التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

ولذا أمر الله تعالى : رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد عليهم فقال : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ ...).

أى : قل يا محمد لهؤلاء الجاهلين المتعجلين للعذاب : إننى لا أملك لنفسي ـ فضلا عن غيرها ـ شيئا من الضر فأدفعه عنها ، ولا شيئا من النفع فأجلبه لها ، لكن الذي يملك ذلك هو الله وحده ، فهو ـ سبحانه ـ الذي يملك أن ينزل العذاب بكم في أى وقت يشاء ، فلما ذا تطلبون منى ما ليس في قدرتي. وعلى هذا التفسير يكون الاستثناء منقطعا.

ويجوز أن يكون متصلا فيكون المعنى : قل لهم يا محمد إننى لا أملك لنفسي شيئا من الضر أو النفع ، إلا ما شاء الله ـ تعالى ـ أن يجعلني قادرا عليه منهما ، فإننى أملكه بمشيئته وإرادته.

وقدم ـ سبحانه ـ الضر على النفع هنا ، لأن الآية مسوقة للرد على المشركين ، الذين تعجلوا نزول العذاب الذي هو نوع من الضر.

أما الآية التي في سورة الأعراف ، وهي قوله ـ تعالى ـ (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ ..) فقد قدم فيها النفع على الضر ، لأنها مسوقة لبيان الحقيقة في ذاتها. وهي أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يملك لنفسه شيئا من التصرف في هذا الكون ، وللإشعار بأن النفع هو المقصود بالذات من تصرفات الإنسان.

وقوله : (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) تأكيد لما قبله ، وتقرير لقدرة الله ـ تعالى ـ النافذة.

أى : لكل أمة من الأمم أجل قدره الله ـ تعالى ـ لانتهاء حياتها ، فإذا حان وقت هذا الأجل هلكت في الحال دون أن تتقدم على الوقت المحدد لموتها ساعة أو تتأخر أخرى.

* * *

ثم ساقت السورة الكريمة ألوانا أخرى من الأجوبة التي لقنها الله ـ تعالى ـ لرسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكي يرد بها على المشركين الذين تعجلوا العذاب كما صورت أحوالهم عند ما يرون العذاب ، فقال ـ تعالى ـ :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ

٨١

تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٥٤)

وقوله «أرأيتم» بمعنى أخبرونى. وكلمة أرأيت تستعمل في القرآن للتنبيه والحث على الرؤية والتأمل ، فهو استفهام للتنبيه مؤداه : أرأيت كذا أو عرفته؟ إن لم تكن أبصرته أو عرفته فانظره وتأمله وأخبرنى عنه.

ولما كانت الرؤية للشيء سببا لمعرفته وللإخبار عنه ، أطلق السبب وأريد المسبب فهو مجاز مرسل علاقته السببية والمسببية.

وقوله : بياتا أى : ليلا ، ومنه البيت لأنه يبات فيه. يقال : بات يبيت بيتا وبياتا.

والمعنى : أخبرونى أيها الجاهلون الحمقى : أى دافع جعلكم تستعجلون نزول العذاب؟ إن وقوع العذاب سواء أكان بالليل أم بالنهار لا يمكن دفعه ، ولا يمكن أن يتعجله عاقل ، لأنه ـ كما يقول صاحب الكشاف ـ : كل مكروه ، مر المذاق ، موجب للنفار منه ، فكيف ساغ لكم أن تستعجلوا نزول شيء فيه هلاككم ومضرتكم؟!!

وقال ـ سبحانه ـ (بَياتاً) ولم يقل ليلا ، للإشعار بمجيء العذاب في وقت غفلتهم ونومهم بحيث لا يشعرون به ، فهم قد يقضون جانبا من الليل في اللهو واللعب ، ثم ينامون فيأتيهم العذاب في هذا الوقت الذي هجعوا فيه.

فالآية الكريمة توبيخ لهم على استعجالهم وقوع شيء من شأن العقلاء أنهم يرجون عدم وقوعه.

ولذا قال القرطبي : «قوله : (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) استفهام معناه التهويل

٨٢

والتعظيم. أى : ما أعظم ما يستعجلون به. كما يقال لمن يطلب أمرا تستوخم عاقبته : ماذا تجنى على نفسك» (١).

وجواب الشرط لقوله : (إِنْ أَتاكُمْ ...) محذوف والتقدير : إن أتاكم عذابه في أحد هذين الوقتين أفزعكم وأهلككم فلما ذا تستعجلون وقوع شيء هذه نتائجه؟

وقد ذكر صاحب الكشاف وجها آخر بعد أن ذكر هذا الوجه فقال : فإن قلت : فهلا قيل ماذا يستعجلون منه؟ قلت : أريدت الدلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام ، لأن من شأن المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه ، ويهلك فزعا من مجيئه وإن أبطأ ـ فضلا عن أن يستعجله ـ ويجوز أن يكون (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) جوابا للشرط كقولك إن أتيتك ماذا تطعمني (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ...) زيادة في تجهيلهم وتأنيبهم والهمزة داخلة على محذوف ، و (ثُمَ) حرف عطف يدل على الترتيب والتراخي وجيء به هنا للدلالة على زيادة الاستبعاد.

والمعنى : إنكم أيها الجاهلون لستم بصادقين فيما تطلبون ، لأنكم قبل وقوع العذاب تتعجلون وقوعه ، فإذا ما وقع وشاهدتم أهواله. وذقتم مرارته .. آمنتم بأنه حق ، وتحول استهزاؤكم به إلى تصديق وإذعان وتحسر.

وقوله : (آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) قصد به زيادة إيلامهم وحسرتهم ولفظ (آلْآنَ) ظرف زمان يدل على الحال الحاضرة ، وهو في محل نصب على أنه ظرف لفعل مقدر.

أى : قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب : آلآن آمنتم بأنه حق؟ مع أنكم قبل ذلك كنتم به تستهزءون ، وتقولون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأتباعه : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ألا فلتعلموا : أن إيمانكم في هذا الوقت غير مقبول ، لأنه جاء في غير أوانه ، وصدق الله إذ يقول : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ، سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (٣).

وقوله : (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٥٠.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٤٠.

(٣) سورة غافر الآيتان ٨٤ ، ٨٥.

٨٣

تأكيد لتوبيخهم وتأنيبهم بعد أن نزل بهم العذاب ، وهو معطوف على لفظ «قيل» المقدر قبل لفظ (آلْآنَ).

أى : قيل لهم : آلآن آمنتم بأن العذاب حقيقة بعد أن كنتم به تستعجلون؟ ثم قيل لهؤلاء الظالمين الذين أصروا على الكفر واقتراف المنكرات : ذوقوا عذاب الخلد أى العذاب الباقي الدائم ، إذ الخلد والخلود مصدر خلد الشيء إذا بقي على حالة واحدة لا يتغير.

والاستفهام في قوله : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) للنفي والإنكار. أى لا تجزون إلا بالجزاء المناسب لما كنتم تكسبونه في الدنيا من كفر بالحق ، وإيذاء للدعاة إليه ، وتكذيب بوحي الله ـ تعالى ـ.

ثم قال ـ سبحانه ـ (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) النبأ : كما يقول الراغب. خبر ذو فائدة عظيمة ، يحصل به علم أو غلبة ظن (١).

والاستنباء : طلب الأخبار الهامة.

أى : إن هؤلاء الضالين يطلبون منك ـ أيها الرسول الكريم ـ على سبيل التهكم والاستهزاء ، أن تخبرهم عن هذا العذاب الذي توعدتهم به ، أهو واقع بهم على سبيل الحقيقة ، أم هو غير واقع ولكنك تحدثهم عنه على سبيل الإرهاب والتهديد؟

وقوله : (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) إرشاد من الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الجواب الذي يرد به عليهم.

ولفظ (إِي) بكسر الهمزة وسكون الياء ـ حرف جواب وتصديق بمعنى نعم ، إلا أنه لا يستعمل إلا مع القسم.

أى : قل لهم يا محمد : نعم وحق ربي إن العذاب الذي أخبرتكم به لا محيص لكم عنه وما أنتم بمعجزى الله ـ تعالى ـ إذا أراد أن ينزله بكم في أى وقت يريده ، بل أنتم في قبضته وتحت سلطانه وملكه ، فاتقوا الله ، بأن تخلصوا له العبادة ، وتتبعوا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاءكم به من عنده ـ سبحانه ـ.

وقد أكد سبحانه ـ الجواب عليهم بأتم وجوه التأكيد ، لأنهم كانوا قوما ينكرون أشد الإنكار أن يكون هناك عذاب وحساب وبعث وجنة ونار.

قال ابن كثير : «وهذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان ، يأمر الله ـ تعالى ـ رسوله فيهما أن يقسم به على من أنكر المعاد ، أما الآية الأولى فهي قوله

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن ص ٤٨١.

٨٤

ـ تعالى ـ : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ..) (١) وأما الآية الثانية فهي قوله ـ تعالى ـ : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ..) (٢).

وجملة (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) إما معطوفة على جواب القسم ، أو مستأنفة سبقت لبيان عجزهم عن الخلاص ، وتأكيد وقوع العذاب عليهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنهم لن يستطيعوا افتداء أنفسهم من العذاب عند وقوعه فقال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ).

أى : ولو أن لكل نفس تلبست بالظلم بسبب شركها وفسوقها ، جميع ما في الأرض من مال ومتاع ، وأمكنها أن تقدمه كفداء لها من العذاب يوم القيامة ، لقدمته سريعا دون أن تبقى منه شيئا حتى تفتدى ذاتها من العذاب المهين.

ومفعول (لَافْتَدَتْ) محذوف. أى لافتدت نفسها به.

ولو هنا امتناعية ، أى : امتنع افتداء كل نفس ظالمة ، لامتناع ملكها لما تفدى به ذاتها وهو جميع ما في الأرض من أموال ، ولامتناع قبول ذلك منها فيما لو ملكته على سبيل الفرض.

وقوله (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) بيان لما انتابهم من حسرات عند مشاهدتهم لأهوال العذاب المعد لهم.

و (أَسَرُّوا) من الإسرار بمعنى الإخفاء والكتمان. يقال : أسر فلان الحديث. أى : خفض صوته به ، ويقابله الإعلان والجهر ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

والندامة والندم : ما يجده الإنسان في نفسه من آلام وحسرات على أقوال أو أفعال سيئة ، فات أوان تداركها.

أى : وأخفى هؤلاء الظالمون الندامة حين رأوا بأبصارهم مقدمات العذاب ، وحين أيقنوا أنهم لا نجاة لهم منه ، ولا مصرف لهم عنه.

قال صاحب الكشاف : «قوله ـ سبحانه ـ (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) لأنهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحتسبوه ، ولم يخطر ببالهم ، وعاينوا من شدة الأمر وتفاقمه ، ما سلبهم قواهم ، وبهرهم ، فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخا ولا ما يفعله الجازع ، سوى إسرار الندم

__________________

(١) سورة سبأ الآية ٣.

(٢) سورة التغابن الآية ٧.

٨٥

والحسرة في القلوب ، كما ترى المقدم للصلب يثخنه ما دهمه من فظاعة الخطب ويغلب ، حتى لا ينبس بكلمة ويبقى جامدا مبهوتا.

وقيل : أسر رؤساؤهم الندامة من سفلتهم الذين أضلوهم ، حياء منهم وخوفا من توبيخهم ..

وقيل أسروا الندامة : أظهروها من قولهم أسر الشيء إذا أظهره وليس هناك تجلد» (١).

وقوله : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بيان لعدالة الله في أحكامه بين عباده.

أى : وقضى الله ـ تعالى ـ بين هؤلاء الظالمين وبين غيرهم بالعدل دون أن يظلم أحدا.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يدل على كمال قدرته ، وسعة رحمته ، وعلى أنه وحده الذي يملك التحليل والتحريم ، ويعلم السر وأخفى فقال ـ تعالى ـ :

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٤١.

٨٦

وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٦١)

أى : ألا إن لله وحده لا لغيره ، ملك ما في السموات وما في الأرض من مخلوقات ، وهو ـ سبحانه ـ يتصرف فيها وفق إرادته ومشيئته كما يتصرف المالك فيما يملكه ، فهو يعطى من يشاء ويغفر لمن يشاء ، ويتوب على من يشاء (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ).

وقوله : (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أى : ألا إن كل ما وعد الله به الناس من ثواب وعقاب وغيرهما ، ثابت ثبوتا لا ريب فيه ، وواقع وقوعا لا محيص عنه.

وصدرت الآية الكريمة بأداة الاستفتاح (أَلا) الدالة على التنبيه ، لحض الغافلين عن هذه الحقيقة على التذكر والاعتبار والعودة إلى طريق الحق.

وأعيد حرف التنبيه في جملة (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) لتمييزها بهذا التنبيه عن سابقتها ، لأنها مقصودة بذاتها : إذ أن المشركين كانوا يظنون أن ما وعدهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو من باب الترغيب والترهيب وليس من باب الحقائق الثابتة.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أى ولكن أكثر هؤلاء الناس الذين بعثت إليهم يا محمد ، لا يعلمون ما جئت به علما نافعا لسوء استعدادهم ، وضعف عقولهم ، وخبث نفوسهم.

وقال (أَكْثَرَهُمْ) : إنصافا للقلة المؤمنة التي علمت الحق فاتبعته وصدقته ، ووقفت إلى جانب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تؤيده وتفتدى دعوته بالنفس والمال.

وقوله : (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بيان لكمال قدرته ، إثر بيان عظم ملكوته ، ونفاذ وعده.

أى : هو ـ سبحانه ـ الذي يحيى من يريد إحياءه ويميت من يريد إماتته وإليه وحده ترجعون جميعا ، فيحاسبكم على أعمالكم ، ويجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.

ثم وجه ـ سبحانه ـ نداء إلى الناس ، أمرهم فيه بالانتفاع بما اشتمل عليه القرآن الكريم ، من خيرات وبركات فقال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ

٨٧

رَبِّكُمْ ، وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).

والموعظة معناها : التذكير بالتزام الحق والخير ، واجتناب الباطل والشر ، بأسلوب يلين القلوب ، ويرقق النفوس.

والشفاء : هو الدواء الشافي من كل ما يؤذى ، ويجمع على أشفيه.

والهدى : هو الإرشاد والدلالة بلطف إلى ما يوصل إلى المقصد والبغية ، والرحمة معناها الإحسان ، أو إرادة الإحسان.

والمعنى : يا أيها الناس قد جاءكم من الله ـ تعالى ـ كتاب جامع لكل ما تحتاجون اليه من موعظة حسنة ترق لها القلوب ، وتخشع لها النفوس. وتصلح بها الأخلاق ومن شفاء لأمراض صدوركم. ومن هداية لكم إلى طريق الحق والخير ، ومن رحمة للمؤمنين ترفعهم الى أعلى الدرجات وتكفر ما حدث منهم من سيئات.

وجاء هذا الإرشاد والتوجيه عن طريق النداء ، استمالة لهم إلى الحق بألطف أسلوب ، وأكمل بيان ، حتى يثوبوا إلى رشدهم ، ويتنبهوا من غفلتهم.

ووصفت الموعظة بأنها من ربكم. لتذكيرهم بما يزيدها تعظيما وقبولا ، لأنها لم تصدر عن مخلوق تحتمل توجيهاته الخطأ والصواب ، وإنما هي صادرة من خالق النفوس ومربيها ، العليم بما يصلحها ويشفيها.

وقيد الرحمة بأنها للمؤمنين ، لأنهم هم المستحقون لها ، بسبب إيمانهم وتقواهم.

قال الآلوسى ما ملخصه : «واستدل بالآية على أن القرآن يشفى من الأمراض البدنية كما يشفى من الأمراض القلبية ، فقد أخرج ابن مردويه عن أبى سعيد الخدري قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إنى اشتكى صدري ، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «اقرأ القرآن ، يقول الله ـ تعالى ـ شفاء لما في الصدور».

وأخرج البيهقي في الشعب عن وائلة بن الأسفع أن رجلا شكا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجع حلقه ، فقال له : «عليك بقراءة القرآن».

وأنت تعلم أن الاستدلال بهذه الآية على ذلك مما لا يكاد يسلم ، والخبر الثاني لا يدل عليه ، إذ ليس فيه أكثر من أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشاكي بقراءة القرآن إرشادا له إلى ما ينفعه ويزول به وجعه.

ونحن لا ننكر أن لقراءة القرآن بركة ، قد يذهب الله بسببها الأمراض والأوجاع ، وإنما ننكر الاستدلال بالآية على ذلك.

٨٨

والخبر الأول وإن كان ظاهرا في المقصود ، لكن ينبغي تأويله ، كأن يقال : لعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اطلع على أن في صدر الرجل مرضا معنويا قلبيا ، قد صار سببا للمرض الحسى البدني ، فأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقراءة القرآن ليزول عنه الأول فيزول الثاني.

والحسن البصري ينكر كون القرآن شفاء للأمراض ، فقد أخرج أبو الشيخ عنه أنه قال : إن الله ـ تعالى ـ جعل القرآن شفاء لما في الصدور ، ولم يجعله شفاء لأمراضكم ، والحق ما ذكرنا» (١).

وقوله : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ، هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) حض للناس على اغتنام ما في تعاليم الإسلام من خيرات ، وإيثارها على ما في الدنيا من شهوات.

أى : قل يا محمد لمن يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة : اجعلوا فرحكم الأكبر ، وسروركم الأعظم ، بفضل الله الذي شرع لكم هذا الدين على لسان رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبرحمته التي وسعت كل شيء وهي بالمؤمنين أوسع ، لا بما تجمعون في هذه الدنيا من أموال زائلة ومتع فانية.

وقد فسر بعضهم فضل الله ورحمته بالقرآن ، ومنهم من فسر فضل الله بالقرآن ، ورحمته بالإسلام. ومنهم من فسرهما بالجنة والنجاة من النار.

ولعل تفسير هما بما يشمل كل ذلك أولى : لأنه لم يرد نص صحيح عن الصادق المصدوق صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدد المراد منهما ، وما دام الأمر كذلك فحملهما على ما يشمل الإسلام والقرآن والجنة أولى.

قال ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) أى : بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا فإنه أولى مما يفرحون به من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية والذاهبة لا محالة.

فعن أيفع بن عبد الكلاعى قال : لما قدم خراج العراق إلى عمر ـ رضى الله عنه ـ خرج عمر ومولى له ، فجعل يعد الإبل ، فإذا هي أكثر من ذلك ، فجعل عمر يقول : الحمد لله ـ تعالى ـ ويقول مولاه : هذا والله من فضل الله ورحمته. فقال عمر : كذبت ليس هذا هو الذي يقول الله ـ تعالى ـ (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٤٠.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤٢١.

٨٩

أى : ليس هذا المال هو المعنى بهذه الآية ، وإنما فضل الله ورحمته يتمثل فيما جاءهم من الله ـ تعالى ـ من دين قويم ، ورسول كريم ، وقرآن مبين.

ودخلت الباء على كل من الفضل والرحمة ، للإشعار باستقلال كل منهما بالفرح به.

والجار والمجرور في كل منهما متعلق بمحذوف ، وأصل الكلام : قل لهم يا محمد ليفرحوا بفضل الله وبرحمته ، ثم قدم الجار والمجرور على الفعل لإفادة الاختصاص ، وأدخلت الفاء لإفادة السببية ، فكأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليكن بسبب ما أعطاهم الله ـ تعالى ـ من فضل ورحمة ، لا بسبب ما يجمعون من زينة الحياة الدنيا.

قال القرطبي : «والفرح لذة في القلب بإدراك المحبوب. وقد ذم الله الفرح في مواضع ، كقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) وكقوله (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) ولكنه مطلق. فإذا قيد الفرح لم يكن ذما ، لقوله ـ تعالى ـ (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وكقوله ـ سبحانه ـ هنا (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) أى بالقرآن والإسلام فليفرحوا ...» (١).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد أيضا على أولئك الذين أحلوا وحرموا على حسب أهوائهم دون أن يأذن الله لهم بذلك فقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً ، قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) أى : قل لهم يا محمد ـ أيضا ـ أخبرونى أيها المبدلون لشرع الله على حسب أهوائكم : إن الله ـ تعالى ـ قد أفاض عليكم ألوانا من الرزق الحلال فجئتم أنتم ، وقسمتم هذا الرزق الحلال ، فجعلتم منه حلالا وجعلتم منه حراما.

وقد حكى الله ـ تعالى ـ فعلهم هذا في آيات متعددة ، منها قوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) (٢).

قال الإمام ابن كثير : «قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم ، نزلت إنكارا على المشركين فيما كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصائل كقوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ...) الآيات.

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبى إسحاق ، سمعت أبا الأحوص وهو عوف بن مالك بن نضلة يحدث عن أبيه قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا رث الهيئة فقال : هل لك مال؟ قلت : نعم. قال : من أى المال؟ قال : قلت : من كل

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٥٤.

(٢) سورة الأنعام الآية ص ١٣٩.

٩٠

المال. من الإبل والرقيق والخيل والغنم. فقال : إذا آتاك الله مالا فلير عليك ثم قال : هل تنتج إبلك صحاحا آذانها ، فتعمد إلى موسى فتقطع آذانها فتقول : هذه بحر. وتشق جلودها وتقول ؛ هذه صرم وتحرمها عليك وعلى أهلك. قال : نعم. قال : فإن ما آتاك الله لك حل. ساعد الله أشد من ساعدك. وموسى الله أحد من موساك» (١).

وقوله : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) استفهام قصد به التوبيخ والزجر أى : قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والزجر : إن الله وحده هو الذي يملك التحليل والتحريم ، فهل هو ـ سبحانه ـ أذن لكم في ذلك ، أو إنما أنتم الذين حللتم وحرمتم على حسب أهوائكم. لأنه لو أذن لكم في ذلك لبينه على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال صاحب الكشاف : «وقوله : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) متعلق بأرأيتم ، وقل تكرير للتوكيد. والمعنى أخبرونى آلله أذن لكم في التحليل والتحريم ، فأنتم تفعلون ذلك بإذنه ، أم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه. ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار وأم منقطعة ، بمعنى : بل أتفترون على الله ، تقريرا للافتراء.

ثم قال : وكفى بهذه الآية زاجرا بليغا عن التجوز فيما يسأل عنه من الأحكام ، وباعثة على وجوب الاحتياط فيه ، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلا بعد إيقان وإتقان ، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت وإلا فهو مفتر على الله» (٢).

ثم توعدهم ـ سبحانه ـ بسوء المصير على جرأتهم وكذبهم فقال (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...).

أى : هؤلاء الذين أحلوا وحرموا افتراء على الله ماذا يظنون أن الله سيفعل بهم يوم القيامة؟ أيظنون أن الله سيتركهم بدون عقاب؟ كلا إن عقابهم لشديد بسبب افترائهم عليه الكذب.

وأبهم ـ سبحانه ـ هذا العقاب للتهويل والتعظيم ، حيث أباحوا لأنفسهم ما لم يأذن به الله ـ تعالى ـ :

وقال ـ سبحانه ـ (وَما ظَنُّ ...) بصيغة الماضي لتحقيق الوقوع ، وأكثر أحوال القيامة يعبر عنها بهذه الصيغة لهذا الغرض.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) تذييل قصد به حض الناس على شكر خالقهم ، واتباع شريعته فيما أحل وحرم.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤٢٣.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٤٢.

٩١

أى : إن الله لذو فضل عظيم على عباده ، حيث خلقهم ورزقهم ، وشرع لهم ما فيه مصلحتهم ومنفعتهم ، ولكن أكثرهم لا يشكرونه على هذه النعم ، لأنهم يستعملونها في غير ما خلقت له.

وبعد أن ذكر ـ سبحانه ـ عباده بفضله ، وما يجب عليهم من شكره ، عطف على ذلك تذكيره إياهم بإحاطة علمه بكل صغير وكبير في هذا الكون فقال : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ. وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً ...).

أى : وما تكون ـ أيها الرسول الكريم ـ في شأن من الشئون أو في حال من الأحوال.

وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن يهدى الى الرشد.

ولا تعملون ـ أيها الناس ـ عملا ما صغيرا أو كبيرا ، إلا كنا عليكم مطلعين.

ومن في قوله (مِنْهُ) للتعليل ، والضمير يعود إلى الشأن ، إذ التلاوة أعظم شئونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذا خصت بالذكر. ويجوز أن يعود للقرآن الكريم ، ويكون الإضمار قبل الذكر لتفخيم شأنه ، وتعظيم أمره.

ومن في قوله (مِنْ قُرْآنٍ) مزيدة لتأكيد النفي.

وقال الآلوسى : «والخطاب الأول خاص برأس النوع الإنسانى ، وسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا. وقوله (وَلا تَعْمَلُونَ ...) عام يشمل سائر العباد برهم وفاجرهم وقد روعي في كل من المقامين ما يليق به ، فعبر في مقام الخصوص في الأول بالشأن ، لأن عمل العظيم عظيم ، وفي الثاني بالعمل العام للجليل والحقير. وقيل : الخطاب الأول عام للأمة أيضا كما في قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ).

وقوله : (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة. أى : وما تلابسون بشيء منها في حال من الأحوال إلا حال كوننا رقباء مطلعين عليه ، حافظين له» (١).

وقوله : (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) أى : تخوضون وتندفعون في ذلك العمل ، لأن الإفاضة في الشيء معناها الاندفاع فيه بكثرة وقوة.

وقوله : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) بيان لشمول علمه ـ سبحانه ـ لكل شيء.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٤٤.

٩٢

ويعزب : أى يبعد ويغيب ، وأصله من قولهم : عزب الرجل يعزب بإبله إذا أبعد بها وغاب في طلب الكلأ والعشب. والكلام على حذف مضاف.

أى : وما يغيب ويخفى عن علم ربك مثقال ذرة في الوجود علويه وسفليه ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، إلا وهو معلوم ومسجل عنده في كتاب عظيم الشأن ، تام البيان.

وقوله : (مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ) تمثيل لقلة الشيء ودقته ، ومن فيه لتأكيد النفي وقدمت الأرض على السماء هنا ، لأن الكلام في حال أهلها ، والمقصود إقامة البرهان على إحاطة علمه ـ سبحانه ـ بتفاصيلها. فكأنه ـ سبحانه ـ يقول : إن من يكون هذا شأنه لا يخفى عليه شيء من أحوال أهل الأرض مع نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) جملة مستقلة ليست معطوفة على ما قبلها.

و (لا) نافية للجنس و (أَصْغَرَ) اسمها منصوب لشبهه بالمضاف ، و (أَكْبَرَ) معطوف عليه. و (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) متعلق بمحذوف خبرها.

وقدم ذكر الأصغر على الأكبر ، لأنه هو الأهم في سياق العلم بما خفى من الأمور.

وقرأ حمزة ويعقوب وخلف (وَلا أَصْغَرَ) بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. أى : ولا ما هو أصغر من ذلك.

والمراد بالكتاب المبين : علم الله الذي وسع كل شيء ، أو اللوح المحفوظ الذي حفظ الله فيه كل شيء.

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد أقامت الأدلة على شمول قدرة الله ـ تعالى ـ لكل شيء ، وعلى دعوة الناس إلى الانتفاع بما جاء به القرآن من خيرات وبركات ، وعلى وجوب التزامهم بما شرعه ـ سبحانه ـ وعلى إحاطة علمه بما ظهر وبطن من الأمور.

وبعد أن وجه ـ سبحانه ـ نداء إلى الناس دعاهم فيه إلى الانتفاع بما جاء في القرآن من خيرات ، وتوعد الذين شرعوا شرائع لم يأذن بها الله ، وأقام الأدلة على نفاذ قدرته ، وشمول علمه.

بعد كل ذلك ، بشر أولياءه بحسن العاقبة ، وأنذر أعداءه بسوء المصير ، ورد على الذين قالوا اتخذ الله ولدا بما يكبتهم ويخرس ألسنتهم فقال ـ تعالى ـ :

٩٣

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)(٧٠)

والأولياء : جمع ولى مأخوذ من الولي بمعنى القرب والدنو ، يقال : تباعد فلان من بعد ولى أى : بعد قرب.

٩٤

والمراد بهم : أولئك المؤمنون الصادقون الذي صلحت أعمالهم ، وحسنت بالله ـ تعالى ـ صلتهم ، فصاروا يقولون ويفعلون كل ما يحبه ، ويجتنبون كل ما يكرهه.

قال الفخر الرازي : «ظهر في علم الاشتقاق أن تركيب الواو واللام والياء يدل على معنى القرب ، فولى كل شيء هو الذي يكون قريبا منه. (١)

والقرب من الله إنما يتم إذا كان القلب مستغرقا في نور معرفته ، فإن رأى رأى دلائل قدرته ، وإن سمع سمع آيات وحدانيته ، وإن نطق نطق بالثناء عليه ، وإن تحرك تحرك في خدمته ، وإن اجتهد اجتهد في طاعته ، فهنالك يكون في غاية القرب من الله ـ تعالى ـ ويكون وليا له ـ سبحانه ـ.

وإذا كان كذلك كان الله ـ وليا له ـ أيضا ـ كما قال : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ).

وقد افتتحت الآية الكريمة بأداة الاستفتاح (أَلا) وبحرف التوكيد (إِنَ) لتنبيه الناس إلى وجوب الاقتداء بهم ، حتى ينالوا ما ناله أولئك الأولياء الصالحون من سعادة دنيوية وأخروية.

وقوله : (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) تمييز لهم عن غيرهم ممن لم يبلغوا درجتهم.

والخوف : حالة نفسية تجعل الإنسان مضطرب المشاعر لتوقعه حصول ما يكرهه.

والحزن اكتئاب نفسي يحدث للإنسان من أجل وقوع ما يكرهه.

أى : أن الخوف يكون من أجل مكروه يتوقع حصوله ، بينما الحزن يكون من أجل مكروه قد وقع فعلا.

والمعنى : ألا إن أولياء الله الذين صدق إيمانهم ، وحسن عملهم ، لا خوف عليهم من أهوال الموقف وعذاب الآخرة ، ولا هم يحزنون على ما تركوا وراءهم من الدنيا ، لأن مقصدهم الأسمى رضا الله ـ سبحانه ـ ، فمتى فعلوا ما يؤدى إلى ذلك هان كل ما سواه.

وقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) استئناف مسوق لتوضيح حقيقتهم فكأن سائلا قال : ومن هم أولياء الله؟ فكان الجواب هم الذين توفر فيهم الإيمان الصادق ، والبعد التام عن كل ما نهى الله ـ تعالى ـ عنه.

وعبر عن إيمانهم بالفعل الماضي ، للإشارة إلى أنه إيمان ثابت راسخ. لا تزلزله الشكوك ، ولا تؤثر فيه الشبهات.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ١٢٦.

٩٥

وعبر عن تقواهم بالفعل الدال على الحال والاستقبال للإيذان بأن اتقاءهم وابتعادهم عن كل ما يغضب الله من الأقوال والأفعال ، يتجدد ويستمر دون أن يصرفهم عن تقواهم وخوفهم منه ـ سبحانه ـ ترغيب أو ترهيب.

وقوله ـ سبحانه ـ (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) زيادة تكريم وتشريف لهم.

والبشرى والبشارة : الخبر السار ، فهو أخص من الخبر ، وسمى بذلك لأن أثره يظهر على البشرة وهي ظاهر جلد الإنسان ، فيجعله متهلل الوجه ، منبسط الأسارير ، مبتهج النفس.

أى : لهم ما يسرهم ويسعدهم في الدنيا من حياة آمنة طيبة ، ولهم ـ أيضا ـ في الآخرة ما يسرهم من فوز برضوان الله ، ومن دخول جنته.

قال الآلوسى ما ملخصه : «والثابت في أكثر الروايات ، أن البشرى في الحياة الدنيا ، هي الرؤيا الصالحة .. فقد أخرج الطيالسي وأحمد والدارمي والترمذي .. وغيرهم عن عبادة بن الصامت قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله ـ تعالى ـ (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فقال : «هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له».

وقيل المراد بالبشرى : البشرى العاجلة نحو النصر والغنيمة والثناء الحسن ، والذكر الجميل ، ومحبة الناس ، وغير ذلك.

ثم قال : وأنت تعلم أنه لا ينبغي العدول عما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسير ذلك إذا صح. وحيث عدل من عدل لعدم وقوفه على ذلك فيما أظن ، فالأولى أن تحمل البشرى في الدارين على البشارة بما يحقق نفى الخوف والحزن كائنا ما كان ...» (١).

وقوله : (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أى : لا تغيير ولا خلف لأقوال الله ـ تعالى ـ ولا لما وعد به عباده الصالحين من وعود حسنة ، على رأسها هذه البشرى التي تسعدهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يعود إلى ما ذكر من البشرى في الدارين.

أى : ذلك المذكور من أن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، هو الفوز العظيم الذي لا فوز وراءه ، والذي لا يفوقه نجاح أو فضل.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٥٢.

٩٦

هذا ، وقد نقل الشيخ القاسمى ـ رحمه‌الله ـ كلاما حسنا من كتاب «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» فقال ما ملخصه :

هذه الآيات أصل في بيان أولياء الله ، وقد بين ـ سبحانه ـ في كتابه ، وبين رسوله في سنته أن لله أولياء من الناس ، كما أن للشيطان أولياء.

وإذا عرف أن الناس فيهم أولياء الرحمن ، وأولياء الشيطان ، فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء ، كما فرق الله ورسوله بينهما ، فأولياء الله هم المؤمنون المتقون. كما في هذه الآية ، وفي الحديث الصحيح : «من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، أو فقد آذنته بالحرب ..» والولاية ضد العداوة ، وأصل الولاية المحبة والقرب ، وأصل العداوة البغض والبعد ، وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه ، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم ، وأفضلهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين .. فلا يكون وليا إلا من آمن به واتبعه ، ومن خالفه كان من أولياء الشيطان ...

وإذا كان أولياءه الله هم المؤمنون المتقون ، فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله ـ تعالى ـ فمن كان أكمل إيمانا وتقوى ، كان أكمل ولاية لله. فالناس متفاضلون في ولاية الله ـ عزوجل ـ بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى.

ومن أظهر الولاية وهو لا يؤدى الفرائض ، ولا يجتنب المحارم ، كان كاذبا في دعواه ، أو كان مجنونا.

وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات ، فلا يتميزون بلباس دون لباس ، ولا بحلق شعر أو تقصير .. بل يوجدون في جميع طبقات الأمة. فيوجدون في أهل القرآن ، وأهل العلم ، وفي أهل الجهاد والسيف ، وفي التجار والزراع والصناع ...

وليس من شرط الولي أن يكون معصوما لا يغلط ولا يخطئ ، بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة ، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين ..» (١).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ ما عليه أولياؤه من سعادة دنيوية وأخروية ، أتبع ذلك بتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما لقيه من أعدائه من أذى فقال : ، (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ، إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ، هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

أى : ولا يحزنك يا محمد ما قاله أعداؤك في شأنك ، من أنك ساحر أو مجنون ، لأن قولهم هذا إنما هو من باب حسدهم لك ، وجحودهم لدعوتك.

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٩ ص ٣٣٧٤ ، طبعة الحلبي سنة ١٩٥٨.

٩٧

والنهى عن الحزن ـ وهو أمر نفسي لا اختيار للإنسان فيه ـ المراد به هنا النهى عن لوازمه ، كالإكثار من محاولة تجديد شأن المصائب ، وتعظيم أمرها ، وبذلك تتجدد الآلام ، ويصعب نسيانها.

وفي هذه الجملة الكريمة تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتأنيس لقلبه ، وإرشاد له إلى ما سيقع له من أعدائه من شرور ، حتى لا يتأثر بها عند وقوعها.

وقوله : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) تعليل للنهى على طريقة الاستئناف ، فكأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قال : وما لي لا أحزن وهم قد كذبوا دعوتي؟ فكان الجواب : إن الغلبة كلها ، والقوة كلها لله وحده لا لغيره ، فهو ـ سبحانه ـ القدير على أن يغلبهم ويقهرهم ويعصمك منهم ، وهو (السَّمِيعُ) ، لأقوالهم الباطلة ، (الْعَلِيمُ) بأفعالهم القبيحة ، وسيعاقبهم على ذلك يوم القيامة عقابا أليما.

ولا تعارض بين قوله ـ سبحانه ـ (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) وبين قوله في آية أخرى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (١) ، لأن كل عزة لغيره ـ سبحانه ـ فهي مستمدة من عزته ، وكل قوة من تأييده وعونه ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون ، إنما صاروا أعزاء بفضل ركونهم إلى عزة الله ـ تعالى ـ وإلى الاعتماد عليه ، وقد أظهرها ـ سبحانه ـ على أيديهم تكريما لهم.

ولذا قال القرطبي (٢) ـ رحمه‌الله ـ قوله : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) أى : القوة الكاملة ، والغلبة الشاملة ، والقدرة التامة لله وحده ، فهو ناصرك ومعينك ومانعك. و (جَمِيعاً) نصب على الحال ، ولا يعارض هذا قوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) فإن كل عزة بالله فهي كلها لله ، قال ـ سبحانه ـ (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٣).

ثم قال ـ تعالى ـ (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أى : ألا إن لله وحده ملك جميع من في السموات ومن في الأرض من إنس وجن وملائكة.

وجاء التعبير القرآنى هنا بلفظ (مَنْ) الشائع في العقلاء ، للإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بغيرهم ، لأنهم إذا كانوا مع شرفهم وعلو منزلتهم مملوكين لله ـ تعالى ـ كان غيرهم ممن لا يعقل أولى بذلك.

قال صاحب الكشاف قوله : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) يعنى العقلاء

__________________

(١) سورة المنافقون آية ٨.

(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٥٩.

(٣) سورة الصافات آية ١٨٠.

٩٨

المميزين وهم الملائكة والثقلان ، وإنما خصهم بالذكر ليؤذن أن هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكه ، فهم عبيد كلهم ، وهو ـ سبحانه ـ ربهم ، ولا يصلح أحد منهم للربوبية ، ولا أن يكون شريكا له فيها ، فما وراءهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون له ندا وشريكا ، وليدل على أن من اتخذ غيره ربا من ملك أو إنس ، فضلا عن صنم أو غير ذلك ، فهو مبطل تابع لما أدى إليه التقليد وترك النظر» (١).

وقوله : (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ).

أى : وما يتبع هؤلاء المشركون في عبادتهم لغير الله شركاء في الحقيقة ، وإنما يتبعون أشياء أخرى سموها من عند أنفسهم شركاء جهلا منهم ، لأن الله ـ تعالى ـ تنزه وتقدس عن أن يكون له شريك أو شركاء في ملكه أو في عبادته.

وعلى هذا التفسير تكون (ما) في قوله (وَما يَتَّبِعُ) نافية ، وقوله (شُرَكاءَ) مفعول يتبع ، ومفعول يدعون محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أى : وما يتبع الذين يدعون من دون الله آلهة شركاء.

ويجوز أن تكون (ما) استفهامية منصوبة بقوله (يَتَّبِعُ) ، ويكون قوله (شُرَكاءَ) منصوب بقوله (يَدْعُونَ) وعليه يكون المعنى.

أى شيء يتبع هؤلاء المشركون في عبادتهم؟ إنهم يعبدون شركاء سموهم بهذا الاسم من عند أنفسهم ، أما هم في الحقيقة فلا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.

وقوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أى : ما يتبعون في عبادتهم لغير الله إلا الظن الذي لا يغنى عن الحق شيئا ، وإلا الخرص المبنى على الوهم الكاذب ، والتقدير الباطل.

وأصل الخرص : الحزر والتقدير للشيء على سبيل الظن لا على سبيل الحقيقة.

قال الراغب : وحقيقة ذلك أن كل قول مقول عن ظن وتخمين يقال له خرص ، سواء أكان مطابقا للشيء أم مخالفا له ، من حيث إن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ولا سماع ، بل اعتمد فيه على الظن والتخمين كفعل الخارص في خرصه ـ أى : كفعل من يخرص الثمر على الشجر ـ وكل من قال قولا على هذا النحو قد يسمى كاذبا وإن كان قوله مطابقا للمقول المخبر عنه.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٤٤.

٩٩

وقيل : الخرص : الكذب كما في قوله ـ تعالى ـ (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أى يكذبون (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر نعمه على عباده فقال ـ تعالى ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً ...).

أى : الله وحده ـ سبحانه ـ هو الذي جعل لكم الليل مظلما ، لكي تستقروا فيه بعد طول الحركة في نهاركم من أجل معاشكم ، وهو الذي جعل لكم النهار مضيئا لكي تبصروا فيه مطالب حياتكم.

والجملة الكريمة بيان لمظاهر رحمة الله ـ تعالى ـ بعباده ، بعد بيان سعة علمه ، ونفاذ قدرته ، وشمولها لكل شيء في هذا الكون.

وقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أى : إن في ذلك الجعل المذكور لدلائل واضحات لقوم يسمعون ما يتلى عليهم سماع تدبر وتعقل ، يدل على سعة رحمة الله ـ تعالى ـ بعباده ، وتفضله عليهم بالنعم التي لا تحصى.

ثم شرع ـ سبحانه ـ في بيان أقبح الرذائل التي تفوه بها المشركون فقال : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ....).

والمراد بهؤلاء القائلين : اليهود الذين قالوا : عزير ابن الله ـ والنصارى الذين قالوا : المسيح ابن الله ، وكفار العرب الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، وغيرهم ممن نحا نحوهم في تلك الأقوال الشائنة.

وقوله : (سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تنزيه له ـ عزوجل ـ عما قالوا ، في حقه من أقاويل باطلة.

أى : تنزه وتقدس عن أن يكون له ولد ، لأنه هو الغنى بذاته عن الولد وعن كل شيء ، وهو المالك لجميع الكائنات علويها وسفليها ، وهو الذي لا يحتاج إلى غيره ، وغيره محتاج إليه ، وخاضع لسلطان قدراته.

قال ـ تعالى ـ : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص ١٤٦ ـ بتصرف وتلخيص.

١٠٠