مرآة العقول - ج ٢٥

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


المحقق: السيد جعفر الحسيني
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٢

١
٢

٣

حمداً خالداً لولي النعم حيث أسعدني بالقيام بنشر هذا السفر القيم في الملأ الثقافي الديني بهذه الصورة الرائعة. ولرواد الفضيلة الذين وازرونا في انجاز هذا المشروع المقدّس شكر متواصل.

الشيخ محمد الآخوندى

٤

كتاب الروضة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ محمد بن يعقوب الكليني قال حدثني علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن فضال ، عن حفص المؤذن ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام وعن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن محمد بن سنان ، عن إسماعيل بن جابر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه كتب بهذه الرسالة إلى أصحابه وأمرهم بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها فكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها قال وحدثني الحسن بن محمد ، عن جعفر بن محمد بن مالك الكوفي ، عن القاسم بن الربيع الصحاف ، عن إسماعيل بن مخلد السراج ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال خرجت هذه الرسالة من أبي عبد الله عليه‌السلام إلى أصحابه :

______________________________________________________

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى محمّد وآله خيرة الورى.

أمّا بعد : فهذا هو المجلّد الثاني عشر (١) من كتاب مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول تأليف أفقر عباد الله إلى رحمة ربّه الغنيّ محمد باقر بن محمد تقي عفي عنهما بالنبي وآله الطاهرين.

كتاب الروضة

قوله : « محمد بن يعقوب » كلام أحد رواة الكليني النعماني أو الصفواني أو غيرهما.

الحديث الأول : رواه بثلاثة أسانيد أولها مجهول. وثانيها ضعيف عند القوم بابن سنان وعندي معتبر.

وقوله : « محمد بن إسماعيل » معطوف على ابن فضال لأن إبراهيم بن هاشم من

__________________

(١) حسب تجزءة المصنّف طاب ثراه.

٥

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) أما بعد فاسألوا ربكم العافية وعليكم بالدعة والوقار والسكينة وعليكم بالحياء والتنزه عما تنزه عنه الصالحون قبلكم وعليكم بمجاملة أهل الباطل تحملوا الضيم منهم وإياكم ومماظتهم دينوا فيما بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام فإنه لا بد لكم من مجالستهم ومخالطتهم ومنازعتهم الكلام بالتقية التي أمركم الله أن تأخذوا بها فيما بينكم وبينهم فإذا ابتليتم بذلك منهم فإنهم سيؤذونكم وتعرفون في وجوههم المنكر ولو لا أن الله تعالى يدفعهم عنكم لسطوا بكم وما في صدورهم من العداوة والبغضاء أكثر مما يبدون لكم مجالسكم ومجالسهم واحدة وأرواحكم وأرواحهم مختلفة لا تأتلف لا تحبونهم أبدا ولا يحبونكم غير أن الله تعالى أكرمكم بالحق وبصركموه ولم يجعلهم من أهله فتجاملونهم وتصبرون عليهم وهم لا مجاملة لهم ولا صبر لهم على شيء وحيلهم وسواس بعضهم إلى

______________________________________________________

رواته ، والسند الثالث ضعيف ، وقائل ـ حدثني ـ (١) فيه أيضا إبراهيم والمجموع في قوة مجهول كالحسن.

قوله عليه‌السلام : « وعليكم بالدعة » إلخ الدعة : الخفض والسكون والراحة أي ترك الحركات والأفعال التي توجب الضرر في دولة الباطل ، والوقار : الرزانة والحلم « والسكينة » إما سكون الجوارح وترك التسرع والعجلة في الأمور ، أو سكون القلب بالإيمان ، وعدم تزلزله بمضلات الفتن ، والوقار أيضا يحتمل ذلك.

قوله عليه‌السلام : « وعليكم بمجاملة » في بعض النسخ بالجيم أي المعاملة بالجميل وفي بعضها بالحاء المهملة ، ولعله بمعنى الحمل بمشقة وتكلف كالتحمل و « الضيم » الظلم ، والمماظة : المنازعة.

قوله عليه‌السلام : « بالتقية » متعلق بقوله : « دينوا » أي اعملوا بالتقية ، واعبدوا الله بعبادة التقية إذا أنتم جالستموهم وخالفتموهم ، فإنه لا يمكنكم ترك مخالطتهم.

قوله عليه‌السلام : « وحيلهم وسواس » إلخ. لعل المراد أن حيلتكم في دفع ضررهم

__________________

(١) في النسخة المخطوطة : الكليني.

٦

بعض فإن أعداء الله إن استطاعوا صدوكم عن الحق فيعصمكم الله من ذلك فاتقوا الله وكفوا ألسنتكم إلا من خير.

وإياكم أن تزلقوا ألسنتكم بقول الزور والبهتان والإثم والعدوان فإنكم إن كففتم ألسنتكم عما يكرهه الله مما نهاكم عنه كان خيرا لكم عند ربكم من أن تزلقوا ألسنتكم به فإن زلق اللسان فيما يكره الله وما ينهى عنه مرداة للعبد عند الله ومقت من الله وصم وعمى وبكم يورثه الله إياه يوم القيامة فتصيروا كما قال الله : « صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ » (١) يعني لا ينطقون « وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ » (٢) وإياكم وما نهاكم الله عنه أن تركبوه وعليكم بالصمت إلا فيما ينفعكم الله به من أمر

______________________________________________________

المجاملة والصبر على أذاهم والتقية ، وهم لا يقدرون على الصبر ولا على صدكم عن الحق فليس لهم حيلة إلا وسوسة بعضهم إلى بعض في إيذائكم والإغراء بكم ثم اعلم أنه يظهر من بعض النسخ المصححة أنه قد اختل نظم هذا الحديث وترتيبه بسبب تقديم بعض الورقات وتأخير بعضها ، وفيها قوله : « ولا صبر لهم على شيء » متصل بقوله : فيما بعد « من أموركم » هكذا : « ولا صبر لهم على شيء من أموركم تدفعون أنتم السيئة » إلى آخر ما سيأتي ، وهو الصواب ، وسيظهر لك مما سنشير إليه في كل موضع من مواضع الاختلاف صحة تلك النسخة ، واختلال النسخ المشهورة.

قوله عليه‌السلام : « وإياكم أن تزلقوا » بالزاء المعجمة في القاموس : زلق كفرح ونصر : زل وفلانا أزله كأزلقه ، وفي بعض النسخ بالذال المعجمة (٣) ، وزلاقة اللسان : زرابته وحدته وطلاقته ، والأول أظهر ، وقول الزور : الكذب.

قوله عليه‌السلام : « مرادة » بغير همز مفعلة من الردى بمعنى الهلاك قوله تعالى : « فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ » في بعض النسخ « لا يَعْقِلُونَ » وكلاهما في سورة البقرة ، والتفسير بالأول أنسب أي لا يرجعون إلى النطق والكلام ، وقال البيضاوي (٤) : أي لا يعودون إلى الهدي الذي باعوه وضيعوه ، أو عن الضلالة التي اشتروها ، أو فهم متحيرون لا يدرون

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨.

(٢) سورة المرسلات : ٣٦.

(٣) القاموس المحيط : ج ٣ ص ٢٤٢.

(٤) أنوار التنزيل : ج ١ ض ٢٩ ط مصر ١٣٨٨.

٧

آخرتكم ويأجركم عليه وأكثروا من التهليل والتقديس والتسبيح والثناء على الله والتضرع إليه والرغبة فيما عنده من الخير الذي لا يقدر قدره ولا يبلغ كنهه أحد فاشغلوا ألسنتكم بذلك عما نهى الله عنه من أقاويل الباطل التي تعقب أهلها خلودا في النار من مات عليها ولم يتب إلى الله ولم ينزع عنها وعليكم بالدعاء فإن المسلمين لم يدركوا نجاح الحوائج عند ربهم بأفضل من الدعاء والرغبة إليه والتضرع إلى الله والمسألة له فارغبوا فيما رغبكم الله فيه وأجيبوا الله إلى ما دعاكم إليه لتفلحوا وتنجوا من عذاب الله وإياكم أن تشره أنفسكم إلى شيء مما حرم الله عليكم فإنه من انتهك ما حرم الله عليه هاهنا في الدنيا حال الله بينه وبين الجنة ونعيمها ولذتها وكرامتها القائمة الدائمة لأهل الجنة أبد الآبدين.

______________________________________________________

أيتقدمون أم يتأخرون وإلى حيث ابتدءوا منه كيف يرجعون ، قوله عليه‌السلام « والتقديس » هو والتسبيح مترادفان ، أو متقاربان ، ويمكن حمل التسبيح على قول سبحان الله ، والتقديس على قول الله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وسائر ما يدل على تنزيهه. تعالى من أن يكون له شريك في الكبرياء أو في العظمة أو في القوة والحول ، والثناء يشمل الحمد لله وغيره ، قوله : « لا يقدر » على البناء للمجهول أو المعلوم على التنازع ، أي لا يقاس بغيره ولا يوصف حق وصفه ، ولا يبلغ إلى رفعة شأنه ، كقوله تعالى « وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ » (١) والمراد نعيم الآخرة أو الأعم منه ومن درجات القرب والكمال.

قوله عليه‌السلام : « فاشغلوا » في القاموس (٢) : شغله كمنعه شغلا وبضم وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو رديئة.

قوله عليه‌السلام : « ولم ينزع منها » في القاموس (٣) : نزع عن الأمر نزوعا : انتهى عنها.

قوله عليه‌السلام : « إلى ما دعاكم إليه » أي الدعاء ، ويحتمل التعميم قوله « وإياكم أن تشره » في القاموس (٤) : شره كفرح : غلبه حرصه.

قوله عليه‌السلام : « فإنه من انتهك » في النهاية (٥) : انتهكوا : أي بالغوا في خرق محارم الشرع وإتيانها.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٩١. (٢) القاموس المحيط : ج ٣ ص ٤٠١ ( ط مصر ).

(٣) نفس المصدر : ج ٣ ص ٨٨.

(٤) نفس المصدر : ج ٤ ص ٢٨٦.

(٥) النهاية : ج ٥ ص ١٣٧.

٨

و اعلموا أنه بئس الحظ الخطر لمن خاطر الله بترك طاعة الله وركوب معصيته فاختار أن ينتهك محارم الله في لذات دنيا منقطعة زائلة عن أهلها على خلود نعيم في الجنة ولذاتها وكرامة أهلها ويل لأولئك ما أخيب حظهم وأخسر كرتهم وأسوأ حالهم عند ربهم

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « بئس الحظ » إلخ ، في القاموس (١) : خطر بباله وعليه يخطره ، ويخطر خطورا : ذكره بعد نسيان ، وأخطره الله تعالى والخطر بالفتح ويحرك : الشرف ، وبالتحريك : الإشراف على الهلاك ، والسبق : يتراهن عليه ، وقدر الرجل ، وتخاطروا تراهنوا ، وخاطر بنفسه أشفاها على خطر هلك أو نيل ملك. وقال في النهاية (٢) : « فيه لعبد الرحمن خطر أي حظ ونصيب ، ومنه حديث النعمان بن مقرن قال يوم نهاوند : إن هؤلاء ـ يعني المجوس ـ قد أخطروا لكم رثة ومتاعا وأخطرتم لهم الإسلام ، فنافحوا عن دينكم ، الرثة : رديء المتاع ، يعني أنهم قد شرطوا لكم ذلك ، وجعلوه رهنا من جانبهم ، وجعلتم رهنكم دينكم أراد أنهم لم يعرضوا للهلاك إلا متاعا يهون عليهم ، وأنتم عرضتم لهم أعظم الأشياء قدرا وهو الإسلام. أقول : الأظهر أن المراد بالخطر هو ما يتراهن عليه ، وخاطر الله أي راهنه ، فكأنه جرى مراهنة بين العبد والرب تعالى ، والسبق الذي يحوزه العبد لذات الدنيا الفانية ، والسبق الذي للرب تعالى عقاب العبد ، فبئس الحظ والنصيب ، الحظ والسبق الذي يحوزه عند مخاطرته ومراهنته مع الله بأن يترك طاعته ويرتكب معصيته. ويحتمل على بعد أن يكون الخطر في الموضعين بمعنى الإشراف على الهلاك ، أو بمعنى الخطور بالبال ، أو على التوزيع والله يعلم.

قوله عليه‌السلام : « وأخسر كرتهم » الكرة : الرجوع ، والمراد الرجوع إلى الأبدان في الحشر أو الرجوع إلى الله للحساب.

وقال الله تعالى : « تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ » (٣) ونسبة الخسران إلى الكرة والخيبة

__________________

(١) القاموس المحيط : ج ٢ ص ٢٢.

(٢) النهاية : ج ٢ ص ٤٦.

(٣) سورة النازعات : ١٢.

٩

يوم القيامة استجيروا الله أن يجيركم في مثالهم أبدا وأن يبتليكم بما ابتلاهم به ولا قوة لنا ولكم إلا به.

فاتقوا الله أيتها العصابة الناجية إن أتم الله لكم ما أعطاكم به فإنه لا يتم الأمر حتى يدخل عليكم مثل الذي دخل على الصالحين قبلكم وحتى تبتلوا في أنفسكم

______________________________________________________

أي الحرمان ـ إلى الحظ على الإسناد المجازي.

قوله عليه‌السلام : « استجيروا الله » كأنه على الحذف والإيصال ، أي استجيروا بالله وفي بعض النسخ أن يجريكم وهو الظاهر ، وفي بعضها « أن يجيركم » والمعنى حينئذ استعيذوا من أن يكون إجارته تعالى إياكم على مثال إجارته لهم ، فإنه لا يجيرهم عن عذابه في الآخرة ، وإنما أجارهم في الدنيا ، وفي بعض النسخ « من مثالهم » فالمراد استجيروا بالله لأن يجيركم من مثالهم ، أي من أن تكونوا مثلهم.

قوله عليه‌السلام : « إن أتم الله » لعل المراد اتقوا الله ولا تتركوا التقوى عن الشرك والمعاصي عند إرادة الله إتمام ما أعطاكم من دين الحق ، ثم بين عليه‌السلام الإتمام بأنه إنما يكون بالابتلاء والافتتان وتسليط من يؤذيكم عليكم ، فالمراد الأمر بالتقوى عند الابتلاء بالفتن ، وذكر فائدة الابتلاء بأنه سبب لتمام الإيمان ، فلذا يبتليكم ، ويحتمل على بعد أن يكون « أن » بالفتح مخففة أي اتقوا لإتمام الله تعالى دينكم ويحتمل أن يكون التعليق للنجاة ، أي النجاة إنما يكون بعد الإتمام ، ولما كان هذا التعليق مشعرا بقلة وقوع هذا الشرط ، بين ذلك بأنه موقوف على الامتحان ، والتخلص عنه مشكل والأول أظهر.

قوله عليه‌السلام : « في أنفسكم » أي بما يرد عليها من الخوف من الأعادي ، والضرب والقطع والقتل ، أو بالتكليف بالجهاد أيضا ، أو بالأمراض والمتاعب في العبادات أيضا « وأموالكم » بغصب أعادي الدين أو بما يصيبه من الآفات أو بتكليف الإنفاق أيضا ، وهذه إشارة إلى قوله تعالى في أواخر سورة آل عمران « لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ

١٠

وأموالكم وحتى تسمعوا من أعداء الله « أَذىً كَثِيراً » فتصبروا وتعركوا بجنوبكم وحتى يستذلوكم ويبغضوكم وحتى يحملوا [ عليكم ] الضيم فتحملوا منهم تلتمسون بذلك وجه الله والدار الآخرة وحتى تكظموا الغيظ الشديد في الأذى في الله عز وجل يجترمونه إليكم وحتى يكذبوكم بالحق ويعادوكم فيه ويبغضوكم عليه فتصبروا على ذلك منهم ومصداق ذلك كله في كتاب الله الذي أنزله جبرئيل عليه‌السلام على نبيكم ص سمعتم قول الله عز وجل لنبيكم صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ » (١) ثم قال « وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا » (٢) فقد كذب نبي الله والرسل من قبله وأوذوا مع التكذيب بالحق فإن سركم أمر الله فيهم الذي خلقهم له في الأصل [ أصل الخلق ] من الكفر الذي سبق في علم الله أن يخلقهم له في الأصل

______________________________________________________

تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ » (٣).

قوله عليه‌السلام : « وتعركوا بجنوبكم » في القاموس (٤) : عركة كهمزة : يعرك الأذى بجنبه أي يحتمله.

قوله عليه‌السلام : « فتحملوه » على التفعل في القاموس (٥) : حمله الأمر فتحمله « وحتى تكظموا » في القاموس (٦) كظم غيظه يكظمه : رده وحبسه.

قوله عليه‌السلام : « يجترمونه » بالجيم قال في القاموس (٧) : اجترم عليهم وإليهم جريمة : جنى جناية ، وفي بعض النسخ بالخاء المعجمة ولعله تصحيف.

قوله عليه‌السلام : « فإن سركم أمر الله فيهم » أقول : في النسخة المصححة التي أومأنا إليها قوله عليه‌السلام : فإن سركم » متصل بما سيأتي في آخر الرسالة « أن تكونوا مع نبي الله هكذا «فإن سركم أن تكونوا مع نبي الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» إلى آخر الرسالة ، وهو الأصوب ، قوله : « الذي سبق في علم الله أول هذا وأمثاله بأن الله كان يعلم أنهم يكونون كذلك بعد خلقهم باختيارهم فكأنه خلقهم لذلك وقد مر الكلام فيه في كتاب التوحيد.

__________________

(١) سورة الأحقاف : ٣٥. (٢) سورة الأنعام : ٣٤ والآية هكذا « وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ ... ».

(٣) سورة آل عمران : ١٨٦. (٤) القاموس : ج ٣ ض ٣١٣ « ط مصر ».

(٥) نفس المصدر : ج ٣ ص ٣٦١.

(٦) نفس المصدر : ج ٤ ص ١٧٢.

(٧) نفس المصدر : ج ٤ ص ٨٨.

١١

ومن الذين سماهم الله في كتابه في قوله : وجعلنا منهم « أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ » (١) فتدبروا هذا واعقلوه ولا تجهلوه فإنه من يجهل هذا وأشباهه مما افترض الله عليه في كتابه مما أمر الله به ونهى عنه ترك دين الله وركب معاصيه فاستوجب سخط الله فأكبه الله على وجهه في النار.

وقال أيتها العصابة المرحومة المفلحة إن الله أتم لكم ما آتاكم من الخير واعلموا أنه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا رأي ولا مقاييس قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كل شيء وجعل للقرآن ولتعلم القرآن أهلا لا يسع أهل علم القرآن الذين آتاهم الله علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقاييس أغناهم الله عن ذلك بما آتاهم من علمه وخصهم به ووضعه عندهم كرامة من الله أكرمهم بها وهم أهل الذكر الذين أمر الله هذه الأمة بسؤالهم وهم الذين من سألهم وقد سبق في علم الله أن يصدقهم ويتبع أثرهم أرشدوه وأعطوه من علم القرآن ما يهتدي به إلى

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « ومن الذين » كأنه معطوف على قوله خلقهم بتقدير جعلهم ، أو على الظرف بعده بتضمين الجعل.

قوله عليه‌السلام : « فتدبروا » والظاهر أنه جزاء الشرط في قوله « سركم » ويحتمل أن يكون جزاء الشرط مقدرا ، أي إن سركم فاشكروا أو لا تجزعوا مما يصل منهم إليكم ولعل اسم الإشارة والضمير راجعة إلى ما يفهم من الكلام السابق من لزوم التقية ، والصبر على المكاره في الدين ، والرضا بقضائه تعالى فيهم ، وفي أعدائهم وفي القاموس (٢) : كبه : قلبه : وصرعه ، كأكبه وكبكبه فأكب وهو لازم متعد.

قوله عليه‌السلام : « إن الله أتم » الظاهر أنه بالتشديد ، وهو بشارة بأن الله يتم هذا الأمر أي أمر التشيع لخواص الشيعة ، ويحتمل أن يكون بالتخفيف حرف شرط ، وتكون قيدا للفلاح : أي فلا حكم مشروط بأن يتم الله لكم الأمر ، ولا تضلوا بالفتن على قياس ما مر قوله : « من علم الله » أي مما علم الله حقيته.

قوله عليه‌السلام : « أرشدوه » خبر أو جزاء لقوله « من سألهم ».

__________________

(١) سورة القصص : ٤١. وفيها « وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ ... ».

(٢) القاموس المحيط : ج ١ ص ١٢١.

١٢

الله بإذنه وإلى جميع سبل الحق وهم الذين لا يرغب عنهم وعن مسألتهم وعن علمهم الذي أكرمهم الله به وجعله عندهم إلا من سبق عليه في علم الله الشقاء في أصل الخلق تحت الأظلة فأولئك الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر والذين آتاهم الله علم القرآن ووضعه عندهم وأمر بسؤالهم وأولئك الذين يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقاييسهم حتى دخلهم الشيطان لأنهم جعلوا أهل الإيمان في علم القرآن عند الله كافرين وجعلوا أهل الضلالة في علم القرآن عند الله مؤمنين وحتى جعلوا ما أحل الله في كثير من الأمر حراما وجعلوا ما حرم الله في كثير من الأمر حلالا فذلك أصل ثمرة أهوائهم وقد عهد إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل موته فقالوا نحن بعد ما قبض الله عز وجل رسوله يسعنا أن نأخذ بما اجتمع عليه رأي الناس بعد ما قبض الله عز وجل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد عهده الذي عهده إلينا وأمرنا به مخالفا لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فما أحد أجرأ على الله ولا أبين ضلالة ممن أخذ بذلك وزعم أن ذلك يسعه والله إن لله على خلقه أن يطيعوه ويتبعوا أمره في حياة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد موته هل يستطيع أولئك أعداء الله أن يزعموا أن أحدا ممن أسلم مع محمد

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « ومن سبق » جملة حالية معترضة والفرض أنه ليس كل من يسألهم يرشد ، ويهتدي بقولهم ، بل من قد سبق في علمه تعالى أنه يصدقهم ، ويتبع أثرهم.

قوله عليه‌السلام : « تحت الأظلة » أي عالم الأرواح قوله « عليه‌السلام » : حتى دخلهم الشيطان أي استولى عليهم ، ودخل مجاري صدرهم واستولى على قلبهم.

قوله عليه‌السلام : « في علم القرآن » أي الذين هم بحسب ما يعلم من علم القرآن مؤمنون متصفون بصفات الإيمان ، أو المراد المؤمنون بما يعلمون من علم القرآن علما مطابقا لمراد الله تعالى.

قوله عليه‌السلام : « فذلك » أي ترك سؤال أهل الذكر ، وجعل أهل الإيمان كافرين أصل ترتب على ذلك سائر أهوائهم وآرائهم.

قوله عليه‌السلام : « ما يستطيع أولئك » إلخ. الظاهر الظاهر أن هذا احتجاج عليهم بأنكم ،

١٣

صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ بقوله ورأيه ومقاييسه فإن قال نعم فقد كذب على الله و « ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً » وإن قال لا لم يكن لأحد أن يأخذ برأيه وهواه ومقاييسه فقد أقر بالحجة على نفسه وهو ممن يزعم أن الله يطاع ويتبع أمره بعد قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد قال الله وقوله الحق : « وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ » وذلك لتعلموا أن الله يطاع ويتبع أمره في حياة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد قبض الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وكما لم يكن لأحد من الناس مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقاييسه خلافا لأمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فكذلك لم يكن لأحد من الناس بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقاييسه ـ وقال دعوا رفع أيديكم في الصلاة إلا مرة واحدة حين تفتتح الصلاة فإن الناس قد شهروكم بذلك « وَاللهُ الْمُسْتَعانُ » ولا حول ولا قوة إلا بالله

______________________________________________________

لا تجوزون الاستبداد بالرأي ومخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) لأن هذا كفر بين ومخالفة للآيات الصريحة ، فلا بد من أن تقولوا بعدم جواز ذلك في حياته ، وإذا اعترفوا بذلك يلزمهم أن لا يجوز ذلك بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لما يظهر من الآية إلا (٢) يجوز ترك ما أخذ في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن ترك ذلك ارتداد عن الدين ، وانقلاب عن الحق ، فقوله عليه‌السلام : « وهو ممن يزعم » أي يلزمه ذلك بما أقر به ، ويصير ممن يزعم ذلك للإقرار بملزومه.

قوله عليه‌السلام : « دعوا رفع أيديكم » اعلم أن رفع اليدين في تكبير الافتتاح لا خلاف في أنه مطلوب للشارع بين العامة والخاصة ، والمشهور بين الأصحاب الاستحباب ، وذهب السيد من علمائنا إلى الوجوب ، وأما الرفع في سائر التكبيرات فالمشهور بين الفريقين أيضا استحبابه ، وقال الثوري وأبو حنيفة وإبراهيم النخعي : لا يرفع يديه إلا عند الافتتاح ، وذهب السيد إلى الوجوب في جميع التكبيرات ، ولما كان في زمانه عليه‌السلام عدم استحباب الرفع أشهر بين العامة فلذا منع الشيعة عن ذلك ، لئلا يشتهروا بذلك فيعرفوهم به.

__________________

(١) في النسخة المخطوطة : ومخالفة الرسول « ص » في حياته.

(٢) في النسخة المخطوطة : أنه لا يجوز.

١٤

و قال أكثروا من أن تدعوا الله فإن الله يحب من عباده المؤمنين أن يدعوه وقد وعد الله عباده المؤمنين بالاستجابة والله مصير دعاء المؤمنين يوم القيامة لهم عملا يزيدهم به في الجنة فأكثروا ذكر الله ما استطعتم في كل ساعة من ساعات الليل والنهار فإن الله أمر بكثرة الذكر له والله ذاكر لمن ذكره من المؤمنين واعلموا أن الله لم يذكره أحد من عباده المؤمنين إلا ذكره بخير فأعطوا الله من أنفسكم الاجتهاد في طاعته فإن الله لا يدرك شيء من الخير عنده إلا بطاعته واجتناب محارمه التي حرم الله في ظاهر القرآن وباطنه فإن الله تبارك وتعالى قال في كتابه وقوله الحق « وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ » (١) واعلموا أن ما أمر الله به أن تجتنبوه فقد حرمه واتبعوا آثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسنته فخذوا بها ولا تتبعوا أهواءكم وآراءكم فتضلوا فإن أضل الناس عند الله من اتبع هواه ورأيه « بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ » وأحسنوا إلى أنفسكم ما استطعتم فإِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « من عباده المؤمنين » أي من أعمالهم.

قوله عليه‌السلام : « إلا ذكره بخيره » أي يقرر ويعد له ثواب ذلك ، أو يذكره في الملإ الأعلى ويثني عليه ويشكره ، وفي بعض النسخ « بخير » بغير ضمير.

قوله تعالى : « ظاهِرَ الْإِثْمِ » ظاهر كلامه عليه‌السلام أنه فسر ظاهر الإثم بما تظهر حرمته من ظاهر القرآن ، « وَباطِنَهُ » بما تظهر حرمته من باطنه ، وقال البيضاوي : أي ما يعلن ويسر ، وما بالجوارح وما بالقلب ، وقيل : الزنا في الحوانيت واتخاذ الأخدان (٢) ثم اعلم أن ما في القرآن هو « وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ » كما في بعض نسخ الكتاب وفي أكثرها « فاجتنبوا » فهو إما نقل مضمون الآية أو في قرآنهم عليه‌السلام كان كذلك.

قوله : « واعلموا أن ما أمر الله » ظاهره أن أوامر القرآن للوجوب خصوصا ما كان بلفظ الاجتناب ، وكذا نواهيه للحرمة.

قوله عليه‌السلام : « فإن أحسنتم » بيان لمعنى الإحسان إلى النفس ، بأن المراد فعل الحسنات ، ويحتمل أن يكون المراد بقوله : « وأحسنوا إلى أنفسكم » الإحسان إلى الغير كما قيل في قوله تعالى : « وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ » (٣) وقوله : « فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ » (٤)

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٢٠.

(٢) أنوار التنزيل : ج ١ ص ٣٢٩.

(٣) سورة النساء : ٢٩.

(٤) سورة النور : ٦١.

١٥

لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ، وجاملوا الناس ولا تحملوهم على رقابكم تجمعوا مع ذلك طاعة ربكم وإياكم وسب أعداء الله حيث يسمعونكم « فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ » وقد ينبغي لكم أن تعلموا حد سبهم لله كيف هو إنه من سب أولياء الله فقد انتهك سب الله ومن أظلم عند الله ممن استسب لله ولأولياء الله فمهلا مهلا فاتبعوا أمر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقال أيتها العصابة الحافظ الله لهم أمرهم عليكم بآثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسنته وآثار الأئمة الهداة من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من بعده وسنتهم فإنه من أخذ بذلك فقد اهتدى ومن ترك ذلك ورغب عنه ضل لأنهم هم الذين أمر الله بطاعتهم وولايتهم وقد قال أبونا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المداومة على العمل في اتباع الآثار والسنن وإن قل أرضى لله وأنفع عنده في العاقبة من الاجتهاد في البدع واتباع الأهواء ألا إن اتباع

______________________________________________________

فالمعنى فليحسن كل منكم إلى أخيه ، فإن من أحسن إلى غيره فقد أحسن لنفسه والأول أظهر.

قوله عليه‌السلام : « يجمعوا مع ذلك » جواب للأمر أي إنكم إذا جاملتم الناس جمعتم ـ مع الأمن وعدم حمل الناس على رقابكم بالعمل بطاعة ربكم فيما أمركم به من التقية وفي بعض النسخ « تجمعون » فيكون حالا عن ضميري الخطاب أي إن اجمعوا طاعة الله مع المجاملة لا بأن تتابعوهم في المعاصي وتشاركوهم في دينهم ، بل بالعمل بالتقية فيما أمركم الله فيه بالتقية. قوله : « حيث يسمعونكم » بفتح الياء أي « يسمعون منكم » بل سبوا أعداء الله في الخلوات ، وفي مجامع المؤمنين ، ويحتمل أن يقرأ بضم الياء يقال : أسمعه أي شتمه ، أي إن شتموكم لا تسبوا أئمتهم ، فإنهم يسبون أئمتكم ، ثم فسر عليه‌السلام معنى سب الله بأنهم لا يسبون الله ، بل المراد بسب الله سب أولياء الله ، فإن من سبهم فقد سب الله ، ومن أظلم ممن فعل فعلا يعلم أنه يصير سببا لسب الله وسب أوليائه فمهلا مهلا » أي لتسكنوا سكونا وأخروا تأخيرا واتركوا هذه الأمور إلى ظهور دولة الحق.

قوله عليه‌السلام : « أرضى لله » هذا من قبيل المماشاة مع الخصم لترويج الحجة ،

١٦

الأهواء واتباع البدع بغير هدى من الله ضلال وكل ضلالة بدعة وكل بدعة في النار ولن ينال شيء من الخير عند الله إلا بطاعته والصبر والرضا لأن الصبر والرضا من طاعة الله واعلموا أنه لن يؤمن عبد من عبيده حتى يرضى عن الله فيما صنع الله إليه وصنع به على ما أحب وكره

______________________________________________________

أي لو كان ينفع البدع ويرضى الرحمن به على الفرض المحال كان اتباع السنة أنفع وأرضى وإن قل.

قوله عليه‌السلام : « وكل ضلال بدعة » الغرض بيان التلازم والتساوي بين المفهومين ويظهر منه أن قسمة البدع بحسب انقسام الأحكام الخمسة كما فعله جماعة من الأصحاب تبعا للمخالفين ليس على ما ينبغي ، إذ البدعة ما لم يرد في الشرع لا خصوصا ، ولا في ضمن عام.

وما ذكروه من البدع الواجبة والمستحبة والمكروهة والمباحة هي داخلة في ضمن العمومات ، ولتحقيق ذلك مقام آخر.

قوله : « من طاعة الله » أي من شرائط قبول طاعة الله ، ويمكن أن يكون المراد أنهما من جملة الطاعات ويضم إليه مقدمة خارجة ، وهي أن قبول بعض الطاعات مشروط بالإتيان بسائرها كما قال تعالى : « إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ » (١) وعلى الوجهين يتم التعليل ، ويمكن أن يوجه أول الكلام بأن المراد لا ينال شيء من الخير عند الله كما ينبغي ، وعلى وجه الكمال إلا بالإتيان بجميع طاعاته ، وحينئذ يكون قوله :

« والصبر والرضى » من قبيل التخصيص بعد التعميم ، وحينئذ ينطبق التعليل أيضا لكنه بعيد.

قوله عليه‌السلام : « فيما صنع الله إليه » في القاموس (٢) : صنع إليه معروفا كمنع صنعا بالضم ، وصنع به صنيعا قبيحا فعله ، انتهى.

فقوله : « على ما أحب وكره » على سبيل اللف والنشر ، وفي الأخير مما أحب أظهر مما في بعض النسخ « فيما أحب » كما لا يخفى قوله تعالى : « وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ » (٣) قيل : المراد القنوت بالمعنى المصطلح ، وقيل المراد « خاشعين » وخاضعين.

__________________

(١) سورة المائدة : ٢٧.

(٢) القاموس المحيط : ج ٣ ص ٥٢ « ط مصر ».

(٣) سورة البقرة : ٢٣٨.

١٧

ولن يصنع الله بمن صبر ورضي عن الله إلا ما هو أهله وهو خير له مما أحب وكره وعليكم بالمحافظة « عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ » كما أمر الله به المؤمنين في كتابه من قبلكم وإياكم وعليكم بحب المساكين المسلمين فإنه من حقرهم وتكبر عليهم فقد زل عن دين الله والله له حاقر ماقت وقد قال أبونا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمرني ربي بحب المساكين المسلمين منهم واعلموا أن من حقر أحدا من المسلمين ألقى الله عليه المقت منه والمحقرة حتى يمقته الناس والله له أشد مقتا فاتقوا الله في إخوانكم المسلمين المساكين فإن لهم عليكم حقا أن تحبوهم فإن الله أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بحبهم فمن لم يحب من أمر الله بحبه فقد عصى الله ورسوله ومن عصى الله ورسوله ومات على ذلك مات وهو من الغاوين.

وإياكم والعظمة والكبر فإن الكبر رداء الله عز وجل فمن نازع الله رداءه خصمه الله وأذله يوم القيامة وإياكم أن يبغي بعضكم على بعض فإنها ليست من خصال الصالحين فإنه من بغى صير الله بغيه على نفسه وصارت نصرة الله لمن بغي عليه ومن نصره الله غلب

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « من حقرهم » بالتخفيف كضرب وبالتشديد كلاهما بمعنى الإذلال « والمحقرة » بفتح الميم والقاف : الذلة.

قوله عليه‌السلام : « أن تحبوهم » بيان للحق قوله عليه‌السلام : « وهو من الغاوين في الصحاح الغي : الخيبة والضلال (١).

قوله عليه‌السلام : « فإن الكبر رداء الله » قال الجزري (٢) : في الحديث « قال الله تعالى : العظمة إزاري والكبرياء ردائي » ضرب الرداء والإزار مثلا في انفراده بصفة العظمة والكبرياء ، أي ليستا كسائر الصفات التي قد يتصف بها الخلق مجازا كالرحمة ، وشبههما بالإزار والرداء لأن المتصف بهما يشملانه كما يشمل الرداء الإنسان ، ولأنه لا يشاركه في إزاره وردائه أحد ، فكذلك الله تعالى لا ينبغي أن يشركه فيهما أحد ، انتهى.

قوله عليه‌السلام : « قصمه » أي كسره قوله عليه‌السلام : « وإياكم أن يبغي » في القاموس (٣) : بغى عليه بغيا : علا وظلم ، وعدل عن الحق واستطال وكذب.

__________________

(١) الصحاح ح ٦ ص ٢٤٥.

(٢) النهاية : ج ١ ص ٤٤.

(٣) القاموس المحيط : ج ٤ ص ٣٠٤ « ط مصر ».

١٨

وأصاب الظفر من الله وإياكم أن يحسد بعضكم بعضا فإن الكفر أصله الحسد وإياكم أن تعينوا على مسلم مظلوم فيدعو الله عليكم ويستجاب له فيكم فإن أبانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول إن دعوة المسلم المظلوم مستجابة وليعن بعضكم بعضا فإن أبانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول إن معونة المسلم خير وأعظم أجرا من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام وإياكم وإعسار أحد من إخوانكم المسلمين أن تعسروه بالشيء يكون لكم قبله وهو معسر فإن أبانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول ليس لمسلم أن يعسر مسلما ومن أنظر معسرا أظله الله بظله يوم لا ظل إلا ظله

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : « فإن الكفر أصله الحسد فإن أول الكفر نشأ من إبليس ، وكان باعثه عليه الحسد ، وأيضا كل أكثر أفراد الكفر ينشأ من حسد من فضله الله وأوجب متابعته.

قوله عليه‌السلام : « أن تعينوا على مسلم » يقال أعانه : أي نصرة وأعان عليه : أي أضر به وأعان على إضراره.

قوله عليه‌السلام : « وإياكم وإعسار » في القاموس (١) : عسر الغريم يعسره : طلب منه على عسرة كأعسره.

قوله عليه‌السلام : « أظله الله بظله » أي بظل عرشه أو بظل رحمته مجازا ، قوله ( عليه‌السلام ) : « وإن استطعتم » جزاء الشرط محذوف أي فافعلوا ولا يبعد أن يكون في الأصل ما استطعتم ولعله هو الصواب.

قوله عليه‌السلام : « محرج الإمام » في الصحاح (٢) أحرجه إليه : ألجأه ، وفيه (٣) سعى به إلى الوالي إذا وشى به يعني نمه وذمه عنده.

أقول : الظاهر أن المراد لا تكونوا محرج الإمام ، أي بأن تجعلوه مضطرا إلى شيء لا يرضى به ثم بين عليه‌السلام بأن المحرج هو الذي يذم أهل الصلاح عند الإمام ، ويشهد عليهم بفساد ، وهو كاذب في ذلك فيثبت ذلك بظاهر حكم الشريعة عند الإمام ، فيلزم الإمام أن يلعنهم ، فإذا لعنهم وهم غير مستحقين لذلك ، تصير اللعنة عليهم

__________________

(١) القاموس المحيط : ح ٢ ص ٨٨.

(٢) الصحاح ح ١ ص ٣٠٦.

(٣) نفس المصدر : ح ٦ ص ٢٣٧٧.

١٩

وإياكم أيتها العصابة المرحومة المفضلة على من سواها وحبس حقوق الله قبلكم يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة فإنه من عجل حقوق الله قبله كان الله أقدر على التعجيل له إلى مضاعفة الخير في العاجل والآجل وإنه من أخر حقوق الله قبله كان الله أقدر على تأخير رزقه ومن حبس الله رزقه لم يقدر أن يرزق نفسه فأدوا إلى الله حق ما رزقكم يطيب الله لكم بقيته وينجز لكم ما وعدكم من مضاعفته لكم الأضعاف الكثيرة التي لا يعلم عددها ولا كنه فضلها إلا الله رب العالمين.

وقال اتقوا الله أيتها العصابة وإن استطعتم أن لا يكون منكم محرج الإمام فإن محرج الإمام هو الذي يسعى بأهل الصلاح من أتباع الإمام المسلمين لفضله الصابرين على أداء حقه العارفين لحرمته واعلموا أنه من نزل بذلك المنزل عند الإمام فهو محرج الإمام فإذا فعل ذلك عند الإمام أحرج الإمام إلى أن يلعن أهل الصلاح من أتباعه المسلمين لفضله الصابرين على أداء حقه العارفين بحرمته فإذا لعنهم لإحراج أعداء الله الإمام صارت لعنته رحمة من الله عليهم وصارت اللعنة من الله ومن الملائكة ورسله على أولئك

______________________________________________________

رحمة ، وترجع اللعنة إلى الواشي الكاذب الذي ألجأ الإمام إلى ذلك. أو المراد أنه ينسب الواشي إلى أهل الصلاح عند الإمام شيئا بمحضر جماعة يتقي منهم الإمام فيضطر الإمام إلى أن يلعن من نسب إليه ذلك تقية ويحتمل أن يكون المراد أن محرج الإمام هو من يسعى بأهل الصلاح إلى أئمة الجور ، ويجعلهم معروفين عند أئمة الجور بالتشيع ، فيلزم أئمة الحق لرفع الضرر عن أنفسهم وعن أهل الصلاح أن يلعنوهم ويتبرءوا منهم فتصير اللعنة إلى الساعين وأئمة الجور معا ، وعلى هذا ، المراد بأعداء الله أئمة الجور.

وقوله عليه‌السلام : « إذا فعل ذلك عند الإمام » يؤيد المعنى الأول هذه هي من الوجوه التي خطرت بالبال ، والله أعلم ومن صدر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قوله عليه‌السلام : « في الصالحين قبل » أي جرت السنة فيهم إن كانوا مقهورين مرعوبين وكذلك تجري في الصالحين منكم ، أو بأن يلعنهم الناس وتصير اللعنة عليهم رحمة.

٢٠