مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٠

ذلك إلا بما علمني مولاي العبد الصالح عليه‌السلام.

(باب الدعاء للرزق)

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن خالد والحسين بن سعيد جميعا ، عن القاسم بن عروة ، عن أبي جميلة ، عن معاوية بن عمار قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام أن يعلمني دعاء للرزق فعلمني دعاء ما رأيت أجلب منه للرزق

______________________________________________________

عدم تأثره وتألمه بفوته إذ حصول المال الذي يكون يسبب مصيبة شديدة وأحزان كثيرة لا تعد نعمة جديدة.

باب الدعاء للرزق

الحديث الأول : ضعيف.

« ما رأيت أجلب للرزق منه » أي أنفع في تحصيله وتوسعته ، وأصل الجلب السياق ، يقال : جلبه يجلبه جلبا واجتلبه ساقه من موضع إلى آخر فجلب وانجلب وجلب لأهله كسب وطلب واحتال كأجلب وعلى الفرس زجره كذا ذكره ـ الفيروزآبادي وكأنه استعمل هنا على الاستعارة ، وقال الراغب : كل عطية لا تلزم من يعطي يقال له فضل نحو قوله ( وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ ) (١) وقوله ( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) (٢) وقوله ( أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ) (٣) وقال : أصل الطيب ما تستلذه الحواس وما تستلذه النفس والطعام الطيب في الشرع ما كان متناولا من حيث يجوز وبقدر ما يجوز ومن المكان الذي يجوز فإنه متى كان كذلك كان طيبا عاجلا وآجلا لا يستوخم وإلا فإنه وإن كان طيبا عاجلا لم يطب أجلا وعلى ذلك قوله تعالى ( كُلُوا مِنْ

__________________

(١) النساء : ٣٢.

(٢) الجمعة : ٤.

(٣) الحديد : ٢٩.

٣٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ) (١) ـ ( كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً ) (٢) ـ ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) (٣) وقال ( كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً ) (٤) وهذا هو المراد بقوله ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) (٥) وقوله ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) (٦) قيل عنى بها الذبائح ، وقوله : وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ، إشارة إلى الغنيمة انتهى.

فالمراد هنا بالواسع الكثير الشامل للبر والفاجر والحلال ضد الحرام وهو شامل للحلال في ظاهر الشريعة والحلال في نفس الأمر وهو قوت المصطفين كما سيأتي ، والمراد بالطيب إما الحلال فيكون تأكيدا وما تستلذه النفس فيكون تأسيسا وقيل : المراد به الطاهر ، وقيل : الحلال الواقعي.

وأقول : يحتمل أن يراد به غير الحرام والشبهة وإن لم يكن حلالا واقعيا وقد يقال : لا معنى للحلال الواقعي ، فإن كلما جوز الشارع التصرف فيه فهو حلال وكذا الطاهر الواقعي لا معنى له ، فكلما لم تثبت نجاسته شرعا فهو طاهر ، ولا يخلو من قوة ، وإن عارضه بعض الأخبار ، نعم ارتكاب الشبهات مكروه لكن معنى الشبهة مشتبه يشكل الحقيقة ، ويمكن أن يراد به ما لم يظهر للفقيه الحكم فيه ، فهو على أصل الحل حلال واجتنابه مطلوب ، وبعض المحدثين يذهبون إلى حرمته بل حرمة كلما لم يرد فيه بخصوصه أو بنوعه أنه حلال كشرب التتن ، وهذا القول ضعيف ، وأصل الحل قوي ، وليس هنا مقام تحقيق هذا القول ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله في محله ، وقد مر بعض القول فيه ويحتمل أن يكون المراد بالشبهة

__________________

(١) طه : ٨١.

(٢) المائدة : ٨٨.

(٣) المائدة : ٨٧.

(٤) المؤمنون : ٥١.

(٥) الأعراف : ٣٢.

(٦) المائدة : ٥.

٣٨٢

قال قل اللهم ارزقني من فضلك الواسع الحلال الطيب رزقا واسعا حلالا

______________________________________________________

ما قوي فيه احتمال التحريم فيه واقعا وإن حكم بحله ظاهرا ، كأموال بعض الظلمة الذين أكثر وجوه مداخلهم حرام ولم يعلم بخصوصه أنه حرام وقد ورد فيه لنا المهنأ وعليه الوزر.

وقوله « رزقا » قيل مفعول به أو مفعول مطلق ، والرزق ما ينتفع به بالتغذي وغيره حلالا كان أم حراما وتقييده بالحلال مؤيد له ، ومن خص الرزق بالحلال يقول إنه صفة موضحة مؤكدة جمعا بينه وبين ما روي عن الباقر عليه‌السلام أنه قال إن الله يسم الأرزاق بين خلقه حلالا ولم يقسمها حراما ومن اتقى وصبر أتاه رزقه من حله ومن هتك حجاب ستر الله عز وجل وأخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال وحوسب عليه يوم القيامة « بلاغا » أي كافيا « للدنيا والآخرة » أي لأمور دنياي ومعيشتها وأتسبب به لتحصيل أجر الآخرة بالحج وصلة الأرحام والصدقات والمبرات « صبا صبا » أي كثيرا كثيرا مصدر بمعنى الفاعل أو المفعول من قولهم صبه أراقه فصب وأنصب والتكرير للتأكيد أو للإشعار بتجدده يوما فيوما فإنه ألذ وأنفع « هنيئا مريئا » الهنيء السائغ الذي لا يقف في الحلق والمري أن لا يعقبه بعد الأكل تعبا ومرضا والمراد هنا حصوله بلا تعب وصرفه بلا مشقة ولا يتعقبه ضرر جسماني ولا روحاني في الدنيا ولا في الآخرة.

قال الفيروزآبادي : الهنيء والمهنأ ما أتاك بلا مشقة وقد هنئ وهنؤ هناءة وهنأني ولي الطعام يهنأ ويهنئ ويهنؤ هِنئا وهنئا وهنأتنيه العافية وهو هنيء سائغ وقال مرأى الطعام مثلثة الراء مراءة فهو مريء هنيء حميد المغبة بين المرأة لتمره وهنأني ومرأني فإن أفرد فأمرأني وكلاء مريء غير وخيم. وفي النهاية يقال : هنأني الطعام يهنئني ويهنؤني وهنئت الطعام أي تهنأت به وكل أمر يأتيك من غير تعب فهو هنيء هذا هو الأصل بالهمز وقد يخفف ، وقال يقال : مرأني الطعام وأمرأني إذا لم يثقل على المعدة وانحدر عنها طيبا. قال الفراء : يقال هنأني الطعام

٣٨٣

طيبا بلاغا للدنيا والآخرة صبا صبا هنيئا مريئا من غير كد ولا من من أحد خلقك إلا سعة من فضلك الواسع فإنك قلت « وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ » فمن فضلك أسأل ومن عطيتك أسأل ومن يدك الملأى « أسأل ».

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن فضال ، عن يونس ، عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام لقد استبطأت الرزق فغضب ثم قال لي قل اللهم

______________________________________________________

ومرأني بغير ألف فإذا أفردوها عن هنأني قالوا أمراني ، ومنه حديث الشرب ، فإنه أهنأ وأمرأ « من غير كد » أي تعب ومشقة في تحصيله ، وهو وصف لرزقا كالسوابق أو حال عنه ، وفي القاموس الكد الشدة والإلحاح في الطلب.

« ولا من من أحد من خلقك » بأن لا يكون منهم ولا من إمدادهم وإعانتهم مطلقا أو مع منتهم على ، ولو كان بناء على أن للرزق أسبابا فليكن بلا منة فإن عدمه خير من وجوده معها والأول أنسب بقوله إلا سعة من فضلك الواسع والاستثناء منقطع من ـ من من أحد ـ « والملأى » بوزن فعلى مؤنث ملآن أي مزيد قدرتك المملوء من نعم الدنيا والآخرة أسأل إشارة إلى قوله سبحانه ( لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) قال الجوهري : دلو ملأى على وزن فعلى وكوز ملآن ماء ، وقيل : الملأ بالفتح الغناء ومنه المليء وهو الغني ، وفعله كمنع وكرم ، وأما المليء بالكسر فهو اسم ما يأخذه الإناء إذا امتلأ ، ويمكن إرادته هنا على سبيل التشبيه للإشعار بأن المطلوب ما يملأ ظرف الطمع والرجاء انتهى ، ولا يخفى ما فيه.

الحديث الثاني : موثق كالصحيح.

« لقد استبطأت الرزق » أي عددت رزقي بطيئا وتأخر عني ، في القاموس بطؤ ككرم وأبطأ ضد أسرع وبطؤ عليه بالأمر تبطيئا وأبطأ به آخره انتهى ، ولما كان هكذا الكلام مشعرا بسوء الظن بالله سبحانه وعدم الرضا بقضائه غضب عليه‌السلام ثم علمه دعاء لإسراع الرزق بل دواء لمرضه النفساني إذا تأمل وتدبر في معانيه « إنك تكفلت برزقي ورزق كل دابة » أي ضمنته حيث قلت ( نحن نرزقكم ) وقلت ( وما من

٣٨٤

إنك تكفلت برزقي ورزق كل دابة يا خير مدعو ويا خير من أعطى ويا خير من سئل ويا أفضل مرتجى افعل بي كذا وكذا.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن إسماعيل بن عبد الخالق قال أبطأ رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه ثم أتاه فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أبطأ بك عنا فقال السقم والفقر فقال له أفلا أعلمك دعاء يذهب الله عنك

______________________________________________________

دابة إلا على الله رزقها ) (١) وقلت ( وفي السماء رزقكم وما توعدون ) (٢) ثم قلت ( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ) (٣) ومثله كثير « يا خير مدعو » إلى آخره قيل تفضيله تعالى على الغير في هذه الأفعال بالنظر إلى عادة الناس وضعف عقولهم حيث يثبتون أصل تلك الأفعال في الجملة لغيره أيضا فحثهم على الرجوع إليه بأنه أكمل فيها من غيره ، وإلا فلا نسبة بين الخالق والمخلوق ولا بين فعله وفعلهم حتى يجري فيه معنى التفضيل ، والرجاء والارتجاء ضد اليأس ، وقوله « افعل بي كذا وكذا » فيه إشعار بأن هذا الدعاء لا يختص بتعجيل الرزق بل هو لكل حاجة وإن كان بالرزق أنسب.

الحديث الثالث : حسن كالصحيح.

وتعدية الإبطاء بعن لتضمين معنى التخلف والباء في بك للتعدية وتقديره يذهب الله به عنك لم يتخذ ولدا رد على اليهود والنصارى والمشركين فيما قالوا في عزيز والمسيح والملائكة وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ، قال البيضاوي : في الألوهية وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ أي ولي يواليه من أجل مذلة به ليدفعها عنه بموالاته تفي عنه أن يكون له ما يشاركه من جنسه ومن غير جنسه اختيارا أو اضطرارا وما يعاونه ويقويه ورتب الحمد عليه للدلالة على أنه الذي يستحق جنس الحمد لأنه كامل الذات المتفرد بالإيجاد المنعم على الإطلاق وما عداه ناقص مملوك نعمة

__________________

(١) هود : ٦.

(٢) الذاريات : ٢٢.

(٣) الذاريات : ٢٣.

٣٨٥

بالسقم والفقر قال بلى يا رسول الله فقال قل لا حول ولا قوة إلا بالله [ العلي العظيم ] توكلت عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ [ صاحبة ولا ] وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً » قال فما لبث أن عاد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا رسول الله قد أذهب الله عني السقم والفقر.

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن زيد الشحام ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال ادع في طلب الرزق في المكتوبة وأنت ساجد

______________________________________________________

أو منعم عليه ، وقوله « وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً » في الآية عطف على قل وتوجيهه هنا مشكل ويمكن توجيهه بوجوه.

الأول : ما قيل إنه هنا أيضا عطف على قل وليس من الدعاء ، ويكون المراد تعظيمه وذكره ، بل يدل على كبريائه إما بتكرير ما مر كما سيأتي في الباب الآتي أو بتلاوة سائر الدعوات المتضمنة لتعظيمه وكبريائه مما مر وغيره.

الثاني : أن يكون خطابا عاما مشعرا باستحقاقه لذلك من كل أحد فيكون جزء للدعاء.

الثالث : أن يكون صفة بتأويل مقول في حقه.

الرابع : ما يروي عن بعض الأفاضل أنه كان يقرأه على صيغة الماضي أي كبره.

كل شيء تكبيرا ، ولا يبعد أن يكون في الأصل أكبره على صيغة المتكلم فصحف ظنا منهم أنه موافق للآية ، « فما لبث أن عاد » إن مصدرية وهو فاعل لبث ، أو فاعله الضمير المستتر فيه العائد إلى الرجل والتقدير في أن عاد ، كذا قيل.

الحديث الرابع : كالسابق.

وقيل : في هذا الدعاء اهتمام عظيم حيث خص بالصلاة المكتوبة لأنها أحق بالإجابة وبحال السجود لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وقوله « من فضلك » أي من مجرد فضلك من غير ملاحظة استحقاق فإني لست بأهل

٣٨٦

يا خير المسئولين ويا خير المعطين ارزقني وارزق عيالي من فضلك الواسع فإنك ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ».

٥ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن محمد بن خالد ، عن القاسم بن عروة ، عن أبي جميلة ، عن أبي بصير قال شكوت إلى أبي عبد الله عليه‌السلام الحاجة وسألته أن يعلمني دعاء في طلب الرزق فعلمني دعاء ما احتجت منذ دعوت به قال قل في دبر صلاة الليل وأنت ساجد يا خير مدعو ويا خير مسئول ـ ويا أوسع من أعطى ويا خير مرتجى ارزقني وأوسع علي من رزقك وسبب لي رزقا من قبلك إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

______________________________________________________

له وإلا فالرزق كله من الله تعالى وأكد ذلك بقوله « فإنك ذو الفضل العظيم » أي لا لأني أستحق ذلك ، وأقول : يحتمل على بعد أن يكون المراد بالمكتوبة تعقيب المكتوبة فالمراد سجدة الشكر.

الحديث الخامس : ضعيف.

« قل في صلاة الليل وأنت ساجد » اعلم أن في مصطلح الأخبار تطلق صلاة الليل غالبا على الثمان ركعات ، وقد تطلق على الإحدى عشرة بإضافة الشفع والوتر إليها ، وعلى الثلاث عشرة بإضافة ركعتي الفجر ، وكان الأول هنا أظهر والمراد إما قراءته في كل سجدة منها أو في إحداها لا على التعيين والأخير أظهر ، لكن لا ينافي التكرار وكان قراءته في السجدة الأخيرة من الركعتين الأوليين أنسب فإنها محل استجابة الدعوات لدفع الأمراض والكربات كما مر في باب شدة ابتلاء المؤمن ، أن يونس بن عمار شكا إلى الصادق عليه‌السلام ما ظهر بوجهه فقال عليه‌السلام إذا كان الثلث الأخير من الليل في أوله فتوضأ وقم إلى صلاتك التي تصليها فإذا كنت في السجدة الأخيرة من الركعتين الأوليين فقل وأنت ساجد يا علي يا عظيم إلى آخر الخبر ، وسيأتي مثله في باب الدعاء للعلل والأمراض ، وقد ورد الدعاء على العدو أيضا في تلك السجدة « وسبب لي رزقا من قبلك » أي هيئ

٣٨٧

٦ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن أحمد بن محمد بن أبي داود ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا رسول الله إني ذو عيال وعلي دين وقد اشتدت حالي فعلمني دعاء أدعو الله عز وجل به ليرزقني ما أقضي به ديني وأستعين به على عيالي فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا عبد الله توضأ وأسبغ وضوءك ثم صل ركعتين تتم الركوع والسجود ثم قل يا ماجد يا واحد يا كريم يا دائم أتوجه إليك بمحمد نبيك نبي الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يا محمد يا رسول الله إني

______________________________________________________

لي أسباب رزقك من غير توسلي إلى المخلوقين أو من الرزق الحلال فإنه من قبل الله.

الحديث السادس : مجهول ، وفي أكثر النسخ محمد بن أحمد بن أبي داود ، وفي بعضها أحمد بن محمد وكلاهما مجهولان.

« توضأ » بالهمز وفي بعض النسخ توض بالقلب والحذف على خلاف القياس أو هو لغة أيضا « وأسبغ وضوءك » الإسباغ الإكمال باشتماله على الواجبات والمستحبات ، وفي القاموس الوضاءة الحسن والنظافة وتوضأت للصلاة وتوضيت لغية أو لثغة والوضوء الفعل وبالفتح ماؤه ومصدر أيضا أو لغتان قد يعني بهما المصدر وقد يعني بهما الماء « وتمم الركوع والسجود » وفي بعض تتم بدون الواو فيكون حالا عن المستتر في صل ، والمراد اشتمالهما على الواجبات أو المندوبات أيضا وهو أظهر.

ثم قل أي بعد الفراغ من الصلاة « يا ماجد هو الواسع الكرم الذي وسع غناؤه مفاقر عباده ووسع رزقه جميع خلقه » يقال : رجل ماجد إذا كان كريما سخيا واسع العطاء ، وقيل : هو الكريم العزيز ، وقيل : هو المفضال الكثير الخير ، وقيل : هو شريف ذاته وحسن فعاله ، والكل متقارب « يا واحد » هو الواحد بالوحدة الحقيقة المنافية للشركة في الذات والصفات والتكثر والتعدد والتركيب الخارجي والذهني ، وقد يقرأ بالجيم هو الغني الذي لا يفتقر وقد وجد يجد جده أي استغنى غنى لا فقر بعده وهو هنا مخالف للمضبوط في النسخ « يا كريم » هو

٣٨٨

أتوجه بك إلى الله ربك وربي ورب كل شيء أن تصلي على محمد وأهل بيته وأسألك

______________________________________________________

الكريم المطلق الجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل والجود والعطاء الذي لا ينفد ، وقد مر تفسير تلك الأسماء مرارا لكنه المسك كلما كررته يتوضع « نبي الرحمة » عطف بيان لقوله « نبيك » أي النبي الذي كان رحمة خالصة وبعث لمحض الرحمة ، ولم يطلب عذابا للأمة كسائر الأنبياء عليه وآله وعليهم‌السلام « يا محمد ـ إلى قوله ـ كل شيء » جملة معترضة بين أجزاء الدعاء استمدادا للقبول وطلبا للشفاعة وقوله أن تصلي من تتمة أجزاء الدعاء ومجرور محلا بدل اشتماله لمحمد ، ويمكن أن يكون بتقدير في أن تصلي فالظرف متعلق بأتوجه.

والحاصل أنه توجه إلى الله تعالى أولا وجعله وسيلة بينه وبينه وشفيعا في إنجاز طلبته ونيل سؤله وقضاء حاجته ثم صرف الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستشفعه ليقبل استشفاعه ويصير شفيعا له ، ففيه من آداب حسن الدعاء ما لا يخفى ، لأن من جعل أحدا من المقربين شفيعا إلى ملك لا بد له من الرجوع إليه وطلب قبول الشفاعة منه ، ثم بعد الرجوع إلى خطاب الرب سبحانه والشروع في عرض المطلب الابتداء بطلب الصلاة على من جعله شفيعا مع غنائه مشتمل على أنواع الأدب وحسن الطلب من جهات شتى أومأنا إلى بعضها في باب الصلاة عليهم صلى الله عليهم ووفينا حقها في الفرائد الطريفة في شرح الصحيفة الشريفة بحسب ما تصل إليه عقولنا السخيفة ، وفي أكثر النسخ أن تصلي بصيغة الخطاب كما ذكرنا وفي بعضها أن يصلي بصيغة الغيبة فهو حينئذ متعلق بقوله إني أتوجه بك ففي قوله على محمد وأهل بيته عدول عن الخطاب إلى الغيبة لنكت كثيرة ، منها التبرك أو الاستلذاذ أو الاهتمام بذكرهم صلوات الله عليهم « وأسألك » عطف على قوله « أتوجه إليك » والتوسل بهم معتبر هنا أيضا والنفحة هنا استعيرت لتوجه الرحمة وسطوع آثارها « والكريمة » مبالغة في شرفها وعظمتها وخلوصها عن النقص وحسن عاقبتها وعدم اشتمالها على الاستدراج ، في القاموس : نفح الطيب كمنع فاح والريح

٣٨٩

نفحة كريمة من نفحاتك وفتحا يسيرا ورزقا واسعا ألم به شعثي وأقضي به ديني وأستعين به على عيالي ».

٧ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن أبي عمير ، عن أبان ، عن أبي سعيد المكاري وغيره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الدعاء يا رازق المقلين يا راحم المساكين يا ولي المؤمنين يا ذا القوة المتين صل على محمد وأهل

______________________________________________________

هبت وفي النهاية نفح الريح هبوبها ونفح الطيب إذا فاح ، ومنه الحديث أن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها ، وفي حديث آخر تعرضوا لنفحات رحمة الله « وفتحا يسيرا » أي لأبواب الرزق وغيرها « ورزقا واسعا » أي يغنيني عن الخلق ويقوم بحوائجي كلها كما وصفه للكشف « ألم به شعثي » اللم الجمع ، والشعث بالتحريك انتشار الأمر ، وإسناد اللم إلى الشعث من قبيل المجاز في الإسناد ، أو إطلاق المصدر على المتشعث للمبالغة ، وقد يقرأ بكسر العين ليكون صفة مشبهة وهو خلاف المضبوط في النسخ ، قال في النهاية : اللم الجمع يقال : لممت الشيء ألمه لما إذا جمعته والشعث انتشار الأمر ومنه قولهم لم الله شعثه ، ومنه حديث الدعاء أسألك رحمة تلم بها شعثي أي تجمع بها ما تفرق من أمري.

الحديث السابع : صحيح لصحته عن ابن أبي عمير.

« يا رازق المقلين » في الصحاح : أقل افتقر ، وفي القاموس : رجل مقل وأقل فقير ، وفيه بقية يا راحم المساكين ورحمته وإن كانت عامة لكن تعلقها بالمساكين أكثر وأظهر « يا ولي المؤمنين » الولي : الناصر ، والمحب ، والمتولي لأمور غيره ، وهو سبحانه وإن كان متوليا لأمور الخلائق كلهم ، إلا أن توليته لأمور المؤمنين أكمل ، أو التخصيص لأنهم يؤمنون بأنه أولى بهم من أنفسهم ، وأنه المتولي لأمورهم كما قال : ( إنما وليكم الله ورسوله ) (١) الآية ، وقال : ( ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) (٢) وقد خصص الله

__________________

(١) المائدة : ٥٥.

(٢) المائدة : ٥٦.

٣٩٠

بيته وارزقني وعافني واكفني ما أهمني.

٨ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن معمر بن خلاد ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال سمعته يقول نظر أبو جعفر عليه‌السلام إلى رجل وهو يقول ـ اللهم إني أسألك من رزقك الحلال فقال أبو جعفر عليه‌السلام سألت قوت النبيين قل اللهم إني أسألك رزقا

______________________________________________________

الولاية بالمؤمنين في آيات كثيرة كما قال سبحانه : ( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ) (١) وقال ( إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) (٢) وقال ( وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) (٣) وقال ( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ) (٤) ومثله في الآيات كثيرة.

« ويا ذا القوة المتين » إشارة إلى قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) قال البيضاوي : أي الذي يرزق كلما يفتقر إلى الرزق ، وفيه إيماء باستغنائه عنه وقرأ ـ إني أنا الرزاق ذو القوة المتين ـ أي شديد القوة ، وقرئ المتين بالجر صفة للقوة ، وقال في النهاية : في أسماء الله تعالى المتين هو الشديد القوي الذي لا يلحقه في أفعاله مشقة ولا كلفة ولا تعب ، والمتانة الشدة فهو من حيث إنه بالغ القدرة تأمها قوي ، ومن حيث إنه شديد القوة متين انتهى ، ثم إنه على المشهور منصوب هنا صفة للمضاف لا المضاف إليه ، وعلى القراءة الشاذة مجرور صفة للمضاف إليه وهو بعيد ، وفي بعض النسخ زيد هنا العاطف ويا ذا القوة فقيل إنما عطف هنا لتحقق شرط صحته وهو تحقق المناسبة والمغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه للاتحاد في المضاف والاختلاف في المضاف إليه فيهما بخلاف السوابق لاتحادهما فيهما.

الحديث الثامن : صحيح.

قوله عليه‌السلام « سألت قوت النبيين » اعلم أن المشهور بين الفقهاء أن الحلال

__________________

(١) البقرة : ٢٥٧.

(٢) الأعراف : ١٩٦.

(٣) آل عمران : ٦٨.

(٤) محمّد (ص) : ١١.

٣٩١

حلالا واسعا طيبا من رزقك ».

______________________________________________________

والطيب مترادفان ، أو الحلال ما أحله الشارع ولم يرد فيه نهي ، والطيب ما تستطيبه النفس وتستلذه ، وقيل : الطيب يقال لمعان ( الأول ) المستلذ ( الثاني ) ما حلله الشارع ( الثالث ) ما كان طاهرا ( الرابع ) ما خلا عن الأذى في النفس والبدن ، وهو حقيقة في الأول لتبادره إلى الذهن عند الإطلاق ، والخبيث يقابل الطيب بمعانيه.

وقال البيضاوي في قوله تعالى ( يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ) (١) نزلت في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس ، وقال : طيبا تستطيبه الشرع أو الشهوة المستقيمة إذ الحلال دل على الأول.

وقال النيسابوري فيها : حلالا مفعول كلوا أو حال مما في الأرض ، وهو المباح الذي انحلت عقدة الخطر عنه من الحل الذي يقابل العقد ، ثم الحرام قد يكون حراما في جنسه كالميتة والدم ، وقد يكون حراما لعرض كملك الغير إذا لم يأذن في أكله فالحلال هو الخالي عن القيدين ، والطيب إن أريد به ما يقرب من الحلال لأن الحرام يوصف بالخبث ( قل لا يستوي الخبيث والطيب ) فالوصف لتأكيد المدح مثل نفحة واحدة أي الطاهر من كل شبهة ، ويمكن أن يراد بالطيب اللذيذ أو يراد بالحلال ما يكون بجنسه حلالا وبالطيب ما لا يتعلق به حق الغير انتهى. ويظهر من هذا الخبر أن الحلال أخص من الطيب ، والطيب ما هو طيب في ظاهر الشريعة سواء كان طيبا في الواقع أم لا ، والحلال ما هو حلال وطيب في الواقع لم تعرضه الخباثة والنجاسة قطعا ، ولم تتناوله أيدي المتغلبة أصلا في وقت من الأوقات.

وكونه قوت النبيين والمصطفين ، إما لأنه لا يتيسر العلم بذلك إلا لهم بالوحي والإلهام ، وإما لندرة وجوهه ولا يمكن لأكثر الناس الصبر عليه والقناعة به

__________________

(١) البقرة : ١٦٨.

٣٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

إلا لهم لأنه نادر جدا وطريقه ضيق والطالب له طالب لضيق معيشته ، فما وقع في بعض الأدعية من طلبه ، فالمراد به ما هو بمعنى الطيب وكأنه عليه‌السلام علم أن مراد الداعي بالحلال المعنى الأخص ، فلذا نهاه عن ذلك ، أو علمه كيف ينبغي أن يقصد وقت الدعاء.

ويؤيد هذه الوجوه ما روي أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يجعل فطوره في حيرة ويختم عليها لئلا يدخله غير الحلال.

لكن يرد عليه أن الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم كانوا يجيبون دعوة من دعاهم إلى طعامهم ويأكلون منه مع أنه كان مخلوطا غالبا.

ويمكن أن يجاب بوجوه : ( الأول ) أنه تعالى خلق جميع الدنيا لهم ، وهم أولى بأنفس الناس وأموالهم منهم ، فلذا يحل لهم دون غيرهم.

( الثاني ) أن الله تعالى يصرف الشبهة ولا يأكلون إلا الحلال الصرف ، وإن كان في بيوت غيرهم ، كما روي أن المشركين أحضروا إطعاما حراما عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما رفع اللقمة وأراد أن يأكله صرف الله يده عن فمه إلى جهة أخرى ولم يقدر على أكله وأحضروا الحلال فقدر على أكله كما روي في تفسير الإمام عليه‌السلام.

( الثالث ) أن يخص ذلك بما حصلوه بسعيهم وأكلوه في بيوتهم وغير ذلك نادر.

( الرابع ) إن يقال : ما يأكلونه في بيوت غيرهم إما أن يكون من أموال الكفار وهو عليهم حلال ، أو من أموال المؤمنين ولا ريب أنهم راضون بذلك بطيب أنفسهم.

ثم اعلم أنه اختلف الأصحاب في أنه هل بين الحلال والحرام منزلة أم لا ، وعلى تقديرها هل هي موصوفة بالحرمة أو الكراهة ، ثم إنها ما هي فذهب جماعة إلى أنه لا منزلة بينهما فكلما دل الدليل على حرمته فهو حرام ، وكلما لم يدل

٣٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

دليل على تحريمه فهو حلال إلا أن يرد نهي تنزيه عنه ، والحلال والحرام ليسا إلا بظاهر الشريعة كالطهارة والنجاسة فإنهما تابعتان لظاهر الشرع ، فما لم يعلم نجاسته فهو طاهر وإن كان نجسا عند من علم نجاسته ولا معنى للنجاسة الواقعية ولذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يعاشرون مع المنافقين ويناكحونهم ولا يعلمون بما علموا بغير ظاهر الشريعة منهم ، والتنزه عن الأشياء بمحض احتمال الحرمة والنجاسة غير مستحسن شرعا ، وإلا لكان النبي والأئمة عليهم‌السلام أولى بالعمل بذلك من غيرهم.

وذهب جماعة إلى أن بينهما منزلة وهي الشبهات كما ورد في الأخبار ـ حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم ـ لكن اختلفوا فذهب الأكثر إلى استحباب ترك الشبهات ، وبعضهم إلى وجوبه ، والأول أظهر لأنه لو كان واجبا لكان داخلا في الحرام البين فالمراد بقوله هلك من حيث لا يعلم ارتكب ما هو حرام واقعا لكنه لما لم يعلم لم يكن إثما فالهلاك بمعنى ترك ما هو أولى وأخرى لكن ظاهر الخبر كما مر أن المراد به الاشتباه في الحكم من حيث تعارض الأدلة لا فيما حلال بظاهر الشريعة وفيه احتمال الحرمة الواقعية ولذا ذهب جماعة من المحدثين إلى حرمة الحكم بالحل والتحريم ووجوب الاجتناب عما لم يرد فيه أو في نوعه حكم بالحل كشرب التتن والقهوة وأمثالهما ، ومع اشتمال كلامهم على التناقض ، وجوه الرد عليهم كثيرة ليس هذا مقام ذكرها ، ومنهم من قال الواسطة بين الحلال والحرام الشبهات التي فيه احتمال الحرمة ، وإن كان بظاهر الشريعة حلالا ، واجتنابها مستحب وتتأكد الاستحباب بقوة احتمال الحرمة.

قال الغزالي : اعلم أن الحرام كله خبيث ولكن بعضه أخبث من بعض ، والحلال كله طيب ولكن بعضه أطيب من بعض ، فكما أن الطبيب يحكم على كل

٣٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

حلو بالحرارة ولكن يقول بعضها حار في الدرجة الأولى كالسكر ، وبعضها في الثانية كالفانيذ ، وبعضها في الثالثة كالدبس ، وبعضها في الرابعة كالعسل ، فكذلك الحرام ، بعضه خبيث في الدرجة الأولى ، وبعضه في الثانية أو الثالثة أو الرابعة وكذلك الحلال تتفاوت درجات صفاته وطيبه ، ولنقتد بأهل الطب في الاصطلاح على أربع درجات تقريبا ، وإن كان التحقيق لا يوجب هذا الحصر ويتطرق إلى كل من الدرجات تفاوت لا ينحصر ، فكم سرك أقل حرارة من سكر وكذا غيره.

وكذلك نقول الورع عن الحرام على أربع درجات ، ( الأولى ) ورع العدول وهو الذي يجب الفسق باقتمامه وتسقط العدالة به ويثبت اسم العصيان والتعرض للنار بسببه وهو الورع عن كل ما تحرمه فتاوى الفقهاء.

( الثانية ) ورع الصالحين ، وهو الامتناع عما يتطرق إليه احتمال التحريم ولكن المفتي يرخص في التناول بناء على الظاهر ، فهو من مواقع الشبهة على الجملة فسمي التحرج عن ذلك ورع الصالحين ، وهو في الدرجة الثانية.

( الثالثة ) ما لا تحرمه الفتوى ولا شبهة في حمله ، ولكن يخاف منه أداؤه إلى محرم ، وهو ترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس ، وهذا ورع المتقين.

( الرابعة ) ما لا بأس به أصلا ولا يخاف منه أن يؤدى إلى ما به بأس ولكنه يتناول بغير الله وغير نية التقوى به على عبادة الله ، أو يتطرق إلى أسبابه المسهلة له كراهية أو معصية ، والامتناع منه ورع الصديقين ، فهذه درجات الحلال جملة.

وإما الحرام الذي ذكرناه في الدرجة الأولى وهو الذي يدخل المتورع عنه في العدالة ، فهو أيضا على درجات في الخبث ، فالمأخوذ بعقد فاسد حرام ، ولكن ليس في درجة المغصوب على سبيل القهر ، وفي الأول الربا أغلظ عن غيرها ، وفي الثاني المأخوذ من فقير أو صالح أو من يتيم ، أخبث وأغلظ من المأخوذ من قوي أو غني أو فاسق ، ولو لا اختلاف درجات العصاة لما اختلف درجات النار ، ثم شرع في الخوض

٣٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

في مراتب الشبهات ومشاراتها وتميزها عن الحلال والحرام ثم قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات لا يعلمها كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ، ومن وقع في الشبهات واقع الحرام ، كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، فهذا الحديث نص في إثبات الأقسام الثلاثة والمشكل منها القسم المتوسط الذي لا يعرفه كثير من الناس ، وهو الشبهة فلا بد من بيانها وكشف الغطاء عنها ، فإن ما لا يعرفه الكثير قد يعرفه القليل. فنقول : الحلال المطلق هو الذي انحل عن ذاته الصفات الموجبة للتحريم في عينه ، وانحل عن أسبابه ما يتطرق إليه تحريم أو كراهية ، ومثاله الماء الذي يأخذه الإنسان من المطر قبل أن يقع على ملك ويكون هو واقفا عند أخذه وجمعه من الهواء في ملك نفسه أو في أرض مباحة ، والحرام المحض ما فيه صفة محرمة لا يشك فيها كالسكر في الخمر والنجاسة في البول ، أو حصل بسبب منهي عنه قطعا كالمحصل بالظلم والغصب والربا ونظائرها ، فهذا طرفان ظاهران ويلحق بالطرفين ما تحقق أمره ولكن احتمل تغييره ولم يكن لذلك الاحتمال سبب يدل عليه فإن صيد البر والبحر حلال ومن أخذ ظبية فيحتمل أن يكون قد ملكها ثم أفلت منه وكذلك السمكة يتصور أن يكون قد تزلق من الصياد بعد وقوعها في يده وشبكته ، فمثل هذا الاحتمال لا يتطرق إلى ماء المطر المختطف من الهواء ولكنه في معنى ماء المطر والاحتراز عنه وسواس فلنسم هذا الفن ورع الموسوسين حتى نلحق به أمثاله ، وذلك لأن هذا وهم مجرد لا دلالة عليه ، نعم لو دل عليه دليل فإن كان قاطعا كما لو وجد حلقة في أذن السمكة أو كان محتملا كما لو وجد على الظبية جراحة يحتمل أن يكون كيا لا يقدر عليه إلا بعد الضبط ، ويحتمل أن يكون جرحا فهذا موضع الورع ، وإذا انتفت الدلالة من كل وجه فالاحتمال المعدوم دلالته كالاحتمال المعدوم في نفسه ، ومن هذا الجنس من يستعير فيغيب عنه المعير فيخرج

٣٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

منه ويقول لعله مات وصار الحق للوارث فهذا وسواس إذا لم يدل على موته سبب قاطع أو مشكك ، إذا الشبهة المحذورة ما ينشأ من الشك ، والشك عبارة عن اعتقادين متقابلين نشأ من سببين ، فما لا سبب له لا يثبت عقده في النفس حتى يساوي العقد المقابل له فيصير شكا.

ثم أطال الكلام في مشارات الشبهة فجعلها على خمسة أقسام ( الأول ) الشك في السبب المحلل والمحرم وقسمها إلى أربعة أقسام.

الأول : أن لا يكون الحل معلوما من قبل ثم يقع الشك في المحلل فأوجب اجتنابها.

الثاني : أن يعرف الحل ويشك في المحرم فحكم بالحل.

الثالث : أن يكون الأصل التحريم ولكن طرأ ما يوجب تحليله بظن غالب فقال إن استند غلبة الظن إلى سبب معتبر شرعا فالمختار حله واجتنابه من الوروع كان يرمي صيدا فيغيب ثم يدركه ميتا وليس عليه أثر سوى سهمه.

الرابع : أن يكون الحل معلوما ولكن يغلب على الظن طريان محرم بسبب معتبر في غلبة الظن شرعا ، فيرفع الاستصحاب ويقضي بالتحريم ، إذ بأن لنا أن الاستصحاب ضعيف ولا حكم له مع غالب الظن ، ثم قال فقد اتضح من هذا حكم حلال شك في طريان محرم عليه أو ظن ، وحكم حرام شك في طريان محلل عليه أو ظن ، وبأن فرق بين ظن يستند إلى علامة في عين الشيء وبين ما يستند إليه ، وكلما حكمنا في هذه الأقسام بحله فهو حلال في الدرجة الأولى ، والاحتياط تركه فالمقدم عليه لا يكون في زمرة المتقين والصالحين بل زمرة العدول إلا ما ألحقناه برتبة الوسواس فإن الاحتراز منه ليس من الورع أصلا.

( المثار الثاني ) شك منشأه اختلاط الحلال بالحرام وعدم التمييز وبسط القول في ذلك ، ثم قال

٣٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

( المثار الثالث ) الشبهة التي تتعلق وتتصل بالسبب المحلل بمعصية إما في قراءته أو في لواحقه أو في سوابقه أو في عوضه ، وكانت من المعاصي التي لا توجب فساد العقد وإبطال السبب المحلل ، كالبيع في وقت النداء يوم الجمعة ، والذبح بالسكين المغصوب ، والاحتطاب بالفأس المغصوب ، والبيع على بيع الغير ، وكل نهي ورد في العقود ولم يدل على فساد العقد ، كان الامتناع من جميع ذلك ورعا ، وهذه الكراهة لها درجات ، منها ما يقرب من الحرام والورع منه مهم في الدين ، ومنها ـ ما ينتهي إلى نوع من المبالغة كاد ينتهي إلى ورع الموسوسين ، وبينهما أوساط نازعة إلى الطرفين ، ومثال اللواحق فهو كل تصرف يفضي في سياقه إلى معصية وأعلاه بيع العنب من الخمار ، وبيع الغلمان من المعروف بالفجور بالغلمان ، وبيع السيف من قاطع الطريق ، وقد اختلف العلماء في صحة ذلك ، وفي حل الثمن المأخوذ منه.

( المثار الرابع ) الاختلاف في الأدلة إما لتعارض أدلة الشرع ، أو لتعارض العلامات الدالة ، أو لتعارض المشابه.

( فالأول ) كتعارض عمومين من الكتاب أو السنة ، والورع تركه ، واتقاء مواضع الخلاف مهم في الورع في حق المفتي والمقلد.

( وأما الثاني ) كان ينهب نوع من المتاع في وقت ويندر وقوع مثله من غير النهب ويرى مثلا في يد رجل من أهل الصلاح فيدل صلاحه على أنه حلال ، ونوع المتاع على أنه حرام وكان تخير عدل بأنه حرام وآخر بأنه حلال أو تتعارض شهادة فاسقين ، أو قول صبي وبالغ فإن ظهر ترجيح حكم به والورع الاجتناب وإن لم يظهر ترجيح وجب التوقف.

( وأما الثالث ) كتعارض الأشياء في الصفات التي بها يناط الأحكام ، ومثاله كان يوصي بمال للفقهاء ، فيعلم أن الفاضل في الفقه داخل فيه ، وأن الذي ابتدأ

٣٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

التعلم منذ يوم أو شهر لا يدخل فيه ، وبينهما درجات لا تحصى فيقع الشك فيها ، والمفتي يفتي بحسب الظن ، والورع الاجتناب ، وهذا أغمض مثارات الشبهة وكذلك الصدقات المصروفة إلى المحتاجين فإن حد الحاجة غير معلوم.

ثم قال بعد ذكر أمثلة كثيرة ، فهذه اشتباهات تثور من علامات متعارضة تجذب إلى طرفين متقابلين ، وكل ذلك من الشبهات يجب اجتنابها إذا لم يترجح جانب الحل بدلالة تغلب على الظن أو باستصحاب بموجب قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، ثم جر الكلام إلى تحقيق المختلط بالحرام ، وفصل القول فيه بحسب اختلاف أحوال الملاك والأموال ثم في أكل طعام الظلمة والسلاطين وقبول جوائزهم والدخول عليهم والمشي على بساطهم.

ثم ذكر في كل قسم ما تقتضيه قواعدهم المقررة فحكم في بعضها بوجوب الاجتناب وفي بعضها بالاستحباب ولا جدوى كثيرا في إيرادها ، وليس هنا مقام تحقيقها وستأتي الكلام في جميع ذلك عند إيراد الأخبار المناسبة لها ، لكن نذكر هنا قليلا من الأخبار المنافية لما عده من المحرمات وما عده من ورع المتقين والصديقين ، لتعلم أن أكثرها من ورع الموسومين ، لأنهم عليهم‌السلام كانوا أفضل الصديقين ولم يعملوا بها بل أمروا بخلافها.

كما روي في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام في الثوب الذي أعير الذمي الذي يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، قال صل فيه ولا تغسل من أجل ذلك فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه (١).

وفي الصحيح عنه عليه‌السلام أنه لبس الثوب الذي عمله المجوسي الخبيث الشارب الخمر قبل الغسل (٢).

__________________

(١) الوسائل : الباب ٧٤ من أبواب النجاسات ح ـ ١ ـ.

(٢) الوسائل : الباب ٧٣ من أبواب النجاسات ح ـ ١ ـ.

٣٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال ما أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم أعلم (١).

وفي الموثق عن الصادق عليه‌السلام أنه قال كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر وما لم تعلم فليس عليك (٢).

ولا يخفى أن النجس لا يحل شربه فإذا مأخذ النجاسة والحل واحد. والتردد في أحدهما يوجب التردد في الآخر.

وقد روي في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام أنه قال كل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال لك أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه (٣) وفي الموثق عنه عليه‌السلام مثله ـ ثم قال ـ مثل الثوب قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك ولعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة (٤).

وفي الموثق عنه عليه‌السلام أنه سئل عن رجل أصاب ما لا من عمل بني أمية وهو يتصدق منه ، ويصل قرابته ، ويحج ليغفر له ما اكتسب ، وهو يقول إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن الخطيئة لا تكفر الخطيئة ولكن الحسنة تحط الخطيئة ، فإن كان خلط الحلال بالحرام فاختلطا جميعا فلا يعرف الحلال من الحرام فلا بأس (٥).

وفي الصحيح عن أبي بصير قال سألت أحدهما عليهما‌السلام عن شراء الخيانة والسرقة قال لا إلا أن يكون قد اختلط معه غيره فأما السرقة بعينها فلا إلا أن يكون من متاع السلطان فلا بأس بذلك (٦).

__________________

(١) الوسائل : الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ح ـ ٥ ـ.

(٢) الوسائل : الباب من أبواب النجاسات ح ـ ٤ ـ.

(٣) الوسائل : الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ح ـ ١ ـ.

(٤) الوسائل : الباب ٣٧ من أبواب ما يكتسب به ح ـ ٤ ـ.

(٥) الوسائل : الباب ٣٧ من أبواب ما يكتسب به ح ـ ٢ ـ.

(٦) الوسائل : الباب ١ من أبواب عقد البيع ح ـ ٤ ـ.

٤٠٠