التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

يدخل بيته ، ويرخى ستره ، ويحنى ظهره ، ويتغشى بثوبه ثم يقول : هل يعلم الله ما في قلبي فنزلت هذه الآية.

وقيل : نزلت في المنافقين ، كان أحدهم إذا مر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثنى صدره. وتغشى بثوبه لئلا يراه.

وقيل : نزلت في الأخنس بن شريق ، وكان رجلا حلو المنطق ، حسن السياق للحديث ، يظهر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المحبة ، ويضمر في قلبه ما يضادها ..» (١).

وعلى أية حال فإن الآية الكريمة تصور تصويرا بديعا جهالات بعض الضالين بعلم الله ـ تعالى ـ المحيط بكل شيء ، كما تصور تصويرا دقيقا أوضاعهم الحسية حين يأوون إلى فراشهم ، وحين يلتقون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والضمير المجرور في قوله (مِنْهُ) يعود إلى الله ـ تعالى ـ وعليه يكون المعنى ألا إن هؤلاء المشركين يلوون صدورهم عن الحق الذي جاءهم به نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم توهما منهم أن فعلهم هذا يخفى على الله ـ تعالى ـ.

ومنهم من يرى أن الضمير في قوله (مِنْهُ) يعود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليه يكون المعنى :

ألا إن هؤلاء المشركين يعرضون عن لقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويطأطئون رءوسهم عند رؤيته ، ليستخفوا منه ، حتى لا يؤثر فيهم بسحر بيانه.

ومع أن كلا القولين له وجاهته وله من سبب النزول ما يؤيده ، إلا أننا نميل إلى كون الضمير يعود على الله ـ تعالى ـ لأن قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) يؤيد عودة الضمير إليه ـ سبحانه ـ إذ علم السر والعلن مرده إليه وحده.

وافتتحت الآية الكريمة بحرف التنبيه (أَلا) وجيء به مرة أخرى في قوله (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ ..) للاهتمام بمضمون الكلام ، وللفت أنظار السامعين إلى ما بلغه هؤلاء الضالون من جهل وانطماس بصيرة.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه لا يخفى عليه شيء من أحوالهم فقال : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ ، يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

أى : ألا يعلم هؤلاء الجاهلون أنهم حين يأوون إلى فراشهم ، ويتدثرون بثيابهم ، يعلم

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٨٥.

١٦١

الله ـ تعالى ـ ما يسرونه في قلوبهم من أفكار ، وما يعلنونه بأفواههم من أقوال ، لأنه ـ سبحانه ـ محيط بما تضمره النفوس من خفايا ، وما يدور بها من أسرار.

وجملة (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليلية لتأكيد ما قبلها من علمه ـ سبحانه ـ بالسر والعلن. والمراد بذات الصدور : الأسرار المستكنة فيها.

هذا ، وقد ذكر ابن كثير رواية أخرى في سبب نزول هذه الآية فقال : قال ابن عباس : كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم وحال وقاعهم ، فأنزل الله هذه الآية رواه البخاري من حديث ابن جريج.

وفي لفظ آخر له قال ابن عباس : أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء ، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء ، فنزل ذلك فيهم ..» (١).

وظاهر من هذا الكلام المنقول عن ابن عباس أنها نزلت في شأن جماعة من المسلمين هذا شأنهم ، ولعل مراده أن الآية تنطبق على صنيعهم وليس فعلهم هو سبب نزولها ، لأن الآية مسوقة للتوبيخ والذم ، والذين يستحقون ذلك هم أولئك المشركون وأشباههم الذين أعرضوا عن الحق ، وجهلوا صفات الله ـ تعالى ـ.

قال الجمل بعد أن ذكر قول ابن عباس : وتنزيل الآية على هذا القول بعيد جدا ، لأن الاستحياء من الجماع وقضاء الحاجة في حال كشف العورة إلى جهة السماء ، أمر مستحسن شرعا ، فكيف يلام عليه فاعله ويذم بمقتضى سياق الآية» (٢).

وإذا فالذي يستدعيه السياق ويقتضيه ربط الآيات ، كون الآية في ذم المشركين ومن على شاكلتهم من المنحرفين عن الطريق المستقيم.

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على كمال قدرته ، وسابغ فضله ، وشمول علمه فقال ـ تعالى ـ :

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٣٨.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٨٠.

١٦٢

عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)(٧)

قال الآلوسى ما ملخصه : الدابة اسم لكل حيوان ذي روح ، ذكرا كان أو أنثى. عاقلا أو غيره ، مأخوذ من الدبيب وهو في الأصل المشي الخفيف .. واختصت في العرف بذوات القوائم الأربع.

والمراد بها هنا المعنى اللغوي باتفاق المفسرين ...» (١).

قال ـ تعالى ـ (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ ، يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ ، إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢).

والمراد برزقها : طعامها وغذاؤها الذي به قوام حياتها.

والمعنى : وما من حيوان يدب على الأرض ، إلا على الله ـ تعالى ـ غذاؤه ومعاشه ، فضلا منه ـ سبحانه ـ وكرما على مخلوقاته.

وقدم ـ سبحانه ـ الجار والمجرور (عَلَى اللهِ) على متعلقه وهو (رِزْقُها) لإفادة القصر. أى على الله وحده لا على غيره رزقها ومعاشها.

وكون رزقها ومعاشها على الله ـ تعالى ـ لا ينافي الأخذ بالأسباب ، والسعى في سبيل الحصول على وسائل العيش ، لأنه ـ سبحانه ـ وإن كان قد تكفل بأرزاق خلقه ، إلا أنه أمرهم بالاجتهاد في استعمال كافة الوسائل المشروعة من أجل الحصول على ما يغنيهم ويسد حاجتهم.

قال ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً ، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها ، وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (٣).

وجملة (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) بيان لشمول علمه ـ سبحانه ـ لكل شيء في هذا الكون.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ٢.

(٢) سورة النور الآية ٤٥.

(٣) سورة الملك الآية ١٥.

١٦٣

والمستقر والمستودع : اسما مكان لمحل الاستقرار والإيداع للدابة في هذا الكون ، سواء أكان ذلك في الأصلاب أم في الأرحام أم في القبور أم في غيرها.

قال الشوكانى : أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ ، عن ابن عباس في قوله (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) قال : حيث تأوى. ومستودعها قال : حيث تموت.

وأخرج ابن أبى شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : مستقرها في الأرحام ومستودعها حيث تموت.

قال : ويؤيد هذا التفسير الذي ذهب اليه ابن مسعود ما أخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا كان أجل أحدكم بأرض ، أتيحت له إليها حاجة ، حتى إذا بلغ أقصى أثره منها فيقبض ، فتقول الأرض يوم القيامة : هذا ما استودعتني» (١).

وقوله : (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) تذييل قصد به بيان دقة علمه ـ سبحانه ـ بعد بيان شمول هذا العلم وإحاطته بكل شيء.

والتنوين في (كُلٌ) هو تنوين العوض ، أى : كل ما يتعلق برزق هذه الدواب ومستقرها ومستودعها مسجل في كتاب مبين ، أى : في كتاب واضح جلى ظاهر في علم الله ـ سبحانه ـ ، بحيث لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ.

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يشهد بعظيم قدرته فقال ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ...).

والأيام جمع يوم ، والمراد به هنا مطلق الوقت الذي لا يعلم مقداره إلا الله ـ تعالى ـ.

أى : وهو ـ سبحانه ـ الذي أنشأ السموات والأرض وما بينهما ، على غير مثال سابق ، في ستة أيام من أيامه ـ تعالى ـ ، التي لا يعلم مقدار زمانها إلا هو.

وقيل : أنشأهن في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا.

قال سعيد بن جبير ـ رضى الله عنه ـ : كان الله قادرا على خلق السموات والأرض وما بينهما في لمحة ولحظة ، فخلقهن في ستة أيام ، تعليما لعباده التثبت والتأنى في الأمور.

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٢ ص ٤٨٤.

١٦٤

وقد جاءت آيات تدل على أنه ـ سبحانه ـ خلق الأرض في يومين ، وخلق السموات في يومين وخلق ما بينهما في يومين ، وهذه الآيات هي قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ، ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ ، وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها ، وَبارَكَ فِيها ، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ، وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ...) (١).

وجملة (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) اعتراضية بين قوله (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وبين (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ويجوز أن تكون حالية من فاعل خلق وهو الله ـ تعالى ـ وعرش الله ـ تعالى ـ من الألفاظ التي لا يعلمها البشر إلا بالاسم. وقد جاء ذكر العرش في القرآن الكريم إحدى وعشرين مرة.

ونحن مكلفون بأن نؤمن بأن له ـ سبحانه ـ عرشا ، أما كيفيته فنفوض علمها إليه ـ تعالى ـ.

والمعنى : أن الله ـ تعالى ـ خلق السموات والأرض في ستة أيام ، وكان عرشه قبل خلقهما ليس تحته شيء سوى الماء.

قالوا : وفي ذلك دليل على أن العرش والماء كانا موجودين قبل وجود السموات والأرض.

قال القرطبي : قوله : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) بين ـ سبحانه ـ أن خلق العرش والماء ، كان قبل خلق الأرض والسماء ...

ثم قال : وروى البخاري عن عمران بين حصين قال كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ جاءه قوم من بنى تميم فقال : «اقبلوا البشرى يا بنى تميم» قالوا : بشرتنا فأعطنا. فدخل ناس من أهل اليمن فقالوا : جئنا لنتفقه في الدين ، ولنسألك عن هذا الدين ونسألك عن أول هذا الأمر.

قال : «إن الله ولم يكن شيء غيره ، وكان عرشه على الماء. ثم خلق السموات والأرض ، وكتب في الذكر كل شيء» (٢).

وقال ابن كثير بعد أن ذكر هذا الحديث وغيره : وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو ابن العاص قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق

__________________

(١) سورة فصلت الآيات من ٩ ـ ١٢.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٨.

١٦٥

السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء.

وروى الإمام أحمد عن لقيط بن عامر العقيلي قال : قلت يا رسول الله ، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال : كان في عماء ، ما تحته هواء ، وما فوقه هواء ، ثم خلق العرش بعد ذلك (١).

والعماء : السحاب الرقيق ، أى فوق سحاب مدبرا له ، وعاليا عليه. والسحاب ليس تحته سوى الهواء ، وليس فوقه سوى الهواء. والمراد أنه ليس مع الله ـ تعالى ـ شيء آخر.

وقوله ـ سبحانه ـ (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) جملة تعليلية. ويبلوكم من الابتلاء بمعنى الاختبار والامتحان.

أى : خلق ما خلق من السموات والأرض وما فيهما من كائنات ، ورتب فيهما جميع ما تحتاجون إليه من أسباب معاشكم ، ليعاملكم معاملة من يختبر غيره ، ليتميز المحسن من المسيء ، والمطيع من العاصي ، فيجازى المحسنين والطائعين بما يستحقون من ثواب ، ويعاقب المسيئين والعاصين بما هم أهله من عقاب.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف قيل : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت الى حسن وأحسن ، فأما أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتها إلى حسن وقبيح؟ قلت : الذين هم أحسن عملا هم المتقون وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو مقصود الله ـ تعالى ـ من عباده ، فخصهم بالذكر ، واطرح ذكر من وراءهم ، تشريفا لهم ، وتنبيها على مكانهم منه ، وليكون ذلك لطفا للسامعين ، وترغيبا في حيازة فضلهم (٢).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة ببيان موقف الكافرين من البعث والحساب فقال : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).

أى ، ولئن قلت يا محمد لهؤلاء الكافرين الذين أرسلك الله لإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، لئن قلت لهم (إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ) يوم القيامة (مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) الذي سيدرككم في هذه الدنيا عند نهاية آجالكم (لَيَقُولَنَ) لك هؤلاء الكافرون على سبيل الإنكار والتهكم ما هذا الذي تقوله يا محمد (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أى : إلا سحر واضح جلى ظاهر لا لبس فيه ولا غموض.

وقرأ حمزة والكسائي وخلف إلا ساحر مبين فتكون الإشارة بقوله (هذا) إلى

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٤٠ طبعة الشعب.

(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٦٠.

١٦٦

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى : أنه في زعمهم يقول كلاما ليسحرهم به ، وليصرفهم عما كان عليه آباؤهم وأجدادهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك لونا من ألوان غرور المشركين ، كما بين أحوال بعض الناس في حالتي السراء والضراء فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)(١١)

قال القرطبي ما ملخصه : الأمة : اسم مشترك يقال على ثمانية أوجه : فالأمة تكون الجماعة ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ ...) والأمة : أيضا أتباع الأنبياء عليهم‌السلام ، والأمة : الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به ، كقوله ـ تعالى ـ (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) والأمة : الدين والملة ، كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) والأمة : الحين والزمان كقوله ـ تعالى ـ : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) والأمة : القامة وهو طول الإنسان وارتفاعه ، يقال من ذلك : فلان حسن الأمة ، أى القامة ، والأمة : الرجل المنفرد بدينه وحده ، لا يشركه فيه أحد. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده» والأمة : الأم. يقال : «هذه أمة زيد ، أى أم زيد ...» (١) والمراد بالأمة هنا : الحين والزمان والمدة.

والمعنى : ولئن أخرنا ـ بفضلنا وكرمنا ـ عن هؤلاء المشركين «العذاب» المقتضى

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ١٠.

١٦٧

لجحودهم لآياتنا ، وتكذيبهم لرسلنا «إلى أمة معدودة» أى : إلى وقت معين من الزمان على حساب إرادتنا وحكمتنا : «ليقولن» على سبيل التهكم والاستهزاء ، واستعجال العذاب ، «ما يحبسه» أى : ما الذي جعل هذا العذاب الذي حذرنا منه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم محبوسا عنا ، وغير نازل بنا ...

ولا شك أن قولهم هذا ، يدل على بلوغهم أقصى درجات الجهالة والطغيان ، حيث قابلوا رحمة الله ـ تعالى ـ المتمثلة هنا في تأخير العذاب عنهم ، بالاستهزاء والاستعجال ، ولذا رد الله ـ تعالى ـ عليهم بقوله : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أى : ألا إن ذلك العذاب الذي استعجلوه واستخفوا به ، يوم ينزل بهم ، لن يصرفه عنهم صارف ، ولن يدفعه عنهم دافع ، بل سيحيط بهم من كل جانب ، بسبب استهزائهم به وإعراضهم عمن حذرهم منه.

واللام في قوله (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) موطئة للقسم ، وجواب القسم قوله «ليقولن ما يحبسه».

والأقرب إلى سياق الآية أن يكون المراد بالعذاب هنا : عذاب الاستئصال الدنيوي ، إذ هو الذي استعجلوا نزوله ، أما عذاب الآخرة فقد كانوا منكرين له أصلا ، كما حكى عنهم ـ سبحانه ـ في الآية السابقة في قوله : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).

قال الآلوسى : والظاهر بأن المراد العذاب الشامل للكفرة ، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر وابن ابى حاتم عن قتادة قال : لما نزل (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) قال ناس : إن الساعة قد اقتربت فتناهوا ، فتناهى القوم قليلا ، ثم عادوا إلى أعمالهم السوء : فأنزل الله ـ تعالى ـ (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فقال أناس من أهل الضلالة : هذا أمر الله ـ تعالى ـ قد أتى ، فتناهى القوم ثم عادوا إلى مكرهم مكر السوء ، فأنزل الله هذه الآية» (١).

وفي قوله ـ سبحانه ـ (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) إيماء إلى أن تأخير العذاب عنهم ليس لمدة طويلة ، لأن ما يحصره العد : جرت العادة في أساليب العرب أن يكون قليلا ، ويؤيد ذلك أنه بعد فترة قليلة من الزمان نزل بهم في غزوة بدر القتل الذي أهلك صناديدهم ، والأسر الذي أذل كبرياءهم.

وافتتحت جملة (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) بأداة الاستفتاح (أَلا) للاهتمام

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٤.

١٦٨

بمضمون الخبر ، وللإشارة الى تحقيقه ، وإدخال الروع في قلوبهم.

وعبر بالماضي (حاقَ) مع أنه لم ينزل بهم بعد ، للإشارة ، إلى أنه آت لا ريب فيه ، عند ما يأذن الله ـ تعالى ـ بذلك.

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من طبيعة بنى آدم إلا من عصم الله فقال ـ تعالى ـ (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ ...).

والمراد بالإنسان هنا الجنس على أرجح الأقوال ، فيشمل المسلم وغيره ، بدليل الاستثناء الآتي بعد ذلك في قوله (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

قال الفخر الرازي ما ملخصه : المراد بالإنسان هنا مطلق الإنسان ويدل عليه وجوه :

الأول : أنه ـ تعالى ـ استثنى منه قوله (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل ، فثبت أن الإنسان المذكور في هذه الآية داخل فيه المؤمن والكافر.

الثاني : أن هذه الآية موافقة على هذا التقرير لقوله ـ سبحانه ـ : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...).

الثالث : أن مزاج الإنسان مجبول على الضعف والعجز. قال ابن جريج في تفسير هذه الآية : «يا ابن آدم إذا نزلت بك نعمة من الله فأنت كفور ، فإذا نزعت منك فيؤوس قنوط» (١).

وقيل المراد بالإنسان هنا جنس الكفار فقط ، لأن هذه الأوصاف تناسبهم وحدهم.

والمراد بالرحمة هنا : رحمة الدنيا ، وأطلقت على أثرها وهو النعمة كالصحة والغنى والأمان وما يشبه ذلك من ألوان النعم.

واليؤوس والكفور : صيغتا مبالغة للشخص الكثير اليأس ، والكفر ، والقنوط : الشديد الجحود لنعم الله ـ تعالى ـ يقال : يئس من الشيء ييأس ، إذا قنط منه.

والمعنى : ولئن منحنا الإنسان ـ بفضلنا وكرمنا ـ بعض نعمنا ، كالصحة والغنى والسلطان والأمان (ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ) أى : ثم سلبناها منه ، لأن حكمتنا تقتضي ذلك.

(إِنَّهُ) في هذه الحالة (لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) أى : لشديد اليأس والقنوط من أن يرجع اليه ما سلب منه أو مثله ، ولكثير الكفران والجحود لما سبق أن تقلب فيه من نعم ومنن.

قال الشوكانى : وفي التعبير بالذوق ما يدل على أنه يكون منه ذلك عند سلب أدنى نعمة

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ١٩٠ طبعة عبد الرحمن محمد.

١٦٩

ينعم الله بها عليه : لأن الإذاقة والذوق أقل ما يوجد به الطعم» (١).

وفي قوله «ثم نزعناها منه» إشارة إلى شدة تعلقه بهذه النعم ، وحرصه على بقائها معه.

وجملة (إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) جواب القسم ، وأكدت بإن وباللام ، لقصد تحقيق مضمونها ، وأنه حقيقة ثابتة.

وهي تصوير بليغ صادق لما يعترى نفس هذا الإنسان عند ما تسلب منه النعمة بعد أن ذاقها ، فهو ـ لقلة إيمانه وضعف ثقته بربه ـ قد فقد كل أمل في عودة هذه النعمة إليه ، ولكأن هذه النعمة التي سلبت منه لم يرها قبل ذلك.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالة هذا الإنسان اليؤوس الكفور ، عند ما تأتيه السراء بعد الضراء فقال : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ، لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي ، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ).

والنعماء : النعمة التي يظهر أثرها على صاحبها ، واختير لفظ النعماء لمقابلته للضراء.

والضراء : ما يصيب الإنسان من مصائب يظهر أثرها السيئ عليه.

والمراد بالسيئات : الاضرار التي لحقته كالفقر والمرض.

والمعنى : ولئن أذقنا هذا الإنسان اليؤوس الكفور (نَعْماءَ) بعد ضراء مسته كصحة بعد مرض ، وغنى بعد فقر ، وأمن بعد خوف ، ونجاح بعد فشل ..

(لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) أى : ليقولن في هذه الحالة الجديدة ببطر وأشر ، وغرور وتكبر ، لقد ولت المصائب عنى الأدبار ، ولن تعود إلى.

وعبر ـ سبحانه ـ في جانب الضراء بالمس ، للإشارة إلى أن الإصابة بها أخف مما تذوقه من نعماء ، وأن لطف الله شامل لعباده في كل الأحوال.

وجملة (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) جواب القسم.

أى : إنه لشديد الفرح والبطر بالنعمة : كثير التباهي والتفاخر بما أعطى منها ، مشغول بذلك عن القيام بما يجب عليه نحو خالقه من شكر وثناء عليه ـ سبحانه ـ.

وإنها ـ أيضا ـ لصورة صادقة لهذا الإنسان العجول القاصر ، الذي يعيش في لحظته الحاضرة ، فلا يتذكر فيما مضى ، ولا يتفكر فيما سيكون عليه حاله بعد الموت ، ولا يعتبر بتقلبات الأيام ، فهو يؤوس كفور إذا نزعت منه النعمة ، وهو بطر فخور إذا عادت إليه ، وهذا من أسوأ ما تصاب به النفس الإنسانية من أخلاق مرذولة.

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٢ ص ٤٨٥.

١٧٠

وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ..) استثناء من هؤلاء الناس الذين لا يصبرون عند الشدة ، ولا يشكرون عند الرخاء.

أى : إلا الذين صبروا على النعمة كما صبروا على الشدة ، وعملوا في الحالتين الأعمال الصالحات التي ترضى الله ـ تعالى ـ.

(أُولئِكَ) الموصوفون بذلك (لَهُمْ) من الله ـ تعالى ـ (مَغْفِرَةٌ) عظيمة تمسح ذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) منه ـ سبحانه ـ لهم. جزاء صبرهم الجميل ، وعملهم الصالح.

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده ، لا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وليس ذلك لأحد غير المؤمن».

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض أقوال المشركين ، التي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضيق بها صدره ، ويحزن منها نفسه ، فقال ـ تعالى ـ :

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(١٢)

قال الفخر الرازي ـ رحمه‌الله ـ : روى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما أن رؤساء مكة قالوا يا محمد ، اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا. وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك. فقال : لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية» (١).

ولفظ لعل كما يقول الآلوسى ـ للترجى ، وهو يقتضى التوقع ، ولا يلزم من توقع الشيء وقوعه ولا ترجح وقوعه ، لجواز أن يوجد ما يمنع منه ، فلا يشكل بأن توقع ترك التبليغ منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما لا يليق بمقام النبوة ، لأن المانع منه هنا ثبوت عصمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كتم شيء أمر بتبليغه ... والمقصود بهذا الأسلوب هنا تحريضه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهييج داعيته لأداء الرسالة ، ويقال نحو ذلك في كل توقع نظير هذا التوقع».

و (تارِكٌ) اسم فاعل من الفعل ترك. و (ضائِقٌ) اسم فاعل من الفعل ضاق ، وهو معطوف على (تارِكٌ).

__________________

(١) التفسير الكبير للفخر الرازي ج ١٧ ص ١٩٢ طبعة عبد الرحمن محمد سنة ١٣٥٧ ه‍.

١٧١

والمراد ببعض ما يوحى إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله ـ سبحانه ـ (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) : ما نزل عليه : من قرآن فيه استهزاء بآلهتهم ، وتسفيه لعقولهم التي استساغت أن تشرك مع الله ـ تعالى ـ في عبادتها آلهة أخرى».

والضمير المجرور في قوله ـ سبحانه ـ (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) يعود الى البعض الموحى به ، وقيل يعود للتبليغ ، وقيل للتكذيب.

وجملة (أَنْ يَقُولُوا) في محل نصب على أنها مفعول لأجله ، أى : كراهة أو خشية أن يقولوا.

والكنز : يطلق على المال الكثير المجموع بعضه إلى بعض سواء أكان في بطن الأرض أم في ظهرها ، ومرادهم بإنزاله هنا : أن ينزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من السماء مال كثير يغنيه هو وأصحابه ، ويجعلهم في رغد من العيش ، بدل ما يبدو على بعضهم من فقر وفاقة ..

والمعنى : ليس خافيا علينا ـ أيها الرسول الكريم ـ ما يفعله المشركون معك ، من تكذيب لدعوتك ، ومن جحود لرسالتك ، ومن مطالب متعنتة يطلبونها منك ...

ليس خافيا علينا شيئا من ذلك ، ولعلك إزاء مسالكهم القبيحة هذه ، تارك تبليغ بعض ما يوحى إليك ، وهو ما يثير غضبهم ، وضائق صدرك بهذا التبليغ ، كراهة تكذيبهم لوحى الله ، واستهزائهم بدعوتك ، وقولهم لك على سبيل التعنت : هلا أنزل إليك من السماء مال كثير تستغني به وتغنى أتباعك ، وهلا كان معك ملك يصاحبك في دعوتك ، ويشهد أمامنا بصدقك. ويؤيدك في تحصيل مقصودك ..

لا ـ أيها الرسول الكريم ـ لا تترك شيئا من تبليغ ما أمرك الله بتبليغه لهؤلاء المشركين ، ولا يضيق صدرك بأفعالهم الذميمة ، وبأقوالهم الباطلة ، بل واصل دعوتك لهم إلى طريق الحق ، فما عليك إلا الإنذار ، أما نحن فإلينا إيابهم ، وعلينا حسابهم.

وعبر ـ سبحانه ـ عن تأثر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مواقفهم المتعنتة باسم الفاعل (ضائِقٌ) لا بالصفة المشبهة «ضيق» لمراعاة المقابل وهو قوله (تارِكٌ) ، وللإشارة إلى أن هذا الضيق مما يعرض له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحيانا ، وليس صفة ملازمة له ، لأن اسم الفاعل يقتضى الحدوث والانقطاع ، بخلاف الصفة المشبهة فتقتضى الثبات والدوام.

وأبرز ـ سبحانه ـ هنا صفة الإنذار للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أن وظيفته الإنذار والتبشير ، لأن المقام هنا يستوجب ذلك ، إذ أن هؤلاء المشركين قد تجاوزوا كل حد في الإساءة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) تذييل قصد به زيادة تثبيته وتحريضه

١٧٢

على المضي في تبليغ دعوته.

أى : سر في طريقك ـ أيها الرسول الكريم ـ غير مبال بما يصدر عنهم من مضايقات لك ، والله ـ تعالى ـ حافظ لأحوالك وأحوالهم ، وسيجازيهم بالجزاء الذي يتناسب مع جرائمهم وكفرهم.

والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها تعبر أكمل تعبير عن الفترة الحرجة التي نزلت فيها هذه السورة الكريمة ، فقد سبق أن قلنا عند التعريف بها ، إنها نزلت في الفترة التي أعقبت وفاة النصيرين الكبيرين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهما أبو طالب وخديجة ـ رضى الله عنها ـ وكانت هذه الفترة من أشق الفترات على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث تكاثر فيها إيذاء المشركين له ولأصحابه ..

فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة تحث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الثبات والصبر ، وعلى تبليغ ما يوحى اليه ، مع عدم المبالاة بما يضعه المشركون في طرقه من عقبات ..

هذا ، وقد سبق أن بينا عند التعريف بهذه السورة ـ أيضا ـ أن من العلماء من يرى أن هذه الآية مدنية ، ولعلك معى ـ أيها القارئ الكريم ـ في أنه لا يوجد أى دليل نقلي أو عقلي يؤيد ذلك ، بل الذي تؤيده الأدلة ويؤيده سبب النزول أن الآية مكية كبقية السورة.

وهناك آيات أخرى مكية تشبه هذه الآية في أسلوبها وموضوعها ، ومن هذه الآيات قوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ، لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها ...) (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك زعما آخر من مزاعمهم الكثيرة ، وهو دعواهم أن القرآن مفترى ، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور من أمثال هذا القرآن المفترى في زعمهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(١٤)

__________________

(١) سورة الفرقان الآيتان ٧ ، ٨.

١٧٣

و (أَمْ) هنا منقطعة بمعنى بل التي للإضراب وهو انتقال المتكلم من غرض إلى آخر والافتراء : الكذب المتعمد الذي لا توجد أدنى شبهة لقائله.

والمعنى : إن هؤلاء المشركين لم يكتفوا بما طلبوه منك يا محمد ، بل تجاوزوا ذلك إلى ما هو أشد جرما ، وهو قولهم إنك افتريت القرآن الكريم ، واخترعته من عند نفسك.

وقوله : (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ...) أمر من الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ويكبت نفوسهم.

أى : قل لهم يا محمد على سبيل التحدي : إن كان الأمر كما تزعمون من أنى قد افتريت هذا القرآن ، فأنا واحد منكم وبشر مثلكم فهاتوا أنتم عشر سور مختلقات من عند أنفسكم ، تشبه ما جئت به في حسن النظم ، وبراعة الأسلوب ، وحكمة المعنى ، وادعوا لمعاونتكم في بلوغ هذا الأمر كل من تتوسمون فيه المعاونة غير الله ـ تعالى ـ لأنه هو ـ سبحانه ـ القادر على أن يأتى بمثله.

وجواب الشرط في قوله ـ سبحانه ـ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) محذوف دل عليه ما تقدم. أى : إن كنتم صادقين في زعمكم أنى افتريت هذا القرآن ، فهاتوا أنتم عشر سور مثله مفتريات من عند أنفسكم.

والمتأمل لآيات القرآن الكريم ، يرى أن الله ـ تعالى ـ قد تحدى المشركين تارة بأن يأتوا بمثله كما في سورتي الإسراء والطور. ففي سورة الإسراء يقول ـ سبحانه ـ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١) وفي سورة الطور يقول ـ سبحانه ـ (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٢).

وتارة تحداهم بأن يأتوا بعشر سور من مثله كما في هذه السورة ، وتارة تحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة من مثله كما في سورتي البقرة ويونس ، ففي سورة البقرة (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ...) (٣) وفي سورة يونس يقول ـ سبحانه ـ : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤). وقد عجزوا عن الإتيان بمثل أقصر سورة ، وهم من هم في فصاحتهم ، فثبت أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ.

وقوله ـ سبحانه ـ (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ ، وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ

__________________

(١) الآية ٨٨.

(٢) الآية ٣٤.

(٣) الآية ٢٣.

(٤) الآية ٣٨.

١٧٤

فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) إرشاد لهؤلاء المشركين إلى طريق الحق والسعادة لو كانوا يعقلون ، إذ الخطاب موجه إليهم لعلهم يثوبون إلى الرشد.

والمعنى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الذين تحديتهم أن يأتوا بعشر سور من مثل القرآن ، وأبحت لهم أن يستعينوا في ذلك بمن شاءوا من البشر ، قل لهم : فإن لم يستجب لدعوتكم من استعنتم بهم في الإتيان بعشر سور من مثل القرآن .. وهم لن يستجيبوا لكم قطعا ـ (فَاعْلَمُوا) أيها الناس أن هذا القرآن (أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) وحده ، وبقدرته وحدها. ولا يقدر على إنزاله بتلك الصورة أحد سواه.

واعلموا ـ أيضا ـ أنه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ـ سبحانه ـ فهو الإله الحق ، الذي تعنو له الوجوه ، وتخضع له القلوب ، وتتجه إليه النفوس بالعبادة والطاعة.

(فَهَلْ أَنْتُمْ) أيها المشركون بعد كل تلك الأدلة الواضحة الدالة على وحدانية الله ، وعلى أن هذا القرآن من عنده (مُسْلِمُونَ) أى : داخلون في الإسلام ، متبعون لما جاءكم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمراد بالعلم في قوله (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ ...) : الاعتقاد الجازم البالغ نهاية اليقين ، أى فأيقنوا أن هذا القرآن ما أنزل إلا ملابسا لعلم الله ـ تعالى ـ المحيط بكل شيء.

والفاء في قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) للتفريع ، والاستفهام هنا المقصود به الحض على الفعل وعدم تأخيره.

أى : فهل أنتم بعد كل هذه الأدلة على صدق ما جاءكم به نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشكون في أن الإسلام هو الدين الحق؟ إن الشك في ذلك لا يكون من عاقل ، فبادروا إلى الدخول في الإسلام إن كنتم من ذوى العقول التي تعقل ما يقال لها.

ويرى بعض العلماء أن الخطاب في هذه الآية موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ، أو إليه وحده صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى سبيل التعظيم وعليه يكون المعنى :

«فإن لم يستجب لكم ـ أيها المؤمنون ـ هؤلاء الذين أعرضوا عن دعوة الحق ، بعد أن ثبت عجزهم عن الإتيان بما تحديتموهم به (فَاعْلَمُوا) أى فازدادوا علما ويقينا وثباتا ، بأن هذا القرآن «إنما أنزل بعلم الله» الذي لا يعزب عنه شيء ، وازدادوا علما بأنه لا إله إلا هو ـ سبحانه ـ مستحق للعبادة والطاعة ، فهل أنتم بعد كل ذلك (مُسْلِمُونَ) أى ثابتون على الإسلام ، وملتزمون بكل أوامره ونواهيه.

ومع أننا نرى أن القولين صحيحان من حيث المعنى ، إلا أننا نفضل الرأى الأول القائل

١٧٥

بأن الخطاب للمشركين ، لأن سياق الآيات السابقة في شأنهم فلأن يكون الخطاب لهم هنا أولى.

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء مصير الذين لا يريدون بأقوالهم وأعمالهم وجه الله ـ تعالى ـ فقال :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٦)

أى : من كان يريد بأقواله الحسنة وبأعماله الطيبة على حسب الظاهر ، الحصول على (الحياة الدنيا وزينتها) من مال وجاه ومنصب وغير ذلك من المتع الدنيوية ، بدون التفات إلى ما يقربه من ثواب الآخرة.

من كانوا يريدون ذلك (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) أى : نوصل إليهم ـ بإرادتنا ومشيئتنا ـ ثمار جهودهم وأعمالهم في هذه الدنيا.

والتعبير بكان في قوله (مَنْ كانَ يُرِيدُ ...) يفيد أنهم مستمرون على إرادة الدنيا بأعمالهم ، بدون تطلع إلى خير الآخرة.

وعدى الفعل (نُوَفِ) بإلى ، مع أنه يتعدى بنفسه ، لتضمينه معنى نوصل.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) تذييل قصد به تأكيد ما سبقه ، وتبيين مظهر من مظاهر عدل الله ـ تعالى ـ مع عباده في دنياهم.

والبخس : نقص الحق ظلما. يقال : بخس فلان فلانا حقه إذا ظلمه ونقصه.

أى : وهم في هذه الدنيا لا ينقصون شيئا من نتائج جهودهم وأعمالهم ، حتى ولو كانت جهودا لا إخلاص معها ولا إيمان.

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء مصيرهم في الآخرة فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

أى : أولئك الذين أرادوا بأقوالهم وأعمالهم الحياة الدنيا وزينتها ، ليس لهم في الآخرة إلا النار ، لأنهم استوفوا ما تقتضيه صور أعمالهم الحسنة في الدنيا وبقيت عليهم أوزار نياتهم السيئة في الآخرة.

١٧٦

(وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) أى : وفسد ما صنعوه في الدنيا من أعمال الخير ، لأنهم لم يقصدوا بها وجه الله ـ تعالى ـ وإنما قصدوا بها الرياء ورضى الناس ...

وقوله (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أى : وباطل في نفسه ما كانوا يعملونه في الدنيا من أعمال ظاهرها البر والصلاح ، لأنه لا ثمرة له ولا ثواب في الآخرة لأن الأعمال بالنيات ، ونيات هؤلاء المرائين ، لم تكن تلتفت إلى ثواب الله ، وإنما كانت متجهة اتجاها كليا إلى الحياة الدنيا وزينتها ، إلى إرضاء المخلوق لا الخالق.

وشبيه بهاتين الآيتين قوله ـ تعالى ـ : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) (٢).

هذا ومن العلماء من يرى أن هاتين الآيتين مسوقتان في شأن الكفار ومن على شاكلتهم من الضالة كاليهود والنصارى والمنافقين ... لأن قوله ـ تعالى ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ...) لا يليق إلا بهم.

والذي نراه أن هاتين الآيتين تتناولان الكفار ومن على شاكلتهم تناولا أوليا ، ولكن هذا لا يمنع من أنهما يندرج تحت وعيدهما كل من قصد بأقواله وأعماله الحياة الدنيا وزينتها ، ونبذ كل معاني الإخلاص والطاعة لله رب العالمين.

ومما يشهد لذلك أن هناك أحاديث كثيرة ، حذرت من الرياء ، وتوعدت مقترفه بأشد أنواع العقوبات ومن هذه الأحاديث ما رواه أبو داود عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله ، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» ـ أى رائحتها ـ (٣).

وصفوة القول : أن الآيتين الكريمتين تسوقان سنة من سنن الله مع عباده في هذه الدنيا ، هي أن الله ـ تعالى ـ لا ينقص الناس شيئا من ثمار جهودهم وأعمالهم في هذه الدنيا ، إلا أن هذه الجهود وتلك الأعمال التي ظاهرها الصلاح ، إن كان المقصود بها الحياة الدنيا وزينتها

__________________

(١) سورة الشورى الآية ٢٠.

(٢) سورة الإسراء الآيات من ١٧ ـ ٢٠.

(٣) من كتاب رياض الصالحين للإمام النووي من باب «تحريم الرياء» ص ٦١٩.

١٧٧

وجدوا نتائجها وثمارها في الدنيا فحسب.

وإن كان المقصود بها رضا الله ـ تعالى ـ وثواب الآخرة ، وجدوا ثمارها ونتائجها الحسنة يوم القيامة ، بجانب تمتعهم بما أحله الله لهم في الدنيا من طيبات.

وذلك لأن العمل للحياة الأخرى ـ في شريعة الإسلام ـ لا يحول بين العمل النافع في الحياة الدنيا ، ولا ينقص شيئا من آثاره وثماره ، بل إنه يزكيه وينميه ويباركه .. ورحم الله القائل : ليس أحد يعمل حسنة إلا وفّى ثوابها فإن كان مسلما مخلصا وفّى ثوابها في الدنيا والآخرة ، وإن كان كافرا وفي ثوابها في الدنيا.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ حال الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها ، أتبع ذلك بيان حال الذين يريدون الحق والصواب فيما يفعلون ويتركون فقال ـ تعالى ـ :

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(١٧)

قال صاحب المنار ما ملخصه : البينة ما تبين به الحق من كل شيء بحسبه كالبرهان في العقليات والنصوص في النقليات ، والخوارق في الإلهيات ، والتجارب في الحسيات ، والشهادات في القضائيات ، والاستقراء في إثبات الكليات ، وقد نطق القرآن بأن الرسل قد جاءوا أقوامهم بالبينات وأن كل نبي منهم كان يحتج على قومه بأنه على بينة من ربه وأنه جاءهم ببينة من ربهم ، كما ترى في قصصهم في هذه السورة وفي غيرها ...» (١).

وقوله : (وَيَتْلُوهُ ...) من التلو بمعنى الاقتفاء والاتباع. يقال : تلا فلان فلانا إذا كان تابعا له ومقتفيا أثره. والمراد به هنا : التأييد والتقوية.

وللمفسرين أقوال متعددة في المقصود بقوله ـ تعالى ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) وبقوله ـ سبحانه ـ (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ).

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٢ ص ٥٠.

١٧٨

وفي مرجع الضمائر في قوله «ربه ـ ويتلوه ـ ومنه» ...

وأقرب هذه الأقوال إلى الصواب أن يكون المقصود بقوله ـ تعالى ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه المؤمنون.

وبقوله تعالى ـ (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) القرآن الكريم الذي أنزله الله ـ تعالى ـ على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون معجزة له شاهدة بصدقه.

والضمير في قوله من ربه يعود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي قوله (وَيَتْلُوهُ) يعود إلى القرآن الكريم ، وفي قوله (مِنْهُ) يعود إلى الله ـ تعالى ـ.

وعلى هذا القول يكون المعنى : أفمن كان على حجة واضحة من عند ربه تهديه إلى الحق والصواب في كل أقواله وأفعاله ، وهو هذا الرسول الكريم وأتباعه ويؤيده ويقويه في دعوته شاهد من ربه هو هذا القرآن الكريم المعجز لسائر البشر ..

أفمن كان هذا شأنه كمن ليس كذلك؟

أو أفمن كان هذا شأنه كمن استحوذ عليه الشيطان فجعله لا يريد إلا الحياة الدنيا وزينتها؟ كلا إنهما لا يستويان.

وشهادة القرآن الكريم بصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوته ، تتجلى في إعجازه ، فقد تحدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعداءه أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا مع فصاحتهم وبلاغتهم ، فثبت بذلك أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ.

وإنما جعلنا هذا القول أقرب الأقوال إلى الصواب ، لأنه هو الذي يتسق مع ما يفيده ظاهر الآية الكريمة ، ولأننا عند ما نقرأ هذه السورة الكريمة وغيرها ، نجد الرسل الكرام كثيرا ما يؤكدون لأقوامهم ـ أنهم ـ أى الرسل على بينة من ربهم.

فهذا نوح ـ عليه‌السلام ـ يقول لقومه : (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ).

وهذا صالح ـ عليه‌السلام ـ يقول لقومه : (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً ، فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ...).

وهذا شعيب ـ عليه‌السلام ـ يقول لقومه : (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً ..)

وهكذا نجد كل نبي يؤكد لقومه أنه جاءهم على بينة من ربه وما دام الأمر كذلك فسيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو أفضل من جاء قومه على بينة من ربه ، والمؤمنون به صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقتدون به في ذلك.

١٧٩

ويرى بعضهم أن المراد بالبينة القرآن الكريم. وبالشاهد إعجازه وبالموصول مؤمنو أهل الكتاب وأن الضميرين في قوله «ويتلوه ـ ومنه» يعودان إلى القرآن الكريم وإعجازه.

وعلى هذا الرأى يكون المعنى : أفمن كان على برهان جلى من ربه يدل على حقية الإسلام وهو القرآن ويؤيده ويقويه ـ أى القرآن ـ شاهد منه على كونه من عند الله وهذا الشاهد هو إعجازه للبشر عن أن يأتوا بسورة من مثله.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) : أصل البينة الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة ، وتطلق على الدليل مطلقا .. والتنوين فيها للتعظيم ، أى : بينة عظيمة الشأن والمراد بها القرآن ، وباعتبار ذلك أو البرهان جاء الضمير الراجع إليها في قوله (وَيَتْلُوهُ) مذكرا وقوله (وَيَتْلُوهُ) أى يتبعه (شاهِدٌ) عظيم يشهد بكونه من عند الله وهو إعجازه ..».

ومعنى كون ذلك الشاهد تابعا له ، أنه وصف له لا ينفك عنه .. وكذا الضمير في «منه» ـ يعود إلى القرآن ـ وهو متعلق بمحذوف وقع صفة لشاهد ومعنى كونه منه أنه غير خارج عنه ..» (١).

ومن المفسرين من يرى أن المراد بالبينة القرآن الكريم ـ أيضا ـ ويرى أن المراد بالشاهد جبريل ـ عليه‌السلام ـ وأن قوله ـ سبحانه ـ (وَيَتْلُوهُ) من التلاوة بمعنى القراءة لا من التّلو بمعنى الاتباع.

وعلى هذا الرأى يكون المعنى : أفمن كان على برهان جلى من ربه يدل على حقية الإسلام وهو القرآن ويتلو هذا القرآن على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاهد من الله ـ تعالى ـ هو جبريل ـ عليه‌السلام ـ.

فالضمير في (وَيَتْلُوهُ) على هذا الرأى يعود الى جبريل ـ عليه‌السلام ـ وفي «منه» يعود على الله تعالى ـ.

وهناك أقوال أخرى في تفسير الآية الكريمة رأينا من الخير أن نضرب عنها صفحا لضعفها (٢).

وقوله (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) دليل آخر على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوته. وهو معطوف على شاهد والضمير في قوله (وَمِنْ قَبْلِهِ ...) يعود على شاهد ـ أيضا ـ.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ٢٥.

(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ٢٥.

١٨٠