عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

الشيخ جلال الدين علي الصغير

عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

المؤلف:

الشيخ جلال الدين علي الصغير


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأعراف للدراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

عرفنا من كل ما مر المعطيات القرآنية عن العصمة ، وقد تبتدر في أذهان الكثيرين جملة من الإشكالات حول هذه العصمة ، حينما يرجع إلى الكثير من الآيات التي تحدثت بصورة وكأنها تنقض ما حدّثت عنه هذه المعطيات ، وقد أسهمت كتب التفاسير العامية بما حوته من أحاديث وأخبار في إثراء هذا المعنى في تلك الأذهان ، ووجدنا مؤخراً أكثر من طرف يحاول أن يزج في المكتبة التفسيرية الشيعية شيئاً من هذا الفهم ، وقد تبنّى تيار الانحراف ـ الذي سنتحدّث عنه في فصل الرابع ـ هذا الفهم ، وراح يروّج له بشتى الأساليب والوسائل.

كما وقد يسهم عدم فهم أدعية المعصومين عليهم‌السلام وطلبهم المغفرة والصفح ، اضافة إلى بعض كلماتهم في إثراء هذه الإشكالات وتضخيمها.

وسنعمد في هذا الفصل إلى تفكيك عقد هذه الاشكالات من خلال تقديم عقيدة وتفسير أهل البيت عليهم‌السلام في هذا المجال ، والذي نعتقد انه التفسير الوحيد الذي خلا من اتهام المعصومين عليهم‌السلام بما اتهمتم به بقية المدارس من أمور تخدش بعصمتهم وتقدح بنزاهتهم ، ولن أتورط بحديث تفصيلي عن كل مشكلة وجهوها إلى عصمة الأنبياء والمعصومين عليهم‌السلام ، وإنما سأحاول أن أقدّم صورة إجمالية أعتقد بوفائها لتنزيه ساحة جميع المعصومين عليهم‌السلام عما وصموهم به ، تاركاً التفصيل للكتب المختصة في هذا المجال ، وإن فصّلت في بعض المواضع فليس لسبب إلا تقديم صورة

٢٨١

عملية لكيفية بحث بقية المواضع ، ولرغبة التدليل على إن مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ليست بعاجزة عن ردّ كل الاتهامات الموجهة لفكر العصمة والذي يمثل أحد دعاماتها الأساس ، وهي اتهامات ما كان ليكون أغلبها لولا رغبة مثيرها في التخلص من عصمة أهل البيت عليهم‌السلام أنفسهم!!

* * *

٢٨٢

القسم الأول

إشكالية هفوات الأنبياء عليهم‌السلام

تنطلق هذه الشبهة التي ينص ظاهرها على وقوع بعض الأنبياء عليهم‌السلام في هفوات كثيرة ومعاصٍ متعددة (حاشى لله) من منطلقات عدة أهمها ما يلي :

أ ـ ظاهر بعض الآيات القرآنية التي قد يوحي بأن الله سبحانه وتعالى يتحدث عما يسمّى بذنوب الأنبياء عليهم‌السلام وأخطائهم وهفواتهم كقوله تعالى عن نبي الله آدم عليه‌السلام : ( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى * فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى). (١)

وقوله تعالى عن نبي الله نوح عليه‌السلام : (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ). (٢)

وكقوله تعالى عن نبي الله إبراهيم عليه‌السلام : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذَا رَبِّي

____________________

(١) طه : ١٢٠ ـ ١٢١.

(٢) هود : ٤٦.

٢٨٣

هذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِي‌ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ). (١)

وكذا قوله تعالى عنه عليه‌السلام : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٢).

وقوله تعالى عنه عليه‌السلام أيضاً : (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) (٣).

وقوله تعالى عنه عليه‌السلام : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (٤)

وقوله تعالى عن نبي الله لوط عليه‌السلام : (قَالَ هؤُلاَءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (٧١) ) (٥).

وقوله تعالى عن نبي الله يوسف عليه‌السلام في قصة امرأة العزيز : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْ لاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (٦).

وقوله تعالى عن نبي الله موسى عليه‌السلام : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى) (٧).

وكذا قوله تعالى عنه عليه‌السلام : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي

____________________

(١) الأنعام : ٧٦ ـ ٧٨.

(٢) البقرة : ٢٦٠.

(٣) الأنبياء : ٦٣.

(٤) الشعراء : ٨٢.

(٥) الحجر : ٧١.

(٦) يوسف : ٢٤.

(٧) طه : ٦٧ ـ ٦٨.

٢٨٤

ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١).

وكذا قوله تعالى عنه عليه‌السلام : (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (٢).

وكذا قوله تعالى عنه عليه‌السلام : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٣).

وكذا قصص مصاحبته للعبد الصالح الخضر عليها‌السلام المشروحة في سورة الكهف.

وقوله تعالى عن نبي الله أيوب عليه‌السلام : (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) (٤).

قوله تعالى عن نبي الله داود عليه‌السلام : (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ) (٥).

____________________

(١) القصص : ١٥ ـ ١٦.

(٢) الأعراف : ١٤٣.

(٣) الأعراف : ١٥٠.

(٤) ص : ٤١.

(٥) ص : ٢١ ـ ٢٤.

٢٨٥

وقوله تعالى عن نبي الله سليمان عليه‌السلام : (وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) (١).

وقوله عن نبي الله يونس عليه‌السلام : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٢).

وقوله عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٣).

وكذا قوله عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) (٤).

وكذا قوله تعالى أيضاً : (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) (٥).

وكذا قوله تعالى : (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (٦).

____________________

(١) ص : ٣٠ ـ ٣٣.

(٢) الأنبياء : ٨٧.

(٣) الحج : ٥٢.

(٤) الأحزاب : ٣٧.

(٥) التوبة : ٤٣.

(٦) التوبة : ١١٧.

٢٨٦

وكذا قوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) (١).

وكذا قوله تعالى : (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) (٢).

إلى غير ذلك من الآيات التي قد يوحي ظاهرها إلى ما يناقض عصمتهم (صلوات الله على نبينا وآله وعليهم أجمعين) وقصصها تجدها متناثرة في كتب التفاسير.

ب ـ الكثير من الروايات المنتشرة في كتب العامة على هامش تلك الآيات أو بمعزل عنها ، وبعض ما تسرب منها إلى بعض كتب الخاصة ، وإن كان نادراً ، وهذه الروايات في العموم تتحدث بوضوح وصراحة عن أفعال من شأنها أن تقدح بهذه العصمة ، بل في بعضها ما يطيح بإيمان الأنبياء وإنسانيتهم (صلوات الله عليهم) وأغلب هذه الروايات إسرائيليات يوجد لها مناظر في التوراة المتداولة حالياً ، وفي هذا المجال رووا عن أكاذيب إبراهيم عليه‌السلام الثلاثة! ، ورووا عن عري موسى عليه‌السلام وطبيعة شخصيته ، وعن طبيعة تورط داود عليه‌السلام في قتل أوريا ، وتخلف سليمان عليه‌السلام عن صلاته وهو في حال اللهو بالخيل عن ذكر الله ، وطبيعة ما همّ به يوسف عليه‌السلام من الزنا بامرأة العزيز وكيفية تخلصه من ذلك ، وقد نال المقام الأقدس لنبينا بأبي وأمي الشيء الكثير من هذه الروايات فرووا له قصة الغرانيق ، وعبوسه في وجه ابن أم مكتوم ، ونهيه عن تأبير النخل ، ودخول الشيطان في ذات أمنيته ، وغلّه لقطيفة كانت في يوم حنين ، وأفاعيل نسبتها إليه عائشة وغيرها مما يقرح القلب ويشجي الفؤاد ، وسنستعرض بعضها في هذا القسم وبعضها في الفصل الأخير من الكتاب إن شاء الله تعالى.

____________________

(١) عبس : ١ ـ ٣.

(٢) الاسراء : ٧٣.

٢٨٧

ج ـ طبيعة خيال الإنسان وأوهامه عن نفسه ومحاولته قياس الآخرين على شخصيته ، وما يستهوله من عدم إمكانية خطأ إنسان آخر وهو الذي يجد في نفسه الخطأ وهو يستقر على أعتاب سلوكه ، ولربما أوهمه فهمه للآية الكريمة : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (١) بذلك ، فهذه الطبيعة غير المعصومة ، كيف يمكنها أن تفهم شخصية لا تناظرها في البناء الذاتي ، ولهذا وقع الكثير من المفسرين وسواهم بهذا المطب مما جر على فكر العصمة الشيء الكثير من الويلات.

* * *

ولمعالجة هذه الشبهات التي طرحت ضد عصمة الأنبياء عليهم‌السلام ، ثمة طريق عام وآخر خاص ، والطريق العام يتضمن تقديم نظرة شاملة وكلية تتعلق بالاجابة على السؤال التالي : هل يمكن أن يقع النبي ـ أي نبي ـ في خطأ أو لا؟ ويتم ذلك من خلال المحاور العامة للموضوع دون الدخول في خصوصيات كل نبي وما طرحت هذه الشبهات من إشكالات ضد عصمته ، أما الطريق الخاص فهو يتناول حياة كل نبي بمعزل عن الآخر ، ويعالج الشبهات المطروحة ضد عصمته كلاً على حدة ، وما سنعمد إليه هو اعتماد الطريقين معاً ولكن ليس بالتفصيل الشامل ، ففي البداية سنحاول تقديم تفنيد عام لهذه الشبهات من خلال التذكير بالمحاور العامة التي استفدنا منها بالتدليل على عصمة الأنبياء والمرسلين عليهم‌السلام ، (٢) وجعل هذه المحاور العامة بمثابة ضابطة تحكم كل التفاصيل المتعلقة بحياة الأنبياء ، حتى إن ما يتناقض معها يرد أو يؤول بما ينسجم مع هذه الضابطة ، وسنأخذ بعض

____________________

(١) يوسف : ٥٣.

(٢) وهو يصلح لتعميمه على عصمة الأئمة عليهم‌السلام أيضاً ، لتشابه الموضوع رغم اختلاف الصفة والمقام.

٢٨٨

التفاصيل الخاصة بحياة بعض الأنبياء عليهم‌السلام لتقديمها كنموذج للتدليل على أن ما ذكره مروجو هذه الشبهات لم يك أكثر من تقوّلات لا تتقوّم على دليل ، وللتدليل على صلاحية المحاور العامة لتكون ضابطة تتحكم بالنظرة إلى حياة الأنبياء عليهم‌السلام.

المحور العام

قبل الدخول في تفاصيل هذا المحور نلفت النظر إلى أن محاولة الخروج بدراسة قرآنية موضوعية عن عصمة الأنبياء عليه‌السلام تستدعي دوماً أخذ العناصر الثلاثة التالية بنظر الاعتبار دوماً ، وهذه العناصر هي :

أ ـ لا يكفي لدراسة هذا الموضوع من خلال الاكتفاء بقراءة النص الذي وردت فيه المقطوعة التي يخيّل للبعض أنها تقدح بالعصمة ، واعتباره عالماً مستقلاً عن بقية النصوص فحسب ، وإنما يجب أخذ هذا النص ودراسته بعنوانه يمثل وحدة من وحدات في بناء النص ، فهو لا يسبح في الهواء منعزلاً عن بقية النصوص ، ففي القرآن ما يتقيد عمومه ، وما يتعمم خصوصه ، وما يطلق مقيده ، وما يقيد مطلقه ، وفيه من المتشابهات التي ينبغي الرجوع بها إلى المحكمات ، ولهذا فإن أي نص قرآني ينبغي النظر إليه بعنوانه لبنة من بقية لبنات ، يستعان بكل واحدة منها لفهم البقية ، فلو أخذنا آيات التشبيه مثلاً لوجدنا أن الظاهر القرآني الذي يتحدث عن يد الله ووجهه وما إلى ذلك إن أخذت مجتزأة عن بقية الآيات لأدت إلى فكر التجسيم ، ولكن حينما ننظر إلى هذا الظاهر بعنوانه وحدة من بقية وحدات فإننا سنواجه عندئذ ما يميط اللثام عن هذا الظاهر كما في قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ) (١) ليحوّل فهم هذا الظاهر إلى الكناية فيعطينا عقيدة بعيدة عن

____________________

(١) الشورى : ١١.

٢٨٩

التجسيم وهكذا هو الأمر في مبحث العصمة.

ب ـ طبيعة الشخصية المتحدث عنها من حيث مواصفاتها العامة والشخصية ، فحين نتحدث عن الأنبياء ينبغي تارة ملاحظة خصائص مقام النبوة وما يشترطه هذا المقام من مواصفات ومؤهلات ، فما يصدق لنبي ضمن هذه الخصائص يصدق لغيره ، وأخرى عن الطبيعة الشخصية لكل نبي وفق ما جاءت به النصوص ، فمن يلحظ أن القاعدة العقائدية العامة التي تكوّن شخصية النبي هي التوحيد كمثال ، ثم يدرس خصوصية حياة النبي إبراهيم عليه‌السلام لا يحتاج إلى عسير جهد كي يفهم أن حديث القرآن عن قصة إبراهيم عليه‌السلام مع الكوكب والشمس والقمر ينبغي حمله بعيداً عن ظاهر السياق ، لأن ظاهر السياق لا ينسجم مع تلك القاعدة وهذه الخصوصية ، ونفس هذا الأمر ينبغي مراعاته حال درس حياة الأنبياء في كل ما يعرض لنا من محاور درسية.

ج ـ إن النص القرآني صادر من الذات المقدسة ، ولا بد لفهمه وفهم مراده من النظر إلى الطبيعة التي تميّز هذه الذات ، فمن يعرف الله كريماً لا يتحدّث عن شحّه ، ومن يعرفه رحيماً لا يتحدّث عن أي نقيض لرحمته ، وكذا الأمر في بقية صفاته ، فحين نفهم أنه يتصف بصفة الساتر ويحب الساترين ، فإننا نفهم أيضاً ان هذه الصفة لا يمكن أن تنسجم مع ظاهرة الكشف عن عيب أحد من خلقه ، وحين نلحظ انه هو من أمر المكلفين بستر عيوب الآخرين لقبح كشفها ، فإننا لا يمكن أن نفهم أي حديث يريد أن يشعرنا أن الذات المقدسة هي من لا تلتزم بقبح ما عرفتنا قبحه.

إن هذه العناصر تمثل اطاراً أساسياً نتحاكم وفق حدوده لفهم أي مفردة من المفردات القرآنية ، وهو بالنتيجة يمثل مقدمة لا غنىً عنها للدخول إلى فهم واحدة من شائكات هذه المفردات وأعني بها عصمة الأنبياء عليهم‌السلام.

* * *

٢٩٠

خصائص مقام النبوة

تقدّم في المباحث السابقة أن الله سبحانه وتعالى حينما انتخب رسله واصطفى أنبياءه عليهم‌السلام فإنه لم ينتخبهم ويصطفيهم بناء على حالة اعتباطية ، لأن ذلك خلاف العدل والحكمة الإلهيتين ، وانه حينما انتخبهم فبسبب ما كانت مؤهلاتهم الذاتية تشتمل عليه من خصائص ومقومات لم تتوفر في غيرهم ، وما كانت هذه المؤهلات لتعبر عن شيء بقدر تعبيرها عن انصياع ارادة هؤلاء الكامل لمقتضيات العهد الذي قطعوه مع الله سبحانه وتعالى وذلك كما نلحظه في الآية الكريمة : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) (١) ، وهذا الميثاق الغليظ المعبّر عنه في هذه الآية الكريمة يشير إلى ظاهرتين في نفس الوقت ، فهو مرة يشير إلى أن هذا الميثاق الموسوم بالغلظة ما كان ليتقوّم إلا على أساس الطاعة المطلقة لله سبحانه وتعالى في ما أمرهم به ونهاهم عنه ، وثانية يشير إلى صدقهم في قبوله ، لأن عدم صدق قبولهم سيؤدي إلى انتفاء النبوة عنهم حتماً ، (٢) وهو أمر لم يحصل أبداً في تاريخ الأنبياء عليهم‌السلام.

وهذا القبول ليس قبولاً قولياً يمكن له أن يختلف في دائرة العمل على طريقة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ) (٣) كيف؟ وقد جعلهم الله هم الحجج البالغة على خلقه

____________________

(١) الأحزاب : ٧.

(٢) وذلك على الطريقة المعبّر عنها في قصة بلعم بن باعوراء ولم يك نبياً خلافاً لما ورد في كتب العامة ، حيث عبرت الآية الكريمة بكلمة الانسلاخ عن انتفاء اللطف الإلهي الذي حظي به قبل أن يدخل الحسد والغرور إلىقلبه ، وهو الأمر الذي جعل قلبه مرتعاً للشيطان ، فغدا بذلك من الغاوين (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) [الأعراف : ١٧٥].

(٣) الصف : ٢ ـ ٣.

٢٩١

وعباده وعبّر عنهم موضع ثقة علمه ، وجعلهم مصداقاً لقوله تعالى : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (١) ، وهذه الثقة هي التي جعلتهم يتخلصون من كل صور اللهجة الصارمة التي تتداعى مصداقيتها الفعلية من خلال الآيات الكريمة : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) (٢) ، مما يعني أني ارادتهم عليهم‌السلام لم تكن بالارادة العاجزة عن مواجهة بعض التحديات التي قد تحول عن تواصلهم مع الله سبحانه وتعالى دون أدنى مجال للمعصية.

ولو لحظنا ذلك من خلال الأسباب الموضوعية المؤدية إلى الوقوع في المعاصي والآثام لوجدنا أن القرآن في الوقت الذي وصف هذه الأسباب بعناصر الضعف ، قام بوصف أنبياء الله ورسله والمصطفين من عباده بكل ما يليق بهم من عناصر القوة ، ولا يمكن لضعيف أن يتغلب على قوي.

فالجهل الذي يعدّه القرآن السبب الرئيس للوقوع في المعاصي والآثام نتيجة غياب هيئتها الحقيقية عنه ، والعامل الفعال في احباط بصيرة الإنسان عن رؤية حقائق الأمور ، ينتفي مع الأنبياء ، فمن المعلوم أن النبوة هي الرائدة في محاربة الجهل.

والشيطان الذي يعد أحد العوامل الرئيسية الأخرى في ارتكاب الآثام ، وفي ايجاد الغشاوة التي تؤثر على رؤية الحقيقة ، وصف بأن كيده كان ضعيفاً وفقاً لقوله تعالى : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) (٣) ، والخالق الذي أعطاه القابلية للتأثير على من يسلم قياده إليه ، سلبه قدرة التأثير على خاصة الأولياء كما قال تعالى : (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (٤) ،

____________________

(١) الأنعام : ١٢٤.

(٢) الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧.

(٣) النساء : ٧٦.

(٤) الحجر : ٤٢.

٢٩٢

وهذا السلب ليس سلباً تكوينياً ، بل لأن العباد المنظورين في الآية أقوى من أن توثر فيهم وساوس الشيطان ونزغاته.

وأهواء النفس التي وصفت بأن لها قدرة كبيرة على أن تبدل إله الإنسان بألوهيتها وفقاً لقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ) (١) ، فعلاوة على إن وصف متبع الهوى بما لا يليق بمؤمن فضلاً عن نبي ، إلا اننا يمكننا أن نعرف أن الأنبياء والأولياء هم رواد التوحيد ، وحاشى الله أن يرسل لعباده من لا يملك هواه ، بل من لا يوحّده حق التوحيد!! على ان هذا الوصف ناف للنبوة عنهم بشكل تام ، والقصص القرآني مليء بالكثير من مناقبيهم عليهم‌السلام التي تظهر صدقهم بالتعامل مع الله سبحانه وتعالى وتفاهيم في هذا المجال ، وفي هذا الخصوص ثمة استدلال عقلي جميل لهشام بن الحكم (رضوان الله تعالى عليه) إذ يقول وهو يتحدث عن عصمة الإمام عليه‌السلام بما يصلح لتطبيقه على الأنبياء عليهم‌السلام أيضاً : إن جميع الذنوب لها أربعة أوجه لا خامس لها : الحرص والحسد والغضب والشهودة ، فهذه منفية عنه ؛ لا يجوز أن يكون حريصاً على هذه الدنيا وهي تحت خاتمه ، لأنه خازن المسلمين ، فعلى ماذا يحرص؟! ولا يجوز أن يكون حسوداً لأن الإنسان إنما يحسد من فوقه ، وليس فوقه أحد ، فكيف يحسد من هو دونه؟ ولا يجوز أن يغضب لشيء من أمور الدنيا إلاّ أن يكون غضبه لله عزّ وجلّ ، فإن الله عزّ وجلّ قد فرض عليه إقامة الحدود وأن لا تأخذه لومة لائم ولا رأفة في دينه حتى يقيم حدود الله عزّ وجلّ ، ولا يجوز له أن يتبع الشهوات ، ويؤثر الدنيا على الآخرة ، لأن الله عزّ وجلّ حبب إليه الآخرة كما حبب إلينا الدنيا ، فهو ينظر إلى الآخرة كما ننظر إلى الدنيا ، فهل رأيت أحداً ترك وجهاً حسناً لوجه قبيح؟ وطعاماً طيباً لطعام مر؟ وثوباً ليناً لثوب خشن؟ ونعمة دائمة باقية لدنيا

____________________

(١) الجاثية : ٢٣.

٢٩٣

زائلة فانية؟ (١).

خصائص النص القراني

إن الآيات التي أدى سوء فهمها إلى خلق تلك الشبهات التي اعتورت فهم عصمة الأنبياء عليهم‌السلام وأمثالها علاوة على انها ستتخصص وتحكم بالضابطة التي انتهينا إليها في المبحث السابق عن مقام النبوة ، فإننا سنجدها مؤطرة بواحد من الأطر التالية ، وبالتالي فهي ستنسجم مع تلك الضابطة ولا تتعارض معها ، وهذه الأطر هي :

١ ـ فهي إما أن تكون قد أوردت معنىً قد لا يؤديه السياق إلاّ من خلال أخذ هذه الضابطة كقرينة قابتة ، كما في قوله تعالى في مسألة النبي يوسف عليه‌السلام عن الهمّ مثلاً ، فلقد تحدثت الآية عن الهمّ ـ وهو العزم ـ من دون أن تكشف النقاب عن طبيعته في الوقت الذي أعربت عن طبيعة همّ امرأة العزيز ، ولكن هذه الضابطة ستعطينا فهماً طبيعياً لما همّ به عليه‌السلام ، حيث ستكون هذا الهمّ أي همّ عدا المعصية ، كأن يكون همّ دفعها ودفع الضر عنه أو ضربها أو قتلها أو ما إلى ذلك ، ومثل هذا الأمر ما نراه في الآيات التي تحدّثت عن قصة النبي سليمان عليه‌السلام مع الخيل ، حيث تحدثت روايات العامة عن أن الشيطان أخرج له الخيل فألهته بعلبها عن ذكر ربه وأداء فريضته ، فراح يقتلها بسبب لهوه بها عن صلاته! (٢) بينما هذه الضابطة تمنع من تفسير كهذا ، فترك الصلاة بعذر اللهو لا يعمد إليه مؤمن عادي فما بالك بأحد أنبياء الله الكبار؟! وهكذا الكثير مما اعتبروه من الآيات القادحة بعصمتهم (صلوات الله عليهم).

____________________

(١) الخصال : ٢١٥ ب ٤ ح ٣٦ للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن بابويه رحمه‌الله (ت ٣٨١ هـ) ؛ مؤسسة الأعملي ـ بيروت ١٩٩٠ ط ١.

(٢) تفسير الطبري ٩٨ : ٢٣ ـ ١٠٠.

٢٩٤

٢ ـ وهناك صنف آخر من الآيات تحدّث عن قضية معينة في مكان وأوضح طبيعتها في مكان آخر ، أو تحدّث عن خصوص في مكان وعن عموم في آخر ، أو على العكس من ذلك ، فأخذها هؤلاء مفككة معزولة عن غيرها ، أو خفيت عليهم التعميمات أو التخصيصات ، فأودى بهم إلى تصويرها كآية تقدح بهذه العصمة ، في الوقت الذي نرى فيه تداعي هذه الشبهات بمجرد وصل الآيات ببعضها ، فقوله سبحانه وتعالى عن نبيه موسى عليه‌السلام : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) (١) لو أخذناه بلحاظ الآية الكريمة : (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) (٢) علمنا طبيعة خوف موسى عليه‌السلام ، خاصة وأنه لم يبد أي أثر من الخوف المرتبط بذاته أو عليها حين أرسل إلى فرعون وهامان رغم كل ما أعربت عنه الآيات من طغيانهما وبطشهما وتوعدهما موسى بالجزاء الشديد نتيجة لما أثار عليهم من أجواء فكرية وعقيدية لها أعمق الآثار على البينة السياسة التي يؤسسون عليها سلطنتهم ، وهو الأمر الذي ينسجم مع تلك الضابطة التي أشرنا إليها ، ويمكننا تلمس نفس الأمر في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (٣) ، فقد اجتهد أهل التفسير على تصوير أن خشيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت من القتل ومن قريش (٤) ، في الوقت الذي تشير وقائع الآية إلى كون الآية قد نزلت في أواخر أيامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بعد ان واجه كل طغيان قريش وحطم جبروتها ، وبعد أن أبرزت وقائع الأحداث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ملاذ الأبطال لقول أمير المؤمنين عليه‌السلام فيه : كنا إذا حمي الوطيس لذنا

____________________

(١) طه : ٦٧ ـ ٦٩.

(٢) الشعراء : ١٢.

(٣) المائدة : ٦٧.

(٤) انظر تفسير الطبري ١٩٩ : ٦ ، والدر المنثور ٢٩٨ : ٢ ـ ٢٩٩ ، وتفسير ابن كثير ٢ : ٨١.

٢٩٥

برسول الله! وبعد أن تحدّث القرآن كثيراً عن شخصيته بأبي وأمي العازفة عن الدنيا ، وشدة رغبته في ما أعده الله له في الآخرة ، مما لا يدع أي مجال للشك بأن الموت كان لديه بأبي وأمي حدثاً لا خشية منه ، وإنما بخاف منه من لا ثقة له بعمله ولا برحمة ربه ، وأين ذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ بل لربما تكون رغبته في القتل أكبر من رغبته في الموت طريحاً على الفراش ، وهكذا الأمر في قصة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع ابن أم مكتوم في الآيات الكريمة في بداية سورة عبس ، فقد اتهمت روايات العامة ، (١) ومن تابعهم عليها متلجلجاً من مفسري الشيعة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه هو من عبس وتولّى بوجهه عن ابن أم مكتوم أثناء مجيئه وبجنبه بعض رجالات قريش ، فيما نرى القرآن الكريم الذي أطلق الكلام دون تشخيصه لهوية هذا الذي عبس وتولى ، يحدد في مواضع أخرى انصراف هذه الآية بعيداً عن شخصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مرة بحديثه عن شؤون هي من صلب وظائف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث انه لو تركها يكون مخالفاً لنبوته كمسألة التزكية والإنذار وما إلى ذلك ، وثانية بوصفه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصفة صاحب الخلق العظيم والعبوس حالة منافية لذلك ، (٢) وأخرى بحديث الله مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأن مجالسة الفقراء كما في قوله عزّ وجلّ : (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٣) مما يعطينا فهماً صريحاً في توجيه العبوس إلى مجالسي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا إليه بأبي وأمي كما عمدت إليه تفاسير العامة ، (٤) وهكذا بقية الآيات المماثلة.

٣ ـ وهناك صنف آخر من الآيات تحدّث عن فعل معين من أفعال الأنبياء عليهم‌السلام وغيرهم بصورة موجزة من دون أن يدخل في تفاصيلة ، وهو

____________________

(١) سنعود إلى الحديث عنها بشيء من التفصيل.

(٢) القلم : ٤.

(٣) الأنعام : ٥٢.

(٤) وسنعود لتفصيل الحديث في موضع آخر إن شاء الله تعالى.

٢٩٦

أسلوب مألوف من أساليب القصص القرآني ، وقد عكست هذه الصورة جملة من الأمور التي استغلها وضّاع الرواة والمشككون لأن يطلقوا العنان لشبهاتهم بالاعتماد على ذلك ، كما في قصة موسى وهارون عليهما‌السلام في قوله تعالى : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١) فهنا لم يفصح القرآن عن سبب أخذه لرأس أخيه إلاّ بأنه كان غاضباً ، مما سمح لبعضهم أن يطلقوا لمخيلاتهم العنان بصورة جعلتهم يتصورون أن الغضب كان من جراء فعل هارون ، فإن كان ذلك صحيحاً فإن الخطأ لا بد وأن يكون من أحدهما ، فإن كان هارون عليه‌السلام مذنباً ، فالذنب ذنبه وهو نبي وبالتالي لا عصمة ، وإن كان الخطأ من موسى عليه‌السلام فقد عاقب من لا ذنب له ، وهو أمر قادح بالعصمة قطعاً.

والحال إن هذا الأمر لو لوحظ من خلال تلك الضابطة العامة ، أو لوحظ من خلال كلمات هارون عليه‌السلام وجب علينا تصور الموضوع بطريقة أخرى تختلف كلية عن ذلك التحليل ، إذ يمكن تصوّر الأمر وكأنه صورة من صور التعبير عن الأسف الشديد بحيث يجعل موسى عليه‌السلام يجتذب رأس أخيه ، لا ليلومه أو يعاتبه ، فهو يعلم ان هارون عليه‌السلام أبعد ما يكون عن أن يشترك بهذه الجريمة العظمى بحق دينه أو يتسامح بها ، وكيف يكون ذلك؟ وهو النبي المستوزر والمستخلف من قبله على القوم ، وإنما ليبدي حجم الأسف والغضب للذي فعلوه ، أو لربما ـ وهو محكي بعض الروايات ـ انه غضب على هارون عليه‌السلام كما هو ظاهر الآية لأنه لم يغادر القوم مما يوحي برضاه ، وانه لو خرج منهم لنزل عليهم غضب الله سبحانه ، وكان معروفاً بشدة غضبه في ذات الله ، وهو غضب مبرر عليه‌السلام لا يقدح بعصمته ،

____________________

(١) الأعراف : ١٥٠.

٢٩٧

ولكن هارون عليه‌السلام بعد أن رأى انهم لا يستجيبون له ، ترك المجال لفرصة أخرى عسى أن تدركهم رحمة الهداية من جديد وكان معروفاً برحمته بهم ، فلم يتركهم كي لا ينزل بهم غضب الله سبحانه ، وهو ظاهر بعض عبارات الآيات كما في حديثه عن رغبته في عدم تفريق بني اسرائيل ، وهو الآخر تصرف لا يقدح بمقام عصمته أيضاً.

ويمكن تصوير تفاعلات حالة الغضب هذه بأنها كانت تستهدف إبراز حجم ما اقترفته أيدي متبعي العجل وتعظيمه في نفوسهم ، وهو أسلوب تربوي لا يكتفي بطرح الفكرة فحسب بل يستخدم وسائل تعبيرية لايصال معناها ، وهناك توجيهات متعددة للقصة وجميعها لا تقدح بالعصمة أبداً.

٤ ـ وهكذا صنف آخر من الآيات تحدث عن مقطع من الحدث ، وانتقل بصورة سريعة إلى حدث آخر ، كما هو حال الطبيعة الفنية التي حكمت المنهج القصصي القرآني ، مما دفع إلى التوهم بوحدة ما تحدّثت عنه الآيات ، لتفسر الحدثين بحدث واحد ، وبالتالي فقد جرها ذلك إلى التحدث عن خلل في سلوك الأنبياء عليهم‌السلام ، كما نلمس ذلك في الآية الكريمة التي تحدثت عن يونس عليه‌السلام : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (١) ، وفيها نرى ظاهر الآية وكأن مغاضبة يونس عليه‌السلام كانت بسبب عدم إنزال البلاء والإلهي الذي وعد به على قومه ، وبذا كانت المغاضبة عصياناً لله سبحانه وتعالى وما إلى ذلك من تفسيرات تعج بها كتب القوم الروائية ، (٢) في الوقت الذي نجد فيه أن المغاضبة لا بد وأن تكون من جهتين ففيها غاضب ومغضوب منه ، وحيث لا يمكن القول بأنه عليهم‌السلام كان مغاضباً لله ، ولا يمكن له أن يكون مغاضباً لنفسه بدليل انه فرّ إلى سفينة مشحونة ،

____________________

(١) الأنبياء : ٨٧.

(٢) انظر الدر المنثور ٣٣٢ : ٤ ـ ٣٣٣.

٢٩٨

والمغاضب لنفسه لا يهرب لسفينة ولا لغيرها ، فلا يبقى إلاّ أن تكون مغاضبته مع قومه الذين هرب منهم قبل أن تحدق بهم نُذر العذاب ، ومعه فإن حديثه عن ظلمه سيكون تصاغراً بين يدي المعبود اليس إلاّ.

٥ ـ إن الغالبية العظمى من المرويات القاصة عن حياة الأنبياء عليهم‌السلام قد أخذ من المرويات الإسرائيلية ، وفقاً للقاعدة التي سنت في زمن عمر بن الخطاب والقائمة على دعوى قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما يرويه عنه أبو هريرة : حدّثوا عن بين إسرائيل ولا حرج ، (١) ولهذا تجد كتب القوم التي تتحدث عن قصص الأنبياء أغلب ما روي فيها في هذا المجال هو في الواقع مرويات التوراة المحرفة ، وهي تعج بالإساءة للنبيين من قوم لم يجدوا حرجاً في قتلهم! فما بالك بالكذب عليهم والقدح بهم؟ وتبعاً لتلك المرويات راح المفسرون وأهل الكلام يتطوعون لتفسير القرآن وتحديد العقائد وفقاً لمرامي هذه المرويات وأغراضها!!

هذا فضلاً عن الفهم القاصر الذي كان يغلف الكثير من المحاولات التفسيرية لمسائل هي من أوضح الواضحات ، فما بالك بمسائل تحتاج إلى جهد أوسع وخبرة أعظم واحاطة أشمل؟!

خصائص الذات المقدسة

النص القرآني ليس نصاً عادياً ، وإنما هو نص الذات الإلهية المقدسة ، ولهذا لا ينبغي أن يخرج فهمه عن فهمنا لهذه الذات بكل المزايا والخصائص التي تميّزها عنا ، وحين يلحظ هذا النص وفقاً لمقتضيات شبهات القادحين بعصمة الأنبياء عليهم‌السلام ، فإن المرء لا يملك أن يفغر الفاه عجباً من سخف

____________________

(١) انظر ذلك في : سنن أبي داود ٣٢٢ : ٣ ، وصحيح ابن حبان ١٤٧ : ١٤ و ١٥١ ، ومسند أحمد ٤٧٤ : ٢ و ٥٠٢ ، وسنن النسائي الكبرى ٤٣١ : ٣ ، ومسند الشافعي : ٢٤٠ ، ومسند الحميدي ٤٩١ : ٢ ، وتحفة الأحوذي ٣٧٠ : ٨.

٢٩٩

العقول التي تتهم هذه الذات المقدسة بكشفها لعيوب هي في الكثير من الأحيان حتى في أشد الأقوال جرأة على الساحة المقدسة للأنبياء عليهم‌السلام لم تأخذ صورة العمل الخارجي الذي يترك أثره في الواقع الاجتماعي أو الذاتي ، وإنما بقيت حديثاً في القلب أو أثراً يرتسم في الوجه ، وأي كشف أعظم وأفدح من كشف يتم من قبل الله سبحانه وفي كتابه المرسل إلى كل الأزمان والأوطان؟! أتراهم يريدون أن يقولوا بأن الله تعهد بالطعن على أنبيائه؟! أم تراهم يرون الله سبحانه وتعالى قد جعل الطعن على أنبيائه مفردة ثابتة من مفردات الهداية الربانية؟! لا سيما إذا لاحظنا أن عدد ما يحصوه من هذه الآيات يحتل حيّزاً من الآي القرآني ، ما لكم كيف تحكمون؟!!

إن الله سبحانه وتعالى قد وصف نفسه بالستر وحضّ على أن تتخلّق بأخلاقه ، وبلّغ أنبياءه عباده بأن الله يأمر بالستر ويجب الساترين ، فلم تراه يعمد لفضح أسرار أنبيائه كما يزعم هؤلاء؟! وأي قيمة موضوعية تكمن في عملية هذا الفضح لعملية الهداية الربانية؟! فلو أخذنا صورة الفظائع التي يروونها عن يوسف أو داود عليهما‌السلام والتي يقشعر البدن لمجرد ذكرها كمثال ، لا ستوجب كلاً منهما التعزير ، فضلاً عن التوهين والإزراء ، أتراه يحدثنا عن أحسن القصص في سورة يوسف ليقدّم لنا من بعد ذلك بطل هذه القصص الحسنة بصورة مقذعة الوصف كما تتحدث روايات القوم ، (١) فتراه مهمّاً بالزنا يجلس من المرأة المحصن مجلس الواطىء لها بعد أن يخلع سراويله ، والناسي لذكر ربه فلا يذكره إلا أن تذكّره العامة على اغوائه بذلك تبعاً لحيائها من الأصنام ، والخائن للأمانة مع من أحسن وفادته ، والضعيف بشخصيته الذي لا يقوى على مجابهة اغراءات امرأة؟! أترى في ذلك رسالة حياء وهو الذي أمر بالستر؟! أم رسالة عفّة وهو الذي أمر بأن لا تشيع

____________________

(١) انظر تفاسيرهم في موضع آية : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْ لاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) من سورة يوسف.

٣٠٠