاء به لو كانوا يفقهون ، فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قصة شهادة ذي الشهادتين أمضى شهادة الواحد ، (٢) وفقه القوم يقبل شهادة الواحد كعبد الله ابن عمر كما هو الحال في قصة بني صهيب ، (٣) وهو نفس المورد الذي أسس القوم عليه موافقتهم على حجية خبر الواحد كما هو مفصل في علم الأصول ، فهل يرون أن علياً عليه‌السلام أقل درجة من ذي الشهادتين وعبد الله بن عمر؟! بحيث تقبل شهادة هؤلاء وترد شهادة الأمير عليه‌السلام! ساء ما يحكمون!!

فإن قيل : إنما ردّت شهادة الإمام فبسبب كونه إنما يطلب أمراً لنفسه ، قلنا : وإن كان ذلك قبيح جداً ، فحينما أمّره أهل الإسلام على دينهم لم يثر ذلك في أذهانهم رغم ان الذي أمّنوه عليه أخطر بكثير من شأن مال فدك! وهو قبيح أيضاً لأنه يستثني من ذلك ابن أبي قحافة وهو اولى بالاتهام بهذا من غيره ، فهو الذي استحوذ على المال ، والإمام جاء مطالباً بما كفّت يده عنه ، وهو منقوض بحسب مبناهم في عدالة جميع الصحابة ، فهنا اتهام الإمام عليه‌السلام إنما يكون بناء على عدم عدالته ، وما دام أنهم أخرجوا الإمام (بأبي وأمي) من ذلك فقد أخرجوا معه الجميع ، ولكن مع ملاحظة القبح

____________________

(١) تحدثنا عن ذلك بالتفصيل والتحليل في كتابنا قيد الانجاز : فاطمة الزهراء عليها‌السلام فريدة الدهر.

(٢) جامع الأصول في أحاديث الرسول ١٩٥ : ١٠ ـ ١٩٦ رقم ٧٧٠٧١ عن النسائي وابن داود.

(٣) البخاري ١٤٣ : ٣ في ذيل «باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته».

٢٥٧

الشديد في ذلك ، إلاّ اننا نأخذ القوم بما ألزموا به أنفسهم ، فلقد روى البخاري وغيره من أصحاب صحاحهم ومسانيدهم عن جابر بن عبد الله قوله : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لي : لو قد جاءنا مال البحرين قد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا ، فلما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجاء مال البحرين فقال أبو بكر : من كانت له عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلمعدة فليأتني فأتيته ، فقلت : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان قال لي : لو قد جاءنا مال البحرين لأعطيتك هكذا وهكذا وهكذا ، فقال لي : احثه فحثوت حثية ، فقال لي : عدّها ، فعددتها فإذا هي خمسمائة فأعطاني ألفاً وخمسمائة. (١)

وقد أسس ابن حجر العسقلاني على ذلك قوله : وفيه قبول خبر الواحد العدل من الصحابة ، ولو جرّ ذلك نفعاً لنفسه ، لأن أبا بكر لم يلتمس من جابر شاهداً على صحة دعواه. (٢)

فإن كان الأمر كذلك أفلا قبل من أمير المؤمنين عليه‌السلام شهادته لبضعة الرسول (صلى الله عليهما) سيدة نساء أهل الجنة؟ وهو الذي كانت الجنة تشتاق إليه كما في مروياتهم لم يك واحداً في هذه الشهادة ، بل معه أم أيمن شاهدة ، وقد رووا أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعد بأنها من أهل الجنة في قصة زواجها من زيد بن حارثة ، (٣) أتراه يرد شهادة ثلاثة من أهل الجنة؟ بل ولم يطلب منهم يميناً فتصحح شهاداتهم جميعاً كما يروون من أن الرسول قد قضى بيمين وشاهد واحد! (٤) ويقبل شهادة جابر وحده!!

وعلى أي حال فإن من المسلّم به ان فعلته قد جلبت غضب الصديقة

____________________

(١) البخاري ٦٤ : ٤. (باب ما أقطع النبي من البحرين).

(٢) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٤٧٥ : ٤ ابن حجر العسقلاني ، دار المعرفة ـ بيروت ١٣٧٩.

(٣) الطبقات الكبرى ٢٢٤ : ٨.

(٤) جامع الأصول ١٨٤ : ١٠ ـ ١٨٦ عن مسلم وأبي داود والترمذي والموطأ.

٢٥٨

البتول عيه ، وقد استشهدت بأبي وأمي وهي واجدة عليه كما هو متواتر في كتب القوم ، (١) وأوصت أن لا يحضر تشييعها ودفنها ، ولذلك أمرت أن يكتم

____________________

(١) رغم سعي القوم لكتم هذه الفضيحة ، إلا انك تجد أصداءها في كتبهم بصورة وأخرى ، فهذا البخاري ومسلم وابن حبان يروون في صحاحهم عن عروة بن الزبير ، عن عائشة قولها : فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً ، فوجدت فاطمة على أبي بكر من ذلك فهجرته ، ولم تكلمه حتى توفيت .. فلما توفيت دفنها علي رضوان الله عليه ، ولم يؤذن بها أبا بكر. البخاري ٨٢ : ٥ (باب غزوة خيبر) ، ومسلم بشرح النووي ٧٧ : ١٢ ، وابن حبان في الصحيح ١٥٣ : ١١ رقم ٤٨٢٣ ، و ٥٧٣ : ١٤ رقم ٦٦٠٧.

وروى البيهقي في سننه نفس الرواية ولكن فيها : فغضبت فاطمة وهجرته. الخبر. السنن الكبرى ٣٠٠ : ٦ رقم ١٢٥١٢.

وقال الطبري : فهجرته فاطمة فلم تكلم في ذلك حتى ماتت ، فدفنها علي ليلاً ، ولم يؤذن بها. تاريخ الطبري ٢٣٦ : ٢.

أما الزيلعي فهو يروي نفس الخبر بهذه الصورة : فوجدت عليه في ذلك وهجرته لم تكلمه حتى توفيت. نصب الراية ٣٠٦ : ٢.

وانظر في مسألة عدم اذنها لأبي بكر حضور جنازتها ودفنها علاوة على ما مر : البخاري في صحيحه ، ومسلماً في صحيحه ، وابن حبان في الثقات ١٧٠ : ٢ ، و ٣٣٤ : ٣ ، وأبا عوانة في مسنده ٢٥١ : ٤ رقم ٦٦٧٩ ، والبيهقي في السنن ٢٩ : ٤ رقم ٦٦٨٨ ، وعبد الرزاق في مصنفه ٤٧٢ : ٥ رقم ٩٧٤٤.

ولهذا فإن محاولات القوم لتكذيب ابن قتيبة الدينوري في ما رواه في كتابه الإمامة والسياسة ، أو تكذيب نسبة الكتاب إليه لا وجه له مطلقاً ، فلقد نقل الرواة محور مقاطع الزهراء عليها‌السلام لأبي بكر ، أما ابن قتيبة فقد روى الخبر بتفاصيله ومحوره ، وما روي في متن ابن قتيبة موجود بصورة وأخرى في غيره من المتون وإن كان بصورة مقطعة ومتناثرة ، قال : فقال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلى فاطمة ، فإنا قد أغضبناها ، فانطلقا ، فاستأذنا على فاطمة ، فلم تأذن لهما ، فأتيا علياً فكلماه ، فأدخلهما عليها ، فلما قعدا عندها ، حولت وجهها إلى الحائط ، فسلما عليها ، فلم ترد عليهما‌السلام ، فتكلم أبو بكر وذكر حديث : لا نورث ما تركنا فهو صدقة ، فقالت : أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعرفانه وتفعلان به؟ قالا : =

٢٥٩

سر قبرها (صلوات الله عليها) ، فإن أنجاه القوم بطرق تبريراتهم العجيبة والملتوية من مسألة فدك ، وهم في ذلك لم يتمكنوا فدون ذلك والله خرط القتاد ، ولكن إن مرت تلك الغفلة ، فكيف سيفسرون غضب الزهراء عليها‌السلام عليه؟! وغضبها بأبي وأمي يعني غضب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفق ما رووه كما تقدم ، وغضب الرسول إنما هو غضب الله المنتقم الجبار!!

٥ ـ هذا وقد اجترح بعض الصحابة من الأعمال الفظيعة والجرائم الشنيعة ما يندى لها الجبين ، فهذا بسر بن أرطاة كمثال للذي يعتبر ابن حجر العسقلاني أن الانتقاص منه يجعل الإنسان زنديقاً وفق ما قدّمه من ضابطة ابي زرعة المتقدمة ، (١) والذي يطالبنا الحديث بالاقتداء به ، أو بأننا إن اقتدينا به فلن يوردنا الضلال وفقاً لمضمون الخبر! فقد نقل نفس القوم عنه الأعمال التالية :

____________________

= نعم. فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول : رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟ قالا : نعم سمعناه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت : فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه ، فقال أبو بكر : أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة ، ثم انتحب أبو بكر يبكي ، حتى كادت نفسه أن تزهق ، وهي تقول : والله لأدعونّ الله عليك في كل صلاة أصليها. الإمامة والسياسة ٣١ : ١ لابن قتيبة الدينوري (ت ٢٧٦ هـ) دار الأضواء ـ بيروت ١٩٩٠ ط ١.

وحقيقة عدم الإذن لأبي بكر وجماعته بحضور تشييع فاطمة الزهراء عليها‌السلام من المتواترات ، وفي عرف ذلك الوقت يعد هذا الأمر من صور المعارضة السياسة والمقاطعة الاجتماعية والدينية البالغة الشدة ، ولهذا الأمر وغيره تفصيل ستجده في كتابنا : فاطمة الزهراء عليها‌السلام فريدة الدهر ، إن شاء الله تعالى.

(١) لعل هذا السبب هو الذي جعل ابن حجر يتحاشىذكر جرائم بسر بن أرطاة في ترجمته مكتفياً بنقل خبر ابن حبان : له أخبار شهيرة في الفتن لا ينبغي التشاغل بها!! الإصابة ١٤٨ : ١ رقم ٦٤٢.

٢٦٠