عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

الشيخ جلال الدين علي الصغير

عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية

المؤلف:

الشيخ جلال الدين علي الصغير


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأعراف للدراسات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

أوتار لحن جديد لم تألفه الساحة العلمية الشيعية من قبل ، فلقد راح يتحدث عن التخلف العلمي في وسط الفقه الشيعي ويطالب بضرورة مطالعة الفقه المخالف ، ولو كان هذا الأمر ضمن الدائرة العلمية المتخصصة لها الخطب فهو شغلها الذي دأبت عليه والذي لم تحتج فيه إلى مطالبة منه أو من غيره ، ولكن حينما تكون هذه الدعوة موجهة إلى شباب غرّ تستهويه شعارات التوحيد بين المذاهب ، أو إلى أنصاف الكوادر العلمائية وأرباعهم ـ إن صح التعبير ـ الذين لن يتمكنوا من التمييز الكثير بين القضايا العلمية فإن هذه المطالبة ستأخذ طابعاً آخر لا يمكن أن يوصف بالمسؤولية ، وبالفعل فقد راح يدرس كتاب بداية المجتهد لابن رشد الأندلسي ، ليفتح باباً جديداً أمام تمايزه عن الساحة العلمية العامة.

ومنذ أن بدأ ينشر محاضراته في مطلع السبعينات حتى أحسنت الطبقة المثقفة ، فضلاً عن العلماء بوجود مشكلة ما في فكر الرجل ، فلقد وصل في العام ١٩٧٣ م إلى العراق واحداً من كراساته المعنونة تحت عنوان : «مفاهيم إسلامية عامة» وفوجئت هذه الطبقة بوجود مقاله حول اسلامية قاعدة : «الغاية تبرر الوسيلة» ، الذي قوبل باستغراب شديد ، ولكن هذا الاستغراب سرعان ما تغلّف بطابع حسن الظن برجل عمل فريق السياسي الذي ينتمي إليه على إشادة صورة جميلة له ، بطريقة يعرفها كل من عرف طرق عملهم ، ولم تمض الأيام حتى صدر كتابه : «خطوات على طريق الإسلام» عام ١٩٨٧ م واستقبل في العراق استقبالاً شديداً ، ولكن سرعان ما عادت الغصة التي تركها كتابه السابق لتؤشر بشكل جدي على طبيعة متبنيات كانت تتناهى الأسماع عنها ، وتستقبل بعدم تصديق ، (١) فلقد كان موضوعه

____________________

(١) كان المقدّس الوالد (رض) أول من أسمعني كلمة متشددة في وصف عدم شيعيته ، وذلك عام ١٩٧٣ م حين كنا قافلين من الحج ، ورام أحد مرافقينا وهو الشيخ فؤاد المقدادي الذهاب لمقابلة فضل الله ، وجوبه بمعارضة شديدة من قبل الوالد الذي كانت معارضته قد أدهشتنا جميعاً ، فهو من زرع فينا حب العلماء وكان فضل الله =

٣٦١

عن الحركة النبوية وكيفية دراستها (١) قد أثار حنقاً شديداً في الأوساط الحوزوية في النجف ، وقد اتسمت النظرة المستخلصة عن فكر الرجل بالسمة التي كانت تطبع النظرة إلى الكتّاب السطحيين الذين يفتقرون إلى العمق الفكري ، ويخلو ذهنهم من الحسابات المسؤولة في عالم الفكر والعقائد ، وبتعبير الجو السائد آنذاك فقد كان فضل الله بحراً ولكن بعمق شبر! ولكن الدفع الإعلامي الذي كان يملكه كرجل ينتمي إلى جهاز حزبي عرف بتقليبه للأمور وفق المتطلبات الحزبية حال دون موجة الحنق التي سادت آنذاك بعد صدور الكتاب ، بل راحوا يعممونه ككتاب ضمن المواد المقررة للثقافة الحزبية.

وما أن انتصرت الثورة الإسلامية المباركة في إيران عام ١٩٧٩ م حتى غرق الجميع في بحر من الهموم الجديدة ، واعتصرت الساحة العلمائية في العراق الأجواء الأمنية الخائفة مما ادخلها في حرب معلنة مع نظام المجرم صدام ، وهي الحرب التي فقدنا في بدايتها المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سرّه) ، فيما كان علماء لبنان غارقون في أزمة الحرب الداخلية وتغييب السيد موسى الصدر (رحمة الله حيّاً أو شهيداً) ، فيما تأثرت الساحة في الخليج أشد التأثر بالوضع الناجم ، وما كان أمر الثورة في إيران يسمح للعلماء ولغيرهم من الشرائح الفكرية في أن يتفرّغوا للفكر ، ولم تمض إلا أشهراً حتىرق الوضع في العراق وإيران بحرب المجرم صدام الأولى ، ووجد الجميع أنفسهم أمام استحقاقات أمنية وسياسية وعسكرية لم يسبق

____________________

= عالماً في ما كنا نظن ، وقد سألته ونحن في الشام عن سبب ممانعته ، وكانت لهجته عن عامية هذا الرجل وعدم تشيّعه قاطعة جداً ، ورغم معرفتي بطبيعة ورع المقدّس الوالد (رض) وتحرّجه من ذكر أحد ، ولكني حسبت أن الوالد (رض) كان يريد منعي من الانتساب إلى حزب الدعوة ، إذ كان الجو العام المحيط بنا هو من المنتمين إلى هذا الحزب.

(١) خطوات على طريق الإسلام : ٤٠٩ فما بعد ؛ دار التعارف ـ بيروت ١٩٨٦ ط ٥.

٣٦٢

لتجربتهم أن يتحملوها ، ولهذا باتت الساحة الفكرية فارغة جداً! وحده محمد حسين فضل الله الذي وضع نفسه بعيداً عن اجواء هذه المعارك ، وكان يتحرك بالكثير من روح ملتوية على الجو العام ، ففي المعركة ضد البعثيين العراقيين والشيوعيين اللبنانيين التي جرت في تلك الفترة ببيروت وقف متفرجاً يحرّم على أتباعه من المنتمين إلى اتحاد الطلبة القتال رغم أنه كان قتالاً حاسماً جداً للكثير من متطلبات الحالة الإسلامية ، (١) ورغم أن بيته كان بجوار أحد قلاع حزب البعث العراقي في حي فرحات إلا انه يتعرض لأي أذى من أحد منهم رغم دمويتهم الفائقة على الوصف ، وهكذا تجد أمره في المعركة مع الدروز ومع الناصريين ومع حركة فتح (بغض النظر عن الحكم على طبيعة المتخاصمين) ، وفي هذا التفرد الذي ميّز به نفسه تمكّن من أن يتفرغ للشارع الشعبي ، وسط ارتياح مناظرية لذلك لفهمهم أنه يحل مشكلة في هذا الشارع ، ولكن حسابات الحقل لم تتوافق معه حسابات البيدر!!

استغل الظروف الناشئة بعيد الاحتلال الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢ م ثم تداعيات الأحداث اللاحقة لذلك ، وما أودت من بعد ذلك إلى صراع مسلح بين إخوة السلاح والمعتقد ، فاعتكف بعيداً عن الاجواء العلمية المختصة تماماً ، وراح يستغل الأجواء الشعبية والشبابية تحديداً والتي وجدت في خطاباته المبسطة متنفساً لها في شعورها بالغربة عن الجو العلمائي ، (٢) الغارقين في مشاكل أمن الناس وملاحقة رغيف عيشهم.

ووسط هذه الظروف ابتنى لنفسه منظومة واعلامية اتسمت بإحكامها الشديد وشدة دأبها على الترويج له وبكل الأساليب المتاحة ،

____________________

(١) ارتفع التحريم بعد نجاة الشيخ علي الكوراني باعجوبة من محاولة الاغتيال التي نفذها حزب البعث العراقي في ساحة الغبيري أي بعد شروع القتال بنحو تسعة أشهر.

(٢) أعني هنا بالجو العلمائي الجو الملتزم منهم بخط العلماء.

٣٦٣

وابتداءً من نهاية عام ١٩٨٨ م راح فضل الله يبرز إعلامياً على نطاق واسع بعنوانه زعيماً أصولياً راديكالياً ، وبعيداً عمّا تحدّث به كبير المحررين في جريدة : (Washington Post) بوب وودوورد (Bob Woodword) عن اتفاق جرى بينه وبين (C.I.A) من أجل العمل على أن يلعب دور جهاز الانداز المبكر ضد عمليات الحركات الأصولية المضادة للمصالح الأمريكية عام ١٩٨٧ م! (١) فإن ذلك قد أسهم بصورة أخرى في الابتعاد عن ملاحظة ما يكتب ، فضلاً عن ملاحقة ما كتبه في تفسيره.

ولم ترتح الساحة من مشكلاتها الأمنية حتى دخلت في دوامة تآكل بنيتها العلمائية ففي ظرف خمس سنوات امتدت منذ رحيل الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) توالت علينا نكباتنا بالعلماء المراجع ففقدنا مراجعنا الكبار السيد الخوئي والروحاني والكلبايكاني والأراكي والسبزواري وغيرهم من ذوي النفوذ الشعبي (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين) وبحلول عام ١٩٩٣ كانت الساحة قد خلت من جيل المراجع الكبار ، ومن حالة المرجعية شبه المركزية ، واحتل مكانهم الجيل الجديد من العلماء المراجع الذين لم تعتد الساحة على أسمائهم فضلاً عن التعرف عليهم بسبب ما كان يميز وجودهم أثناء حياة أساتذتهم من احترام خاص جعل أغلبهم ينأى بنفسه عن

____________________

(١) انظر :

Bob Woodword : VELL: the secret Wars of The C.I.A 1981 – 1987 P.p : 397, Simon & Schuster , Inc 1987.

وما يلاحظ على ما كتبه هذا الكاتب ان فضل الله لم يرد على ما كتبه رداً يتسم بالجدية ، بل تضمن ما قاله عن ذلك في كتاب تحدي الممنوع ما يبعث على الريبة ، وازداد الأمر دراماتيكية أكثر حينما تحدث الوسيط السعودي وهو السفير بندر بن سلطان بن عبد العزيز عن هذا الأمر مؤكداً حصول هذا الاتفاق ، وحين طبعت دار المناهل الترجمة العربية للكتاب في بيروت تحت عنوان الحجاب حذفت الكلام المنعلق بفضل الله ، وبمتابعة خاصة عرفنا أن الممول للكتاب في طبعته المحذوفة كان هو المكتب الإعلامي لفضل الله.

٣٦٤

التصدي للعمل المرجعي ، وأحس محمد حسين فضل الله ـ وهو المعروف بتفوقه باقتناص الفرص ـ أن الساحة قد باتت مؤهلة لأن يستغل الظرف القائم ، ومنذ أواخر عام ١٩٩٣ م بدأت صفحة من التوافق الجديد (١) بين فضل الله وبين قيادة حزب الدعوة الجديدة التي أضحت مستقرة في تيارها القوي المسيطر في لندن على التحالف وتقاسم الأدوار والفرص ، ووفق هذه الصفحة سيبايع فضل الله بعنوانه مرجعاً وسيدعم ذلك بأجهزة الدعاية التي يملكها الطرفان ، وتناغمت حركة الفريقين بسرعة وسرعان ما تسلق فضل الله درجة الاجتهاد وسط دهشة العديدين ، ثم سرعان ما طواها إلى درجة المرجعية ، ليضع نفسه بعنوانه إماماً ومرجعاً للطائفة!!

ولم يحرك هذا الأمر الساحة الفكرية والعلمائية رغم حالة الاستغراب التي تلقاها من قبل الكثيرين من المقربين إليه ، وحتى ينسى الجمع ما جاء به في مسألة الاجتهاد والمرجعية راح يشغل الساحة بما كانت في شغل عنه ، ففي أواخر عام ١٩٩٤ م طرح مسألة نفي مظلومية الزهراء (صلوات الله عليها) أمام عدد كبير من النساء في مسجده ببئر العبد في بيروت ، واستطاع بشق الأنفس وبكثير من اللف والدوران احتواء الأزمة والتخفيف منها ، ولكن هذه المسألة أثارت في الوسط العلمائي فضولاً أوسع مما بدا لفضل الله انه استطاع التغلب عليه ، إذ راحت طبقة منهم تثير هذه المسألة وهي : إن كان فضل الله قد تكلّم عن مظلومية الصديقة الطاهرة عليها‌السلام رغم بديهيتها على هذا النحو ، فإنه لربما يكون قد تجاوز أشواطاً أبعد في الكثير من المسائل الفكرية والعقيدية ، وفي هذا البين تم اكتشاف نصه في كتابه «تأملات إسلامية حول المرأة»حول نفي عصمة الزهراء عليها‌السلام من قبلي والأخ العزيز الحجة

____________________

(١) بعد ما يشبه القطيعة المؤقتة ، وقد كنت شاهداً على بعض فصولها ، وقد أسمعني العديد من الكادر الحزبي المسؤول آنذاك الكثير من كلمات الذم والشكوى منه لبخله وسطيحته في التحليل.

٣٦٥

الشيخ محمد جعفر شمس الدين في يوم واحد هو يوم ولادة الزهراء (صلوات الله عليها) وبطريق الصدفة ، وسرعان ما ابتدأت عملية البحث في كتبه بعد طول عزوف عن مجرد قراءتها! لهذا عكفت طبقة من هذا الوسط في ثم وسوريا ولبنان على تحرّي كتبه ، وكم كانت الغصة شديدة حينما اكتشفنا حجم ما تضمنته هذه الكتب من مخالفات عميقة للمعتقد الشريف ، وابتدأت حملة الاستفتاءات للمراجع لتنتهي إلى قناعة جماهيرية في أن معضلة فكر فضل الله لا تختص ببعض المسائل التاريخية كمسألة مظلومية الصديقة الزهراء عليها‌السلام أو في مسألة التطهير أو ما إلى ذلك مما يتصوروه من السمائل الجانبية ، بل تجاوز الأمر إلى المسائل التي تشكّل الحجر الأساس في البنية العقائدية للمذهب الشريف كمسألة نفي التشبيه في التوحيد ، وجملة من مباحث النبوة والإمامة والمعاد ، وبطبيعة الحال فقد كانت العصمة أحد أحجار الرحى في هذا المجال ، وما أن انتشرت حصيلة هذه التحريات حتى انهال تيار فضل الله بهدف اشغال الساحة واتعابها على امطار الساحة بسيل من الكتب وبواقع كتابين في شهر واحد في بعض الأحيان ، وأكثر من ذلك في أحيان أخرى ، وكان تتويجها بالطبعة الجديدة من تفسيره الذي ضمّنها أفدح الأفكار الهدامة للمذهب ، وقد نال مفهوم العصمة القدح المعلى من هجمته هذه.

وبطبيعة الحال فقد تفاقمت موجة الغضب إلى أن انتهت إلى صورتها الطبيعية حين تصدت المرجعية الدينية الشريفة للرجل وأعرب المرجعان العلمان الشيخ جواد التبريزي والشيخ الوحيد الخراساني (مدّ الله تعالى ظلّهما الوارف) بالحكم على الرجل بأنه خارج عن المذهب وأنه ضال مضلّ ، وتتالت من بعدهما مواقف بقية المراجع.

وأيّا ما كانت طبيعة الموقف المرجعي منه ، إلا إن هذا الموقف أكدته الكتابات اللاحقة لفضل الله ، فقد أعرب عن ضميمة جديدة لأحكام الشريعة هي بالضبط واحدة من أهم ما يميّزنا عن بقية المذاهب ، وهذه الضميمة هي

٣٦٦

ما طرحه في المسألة الأولى من رسالته العملية حيث قال : الشريعة هي كل حكم أخذ من القرآن الكريم أو من أحاديث النبي وأهل بيته ، أو ما ثبت عن المذاهب الإسلامية (١) جواز الاعتماد عليه في استنباط الأحكام أو الأصول والقواعد الفقهية ، وهو الذي يصطلح عليه بـ (السنة) ، ويقابل ذلك مصطلح البدعة وهي : ما ينسب إلى الإسلام من تشريعات لم يعتمد فيها على المصادر التي سلف ذكرها. (٢)

وإذ أقدّم هذه اللمحة الموجزة (٣) عن تاريخ هذا الرجل ، فليس لسبب أن أملي قناعات مسبقة عن القارىء الكريم أثناء مناقشتي لفكر الرجل عن العصمة ، وإنما بهدف حلّ مشكلة قد ترتسم في ذهن البعض من القراء الذي قد يجد في تصنيف الرجل في خانة تيار الاغتراب أمراً مهولاً ، إما لكونه لم يطلع بعد على أوضاع الرجل وصراعه ضد المذهب ، وإما لعدم وجود ثقافة عقائدية كافية لديه تمنحه الفرصة لرؤية الأمور ضمن اطارها الواقعي الحقيقي.

* * *

العصمة كمفهوم في فكر فضل الله

لن يعدم القارىء المتفحّص الملاحظة حالما يقرأ فكر الرجل عن

____________________

(١) جملة : «عن المذاهب الإسلامية» قام بحذفها في الطبعة الثانية من الكتاب الصادرة عام ٢٠٠٠ م ، والعبارة ببقاء جملة : أو ما ثبت جواز الاعتماد فما بعدها تؤدي نفس المطلوب ، فالجملة تشير إلى ما لم يثبت من هذه الطرق عن القرآن الكريم والرسول وأهل البيت عليهم‌السلام ، فاحتاج إليها كي يدخل المتبقي من الطرق وهو ما استحدثته بقية المذاهب ، فلا تغفل.

(٢) فقه الشريعة ٧ : ١ م١ ؛ دار الملاك ـ بيروت ١٩٩٨ ط ١.

(٣) في البال خواطر وذكريات كثيرة قد تسنح فرص الزمان لنا بتدوينها.

٣٦٧

العصمة بأنه كثير التناقض في عرض هذا الفكر ، فقد ينفي ما يثبته في مكان ، ليثبت ما ينفيه في مكان آخر ، فهو مثلاً يتحدّث عن امكانية خطأ النبي في تبليغ الآية وسهوه ونسيانه في تفسيره ، (١) لينفي عين كلامه هذا في جريدته ، (٢) ويتحدث عن وجود أخطأ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام في كتاب (٣) لينفيه في نشرة ، وينفي عصمة الزهراء عليها‌السلام في مكان (٤) ليثبته في كراس. (٥)

وقد لا يعدم الملاحظة أيضاً أن هذا الرجل قد يطرح فكرة عن العصمة في مكان ، ليناقض دلالاتها الالتزامية في موضع ثان ، والعكس صحيح أيضاً ، فتراه مثلاً يطرح امكانية خطأ المعصوم عليه‌السلام ثم يسرح في تفسيره لتبيان حشد كبير من أخطاء المعصومين عليهم‌السلام ، ولكنه مع ذلك يتحدث عن جبرية عصمتهم ، (٦) ومن الواضح أن وقوع الخطأ دال على عدم الجبرية ، أو أن يتحدّث عن هذه الجبرية ، ثم يتحدث في كتاب آخر عن امكانات النمو الروحي والعقلي لدى المعصوم ، ومن البيّن أن الحديث عن امكانات النمو هذه إنما هو حديث عن الاختيار في شخصية المعصوم.

والخبير يعرف أن منطلقاته التي يؤسس عليها مثل هذا التناقض إنما تقوم على أمر بديهي بين أمرين لا ثالث لهما :

فهو إما أن يكون من غير المؤمنين بمفهوم العصمة جملة وتفصيلاً ،

____________________

(١) من وحي القرآن ١٥٣ : ٤ ـ ١٥٤ ؛ دار الملاك ـ بيروت ١٩٩٨ ط ٢.

(٢) فكر وثقافة العدد : ١٦٧.

(٣) انظر في رحاب أهل البيت : ٤٠٥ ، وفقه الحياة : ٢٦٨.

(٤) تأملات إسلامية حول المرأة : ٨ ـ ٩ ؛ دار الملاك ـ بيروت ١٩٩٥ ط ٥.

(٥) انظر كراس الزهراء المعصومة ؛ دار الملاك ـ بيروت.

(٦) انظر في رحاب أهل البيت : ٤٠٦ ، وفقه الحياة : ٢٧٠ ومع الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد ؛ العدد التاسع من مجلة الفكر الجديد الصادرة في لندن.

٣٦٨

وما يطرحه من تناقضات هي عمليات كرّ وفرّ تقتضيها الأجواء الفكرية التي تحيط به ، ويدلل عليه أن الاحتمال الثاني يقتضي أن يكون هذا التناقض ينبعث من حالة جهل في ما يكتب ، والحال أن بعض ما في هذا التناقض من الوضوح الذي لا يخفى على غائر في الجهل ، والرجل لم يعرف بذلك.

والحالة الثانية وهي أن تكون هذه التناقضات حاكية ومعبرة عن جهل وسذاجة في طبيعة ما يطرحه هذا الرجل ، فهذه التناقضات تلحظ في بعض الأحيان في المباني النظرية التي تؤسس عليها هذه الأفكار ، وقد تلحظ في أحيان أخرى بصورة أكثر سذاجة ، فحديثه عن جبرية العصمة يبتني أساسه على قاعدة فكرية تنطلق من القول بجزافية الارادة الإلهية ، ومن قاعدة الترجيح بلا مرجح ، وهذه قواعد قد لا تكتشف سريعاً إلا لمن لديه خبرة أعمق في المسائل الفكرية ، ولكن نفس الحديث عن هذه الجبرية يتناقض بوضوح مع فكرته عن تدخّل الشيطان في داخل شخصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (١) فموضع الجبر سينتفي مع وجود امكانية لدخول الشيطان في داخل الذات ، فالجبر إنما يكون ليصد الشيطان.

ومن هذا المنطلق قد يحار المرء المتجرد في كيفية تقييم فكر هذا الرجل ، ليخرج بجامع مشترك ما بين المتناثر من فكره بين صفحات عشرات كتبه ومئات النشرات الصادرة عنه ، ولكن النظر إلى مجموع أفكاره بصورة شمولية تجعل أمر تقييم هذا الفكر أكثر سهولة ، وهو أمر يمكن لمعالمه أن تتضح من خلال تبيان مرتكزاته العامة في شأن العصمة والتي نلخصها في التالي :

أ ـ الإيمان بوجود مائز بين الشخصية الرسالية ، وبين ذات المرسل على النحو الذي بيّناه في الفصل الأول من هذا الكتاب.

____________________

(١) انظر من وحي القرآن ١٠٠ : ١٦ ـ ١٠٣.

٣٦٩

ب ـ إيمانه بوجود حالة ما يسميه بالضعف البشري التي لا تمنع المعصوم من الوقوع بحالة الخطأ التي تمليها هذه الحالة في أن يخاف في مواطن الخوف ، ويرغب في مواطن الرغبة ، وهذه الفكرة تجدها تأخذ حيزاً كبيراً جداً من تفسيره وغيره من كتبه ، ويطرحها بصورة متعددة تؤدي نفس المفهوم فتسمعه يقول : إن أسلوب القرآن في الحديث عن حياة الأنبياء ونقاط ضعفهم يؤكد القول بأن الرسالية لا تتنافى مع بعض نقاط الضعف البشري من حيث الخطأ في تقدير الأمور. (١)

وتسمعه يقول : كل ما تؤمّنه العصمة هو الالتزام الفكري والروحي والعملي بالخط المستقيم .. أما التهاويل والخطرات والمشاعر فهي أمور طبيعية. (٢)

وتقرأ في ثالثة : يرينا القرآن الكريم نقاط الضعف البشري قبل النبوة في شخصية النبي عندما كان بعيداً عن الاهتداء التفصيلي بالشريعة والمنهج ، خلافاً للفكرة المعروفة لدى الكثيرين من العلماء الذين لا يوافقون على أن النبي يمكن أن يضعف أمام عوامل الضعف الذاتي قبل النبوة أو بعدها حتى في ما لا يشكل معصية أو انحرافاً خطيراً عن الخط المستقيم. (٣)

إلى غير ذلك من أقواله التي تكلم بها ضمن مساحات كبيرة بتفسيره العجيب للآيات التي تحدثت عن الأنبياء عليهم‌السلام. (٤)

ج ـ لا حدود لمساحة الخطأ في شخصية المعصوم عليه‌السلام ، وهنا لم يتوقف الرجل عند الموضع الذي تتوقف عنده الغالبية المقاربة للإجماع

____________________

(١) من وحي القرآن ٢٥١ : ١٠.

(٢) من وحي القرآن ١٨٨ : ١٢.

(٣) من وحي القرآن ٩٩ : ١٧.

(٤) يمكن مراجعة فصل «في النبوة» من كتاب : لهذا كانت المواجهة ، لمعرفة بقية أقواله في هذا المجال.

٣٧٠

المعلن لدى أفكار العامة وهو عصمة المعصوم في التبليغ ، بل تجاوزها إلى قوله بعدم عصمته حتى في التبليغ!! وبه يمكن ملاحظة تناقض ذلك مع فكرته العامة حول خطأ المعصوم عليه‌السلام في المسائل المختصة في ضعفه البشري!!

د ـ إن العصمة لا ترتبط بالمؤهلات الذاتية للمعصوم ، وإنما ترتبط بالتدخل الالهي الذي يمنع المعصوم من ارتكاب الخطأ حتى لو حدّثته نفسه بارتكابه ، وقد تلمس في مجمل حديثه في هذا المجال أنه يترك المجال لهذه المؤهلات في أن تفعل فعلتها فيما إذا أراد المعصوم أن يطيع الله لا في ما يعصيه ، فالمعصمية تتوقف بالاجبار!!

ورغم ما يلحظ على مجموع هذه الأفكار من تناقض بيّن ، إلا أن الذي يجمع ما بين متناثراتها لا يخامره الشك في أن الرجل لا إيمان له بشيء اسمه العصمة أو لا يفقه من العصمة ومفهومها والتزامات المفهوم أي شيء ، وما كتبه في هذا الشأن لا يعدو أكثر من مسألة الانحناء لعواصف الفتنة التي يتوقع هبوبها كما يحلو له أن يتحدث عن ذلك كثيراً ، وهو ما سنتلمسه في حديثنا عن التفاصيل.

ولو أردنا التفصيل فسنكتفي بتقديم النماذج التالية التي نعتقد بكفايتها لملاحظة الاطار العام الذي يتأطر فكر هذا الرجل فيه ، وسنقدم هذه النماذج كنموذج لهذا الفكر مرة ، وكيفية مناقشته أخرى.

* * *

خطأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التبليغ

لا أعلم أحداً من المسلمين فيما خلا الكرامية (١) من ذهب إلى امكانية

____________________

(١) على ما نقله عنهم ابن حزم في الفصل بين الملل والنحل ٢٨٤ : ٢.

٣٧١

خطأ النبي في التبليغ ، إلاّ محمد حسين فضل الله ، وكذا ما ينقل عن الشيخ يوسف القرضاوي أحد علماء مصر المعاصرين ولا أعلم صحة هذه النسبة ، (١) وبغض النظر عن صحة هذه النسبة أو عدمها إلا إن قول فضل الله لا مجال لانكاره كما لا مجال لتأويله (٢) إذ يقول : من الممكن من الناحية التجريدية أن يخطىء النبي في تبليغ آية أو ينساها في وقت معين ليصحح ذلك ويصوبه بعد ذلك ، لتأخذ الآية صيغتها الكاملة الصحيحة.

ويستمر بالقول ليعلل ذلك : إن قضية الغرض الإلهي في وصول الوحي إلى الناس لا يستلزم إلاّ الوصول في نهاية المطاف من غير خطأ ، ولكن لا مانع من حدوث بعض الحالات التي يقع فيها الخطأ. (٣)

ورغم أنه نقض هذا الكلام جملة وتفصيلاً وبأسلوب لا يخلو من التهكم بقائله وذلك في جريدته «فكر وثقافة» (٤) إلا إن بقاء كلامه في تفسيره

____________________

(١) من ينقله وعهدته عليه ينسب هذا القول إليه في مقابلة له في قناة الجزيرة الفضائية.

(٢) حاول فضل الله في رده على أجوبة المرجع الديني الكبير الشيخ جواد التبريزي (مدّ ظله العالي) على أسئلتنا الموجهة لمساحته بتأريخ ١٨ / ربيع الآخر / ١٤١٧ هـ أن ينفي عن نفسه هذا القول ، مدعياً أنه كان في صدد مناقشة العلامة الطباطبائي (قدّس الله سرّه الشريف) ، وقد فاتته النباهة هنا ، فالإنسان إنما ينقض كلام غيره إما بمسلّمة عقلية أو نقلية ، أو بما يصلح للنقض ، أما أن ينقض بالكلام الخطير الواهن الدليل ، فأي نقض تسمّيه؟!

ولربما يدّعي البعض ان الحديث هنا هو عن الخطأ الإمكاني ، وقد فاتهم أن الخطأ الإمكاني يمكن أن يصلح مع أي صفة إلا مع صفة النبوة والإمامة ، فأن تقول بخطأ النبي أو الإمام فإنما تكون قد ناقضت ما بين المفردتين لتلازم الصفة مع العصمة ، فلا تغفل!!

(٣) من وحي القرآن : ١٥٣ : ٤ ـ ١٥٤.

(٤) العدد : ١٦٧.

أقول : هذا التناقض لا يمثل حالة استثنائية في كتبه ونشراته كما أشرنا من قبل ، فهو من قبيل حالة الكر والفر التي يحسن استخدامها!! ولكن إن أردت أن تفكّر في =

٣٧٢

يبرز إيمانه بهذا الكلام! وإلاّ لحذفه من التفسير أيضاً ، خاصة وأن لهذا الكلام جملة كبيرة من الشواهد في تخطئة الرسول والمعصوم بشكل عام في جملة من شؤون التبليغ ، فقوله بسهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصلاة (١) إنما هو سهو في مسألة تبليغية بحتة ، إذ لا شك في أن كيفية صلاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي حجة بين المسلمين وبين ربهم في شأن إقامتها ، وتخطئة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسألة «عبس وتولى» إنما هو تخطئة للرسول بأبي وأمي في مهمة تبليغية ، إذ من الواضح أن من كان يسعى إنما كان يسعى لأمر يتعلق بالشأن التبليغي المحض ، وهكذا هو الأمر الذي سنرى اعتباره إلقاء الشيطان في داخل الذات المقدّسة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ من الواضح ان تعبيرات ذاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخارجية هي تعبيرات التبليغ الرسالي ، خاصة وأننا عرفنا لا فرق بين الذات والرسالية في تقييمنا لشخصية المعصوم عليه‌السلام.

وعلى أي حال فإننا نعتبر هذا الكلام مخالفة صريحة لصريح القرآن الكريم فقوله تعالى : (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (٢) ما كان ليدع أي مجال أمام أي مسلم لتخطئة الرسول بأبي وأمي في أي شأن من شؤون التبليغ!!.

وقوله عزّ وجلّ : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ

____________________

= السبب الذي يجعل مثل هذا الكلام الخطير يبقى في دورة تفسيرية تستقر في رفوف المكتبات وتمتد مع الزمن ، في الوقت الذي يطيع نفيها في جريدة سرعان ما تجد نفسها ممزقة بين الممزقات ـ وكم له من مثيل في العديد من أقواله ـ فإنك لن تجد حلًّا لهذا اللغز! بأجدى من المثل العربي المتعلق بالإساءة في العلن والاعتذار في السر!!

(١) في رحاب أهل البيت : ٤٠٤.

(٢) النجم : ٣ ـ ٤.

٣٧٣

لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) (١) ما كان ليسمح لأي أحد بالتشكيك في قدرات الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أداء مهماته الرسالية على أكمل وجه وأتمّ صورة!!

ولو أردنا أن نتفحّص الأمر ضمن المعايير القرآنية الأخرى فما من ريب في أن صورة هذا القول ستزداد بؤساً على ما فيها من فادح القول ، فلقد عرفنا أن الخطأ إنما هو نتيجة من نتائج الجهل والغفلة ، وهما من صنائع الشيطان كما عرفنا من قبل ، فإن قال بإمكانية تدخل الشيطان في ذات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما سنسمعه من بعد ـ وهذا التدخل هو الذي أدى لوقوع الخطأ من الرسول بأبي وأمي فقد جاء فرياً من القول تكاد السموات أن تقع بسببه على الأرض وتنهدّ الجبال منه هدّاً ، كيف؟ وقد وسم الله كيد الشيطان بالضعف كما في قوله تعالى : (فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) (٢) ، وهذا الجهد والكيد الشيطاني تعهّد الله بأن لا ينال من صالحي عباده ، فكيف بأفضل مخلوقاته؟ وذلك لقوله جلّ من قائل : (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (٣)!!

وإن قال بأن الخطأ ينشأ من غير تعمّد منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل نتيجة لغفلة ونسيان وسهو كما حصل لآدم عليه‌السلام! فلنا ان نلاحظ على ذلك ما لاحظناه سابقاً ، فالنبي آدم عليه‌السلام لم يطرأ منه نسيان الغفلة ، وإنما نسيانه هو الترك وما بين الاثنين فرق شاسع ، والغفلة التي تعتبر من النتاج الشيطاني لقوله تعالى : (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) (٤) لا يمكن أن تطرأ على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغير ذلك مما مرّ بنا من أقوال ، على إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يقول بأن عينيه

____________________

(١) الحاقة : ٤٠ ـ ٤٧.

(٢) النساء : ٧٦.

(٣) الحجر : ٤٢.

(٤) الكهف : ٦٣.

٣٧٤

تنامان ولا ينام قلبه ، من أين ستعرض عليه الغفلة يا ترى؟ في الوقت الذي رأينا فيه النص التبليغي محاط بحراسة شديدة كما تبين لنا من آيات سورة الحاقة التي مرت منذ قليل.

إن ظاهر قول فضل الله يشير إلى أن الخطأ يمكن أن يأخذ سياق القول والفعل في شخصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الآخر يمثل مخالفة صريحة للقرآن من جهة أخرى ، فلقد قرر القرآن أن أقوال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يطرأ عليها الشيطان ، ولا يمكن أن تكون بايحاءاته ونزغاته كما في قوله تعالى : (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) (١) ، أما الفعل فلما عرفت بأن كيده لا يمكن أن ينال من مؤمن نال بعضاً من الدين ، فكيف بالرسول الأقدس؟ وكذلك لطبيعة الأمر القرآني الجازم في شأن التأسي والاقتداء بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا كان الله تعالى يقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (٢) فإذا كانت طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تمثل مقياساً لقبول الأعمال وبطلانها ، فكيف يمكننا تصور خطأ الرسول بأبي وأمي في عمله؟!

وهل يعْقِل هذا المتكلم عماذا يتكلم حين يرى أن الله يأمر بطاعة من يخطىء؟! فالله سبحانه وتعالى حينما أمرنا بطاعة الرسول فقد أمرنا بذلك على أي حال ، ولم يكتف بهذا فحسب ، وإنما شدد على ضرورة التأسّي بالرسول حين قال : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (٣) واعتبر ان حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، حين دعانا لطاعته في المسائل التشريعية بقوله تعالى : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (٤) ،

____________________

(١) التكوير : ٢٤.

(٢) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ٣٧.

(٣) الأحزاب : ٢١.

(٤) الحشر : ٧.

٣٧٥

وقرن طاعة الرسول بطاعته سبحانه وتعالى فقال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) (١) وحينما يكون الأمر بهذا الشكل من الجزم والحسم ، كيف يمكن أن يعقل أن الله يأمرنا بطاعة من يمكن أن يخطىء؟ فلو كان الامر كذلك لتناقض الأمر الإلهي ، فهو حين أمرنا بطاعة الرسول على كل حال ، فقد أمرنا بطاعته في الخطأ والصواب ، ولو فعلنا ذلك فقد أطعنا الله حين فعلنا مثل فعل الرسول في خطئه وصوابه ، وهذا ما لايمكن لعاقل أن يؤمن به ، فهو خلاف الحكمة والعدل الإلهي ، فلا تغفل!!

ولا ينفعه القول بأنه يصوّب ذلك في ما بعد ويصححه ، فالأول وهو امكانية خطأ الرسول لا دليل عليه ، وقوله بوجود هذه الامكانية تخرص منه ليس إلاّ ، وقد عرفت مخالفته لجملة من الآيات القرآنية الصريحة ، وأما الثاني فهو يستلزم الدور من جهة ، فالقول بأنه اخطأ ثم أصلح هذا الخطأ ، يحتاج إلى دليل ، ولا دليل للرسول في حال انتفاء النص القرآني إلا الرسول ، وهل يصدق المخطىء إن قال بأنه في هذا العمل لم يخطىء ، فمثلما أخطأ في سابقه ما الذي يمنع من الخطأ في اللاحق ، وهكذا سنبقى في حلقة مفرغة.

هذا ناهيك عن دلالات ذلك في قلوب الأتباع والأعداء ، فالأتباع سيرون في شخصية الرسول الكثير من الاهتزاز الذي يجعل النفس ذات صدود لطبيعة نفرتها من المخطىء ، وهو ما يتنافى مع الأوامر القرآنية الصارمة بالاتباع كقوله تعالى : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً) (٢) ، هذا فضلاً عن حيرتهم في تمييز خطئه من صوابه!!

أما الأعداء فأمرهم أخطر ، فقد يغض المتبع الطرف عن خطأ رسوله!!

____________________

(١) النساء : ٨٠.

(٢) الأحزاب : ٣٦.

٣٧٦

ولكن العدو الذي يحتاج في معركته ضد الرسول أي سلاح كي يستغله ، كيف يمكن له أن يتعامل مع عدوه حين يراه أخطأ؟! فلقد رموه بالكثير من الأمور التي يبرأ الله منها حين وصموه بأنه شاعر واتهموه بالجنون والكذب وما إلىذلك رغم كذبها ، فما بالك لو وجدوا عليه عثرة ما؟!

وقد أحسن من قال : ومن حسن البيان القرآني انه رغم استعراضه لجميع الاتهامات التي تعرض بها هؤلاء للرسول ، إلاّ إن التهمة الوحيدة التي لم تطرأ على ألسنتهم هي هذه التهمة (١) ، لأنهم يرون أن الواقع سوف يكذّبهم بسرعة متناهية لوضوح العصمة في شخصيته (صلوات الله عليه). (٢)

* * *

المعصوم عليه‌السلام والشيطان!!

ومن جملة أفكار هذا الرجل حديثه المؤلم في تفسير الآية القرآنية : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٣) فقد رأى أثناء نقاشه لتفسير العلامة الطباطبائي قدس‌سره للآية الكريمة أن العلامة قد أخطأ التفسير حين أوعز تلاعب الشيطان وإلقاءاته في أمنيات المعصوم إلى الجانب الخارجي من أمنيته (٤) فقال : نلاحظ على التفسير أنه حاول أن ينظر إلى مسألة إلقاء الشيطان في الأمنية النبوية من خلال النظرة إلى الواقع الخارجي لحركة الأمنية في ساحة الصراع ، ولم يحاول أن ينظر إليها من الداخل في ما تختزن كلمة : (أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) من معنى ادخال الشيء فيها بحيث

____________________

(١) أي تهمة فضل الله للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخطأ أثناء التبليغ.

(٢) دين بلا إسلام ١٥ : ١ ؛ لمسلم غيور ؛ دار الهدى ـ بيروت ١٩٩٩ ط ١.

(٣) الحج : ٥٢.

(٤) هذا التفسير هو تفسير أهل البيت (صلوات الله عليهم).

٣٧٧

تكون ظرفاً له وموقعاً من مواقعه لا حركة خارجية من الآخرين في مواجهتها.

ثم قال مفسّراً : إن هذه الآيات توحي بأن شيئاً ما يخطر بالبال ، ولكنه لا يثبت في النفس! بل يطفو على سطح بعض الممارسات ، ثم ينتهي بشكل حاسم!.

وأردف يقول : إن تفسيرنا لآية الإلقاء يؤكد على إن الشيء الآتي من الشيطان يدخل في عمق الامنية داخل الذات!!

ثم خلص إلى القول : الله ينسخ ما يلقي الشيطان ويزيله من فكر النبي أو الرسول وقلبه حتى لا يبقي منه أي أثر سلبي على حركة الرسالة فكرة وأسلوبا .. فيمنع أي تحريف للكلمة وأية زيادة فيها!! (١)

وما يلاحظ في هذا التجنّي الفادح على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جملة من الامور أذكر منها ما يلي :

أ ـ إن ما ذكره ليس له أي دليل يدلّ عليه ، اللهمّ إلاّ أحد وجهي ظاهر السياق ، وقد رجّح ما لا يمكن ترجيحه وفقاً لمجموع القرائن الحافّة به ، فالآية تتحدّث عن إلقاء الشيطان في أمنية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنها لم تحدد أي شقّي الأمنية الي يلقي الشيطان فيها ، فلكل أمنية ـ كما تقدّم ـ شقّان ، أولهما يتعلق بجانبها الخارجي أي ما يتمنى المتمني حصوله في الواقع الخارجي ، والثاني يتعلق بالجانب الذاتي الذي تنتجه طبيعة البواعث التي تتفاعل في داخل الذات لتحدد طبيعة الأمنية واتجاهاتها ، ومن الواضح أن السياق لا يحدد أي شقّ أراد في ذلك ، مما يعني أنه رجّح أحدهما دون الآخر دون النظر إلى تساوي النظرة الظاهرية لسياق الآية.

ب ـ ولو لاحقنا القرائن المحفوفة بهما ، لوجدنا أن القرائن قد تحدّث

____________________

(١) من وحي القرآن ١٠٠ : ١٦ ـ ١٠٣.

٣٧٨

عن طهارة المتمني الشاملة كما في آية التطهير ، وأمانته المطلقة في حمل أعباء الرسالة ، وعلمه المطلق كما في آية الراسخين في العلم ، وعن قربه المتميّز من ربّه إلى غير ذلك من صفات وميزات جعلت إمكان اختلال أمانيه بعيداً عن الأهداف الرسالية ومبتغيات هذه الرسالة يعد ضرباً من الخيال الماجن! في الوقت الذي تحدّثت بلهجة مضادة عن جهد الملقي في الأمنية وهو الشيطان ووسمته بسمات العجز ، فكيده ضعيف ، وجهده مهما بلغ فإنه لن يصل لعباد الله المخلصين ، فأي القرينتين نأخذ سواء كانت تلك المتعلقة بالمتمني وهو الرسول ، أو في الملقي وهو الشيطان نجد أن الترجيح القرآني البديهي يقف في خلاف ما ذهب إليه فضل الله ، ولو أخذنا الجانب الخارجي للأمنية لوجدنا مجال الإلقاء الشيطاني واسعاً دون أن يتعرض مقام الرسول لأي أذىً أو مساس ، فلو تمنى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي أمنية تتعلق بأي شخصية ، كأن يتمنى هداية زيد من الناس ، وراح الشيطان يكثف جهده من أجل الحيلولة دون تحقق أمنية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه ، بجهد دؤوب لمنع عملية اهتداء هذه الشخصية ، فسيبقى كل شيء في مقامه على حاله ، فقد تتحقق أمنية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين تتغلب عقلانية زيد هذا على اغواءات الشيطان ، وقد لا تتحقق هذه الأمنية حين تتخلف قوة هذه العقلانية عن قوة تلك الاغواءات.

ج ـ ولو أردنا أن ندخل في التفصيل الروائي لعملية الإلقاء هذه ، لوجدنا أن ثمة فريقين أولهما يتحدّث بنفس حديث فضل الله هذا ويرى أن الشيطان قد أثّر في داخل الذات الرسولية ، وهذا الاتجاه هو الاتجاه الغالب على تفاسير القوم ، فلقد أفرد السيوطي في تفسيره الروائي مساحة واسعة لأكثر من سبعة عشر حديثاً واصفاً بعضها بالصحة ، وهو يتحدّث عن الرسول الذي تتلاعب في أمنيته إلقاءات الشيطان واغواءاته ، وفي أغلب هذه الروايات تجد حديثه ينصبّ على ما يعرف بحديث الغرانيق ، والحديث الذي يعدّ من فضائح مرويات القوم ملخصه ما أخرجه عن البزار والطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة بسند رجاله ثقات من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن

٣٧٩

عباس قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : (أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى!! ففرح المشركون بذلك ، وقالوا : قد ذكر آلهتنا ، فجاء جبرئيل فقال : اقرأ عليّ ما جئتك به فقرأ : (أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى!! فقال : ما أتيتك بهذا ، هذا من الشيطان فأنزل الله : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ) الآية. (١)

فهل يريد فضل الله هذا التفسير ولا تفسيره غيره في المرويات الحديثية وفق تفسيره بدخول القاء الشيطان في أعماق الداخل؟!

في الوقت الذي ابتعد فيه حديث أهل البيت عليهم‌السلام عن مثل هذا السخف في نسبة الالقاءات الشيطانية على داخل الذات بحيث ترى الشيطان هو من يقود الرسول بأبي وأمي! ويقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في جوابه لبعض المشككين في مثل هذه الآيات ودلالاتها وهو يبرز أحد أوجه التفسير لهذه الآية الشريفة : انه ما من نبي تمنى مفارقة ما يعانية من نفاق قومه وعقوقهم والانتقال عنهم إلى دار الاقامة ، إلاّ ألقى الشيطان المعرض لعداوته عند فقده في الكتاب الذي أنزل عليه ذمه والقدح فيه والطعن عليه ، فينسخ الله ذلك من قلوب المؤمنين فلا تقبله ، ولا تصغي إليه غير قلوب المنافقين والجاهلين ، ويحكم الله آياته بأن يحمي أولياءه من الضلال والعدوان ، ومشايعة أهل الكفر والطغيان الذين لم يرض الله أن يجعلهم كالأنعام حتى قال : (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً). (٢)

وفي هذا الحديث بليغ عظة وعبرة لمن مال بهواه ليفسّر القرآن بما

____________________

(١) الدر المنثور ٣٦٦ : ٤ ، وكان الضياء المقدسي قد ذكرها في الأحاديث المختارة ٨٩ : ١٠ و ٢٣٤ ـ ٢٣٥ ، والطبراني في المعجم الكبير ٣٥ : ٩ ، ٥٣ : ١٢ ، وذكرها كثير غيرهم.

(٢) الاحتجاج : ٢٥٧ والآية في سورة الفرقان : ٤٤.

٣٨٠