مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٠

إذا فرغت من تشهدك فارفع يديك وقل ـ اللهم اغفر لي مغفرة عزما جزما لا تغادر ذنبا ولا أرتكب بعدها محرما أبدا وعافني معافاة لا بلوى بعدها أبدا واهدني هدى لا أضل بعده أبدا وانفعني يا رب بما علمتني واجعله لي ولا تجعله علي وارزقني كفافا ورضني به يا رباه وتب علي يا الله يا الله يا الله يا رحمان يا رحمان

______________________________________________________

الكل كالعجب وغيره من المفاسد انتهى ، ولا يخفى ما فيها من البعد والركاكة.

وقال البيضاوي : الثقلان الجن والإنس سميا بذلك لثقلهما على الأرض ، أو لرزانة رأيهم وقدرهم ، أو لأنهما مثقلان بالتكليف ، قوله « إذا فرغت من تشهدك » هذا إما مبني على استحباب التسليم ، أو على جزئية التسليم للتشهد حقيقة أو مجازا وكون الدعاء قبل التسليم بعيد « مغفرة عزما » أي حتما مغروما عليها ، والظاهر أنه صفة وقيل تميز وهو بعيد ، وفي القاموس عزم على الأمر يعزم عزما ويضم أراد فعله وقطع عليه أو جد في الأمر وعزم الأمر نفسه عزم عليه وعلى الرجل أقسم.

وأقول : لعل المغفرة المعزومة عليها هي التي لا تكون معلقة بشرط أو صفة أو وقت أو بنوع من الذنب « لا تغادر » على صيغة الخطاب أي أنت أو الغيبة فالضمير للمغفرة ، والمغادرة الترك « وعافني » أي من الأمراض والأعراض ، الجسمانية والروحانية ، والدنيوية والأخروية « بعدها أبدا » أي في الدنيا والآخرة إن كان تأكيد للمغفرة ، وإذا كان تأكيدا بعدم الارتكاب هو في الدنيا والأخير أظهر ، وأبدا في الثاني شامل للدنيا والآخرة « واهدني هدى » قيل طلب للثبوت على الهداية أو الوصول إلى الهداية الخاصة التي هي للأولياء أو الإيصال إلى المطلوب فإنه الذي لا يتصور الضلالة بعده أبدا « وانفعني يا رب بما علمتني » من الأمور الدينية بالعمل به وتعليم غيري وإرشاده.

« واجعله لي ولا تجعله علي » أي اجعل ما علمتني نافعا لي بأن توفقني للعمل به ، ولا تجعله بحيث يضرني بترك العمل به ، فإن العالم بلا عمل محجوج بعلمه والجاهل أقرب إلى المغفرة من العالم ، وقد ورد أنه يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل

٣٤١

يا رحمان يا رحيم يا رحيم يا رحيم ارحمني من النار ذات السعير وابسط علي من سعة رزقك واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك واعصمني من الشيطان الرجيم وأبلغ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله عني تحية كثيرة وسلاما واهدني بهداك وأغنني بغناك واجعلني من أوليائك المخلصين وصلى الله على محمد وآل محمد آمين قال من قال هذا ـ بعد كل

______________________________________________________

أن يغفر للعالم ذنب واحد ، وقال الجوهري : الكفاف من الرزق القوت وهو ما كف عن الناس أي أغنى ، وفي الحديث اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا « ورضني به » على بناء التفعيل ، وفي بعض النسخ ـ وأرضني به ـ على بناء الأفعال « يا رباه » الألف للاستغاثة ، وإلحاق الهاء لإظهار حرف المد لخفائه خصوصا الألف والهاء ساكنة في الوقف وتسقط في الوصل ، وقد تبقى مكسورة أو مضمومة ، وعند بعض مفتوحة أيضا.

قال الشيخ الرضي (رض) في شرح الكافية : إنما ألحقوا هذه الهاء بيانا لحرف المد ولا سيما الألف لخفائها ، فإذا جئت بعدها بهاء ساكنة تبينت وهذه الهاء تحذف وصلا ، وربما تثبت فيه في الشعر إما مكسورة للساكنين أو مضمومة بعد الألف والواو تشبيها بها للضمير الواقعة بعدهما ، وبعضهم يفتحها بعد الألف قبلها ، وإثباتها في الوصل لإجراء الوصل مجرى الوقف قال ـ يا مرحباه بحمار ناجية ـ والكوفيون يثبتونها وقفا ووصلا في الشعر أو في غيره ، « والسعير » النار أو لهبها كما في القاموس والمراد هنا الثاني والوصف للتوضيح لا للتقييد لأن نار جهنم ذات لهب دائما كما في التنزيل ، والتعدية بمن لتضمين الإجارة ونحوها « من سعة رزقك » أي من رزقك الواسع « واهدني لما اختلف فيه من الحق » من للتبعيض ويحتمل البيان ، أي اهدني إلى الحق الذي اختلف فيه من الأصول والفروع فقبله بعض وأنكره بعض ، وقوله « بإذنك » متعلق بالهداية أو بالاختلاف على احتمال لما مر أنه لا يقع شيء في الأرض ولا في السماء إلا بإذنه تعالى ، وقد قدمنا تفسيره.

« واعصمني من الشيطان » البعيد من رحمة الله المرجوم بالأحجار عند إنزاله

٣٤٢

صلاة رد الله عليه روحه في قبره وكان حيا مرزوقا ناعما مسرورا إلى يوم القيامة.

٥ ـ عنه ، عن بعض أصحابه رفعه قال تقول بعد الفجر ـ اللهم لك الحمد حمدا خالدا مع خلودك ولك الحمد حمدا لا منتهى له دون رضاك ولك الحمد حمدا

______________________________________________________

من السماء وباللعن من الله والملائكة والناس أجمعين « واهدني بهداك » أي بهداياتك الخاصة والهدى بضم الهاء وفتح الدال القرآن والبيان والدلالة والإرشاد ، يقال : هداه الله تعالى إذا أرشده وبصره طريق معرفته ومعرفة حججه وأوليائه وعرفه ما لا بد منه في وجوده وبقائه وكماله في النشأتين « وأغنني بغناك » أي بغني من عندك حتى لا احتاج إلى غيرك أو بغني النفس لا بالمال « واجعلني من أوليائك المخلصين » بفتح اللام من أخلصه لله إذا جعله خالصا من الرذائل أو متميزا عن غيرهم في السعادة من خلص إذا تميز ، أو سالما من المكاره الأخروية من خلص إذا سلم ونجا ، أو واصلا إلى قربه تعالى من خلص فلان إلى فلان إذا وصل إليه ، أو بكسرها من أخلص لله إذا طلب بعلمه وجه الله تعالى وترك الرياء والسمعة ، أو أخلص نفسه من المهلكات والخبائث كما أخلصت النار الذهب ، أو غيره من الغش « وكان حيا » أي بالحياة التي تكون في البرزخ بالجسد المثاني ـ أو غيره كالشهداء ، لا بهذا البدن وإن احتمل ذلك على بعد في غير المعصومين عليهم‌السلام.

الحديث الخامس : مرفوع أيضا.

« حمدا خالدا » أي لا يكون له نهاية كما أنه لا نهاية لوجوده واستحقاقه للحمد وقيل : يكون ثوابه خالدا « لا منتهى له دون رضاك » أي لا ينتهي حتى ترضى به عني ، والمنتهى مصدر ميمي أو اسم مكان ، وقيل : رضاه عبارة عن الإحسان والإكرام وفيه رجاء لأن يكون ثواب حمده غير متناه لأن عدم نهاية الحمد عند إحسانه وإكرامه بسببه مستلزم لعدم نهايتهما « لا أمد له دون مشيتك » الأمد الغاية وهو يحتمل وجوها.

الأول : أن يكون المعنى دون مشيتك ، أي دون ما تشاء من العباد أن يحمدوك به فهو قريب من الفقرة السابقة.

٣٤٣

لا أمد له دون مشيتك ولك الحمد حمدا لا جزاء لقائله إلا رضاك اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان اللهم لك الحمد كما أنت أهله الحمد لله بمحامده كلها على نعمائه كلها حتى ينتهي الحمد إلى حيث ما يحب ربي ويرضى وتقول بعد الفجر قبل أن تتكلم ـ الحمد لله ملء الميزان ومنتهى الرضا وزنة العرش وسبحان الله ملء الميزان ومنتهى الرضا وزنة العرش والله أكبر ملء الميزان ومنتهى

______________________________________________________

الثاني : أن يكون المعنى دون مشيتك تركه وهو محال فالحمد أبدي.

الثالث : أن يكون المعنى دون مشيتك تركه بارتكاب ما هو أهم منه.

الرابع : ما قيل إن المشية هنا بمعنى التجويز والتكليف ، أي حمدا لا يكون متعلقا بأمر لا يرضى الله بالحمد عليه إلا بقيد كالحمد على الرضا بإمامة أئمة الضلالة.

الخامس : ما قيل فيه طلب لأن يكون الحمد بغير غاية عند تعلق مشيته تعالى بصدوره ، وبالجملة طلب أن يكون تعلق المشية به على هذا الوصف.

السادس : ما قيل أيضا وهو أن يكون المراد عدم الغاية من طرف البداية تفضلا بإرادة المشية الأزلية وإن كان الحمد حادثا كتعلق المشية به.

« لا جزاء لقائله إلا رضاك » قيل طلب لأن يكون الحمد خالصا له عاريا من الرياء والسمعة لأنه الذي يترتب عليه رضاه تعالى ، « اللهم لك الحمد » أي الحمد على الوجه المذكور لك لا لغيرك وفيه إجمال بعد تفصيل وجمع بعد تفريق وهو فن من الصناعات البديعية « وإليك المشتكى » أي الشكاية من الغربة والفرقة ، والوحدة والوحشة ، وغيبة الإمام وغيرها من البلايا الواردة في الدنيا « وأنت المستعان » ، في الأمور والشدائد كلها « كما أنت أهله » قيل فيه إظهار عجز من حمد هو أهله وإنما غاية كمال العبد هي التضرع بأن يجعل حمده شبيها بحمد هو أهله ويثيب به من باب التفضل « الحمد لله بمحامده كلها على نعمائه كلها » حمده إجمالا بجميع ما يحمد به على جميع ما يحمد عليه للإشعار بأن حمده تفصيلا فيهما محال ، وقد قال بعض الأفاضل :

٣٤٤

الرضا وزنة العرش ولا إله إلا الله ملء الميزان ومنتهى الرضا وزنة العرش تعيد ذلك أربع مرات ثم تقول اللهم أسألك مسألة العبد الذليل أن تصلي على

______________________________________________________

قد يكون التفصيل في الدعاء في بعض المواضع أبلغ وقعا في النفوس وألذ ، وقد يكون الإجمال والاختصار أبلغ وأنفع فلذلك بين الشرع كلا الطريقين « حتى ينتهي الحمد إلى حيث ما يحب ربي ويرضى » حيث هنا للمقام الأعلى من المحبة والرضا بقرينة المقام « قبل أن تتكلم » أي بغير القرآن والدعاء والذكر أو أحدا من الآدميين والمليء بكسر الميم وسكون اللام مهموز إما يملأ الظرف ونصبه على المفعول المطلق إذ قد يكون غير المصدر نائبا للمصدر نحو ـ كلمته كلاما ـ والعامل الفعل المفهوم من السابق مثل أحمد وأدعو وأسبح وأكبر وأهلل ، ومن طرق العامة ، للميزان كفتان كل كفة طباق السماوات والأرض والحمد لله يملأه فقيل المعنى يملأه لو كانت أجساما ، وقيل المقصود منه تكثير العدة وقيل تكثير أجوره ، وقيل تعظيم شأنه كما مر « ومنتهى الرضا » لكونه في غاية الكمال المترتب عليها نهاية الرضا « وزنة العرش » بكسر الزاي أي ما يوازنه ويعادله تشبيها للمعقول بالمحسوس والظاهر أن المراد بالعرش هنا أعظم الأجسام وإن كانت له معان أخر كما مر وفي بعض النسخ التهليل مقدم على التكبير ، وفي بعضها بالعكس.

« تعيد ذلك » هو من قبيل التأكيد أي تعيد تلك الفقرات مع كل من التحميد والتسبيح والتكبير والتهليل كما قلنا لا أن تكتفي بها مرة واحدة بأن تقول الحمد لله سبحان الله والله أكبر ولا إله إلا الله ملأ الميزان إلخ وليس تأسيسا حتى يفيد إعادة جميع ما ذكر أربع مرات ، ويحتمل ذلك أيضا كما فهمه بعض الأصحاب وبعضهم قالوا يعيدها ثلاث مرات وكأنهم أخذوه من خبر آخر ولعله ما رواه ابن الباقي في اختياره مرسلا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال من سره أن ينسئ الله تعالى في عمره وينصره على عدوه فليواظب على هذا الدعاء بكرة ثلاثا وعشية ثلاثا وهو هذا الدعاء ( سبحان الله ملء الميزان ومنتهى العلم ومبلغ الرضا وزنة العرش وسعة

٣٤٥

محمد وآل محمد وأن تغفر لنا ذنوبنا وتقضي لنا حوائجنا في الدنيا والآخرة في يسر منك وعافية.

٦ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن بعض أصحابه ، عن محمد بن الفرج قال كتب إلي أبو جعفر ابن الرضا عليه‌السلام بهذا الدعاء وعلمنيه وقال من قال في دبر صلاة الفجر لم يلتمس حاجة إلا تيسرت له وكفاه الله ما أهمه :

______________________________________________________

الكرسي ، والحمد لله ملء الميزان إلى آخره وكذلك لا إله إلا الله والله أكبر ، وكذلك وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ) ولكن بينهما بون بعيد وحوائج الدنيا ما يحتاج إليه في التعيش والبقاء وحوائج الآخرة ما ينفع فيها من الخيرات كلها والإعاذة من النار وعقوباتها ودخول الجنة ورفع درجاتها « في يسر منك وعافية » الظرف متعلق بتقضي أو حال عن ضمير المتكلم ومتك صفة ليسر ويسر مترتب على قضاء حوائج الدنيا وعافية على قضاء حوائج الآخرة أو كل مترتب على كل وهو أفيد فإن حوائج الدنيا قد تحصل بمشقة وقد تكون مقرونا ببلية وسوء عاقبة وكذا حوائج الآخرة ورفع درجاتها قد تكون بعسر ومقاساة بلايا وشدائد في الدنيا وبغير عافية كعذاب البرزخ وشدة سكرات الموت وأهوال القيامة.

الحديث السادس : ضعيف.

« بهذا الدعاء » الباء للتقوية وعلمنيه أي بعد ما لقيته مشافهة علمني معاني الدعاء وكيفية قراءته ، وقال من قال أي من قاله ويحتمل أن يكون التعليم في الكتاب والأول أظهر « وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ » قيل التفويض نوع لطيف من التوكل وهو أن يفعل العبد ما أمره الله به ويكل أموره الدنيوية والأخروية إليه ولا يبالي بما وقع عليه من البلايا ، وفي النهاية في حديث الدعاء فوضت أمري إليك أي رددته يقال فوض إليه الأمر تفويضا إذا رده إليه وجعله الحاكم فيه ، إن الله بصير بالعباد عالم بأحوالهم الظاهرة والباطنة ، ومنافعهم ومضارهم فلا يخفى

٣٤٦

بسم الله وبالله وصلى الله على محمد وآله وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ

______________________________________________________

عليه كرب المكر وبين فيزيله إذا كانت في إزالته مصلحة فوقاه الله سيئات ما مكروا قال في المجمع : أي صرف الله عنه سوء مكرهم فجاء مع موسى حتى عبر البحر معه عن قتادة ، وقيل إنهم هموا بقتله فهرب إلى جبل فبعث فرعون رجلين في طلبه فوجداه قائما يصلي وحوله الوحوش صفوفا فخافا ورجعا هاربين انتهى.

وفي الكافي والمحاسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنهم سطوا عليه وقتلوه ولكن أتدرون ما وقاه وقاه أن يفتنوه في دينه ، وفي تفسير علي بن إبراهيم عنه عليه‌السلام والله لقد قطعوه إربا إربا ولكن وقاه الله عز وجل أن يفتنوه عن دينه وفي الاحتجاج عنه عليه‌السلام أنه بالتقية رفع شر فرعون عن نفسه ، وقيل الواشين به ( لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) فيه إقرار بتوحيده المطلق وتنزيهه عن النقص والعجز واعتراف بالظلم لنفسه المشعر بأن ما لحقه من البلية والغم من أجل عمله وكسبه وهذا الإقرار الدال على كمال العبودية والعجز والانقطاع عن الخلق مقتضى لإزالة البلية والغم كما قال ( فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ ) الضمير الذي النون وغمه ألم التقام الحوت أو غم الخطيئة أي ترك الأولى ، وهي المهاجرة عن قومه بدون إذنه سبحانه وتنجيته بأن أمر الحوت بقذفه إلى الساحل بعد تسع ساعات كما في بعض الروايات أو بعد ثلاثة كما روي عن الباقر عليه‌السلام أو سبعة أيام كما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام بسند معتبر وروايات الثلاثة أكثر ، والجمع بينها مشكل ، وكان بعضها محمول على التقية ( وكذلك ) أي كما أنجينا يونس ( نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) المغمومين إذا دعوا الله بهذا الكلام أو مطلقا مخلصين ، والآية في سورة الأنبياء وهي مجربة لدفع الغموم « حَسْبُنَا اللهُ » أي محسبنا وكافينا في قضاء حوائجنا ودفع شر الأعادي عنا « وَنِعْمَ الْوَكِيلُ » لمن وكل إليه أمره والبحث في هذا

٣٤٧

فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ما شاءَ اللهُ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ما شاء الله لا ما شاء الناس ما شاء الله وإن كره الناس حسبي الرب من المربوبين حسبي الخالق من المخلوقين حسبي الرازق من المرزوقين حسبي الذي لم يزل حسبي منذ قط حسبي الله الذي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُ

______________________________________________________

العطف والجواب عنه مشهوران « فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ » أي فرجع المجاهدون عن بدر بعد غزوة أحد متلبسين بنعمة عظيمة ، وعافية وأمن من الأعداء ، وبفضل كثير من الله من التجارة والغنيمة أو الثواب الجزيل « لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ » من الأعداء والآية في سورة آل عمران وهي مأثورة مجربة لدفع شر الأعادي « ما شاءَ اللهُ » أي كان وقد مر « لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » في الأول إقرار بأن كل شيء وجوده وبقاؤه وفناؤه بمشية الله تعالى على المعنى الذي مر في كتاب التوحيد ، وفي الثاني اعتراف بالعجز ، وأن كل ما حصل له من الخيرات أو دفع عنه من المكروهات فهو بحول الله وقوته وأقداره ومعونته وقد ورد في الأخبار أن ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، لكثرة المال والدنيا.

كما روى الصدوق في الخصال عن ابن أبي عمير عن جماعة من مشايخه منهم أبان بن عثمان ، وهشام بن سالم ، ومحمد بن حمران عن الصادق عليه‌السلام قال : عجبت لمن فزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله عز وجل ( حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) فإني سمعت الله جل جلاله يقول بعقبها ( فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ) (١) وعجبت لمن اغتم كيف لا يفزع إلى قوله عز وجل ( لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (٢) فإني سمعت الله جل جلاله يقول بعقبها ( فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله ( وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ) (٣)

__________________

(١) آل عمران : ١٧٤.

(٢) الأنبياء : ٨٨.

(٣) غافر : ٤٤.

٣٤٨

الْعَرْشِ الْعَظِيمِ » ـ وقال : إذا انصرفت من صلاة مكتوبة فقل : « رضيت بالله ربا

______________________________________________________

فإني سمعت الله جل وتقدس يقول بعقبها ( فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا ) وعجبت لمن أراد الدنيا وزينتها كيف لا يفزع إلى قوله تبارك تعالى ( ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ ) (١) فإني سمعت الله عز اسمه يقول بعقبها ( إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ) وعسى موجبة وأقول : ذكر بقية الآيات في هذا الدعاء حسن طلب بمضمونها.

« ما شاء الله » أي كان قطعا لما فيه من المصلحة لا جميع ما شاء الناس إذ قد لا تكون فيه مصلحة « ما شاء الله وإن كره الناس » كالأمراض والبلايا والمصائب والفقر وغيرها وفيه إشارة إلى الرضا بالقضاء ، ودلالة على أن استجابة الدعوات تابعة للمصالح كما حققنا سابقا « من المربوبين » أي عوضهم قوله عليه‌السلام « منذ قط » كان فيه تقدير أي منذ كنت أو خلقت وقط تأكيد أو قط هنا بمعنى الأزل أي من أزل الآزال إلى الآن أو منذ كان الدهر والزمان وقط ، وإن كان غالبا تأكيدا للنفي فقد يأتي لتأكيد الإثبات ، وربما يقرأ بصيغة فعل الماضي أي منذ خلقني وأفرز مودتي عن سائر المواد.

وأقول : على هذا يحتمل أن يكون كناية عن تقدير الأشياء والقطع عليها في الألواح السماوية ، وكان المعنى الثاني أظهر الوجوه.

قال في القاموس : القط القطع وما رأيته ويضم ويخففان ، وقط مشددة مجرورة بمعنى الدهر مخصوص بالماضي أي فيما مضى من الزمان أو فيما انقطع من عمري وإذا كانت بمعنى حسب فقط كعن ، وقط منونا وقطي ، وإذا كان اسم فعل بمعنى يكفي فيزاد نون الوقاية ، ويقال قطني ويقال قطك أي كفاك وقطني أي كفاني ، ومنهم من يقول قط عبد الله درهم فينصبون بها ، وقد تدخل النون فيها وتنصب بها فتقول قطن عبد الله درهم ثم قال وإذا أردت بقط الزمان فمرتفع أبدا غير منون ، وما رأيت مثله قط فإن قللت بقط فاجزمها ما عندك إلا هذا قط ، ثم

__________________

(١) الكهف : ٣٩.

٣٤٩

وبمحمد نبيا وبالإسلام دينا وبالقرآن كتابا وبفلان وفلان أئمة اللهم وليك فلان فاحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن

______________________________________________________

قال : وتختص بالنفي ماضيا والعامة تقول لا أفعله قط لحن ، وفي مواضع من البخاري جاء بعد المثبت منها في الكسوف أطول صلاة صليتها قط ، وفي سنن أبي داود توضأ ثلاثا قط ، وأثبته ابن مالك في الشواهد لغة قال ، وهي مما خفي على كثير من النحاة وماله إلا عشرة قط يا فتى مخففا مجزوما ومثقلا مجزوما وقال منذ بسيط مبني على الضم ومذ محذوف منه مبني على السكون ويكسر ميمهما ويليهما اسم مجرور أنت هي.

وأقول : يظهر منه أنه يمكن أن يكون هنا قط بالسكون بمعنى حسب ، وقيل المعنى حسبي الله وكفاني عن أول عمري إلى الآن ومنه أتوقع الكفاية فيما بقي انتهى ، وأقول في الفقيه هكذا « حسبي من كان منذ كنت لم يزل حسبي حسبي الله لا إله إلا هو » وفي مفتاح الشيخ : حسبي من كان مذ كنت حسبي فلا تكلف فيهما والأول أوثق وأحسن « رضيت بالله ربا » قوله عليه‌السلام ربا تميز عن النسبة كما حققه الشيخ الرضي (رض) في شرح الكافية في قولهم : كفى زيد رجلا ، قال : تقديره كفى شيء زيد رجلا ، وفي طاب زيد نفسا : طاب شيء زيد نفسا أو علما أو دارا فالذات المقدرة هو شيء المنسوب إليه كفى وطاب فإذا أظهرته صار زيد في كفى زيد رجلا بدلا منه ورجلا تميز لشيء المقدر ، فإن قصدنا أن نرد التميز في هذه الأمثلة كلها إلى أصله حين كان منسوبا إليه الفعل أو شبهه ، ونرد الاسم الذي انتصب عنه التميز إلى مركزه الأصلي ، جعلنا ما انتصب عنه التميز إن كان التميز نفسه بدلا من التميز ، أو عطف بيان له ، فنقول : كفى رجل زيد وطاب أب زيد إلى آخر ما حققه.

واعترض عليه السيد الشريف بأن الظاهر أنك إذا قلت : كفى زيد كان هناك إبهام في أن الكافي في زيد ما هو رجوليته أو علمه أو شهادته ، فإذا قلت : رجلا كان المقصود ، أي كفى رجولية زيد ، وكذا إذا قلت : شهيدا كان المعنى كفى

٣٥٠

تحته وامدد له في عمره واجعله القائم بأمرك والمنتصر لدينك وأره ما يحب وما تقر به عينه في نفسه وذريته وفي أهله وماله وفي شيعته وفي عدوه وأرهم منه

______________________________________________________

شهادته وعلى هذا ينبغي أن يضاف هيهنا أيضا شيء إلى زيد فيقال شيء زيد هو رجوليته ، وما ذكره الشارح يدل على أن الإبهام في أن الذات الكافي الذي هو زيد مما ذا فيكون التردد والإبهام في ذات موصوف بالرجولية وذات موصوف بالشهادة إلى غير ذلك فيفسر بذات مع صفة الرجولية أو بذات مع صفة الشهادة ، والحق ما ذكرنا إلى آخر ما قال ، وكذا الكلام في نظائره وفلان وفلان كناية عما مضى من الأئمة عليهم‌السلام وفلان ثالثا كناية عن إمام العصر عليه‌السلام وهو خبر وليك وفي بعض الكتب فلانا فهو عطف بيان ، وقد مر الكلام في ذكر الجهات وسبب تبديل من بعن في الجانبين ، وقيل : عن اسم بتقدير من عن يمينه وحذف من لكراهة اجتماع صورتي حرف الجر ، ولا يخفى ما فيه.

« واجعله القائم » قيل ليس دعاء حقيقة بل خبر في صورة الإنشاء أي رضيت بكونه قائما ، وقيل : المطلب للتأكيد وإظهار انتظار الفرج ، وأقول : في سائر الأئمة عليهم‌السلام يحتمل الدعاء حقيقة أي يسر له أسباب الخروج والغلبة على الأعادي فإنهم عليهم‌السلام لعدم يأس الشيعة وانتظارهم الفرج كانوا يبهمون الأمر عليهم وكانوا يقولون كلنا قائم بأمر الله إذا أمرنا بالخروج « والمنتظر » يحتمل الفتح والكسر « ويقر عينه » على بناء الأفعال وفي بعض النسخ « وتقر به عينه » فيحتمل بناء الأفعال بصيغة الخطاب والمجرد من باب علم وضرب ورفع عينه ، في القاموس قرت عينه تقر بالفتح والكسر قرة وتضم وقرورا بردت وانقطع بكاؤها أو رأت ما كانت متشوقة إليه ، وفي النهاية في حديث الاستسقاء لو رآك لقرت عيناه أي تسر بذلك وفرح وحقيقته أبرد الله دمعة عينيه لأن دمعة الفرح والسرور باردة وقيل معنى أقر الله عينك بلغك أمنيتك حتى ترضى نفسك وتسكن عينك فلا تستشرف إلى غيرك انتهى.

٣٥١

ما يحذرون وأره فيهم ما يحب وتقر به عينه واشف صدورنا وصُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ » قال وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول إذا فرغ من صلاته ـ اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وإسرافي على نفسي وما أنت أعلم به مني اللهم

______________________________________________________

وأقول ذكر الأطباء أن دمعة السرور باردة لأنها تحصل من انبساط النفس فتنزل ما كانت من الرطوبات في شؤون الرأس فاكتسبت البرودة من الدماغ ، وبكاء الحزن تحصل من بخار حاد يتصاعد من القلب إلى الدماغ فإذا وصلت إلى الدماغ وتأثرت من الدماغ فتنزل قبل أن تكتسب برودة ظاهرة كالتي تتقاطر من سقوف الحمامات ، فهي باقية على حرارتها ، فهذا منشأ تخالف الدمعتين في البرودة والسخونة فما قال الشيخ البهائي (ره) في المفتاح ـ إن العرب تزعم أن دمع الباكي من السرور بارد ودمع الباكي من الحزن حار ـ ليس على ما ينبغي ، والشفاء البرء من المرض وأستعير لشفاء القلوب من الهم والحقد والانتقام من العدو قوله قال « وكان النبي » ظاهره أنه من تتمة رواية محمد بن الفرج ، والقائل الجواد عليه‌السلام وما في الفقيه يحتمل ذلك ، ويحتمل كونه رواية أخرى مرسلة ، ويؤيده أنه روي في مكارم الأخلاق عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه من دعا به عقب كل صلاة مكتوبة حفظ في نفسه وداره وماله وولده وهو اللهم اغفر إلى آخر الدعاء.

وأكثر فقرات هذا الدعاء مأثورة في كتب العامة في روايات متفرقة ، روي في المشكاة عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء ( اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير ) ثم قال متفق عليه أي مروي في الصحيحين ، ثم روى من صحيح النسائي عن عطاء بن السائب عن أبيه قال صلى بنا عمار بن ياسر صلاة فأوجز فيها فقال له بعض القوم لقد خففت وأوجزت الصلاة فقال أما على ذلك لقد

٣٥٢

أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أجمعين ما علمت الحياة خيرا لي فأحيني وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي اللهم إني

______________________________________________________

دعوت فيها بدعوات سمعتهن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما قام تبعه رجل من القوم هو أبي غير أنه كنى عن نفسه فسأله عن الدعاء ثم جاء فأخبر به القوم ( اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب وأسألك القصد في الفقر والغناء وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا ينقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهديين ).

قوله عليه‌السلام « ما قدمت وما أخرت » يحتمل وجوها.

الأول : أن يكون المعنى ما فعلت قبل ذلك وما أفعله بعد ذلك كما قال تعالى ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ) (١).

الثاني : أن يكون المعنى ما فعله في حياته وما يترتب على فعله بعد وفاته كبدعة يعمل بها بعده أو وصية بشر.

الثالث : أن يراد به تقديم ما أخره الله ، أو تأخير ما قدمه الله ، إما زمانا كالصلاة قبل الوقت وفعلها بعد الوقت قضاء أو تركها رأسا ، أو تقديم خلافة ، خلفاء الجور وتأخير خليفة الحق ، أو رتبة كالقول بإمامة المفضول فإنه تقديم لما أخر الله وتأخير لما قدم الله ، أو تقديم البدعة على السنة وعكسه ، وتقديم الجاهل على العالم ، والطالح على الصالح ، والشباب على الشيوخ ، وربما يؤيده قوله أنت المقدم والمؤخر.

__________________

(١) الفتح : ٢.

٣٥٣

أسألك خشيتك في السر والعلانية وكلمة الحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر

______________________________________________________

الرابع : أن يكون المراد ما قدم من المعاصي وأخر من الطاعات.

الخامس : أن يكون المراد به التعميم كما هو الشائع في العرف يقال لا أقدم رجل ولا أؤخر إلا عن رضاك وكأنه إشارة إلى قوله تعالى ( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ ) (١) قال البيضاوي : أي بما قدم من عمل عمله وبما أخر منه لم يعمله ، أو بما قدم من عمل عمله وبما أخر من سنة عمل بها بعده ، أو بما قدم من مال تصدق به وبما أخر فخلفه أو بأول عمله وأخره ، وقال الطبرسي (ره) أي يخبر الإنسان يوم القيامة بأول عمله وأخره فيجازى به وقيل بما قدم من العمل في حياته وما سنه فعمل به بعد موته من خير أو شر ، وقيل بما قدم من المعاصي وأخر من الطاعات عن ابن عباس ، وقيل بما أخذ وترك ، وقيل بما قدم من طاعة الله وأخر من حق الله فضيعه ، وقيل ما قدم من ماله لنفسه وما خلفه لورثته بعده انتهى. وقد سبق توجيه نسبة المعصية إلى المعصومين عليهم‌السلام واستغفارهم عنها ، وقيل دعاؤه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك مع علمه أنه مغفور له ومع أنه معصوم من جميع الذنوب على ما هو الحق إشفاق وتعليم للأمة ، وقيل خوف من مكر الله ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ، وقيل يحتمل أنه بحسب المقامات يرى مقامه في زمان دون مقامه في زمان آخر فيستغفر من مقامه الأول ، وقيل طلب لأمته إلا أنه نسبها إلى نفسه للإشعار بأن مغفرة ذنوبهم مغفرة له ، أو طلبها لنفسه بناء على أن الكفار كانوا معتقدين أنه مذهب في دعوى الرسالة فجعل رفع ذلك الاعتقاد منهم بمنزلة المغفرة ، أو بناء على أنه عد خلاف الأولى ذنبا « وما أسررت » أي أخفيته عن الخلق وما أضمرته في قلبي أو الأعم منهما « وما أعلنت » مقابلة بكل من المعاني والإسراف التجاوز عن الحد ، وتعديته بعلى لتضمين معنى الجرأة ونحوها أي المبالغة والإصرار على المعاصي ، أو إشارة إلى أن كل خطيئة جرأة عظيمة ومبالغة

__________________

(١) القيامة : ١٣.

٣٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

في الضرر على النفس.

« اللهم أنت المقدم والمؤخر » على صيغة الفاعل وقد مر في روايات العامة أيضا وقد ذكر فيه وجوه.

الأول : التقديم والتأخير بين المخلوقات في الزمان كآدم إلى خاتم الأنبياء تم إلى خاتم الأوصياء صلوات الله عليهم وكذا في سائر الخلق والمخلوقات.

الثاني : أن يكونا في المكان كالعرش إلى الثرى ترتيب الكواكب والعناصر والمواليد وغيرها.

الثالث : أن يكونا في الرتبة والفضل وقال ( وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى ) (١) وقال ( أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) (٢) وقال ( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) (٣) وذلك يكون في الدين والدنيا ، وفي الآخرة والأولى ، وفي الأجناس والأنواع ، والأصناف والأشخاص ، كالنبوة والإمامة ، والوصاية والأمة والرعية فهو المقدم للأنبياء على الأوصياء والأمة والأوصياء على سائر الأمة ، فالنبي من قدمه الله وجعله نبيا ، والإمام والوصي من قدمه الله وجعله إماما ووصيا فليس للناس أن يقدموا من أخره الله وجعله رعية أن يجعلوه إماما ووصيا ، كما ليس لهم أن يجعلوه نبيا ، فهو المقدم والمؤخر وليس لهم الخيرة من أمرهم سبحانه وتعالى عما يشركون ، وكذا فضل المؤمن على الكافر ، والعالم على الجاهل ، والصالح على الطالح ، وكذا فضل بعضهم على بعض في الدرجات الدنيوية ، كالغناء والعزة والثروة ، والفقر والذلة ، والملك والرعية والفطنة والبلادة ، والبخل والسخاوة ، كل ذلك بحسب ما يعلم من مصالحهم كما قال تعالى ( قُلِ اللهُمَّ مالِكَ

__________________

(١) طه : ٧٥.

(٢) الأنفال : ٤.

(٣) النساء : ١٤٥.

٣٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ) (١) وقال ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ) (٢) وقال في النبوة والإمامة كما بينا سابقا ( وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) (٣) ، وقال ( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) (٤) وقال ( وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (٥) وقال ( نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) (٦) وقال ( فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً. دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً ) (٧) ومثلها كثير في الآيات ، وكذا في أصناف الإنسان من العرب والعجم ، ولهندي والتركي ، وأهل كل بلدة وغيرها ، وفي أنواع الحيوانات وأصنافها والمعادن والثمار والنباتات فكلا منها فضل بعضا وأخر بعضا بحسب الشرف والمرتبة والمنفعة والخاصية وغيرها.

الرابع : أن يكون المراد بها ما يرجع إلى البداء كتأخير خروج القائم عليه‌السلام ،

__________________

(١) آل عمران : ٢٦.

(٢) الأنعام : ١٦٥.

(٣) الزخرف : ٣١ ـ ٣٣.

(٤) الأنعام : ١٢٤.

(٥) الأحقاف : ١٩.

(٦) الأنعام : ٨٣.

(٧) النساء : ٩٥.

٣٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وكتأخير موعد موسى عليه‌السلام : كما قال ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) وهو أنسب بمقام الدعاء.

والعامة ذكروا فيه وجوها ، قال في النهاية : في أسماء الله تعالى ، المقدم : هو الذي يقدم الأشياء ويضعها في موضعها ، فمن استحق التقديم قدمه ، وقال في أسماء الله تعالى الآخر والمؤخر فالآخر هو الباقي بعد فناء خلقه كل ناطقة وصامتة ، والمؤخر هو الذي يؤخر الأشياء فيضعها في مواضعها وهو ضد المقدم ، وقال الكرماني في شرح البخاري : أنت المقدم ، أي لي في البعث في الآخرة ، والمؤخر أي لي في البعث في الدنيا ، وقال غيره هو أن يوفق بعضا للطاعات ويخذل آخر عن النصرة أو المعز والمذل ، أو الرافع والخافض.

وقال الطيبي في شرح المشكاة : المقدم المؤخر هو الذي يقدم الأشياء بعضها على بعض إما بالوجود كتقديم الأسباب على مسبباتها ، أو بالشرف والقربة كتقديم الأنبياء والصالحين من عباده على من عداهم ، أو بالمكان كتقديم الأجسام العلوية على السفلية والصاعدات منها على الهابطات ، أو بالزمان كتقديم الأطوار ، والقرون بعضها على بعض.

وقال القرطبي : هذان الاسمان من أسمائه تعالى المزدوجة كالقابض والباسط ، قال العلماء : لا يؤتى بهما إلا كذلك فلا يقال ـ أنت المقدم ـ وحده كما لا يقال ـ أنت القابض ـ وحده. وقال بعضهم : أنت منزل الأشياء منازلها فتقدم من تشاء لطاعتك وتؤخر من تشاء لخذلانك ، وقال بعضهم : أنت المقدم بلا بداية وأنت المؤخر بلا نهاية ، أو أنت المقدم القديم ، وأنت المؤخر الباقي ، أو أنت الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء.

وأقول : كان هؤلاء قرءوا على بناء المفعول وهو خلاف المضبوط في الكتب لا إله إلا أنت فلا مقدم ولا مؤخر غيرك ، فهو تأكيد لما قبله ، أو تفريع عليه

٣٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

« بعلمك » الباء للقسم أو للسببية والظرف متعلق ـ بأسألك ـ المقدر ، أو بأحيني والغيب مفعول علمك ، وقيل مجرور صفة له وهو بعيد ولا حاجة إلى مفعول ثان كما قيل وما في قوله « ما علمت » اسمية شرطية زمانية مثل قوله فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم كذا قيل.

وقال الطيبي في شرح المشكاة : بعلمك الباء للاستعطاف أي أنشدك بحق علمك ، وقوله وأسألك خشيتك عطف على هذا المحذوف واللهم معترضة « خشيتك في السر والعلانية » قال المحقق الطوسي قدس‌سره في أوصاف الأشراف الخوف والخشية وإن كانا في اللغة بمعنى واحد إلا أن بين خوف الله وخشيته في عرف أرباب القلوب فرقا وهو أن الخوف تألم النفس من العقاب المتوقع بسبب ارتكاب المنهيات ، والتقصير في الطاعات ، والخشية تحصل عند الشعور بعظمة الحق وهيبته وخوف الحجب عنه ، والمراد بالخشية في السر والعلانية ، ما أشار إليه الشيخ البهائي (ره) وهو أن يظهر آثارها في الأفعال والصفات ، من كثرة البلاء ودوام التحرق ، وملازمة الطاعات ، وقمع الشهوات حتى يصير جميعها مكروها لديه كما يصير العسل مكروها عند من عرف أن فيه سما قاتلا مثلا ، وإذا احترقت جميع الشهوات بنار الخوف ظهر في القلب الذبول والخشوع والانكسار ، وزال عنه الكبر والحقد والحسد وصار كل همه النظر في خطر العاقبة فلا يتفرغ لغيره ولا يصير له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والاحتراز من تضييع الأنفاس والأوقات ، ومؤاخذة النفس في الخطوات والخطرات ، وأما الخوف الذي لا يترتب عليه شيء من هذه الآثار فلا يستحق أن يطلق عليه اسم الخوف ، وإنما هو حديث نفس ، ولهذا قال بعض العارفين : إذا قيل لك هل تخاف الله ، فاسكت عن الجواب فإنك إذا قلت ـ لا ـ كفرت وإن قلت ـ نعم ـ كذبت « وكلمة الحق في الغضب والرضا » أي لا يصير غضبي على أحد سببا لأن أنكر حقه أو لا أحكم به ولا رضاي عن أحد

٣٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

سببا لأن أثبت له ما ليس بحق ، وقيل هي من توابع العدل وسلامة النفس من الآفات إذ هما نقيضان مراعاة الحق حال الغضب والرضا وعدم التجاوز عنه إلى الباطل كما هو مقتضى الحمية الجاهلية وقال الطيبي المراد بالخشية في الغيب والشهادة إظهارهما في السر والعلانية ، وكذا معنى الرضا أي في حالة رضا الخلق وغضبهم « والقصد في الفقر والغناء » القصد الاعتدال والمقتصد المعتدل الذي لا يميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط ، والإسراف والتبذير وهو متفاوت في الفقير والغني ، فقصد الفقير تقتير للغني وقصد الغني تبذير للفقير.

قال الراغب : القصد استقامة الطريق ، يقال : قصدت قصده أي نحوت نحوه ومنه الاقتصاد وهو على ضربين.

أحدهما : محمود على الإطلاق ، وذلك فيما له طرفان إفراط وتفريط كالجود فإنه بين الإسراف والبخل وكالشجاعة فإنه بين التهور والجبن ونحو ذلك وعلى هذا قوله ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ) (١) وإلى هذا النحو من الاقتصاد أشار بقوله ( وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ) (٢).

والثاني : يكنى به عما يتردد بين المحمود والمذموم وهو فيما يقع بين محمود ومذموم كالواقع بين العدل والجور والقريب والبعيد وعلى ذلك قوله ( فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ ) (٣) وقوله ( لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ ) (٤) أي سفرا متوسطا غير متناهي البعد ، وربما فسر بقريب والحقيقة ما ذكرت « وأسألك نعيما لا ينفد » أي الجنة « وقرة عين

__________________

(١) لقمان : ١٩.

(٢) فرقان : ٦٧.

(٣) فاطر : ٣٢.

(٤) التوبة : ٢٢.

٣٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لا ينقطع » أي ما يوجب رؤيته سرورا وهو لا ينقطع وهو أيضا في الجنة ، وهما إما من باب التفضل أو التوفيق لما يوجبهما ، ويحتمل أن يكونا في الدنيا أو الأعم بأن يتصل نعيم الآخرة وقرة عين الدنيا بقرة عين الآخرة ، وقال الطيبي : يحتمل أنه طلب نسلا لا ينقطع بعده قال تعالى ( هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) (١) أو طلب محافظة الصلوات والإدامة عليها كما ورد وجعل قرة عيني في الصلاة ولا يخفى بعدهما.

« والرضا بالقضاء » فإن قيل : قد تقرر ومر أنه لا يقع شيء خيرا كان أو شرا إلا بقضاء الله تعالى والرضا بقضائه واجب فيلزم منه وجوب الرضا بالكفر والمعاصي وهو قبيح ، وأجاب بعضهم : بأنه إذا عرفت معنى القضاء والرضا به علمت أنه لا نقص فيهما أصلا بل هما عين الحكمة ونفس الكمال وذلك لأنه تعالى إذا علم في الأزل كفر فلان باختياره قضى به ليطابق علمه بالمعلوم فلا نقص فيه ولا في الرضا به بل النقص في عدمهما انتهى.

وأقول : قد مر الكلام فيه في كتابي التوحيد والإيمان والكفر ، وإن للقضاء معان كثيرة ، وكون القضاء بغير معنى العلم أو ما يرجع إليه متعلقا بالكفر والمعصية غير معلوم ، وقد مر في الخبر أن الله تعالى يسأل العبد يوم القيامة عما كلفه ولا يسأله عما قضي عليه ، وقال العلامة (ره) في شرحه على التجريد : القضاء يطلق على الخلق والإتمام قال تعالى ( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) (٢) أي خلقهن وأتمهن ، وعلي الحكم والإيجاب كقوله تعالى ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) (٣) أي أوجبه وألزمه ، وعلى الإعلام والإخبار كقوله ( وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ) (٤)

__________________

(١) الفرقان : ٧٤.

(٢) فصّلت : ١٢٢.

(٣) الإسراء : ٢٣.

(٤) الإسراء : ٤.

٣٦٠