التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

بدون واو العطف. لأن الجملة الثانية بيان وتفسير للجملة الأولى. فيكون المراد من سوء العذاب في سورة البقرة تذبيح الأبناء واستحياء النساء.

واسم الإشارة في قوله : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) يعود إلى المذكور من النعم والنقم ، والبلاء : الامتحان والاختبار ، ويكون في الخير والشر. قال ـ تعالى ـ (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً).

أى : وفي ذلكم العذاب وفي النجاة منه امتحان عظيم لكم من ربكم بالسراء لتشكروا وبالضراء لتصبروا ، ولتقلعوا عن السيئات التي تؤدى بكم إلى الشقاء والهوان.

ثم حكى ـ سبحانه ـ أن موسى ـ عليه‌السلام ـ قد أرشد قومه إلى سنة من سنن الله التي لا تتخلف فقال : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) ...

وقوله : «تأذن» بمعنى آذن أى أعلم ، يقال : آذن الأمر وبالأمر أى : أعلمه ، إلا أن صيغة التفعل تفيد المبالغة في الإعلام ، فيكون معنى «تأذن» : أعلم إعلاما واضحا بليغا لا التباس معه ولا شبهة.

واللام في قوله : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) موطئة للقسم. وحقيقة الشكر : الاعتراف بنعم الله ـ تعالى ـ واستعمالها في مواضعها التي أرشدت الشريعة إليها.

وقوله : «لأزيدنكم» ساد مسد جوابي القسم والشرط.

والمراد بالكفر في قوله : «ولئن كفرتم» كفر النعمة وجحودها ، وعدم نسبتها إلى واهبها الحقيقي وهو الله ـ تعالى ـ كما قال قارون (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) وعدم استعمالها فيما خلقت له ، إلى غير ذلك من وجوه الانحراف بها عن الحق.

وجملة : (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) دليل على الجواب المحذوف لقوله (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) إذ التقدير : ولئن كفرتم لأعذبنكم ، إن عذابي لشديد.

قال الجمل : «وإنما حذف هنا وصرح به في جانب الوعد ، لأن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد» (١).

والمعنى : واذكر أيها المخاطب وقت أن قال موسى لقومه : يا قوم إن ربكم قد أعلمكم إعلاما واضحا بليغا مؤكدا بأنكم إن شكرتموه على نعمه ، زادكم من عطائه وخيره ومننه ، وإن

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥١٥.

٥٢١

جحدتم نعمه وغمطتموها واستعملتموها في غير ما يرضيه ، محقها من بين أيديكم ، فإنه ـ سبحانه ـ عذابه شديد ، وعقابه أليم.

هذا ، وقد ساق الإمام ابن كثير هنا جملة من الأحاديث الموجبة للشكر ، والمحذرة من الجحود فقال :

وقد جاء في الحديث الشريف : «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه».

وروى الإمام أحمد عن أنس قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سائل فأمر له بتمرة فلم يأخذها ـ أو وحش بها أى : رماها ـ قال : وأتاه آخر فأمر له بتمرة فقال السائل : سبحان الله!! تمرة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال للجارية : اذهبي إلى أم سلمة فأعطيه الأربعين درهما التي عندها (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن موسى قد أخبر قومه أن ضرر كفرهم إنما يعود عليهم ، لأن الله ـ تعالى ـ غنى عن العالمين فقال ـ تعالى ـ : (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ).

أى : وقال موسى ـ عليه‌السلام ـ لقومه : إن تجحدوا نعم الله أنتم ومن في الأرض جميعا من الخلائق ، فلن تضروا الله شيئا ، وإنما ضرر ذلك يعود على الجاحد لنعمه ، والمنحرف عن طريقه ، فإن الله ـ تعالى ـ لغنى عن شكركم وشكرهم ، مستحق للحمد من جميع المخلوقين طوعا وكرها.

ويبدو من سياق الآية الكريمة أن موسى ـ عليه‌السلام ـ إنما قال لقومه ذلك ، بعد أن شاهد منهم علامات الإصرار على الكفر والفساد ، وترجح لديه أنهم قوم لا ينفعهم الترغيب ولا التعريض بالترهيب ، ولمس منهم أنهم يمنون عليه أو على الله ـ تعالى ـ بطاعاتهم فأراد بهذا القول أن يزجرهم عن الإدلال بإيمانهم ، والمن بطاعتهم.

فالغرض الذي سيقت له الآية إنما هو بيان أن منفعة الطاعة والشكر والإيمان إنما تعود على الطائعين الشاكرين المؤمنين ، وأن مضرة الجحود والكفران إنما تعود على الجاحدين الكافرين. أما الله ـ تعالى ـ فلن تنفعه طاعة المطيع ، ولن تضره معصية العاصي.

ففي الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبى ذر الغفاري ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه عن ربه ـ عزوجل ـ أنه قال : «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٩٩.

٥٢٢

يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا.

يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا على صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل إنسان مسألته ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر» (١).

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد زخرت بالتوجيهات القرآنية الحكيمة ، التي ساقها الله ـ تعالى ـ على لسان موسى ـ عليه‌السلام ـ وهو يعظ قومه ، ويذكرهم بأيام الله ، وبسننه في خلقه ، وبغناه عنهم ...

ثم حكى ـ سبحانه ـ جانبا من أحوال بعض الرسل مع أقوامهم ، ومن المحاورات التي دارت بين الرسل وبين من أرسلوا إليهم فقال ـ تعالى ـ :

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا

__________________

(١) صحيح مسلم كتاب البر والصلة باب تحريم الظلم.

٥٢٣

عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)(١٢)

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ ...).

يرى بعض المفسرين أنه من تتمة كلام موسى ـ عليه‌السلام ـ فيكون المعنى : أن موسى ـ عليه‌السلام ـ بعد أن ذكر قومه بأيام الله ـ تعالى ـ ، وبنعمه عليهم ، وبسننه ـ سبحانه ـ في خلقه ...

بعد كل ذلك شرع في تذكيرهم وتخويفهم عن طريق ما حل بالمكذبين من قبلهم ، فقال لهم ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...).

ومنهم من يرى أن الآية الكريمة كلام مستأنف ، والخطاب فيه لأمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون المعنى : أن الله ـ تعالى ـ بعد أن بين للناس أنه قد أنزل كتابه على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإخراجهم من الظلمات إلى النور ، وبين ـ سبحانه ـ أن له ما في السموات وما في الأرض ، وهدد الكافرين بالعذاب الشديد ، وحكى ما قاله موسى لقومه ...

بعد كل ذلك وجه ـ سبحانه ـ الخطاب إلى مشركي مكة وإلى كل من كان على شاكلتهم فقال : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...).

قال الفخر الرازي ما ملخصه : «يحتمل أن يكون هذا خطابا من موسى لقومه ، والمقصود منه أنه ـ عليه‌السلام ـ كان يخوفهم بمثل هلاك من تقدم.

ويجوز أن يكون مخاطبة من الله ـ تعالى ـ على لسان موسى لقومه ، يذكرهم أمر القرون الأولى. والمقصود إنما هو حصول العبرة بأحوال المتقدمين ، وهذا المقصود حاصل على

٥٢٤

التقديرين ، إلا أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

ومع أننا نؤيد الإمام الرازي في أن المقصود إنما حصول العبرة بأحوال المتقدمين إلا أننا نميل مع الأكثرين إلى الرأى الثاني ، لأن قوم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم المقصودون قصدا أوليا بالخطاب القرآنى ، ولأن الإمام ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ يرى أنه لم يرد ذكر في التوراة لقوم عاد وثمود ، فقد قال :

قال ابن جرير : «هذا من تمام قول موسى لقومه ... وفيما قال ابن جرير نظر والظاهر أنه خبر مستأنف من الله ـ تعالى ـ لهذه الأمة ، فإنه قد قيل إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة ، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقصه عليهم ، فلا شك حينئذ أن تكون هاتان القصتان في التوراة (٢).

والاستفهام في قوله (أَلَمْ يَأْتِكُمْ ...) للتقرير لأنهم قد بلغتهم أخبارهم ، فقوم نوح بلغتهم أخبارهم بسبب خبر الطوفان الذي كان مشهورا بينهم ، وقوم عاد وثمود بلغتهم أخبارهم لأنهم من العرب ، ومساكنهم في بلادهم ، وهم يمرون على ديار قوم صالح في أسفارهم إلى بلاد الشام للتجارة. والمراد بالذين من بعدهم : أولئك الأقوام الذين جاءوا من بعد قوم نوح وعاد وثمود ، كقوم إبراهيم وقم لوط وغيرهم.

وقوله : (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) أى : لا يعلم عدد الأقوام الذين جاءوا بعد قوم نوح وعاد وثمود ولا يعلم ذواتهم وأحوالهم إلا الله تعالى.

وقوله (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) مبتدأ ، وقوله (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) خبره ، والجملة اعتراض بين المفسر ـ بفتح السين ـ وهو (نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وتفسيره وهو (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ).

والمعنى : لقد علمتم يا أهل مكة ما حل بقوم نوح وعاد وثمود ، كما علمتم ما حل بالمكذبين من بعدهم كقوم لوط وقوم شعيب ، وكغيرهم ممن لا يعلم أحوالهم وعددهم إلا الله ـ تعالى ـ وما دام الأمر كذلك فاعتبروا واتعظوا واتبعوا هذا الرسول الكريم الذي جاء لسعادتكم ، لكي تنجوا من العذاب الأليم الذي حل بالظالمين من قبلكم.

وجملة (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) مستأنفة في جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل ما قصة هؤلاء الأقوام وما خبرهم؟

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ٨٨ طبعة دار الكتب العلمية ـ طهران.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٠٠.

٥٢٥

فكان الجواب : جاء كل رسول إلى قومه بالحجج الواضحات ، وبالمعجزات الظاهرات ، الدالة على صدقه فيما يبلغه عن ربه.

وقوله (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ ...).

بيان لموقف الأقوام المكذبين من رسلهم الذين أرسلهم الله لهدايتهم.

والضمائر في «ردوا» و «أيديهم» و «أفواههم» تعود على الأقوام الذين جاءتهم رسلهم بالبينات. وهذه الجملة الكريمة ذكر المفسرون في معناها وجوها متعددة أوصلها بعضهم إلى عشرة أقوال :

منها : أن الكفار وضعوا أناملهم في أفواههم فعضوها غيظا وبغضا مما جاء به الرسل ، وقالوا لهم بغضب وضجر : إنا كفرنا بما أرسلتم به وبما جئتمونا به من معجزات ، فاغربوا عن وجوهنا ، واتركونا وشأننا.

ومن المفسرين الذين رجحوا هذا الوجه الإمام ابن جرير ، فقد قال : «وقوله : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ ...) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك ، فعضوا على أصابعهم تغيظا عليهم في دعائهم إياهم إلى ما دعوهم إليه ... روى ذلك عن ابن مسعود وغيره.

ثم قال بعد أن ساق عددا من الأقوال الأخرى : وأشبه هذه الأقوال عندي بالصواب في تأويل هذه الآية ، القول الذي ذكرناه عن عبد الله بن مسعود أنهم ردوا أيديهم في أفواههم ، فعضوا عليها غيظا على الرسل ، كما وصف الله عزوجل به إخوانهم من المنافقين فقال : (وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) فهذا هو الكلام المعروف ، والمعنى المفهوم من رد الأيدى إلى الأفواه (١).

ومنها : أن الكفار وضعوا أيديهم على أفواههم إشارة منهم إلى أنفسهم وإلى ما يصدر عنها ، وقالوا للرسل على سبيل التحدي والتكذيب. «إنا كفرنا بما أرسلتم به» أى : لا جواب لكم عندنا سوى ما قلناه لكم بألسنتنا هذه.

ومن المفسرين الذين رجحوا هذا القول الإمام الآلوسى ، فقد صدر الأقوال التي ذكرها به ، فقال ما ملخصه : قوله (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) أى : أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به ، وقالوا لهم (إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أى : على زعمكم ، وهي البينات التي

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٣ ص ١٢٧.

٥٢٦

أظهروها حجة على صحة رسالتهم ، ومرادهم بالكفر بها : الكفر بدلالتها على صحة رسالتهم ...

ثم قال بعد أن ساق عددا من الأقوال : والذي يطابق المقام ، وتشهد له البلاغة : هو الوجه الأول ، ونص غير واحد على أنه الوجه القوى ، لأنهم حاولوا الإنكار على الرسل كل الإنكار ، حيث جمعوا في الإنكارين : الفعل والقول ، ولذا أتى بالفاء تنبيها على أنهم لم يتمهلوا ، بل عقدوا دعوتهم بالتكذيب ...» (١).

ومنها : أن الكفار لما سمعوا أقوال الرسل لهم ، وضعوا أيديهم على أفواههم استهزاء وتعجبا.

وقد رجح هذا الوجه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور فقال : «وهذا التركيب لا أعهد مثله في كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن : ومعنى (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ).

يحتمل عدة وجوه أنهاها في الكشاف إلى سبعة ، وفي بعضها بعد ، وأولاها بالاستخلاص أن يكون المعنى : أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم إخفاء لشدة الضحك من كلام الرسل ، كراهية أن تظهر دواخل أفواههم ، وذلك تمثيل لحالة الاستهزاء بالرسل (٢).

ومنها : أن الكفار لما سمعوا أقوال الرسل لهم ، لم يردوا عليهم ، بل تركوهم إهمالا لشأنهم.

وقد رجح الشوكانى هذا الاتجاه فقال ما ملخصه : «وقال أبو عبيدة ـ ونعم ما قال ـ هو ضرب مثل. أى : لم يؤمنوا ولم يجيبوا. والعرب تقول الرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت : قد رد يده في فيه. وهكذا قال الأخفش ، واعترض على ذلك القتيبي فقال : لم يسمع أحد من العرب يقول : رد يده في فيه ، إذا ترك ما أمر به وإنما المعنى عضوا على الأيدى حنقا وغيظا ...

فإن صح ما ذكره أبو عبيدة والأخفش فتفسير الآية به أقرب ... (٣).

وهذه الأقوال جميعها وإن كانت تتفق في أن الآية الكريمة ، قد أخبرت بأبلغ عبارة عما قابل به الأقوام المكذبون رسلهم من سوء أدب ...

إلا أننا نميل إلى ما ذهب إليه الإمام ابن جرير ، لأنه أظهر الأقوال في معناها ، وقد استشهد له بعضهم بأشعار العرب ، ومنها قول الشاعر :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٧٣.

(٢) تفسير التحرير والتنوير ج ١٣ ص ١٩٦.

(٣) راجع تفسير الشوكانى ج ٣ ص ٩٧ ففيه ما يقرب من عشرة أقوال في معنى الآية.

٥٢٧

ترون في فيه غش الحسو

د حتى يعض على الأكفا

يعنى أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه وكفيه (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) معطوف على قوله (إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ).

ومريب : اسم فاعل من أراب. تقول : أربت فلانا فأنا أريبه ، إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة ، فمعنى مريب : موقع في الريبة أى : في القلق والاضطراب.

أى : قال المكذبون لرسلهم إنا كفرنا بما جئتم به من المعجزات والبينات.

وإنا لفي شك كبير موقع في الريبة مما تدعوننا إليه من الإيمان بوحدانية الله ، وبإخلاص العبادة له ...

قال الجمل ما ملخصه : «فإن قيل : إنهم أكدوا كفرهم بما أرسل به الرسل.

ثم ذكروا بعد ذلك أنهم شاكون مرتابون في صحة قولهم فكيف ذلك؟

فالجواب : كأنهم قالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به أيها الرسل فإن لم نكن كذلك ، فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم.

أو يقال : المراد بقولهم «إنا كفرنا بما أرسلتم به» أى بالمعجزات والبينات ، وبقولهم : (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) وهو الإيمان والتوحيد.

أو يقال : إنهم كانوا فرقتين إحداهما جزمت بالكفر ، والأخرى شكت ... (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما رد به الرسل على المكذبين من أقوامهم فقال : (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ ، فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ...).

والاستفهام في قوله (أَفِي اللهِ شَكٌ) للتوبيخ والإنكار ، ومحل الإنكار هو وقوع الشك في وجود الله ـ تعالى ـ وفي وحدانيته.

وقوله (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الفطر بمعنى الخلق والإبداع من غير سبق مثال وأصله : الشق وفصل شيء عن شيء ، ومنه فطر ناب البعير أى : طلع وظهر ، واستعمل في

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٣٤٦.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥١٦.

٥٢٨

الإيجاد والإبداع والخلق لاقتضائه التركيب الذي سبيله الشق والتأليف ، أو لما فيه من الإخراج من العدم إلى الوجود.

والمعنى : قال الرسل لأقوامهم على سبيل الإنكار والتعجب من أقوالهم الباطلة : أفي وجود الله ـ تعالى ـ وفي وجوب إخلاص العبادة له شك ، مع أنه ـ سبحانه ـ هو (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى خالقهما ومبدعهما ومبدع ما فيهما على أحكم نظام ، وعلى غير مثال سابق ... وهو ـ سبحانه ـ فضلا منه وكرما «يدعوكم» إلى الإيمان بما جئناكم به من لدنه «ليغفر لكم» بسبب هذا الإيمان «من ذنوبكم ويؤخركم» في هذه الدنيا «إلى أجل مسمى» أى : إلى وقت معلوم عنده تنتهي بانتهائه أعماركم ، دون أن يعاجلكم خلال حياتكم بعذاب الاستئصال «رحمة بكم» وأملا في هدايتكم.

فأنت ترى أن الرسل الكرام قد أنكروا على أقوامهم أن يصل بهم انطماس البصيرة إلى الدرجة التي تجعلهم ينكرون وجود الله مع أن الفطر شاهدة بوجوده ، وينكرون وحدانيته مع أنه وحده الخالق لكل شيء ، ويشركون معه في العبادة آلهة أخرى ، مع أن هذه الآلهة لا تضر ولا تنفع.

وجملة (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جيء بها كدليل على نفى الشك في وجوده ـ سبحانه ـ وفي وجوب إخلاص العبادة له ، لأن وجودهما على هذا النسق البديع يدل دلالة قاطعة على أن لهما خالقا قادرا حكيما ، لاستحالة صدور تلك المخلوقات من غير فاعل مختار.

وجملة «يدعوكم ...» حال من اسم الجلالة ، واللام في قوله «ليغفر لكم من ذنوبكم» متعلقة بالدعاء.

أى : يدعوكم إلى الإيمان بنا لكي يغفر لكم.

قال الشوكانى ما ملخصه : «ومن» في قوله «من ذنوبكم» قال أبو عبيدة : إنها زائدة ، ووجه ذلك قوله ـ تعالى ـ في موضع آخر : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) وقال سيبويه : هي للتبعيض ، ويجوز أن يذكر البعض ويراد منه الجميع ، وقيل التبعيض على حقيقته ولا يلزم من غفران الذنوب لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم غفران جميعها لغيرهم ...

وقيل هي للبدل ، أى : لتكون المغفرة بدلا من الذنوب ... (١).

وقال الجمل : «ويحتمل أن يضمن «ويغفر» معنى يخلص أى : يخلصكم من ذنوبكم ،

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ٩٨.

٥٢٩

ويكون مقتضاه غفران جميع الذنوب ، وهو أولى من دعوى زيادتها» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) حكاية لرد آخر من الردود السيئة التي قابل بها المكذبون رسلهم.

أى : قال الظالمون لرسلهم الذين جاءوا لهدايتهم ، ما أنتم إلا بشر مثلنا في الهيئة والصورة والمأكل والمشرب ، تريدون بما جئتمونا به أن تصرفونا وتمنعونا عن عبادة الآلهة التي ورثنا عبادتها عن آبائنا ... فإن كنتم صادقين في دعواكم هذه (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أى بحجة ظاهرة تدل على صدقكم وتتسلط هذه الحجة بقوتها على نفوسنا وتجذبها إلى اليقين ، من السلاطة وهي التمكن من القهر.

وكأن هؤلاء الظالمين بقولهم هذا ، يرون أن الرسل لا يصح أن يكونوا من البشر ، وإنما يكونون من الملائكة.

وكأن ما أتاهم به الرسل من حجج باهرة تدل على صدقهم ، ليس كافيا في زعم هؤلاء المكذبين للإيمان بهم ، بل عليهم أن يأتوهم بحجج محسوسة أخرى ، وهكذا الجحود العقلي ، والانطماس النفسي يحمل أصحابه على قلب الحقائق ، وإيثار طريق الضلالة على طريق الهداية.

وهنا يحكى القرآن أن الرسل ـ عليهم‌السلام ـ قد قابلوا هذا السفه من أقوالهم بالمنطق الحكيم ، وبالأسلوب المهذب فيقول : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ..).

أى : قال الرسل لمكذبيهم على سبيل الإرشاد والتنبيه : نحن نوافقكم كل الموافقة على أننا بشر مثلكم كما قلتم ، ولكن هذه المماثلة بيننا وبينكم في البشرية ، لا تمنع من أن يتفضل الله على من يشاء التفضل عليه من عباده ، بأن يمنحه النبوة أو غيرها من نعمه التي لا تحصى.

فأنت ترى أن الرسل ـ عليهم‌السلام ـ قد سلموا للمكذبين دعواهم المماثلة في البشرية ، في أول الأمر ، ثم بعد ذلك بينوا لهم جهلهم وسوء تفكيرهم ، بأن أفهموهم بطريق الاستدراك ، أن المشاركة في الجنس لا تمنع التفاضل ، فالبشر كلهم عباد الله ، ولكنه ـ سبحانه ـ يمن على بعضهم بنعم لم يعطها لسواهم ..

فالمقصود بالاستدراك دفع ما توهمه المكذبون ، من كون المماثلة في البشرية تمنع اختصاص بعض البشر بالنبوة.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥١٧.

٥٣٠

قال الآلوسى : قوله ـ تعالى ـ : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ) مجاراة لأول مقالتهم (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) كما تقولون ، وهذا كالقول بالموجب ، لأن فيه إطماعا في الموافقة ، ثم كروا على قولهم بالإبطال فقالوا : (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ).

أى : إنما اختصنا الله ـ تعالى ـ بالرسالة بفضل منه وامتنان ، والبشرية غير مانعة لمشيئته ـ جل وعلا ـ. وفيه دليل على أن الرسالة عطائية ، وأن ترجيح بعض الجائز على بعض بمشيئته ـ تعالى ـ ولا يخفى ما في العدول عن «ولكن الله منّ علينا» ، إلى ما في النظم الجليل منهم ـ عليهم‌السلام ـ (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) حكاية لرد الرسل على قول المكذبين لهم (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ).

أى : وقال الرسل للمكذبين من أقوامهم ـ أيضا ـ : وما صح وما استقام لنا نحن الرسل أن نأتيكم ـ أيها الضالون ـ بحجة من الحجج ، أو بخارق من الخوارق التي تقترحونها علينا ، إلا بإذن الله وإرادته وأمره لنا بالإتيان بما اقترحتم ، فنحن عباده ولا نتصرف إلا بإذنه.

ثم أكد الرسل تمسكهم بالمضي في دعوتهم فقالوا ـ كما حكى القرآن عنهم ـ (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

والتوكل على الله معناه : الاعتماد عليه ، وتفويض الأمور إليه ، مع مباشرة الأسباب التي أمر ـ سبحانه ـ بمباشرتها.

أى : وعلى الله وحده دون أحد سواه ، فليتوكل المؤمنون ، الصادقون ، دون أن يعبئوا بعنادكم ولجاجكم ، ونحن الرسل على رأس هؤلاء المؤمنين الصادقين.

فالجملة الكريمة أمر من الرسل لمن آمن من قومهم بالتوكل على الله وحده ، وقد قصدوا بهذا الأمر أنفسهم قصدا أوليا ، بدليل قولهم بعد ذلك ـ كما حكى القرآن عنهم ـ (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا).

أى : وما عذرنا إن تركنا التوكل على الله ـ تعالى ـ والحال أنه ـ عزوجل ـ قد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه ، فقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها ، وهي طريق إخلاص العبادة له والاعتماد عليه وحده في كل شئوننا.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٧٧.

٥٣١

فالجملة الكريمة تدل على اطمئنانهم إلى سلامة مواقفهم في تفويض أمورهم إلى الله ، وإلى رعاية الله ـ تعالى ـ حيث هداهم إلى طريق النجاة والسعادة.

ثم أضافوا إلى ذلك تيئيس أعدائهم من التأثر بأذاهم ، فقالوا (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا).

أى : والله لنصبرن صبرا جميلا في حاضرنا ومستقبلنا ـ كما صبرنا في ماضينا ـ على إيذائكم لنا. والذي من مظاهره : عصيانكم لأقوالنا ، ونفوركم من نصحنا ، واستهزاؤكم بنا ، ومحاربتكم لنا ..

ثم ختموا أقوالهم بتأكيد تصميمهم على الثبات في وجه الباطل فقالوا (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ).

أى : وعلى الله وحده دون أحد سواه ، فليثبت المتوكلون على توكلهم. وليفوضوا أمورهم إلى خالقهم ، فهو القاهر فوق عباده ، وهو الذي لا يعجزه شيء.

وتقديم الجار والمجرور في الجملة الكريمة وفيما يشبهها مؤذن بالحصر ، وأن هؤلاء الرسل الكرام لا يرجون نصرا من غير الله ـ تعالى ـ.

وبهذا نرى أن الآيات الكريمة ، قد حكت لنا بأسلوب مؤثر حكيم ، جانبا من المحاورات التي دارت بين الرسل وبين مكذبيهم ، وبينت لنا كيف دافع الرسل عن عقيدتهم ، وكيف ردوا على الأقوال السيئة ، والأفعال القبيحة ، التي واجههم بها المكذبون ، وكيف أعلنوا في قوة وعزم وإصرار ثباتهم في وجوه أعدائهم ، ومقابلتهم الأذى بالصبر الذي لا جزع معه ، مهما صنع الأعداء في طريقهم من عقبات ، ومهما أثاروا من أباطيل وشبهات ...

ثم حكت السورة بعد ذلك جانبا آخر من تلك المحاورات التي دارت بين الرسل وبين أعدائهم ، وجانبا مما وعد الله به رسله ـ عليهم‌السلام ـ وجانبا من العذاب الذي أعده للظالمين فقال ـ تعالى ـ :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا

٥٣٢

وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ)(١٧)

فقوله ـ سبحانه ـ : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا ، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ...) حكاية لما هدد به رءوس الكفر رسلهم ، بعد أن أفحمهم الرسل بالحجة البالغة ، وبالمنطق الحكيم.

واللام في «لنخرجنكم» هي الموطئة للقسم. و «أو» للتخيير بين الأمرين.

أى : وقال الذين عتوا في الكفر ـ على سبيل التهديد ـ لرسلهم ، الذين جاءوا لهدايتهم ، والله لنخرجنكم ـ أيها الرسل ـ من أرضنا ، أو لتعودن في ديننا وملتنا.

قال الإمام الرازي : «اعلم أنه ـ تعالى ـ لما حكى عن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ أنهم قد اكتفوا في دفع شرور أعدائهم بالتوكل عليه ، والاعتماد على حفظه وحياطته ، حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة وقالوا للأنبياء والله لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا».

والمعنى : ليكونن أحد الأمرين لا محالة ، إما إخراجكم وإما عودكم إلى ملتنا.

والسبب فيه أن أهل الحق في كل زمان يكونون قليلين. وأهل الباطل يكونون كثيرين والظلمة والفسقة يكونون متعاونين متعاضدين ، فلهذه الأسباب قدروا على هذه السفاهة (١).

والتعبير بقوله ـ سبحانه ـ (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) يفيد بظاهره أن الرسل كانوا على ملة الكافرين ثم تركوها ، فإن العود معناه : الرجوع إلى الشيء بعد مفارقته. وهذا محال ، فإن الأنبياء معصومون ـ حتى قبل النبوة ـ عن ارتكاب الكبائر ، فضلا عن الشرك.

وقد أجيب عن ذلك بإجابات منها :

أن الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسل ، إلا أن المقصود به أتباعهم المؤمنون ، الذين

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ٩٩.

٥٣٣

كانوا قبل الإيمان بالرسل على دين أقوامهم ، فكأنهم يقولون لهؤلاء الأتباع : لقد كنتم على ملتنا ثم تركتموها ، فإما أن تعودوا إليها وإما أن تخرجوا من ديارنا ، إلا أن رءوس الكفر وجهوا الخطاب إلى الرسل من باب التغليب.

ومنها : أن العود هنا بمعنى الصيرورة ، إذ كثيرا ما يرد «عاد» بمعنى صار ، فيعمل عمل كان ، ولا يستدعى الرجوع إلى حالة سابقة ، بل يستدعى الانتقال من حال سابقة إلى حال جديدة مستأنفة ، فيكون المعنى : لنخرجنكم من أرضنا أو لتصيرن كفارا مثلنا.

ومنها : أن هذا القول من الكفار جار على توهمهم وظنهم ، أن الرسل كانت قبل دعوى النبوة على ملتهم ، لسكوتهم قبل البعثة عن الإنكار عليهم ، فلهذا التوهم قالوا ما قالوا ، وهم كاذبون فيما قالوه.

وشبيه بهذه الآية قول قوم شعيب ـ عليه‌السلام ـ له (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ...) (١).

وقول قوم لوط له (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ...) بشارة عظيمة من الله ـ تعالى ـ لرسله ، ووعد لهم بالنصر على أعدائهم ..

أى : فأوحى الله ـ تعالى ـ إلى الرسل ـ بعد أن قال لهم الكافرون ـ ما قالوا ـ : أبشروا أيها الرسل (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) الذين هددوكم بالإخراج من الديار ، أو بالعودة إلى ملتهم ، (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ) ـ أيها الرسل ـ (الْأَرْضَ) أى أرضهم (مِنْ بَعْدِهِمْ) أى من بعد إهلاكهم واستئصال شأفتهم.

قال الآلوسى ما ملخصه : «وأوحى هنا يحتمل أن يكون بمعنى فعل الإيحاء فلا مفعول له».

وقوله (لَنُهْلِكَنَ) على إضمار القول ، أى : قائلا لنهلكن ، ويحتمل أن يكون جاريا مجرى القول لكونه ضربا منه ، وقوله (لَنُهْلِكَنَ) مفعوله ...

وخص ـ سبحانه ـ الظالمين من الذين كفروا ، لأنه من الجائز أن يؤمن من الكفرة الذين قالوا تلك المقالة أناس معينون ، فالتوعد لإهلاك من خلص للظلم» (٣).

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ٨٨.

(٢) سورة النمل الآية ٥٦.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٧٩.

٥٣٤

وأكد ـ سبحانه ـ إهلاك الظالمين وإسكان الرسل أرضهم ، بلام القسم ونون التوكيد ... زيادة في إدخال السرور على نفوس الرسل ، وفي تثبيت قلوبهم على الحق ، وردا على أولئك الظالمين الذين أقسموا بأن يخرجوا الرسل من ديارهم ، أو يعودوا إلى ملتهم.

قال صاحب الكشاف : «والمراد بالأرض في قوله (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أرض الظالمين وديارهم ، ونحوه : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ) ...

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من آذى جاره ورثه الله داره».

ثم قال : ولقد عاينت هذا في مدة قريبة ، كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا منها ويؤذيني فيه ، فمات ذلك العظيم وملكني الله ضيعته ، فنظرت يوما إلى أبناء خالي يترددون فيها ، ويدخلون في دورها ويخرجون ويأمرون وينهون ، فذكرت قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحدثتهم به ، وسجدنا شكرا لله» (١).

واسم الإشارة في قوله ـ سبحانه ـ (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) يعود إلى ما قضى الله به من إهلاك الظالمين ، وتمكين الرسل وأتباعهم من أرضهم.

أى : ذلك الذي قضيت به كائن لمن خاف قيامي عليه ، ومراقبتى له ، ومكان وقوفه بين يدي للحساب ، وخاف وعيدي بالعذاب لمن عصاني.

قال الجمل : «ومقامي فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه مقحم ـ وهو بعيد إذ الأسماء لا تقحم ، أى ذلك لمن خافني ـ الثاني : أنه مصدر مضاف للفاعل.

قال الفراء : مقامي مصدر مضاف لفاعله : أى قيامي عليه بالحفظ. الثالث : أنه اسم مكان ، قال الزجاج : مكان وقوفه بين يدي للحساب» (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَاسْتَفْتَحُوا) من الاستفتاح بمعنى الاستنصار ، أى : طلب النصر من الله ـ تعالى ـ على الأعداء. والسين والتاء للطلب.

ومنه قوله ـ تعالى ـ (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ ..) وقوله ـ تعالى ـ (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ...).

أو يكون (وَاسْتَفْتَحُوا) من الفتاحة بمعنى الحكم والقضاء ، أى : واستحكموا الله

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٧١.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥١٨.

٥٣٥

ـ تعالى ـ وطلبوا منه القضاء والحكم ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ).

والجملة الكريمة معطوفة على (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) ، والضمير يعود إلى الرسل.

والمعنى : والتمس الرسل من خالقهم ـ عزوجل ـ أن ينصرهم على أعدائه وأعدائهم ، وأن يحكم بحكمه العادل بينهم وبين هؤلاء المكذبين.

قالوا : ومما يؤيد ذلك قراءة ابن عباس ومجاهد وابن محيصن (وَاسْتَفْتَحُوا) ـ بكسر التاء ـ أمرا للرسل.

ومنهم من يرى أن الضمير يعود للفريقين : الرسل ومكذبيهم. أى : أن كل فريق دعا الله أن ينصره على الفريق الآخر.

وقوله (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) بيان لنتيجة الاستفتاح. والجبار : الإنسان المتكبر المغرور المتعالي على غيره ، المدعى لمنزلة أو لشيء ليس من حقه.

والعنيد : مأخوذ من العند ـ بفتح النون ـ بمعنى الميل. يقال : عند فلان عن الطريق ـ كنصر وضرب وكرم ـ عنودا ، إذا مال عنها. وعند فلان عن الحق ، إذا خالفه.

والجملة الكريمة معطوفة على محذوف ، والتقدير : واستفتحوا فنصر الله ـ تعالى ـ رسله على أعدائهم ، وخاب وخسر ، كل متكبر متجبر معاند للحق.

قال ابن كثير : قوله : (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أى : متجبر في نفسه معاند للحق ، كما قال ـ تعالى ـ (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ* مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ* الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) (١).

وفي الحديث : «يؤتى بجهنم يوم القيامة ، فتنادى الخلائق فتقول : إنى وكلت بكل جبار عنيد ...» (٢).

وقال ـ سبحانه ـ (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) ولم يقل وخاب الذين كفروا كما هو مقتضى الظاهر من السياق ، للتنبيه على أن الذين كفروا كانوا جبابرة معاندين للحق ، وأن كل من كان كذلك فلا بد من أن تكون عاقبته الخيبة والخسران.

وقوله (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) صفة لجبار عنيد.

__________________

(١) سورة ق الآيات من ٢٤ ـ ٢٦.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٠٣.

٥٣٦

والمراد بقوله : (مِنْ وَرائِهِ) أى : من أمامه ، أو من بعد هلاكه.

أى : من أمام خيبة هذا الجبار العنيد جهنم ، تنتظر ليحل بها ، بسبب كفره وظلمه.

قال صاحب أضواء البيان : قوله (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ ...) الوراء هنا بمعنى الأمام كما هو ظاهر ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) أى : وكان أمامهم ملك .. ومنه قول الشاعر :

أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي

وقومي تميم والفلاة ورائيا

أى : والفلاة أماميا.

وقال بعضهم : قوله (مِنْ وَرائِهِ) أى من بعد هلاكه ، ومنه قول النابغة :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء مذهب

أى : وليس بعد الله للمرء مذهب ، والأول هو الظاهر وهو الحق (١).

وعلى أية حال فإن الجملة الكريمة تدل على أن جهنم تنتظر هذا الجبار العنيد ، وتترصد له ، وتتبعه حيث كان ، بحيث لا يستطيع الفرار منها ، أو الهرب عنها.

وجملة «ويسقى من ماء صديد» معطوفة على مقدر ، أى : من ورائه جهنم يلقى فيها مذءوما مدحورا ، ويسقى من ماء مخصوص ليس كالمياه المعهودة ، هو الصديد ، أى ما يسيل من أجساد أهل النار من دم مختلط بقيح ، واشتقاقه من الصد ، لأنه يصد الناظرين عن رؤيته. وهو بدل أو عطف بيان من ماء.

وقوله (يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ ...) بيان لحالة هذا الجبار العنيد عند تعاطيه الصديد.

والتجرع : تكلف الجرع وهو بلع الماء ، وفعله ـ كسمع ومنع ـ.

ويسيغه : من السوغ وهو انحدار الشراب في الحلق بسهولة وقبول. يقال : ساغ الشراب سوغا وسواغا ، إذا كان سهل المدخل.

أى : يتكلف بلع هذا الصديد مرة بعد أخرى لمرارته وقبحه ، ولا يقارب أن يسيغه فضلا عن الإساغة. بل يغص به فيشربه بعد عناء ومشقة جرعة عقب جرعة».

وقوله (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) معطوف على قوله (يَتَجَرَّعُهُ) لبيان حالة أخرى من أحوال شقائه وعذابه.

__________________

(١) تفسير أضواء البيان ج ٣ ص ١٠٦ للشيخ محمد أمين الشنقيطى.

٥٣٧

أى : وتأتيه الأسباب المؤدية للموت والهلاك من كل جهة من الجهات ، ومن كل موضع من مواضع بدنه ، وما هو بميت فيستريح من هذا الشقاء والعذاب ، ومن وراء كل ذلك عذاب غليظ أى : شاق شديد لا يقل في ألمه عما هو فيه من نكال.

وشبيه بهذه الجملة قوله ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها ، كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى* الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (٢).

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد صورت لنا سوء عاقبة المكذبين للحق تصويرا مؤثرا ، تهتز له النفس ، وتوجل منه القلوب.

ثم ضرب ـ سبحانه ـ مثلا لأعمال الكافرين في حبوطها وذهابها يوم القيامة ، وساق الأدلة الدالة على قدرته القاهرة ، وصور أحوال الكافرين يوم يقوم الناس لرب العالمين ، وحكى ما يقوله الضعفاء للمستكبرين وما يقوله الشيطان لأتباعه في هذا اليوم العصيب ، وما أعده الله للمؤمنين الصادقين في هذا اليوم فقال ـ تعالى ـ :

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ

٥٣٨

مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ)(٢٣)

قال الإمام الرازي : «اعلم أنه ـ تعالى ـ لما ذكر أنواع عذابهم في الآية المتقدمة ، بين في هذه الآية وهي قوله ـ تعالى ـ (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ...). أن أعمالهم بأسرها ضائعة باطلة ، لا ينتفعون بشيء منها. وعند هذا يظهر كمال خسرانهم ، لأنهم لا يجدون في القيامة إلا العقاب الشديد وكل ما عملوه في الدنيا وجدوه ضائعا باطلا» (١).

والمثل : النظير والشبيه. ثم أطلق على القول السائر المعروف ، لمماثلة مضربه بمورده ، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة ، ثم استعير للصفة ، أو الحال ، أو القصة إذا كان لها شأن عجيب ، وفيها غرابة.

والمراد بأعمال الذين كفروا في الآية الكريمة : ما كانوا يقومون به في الدنيا من أعمال حسنة

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ١٠٤.

٥٣٩

كإطعام الطعام ، ومساعدة المحتاجين ، وإكرام الضيف ، إلى غير ذلك من الأعمال الطيبة.

والرماد : ما يتبقى من الشيء بعد احتراق أصله ، كالمتبقى من الخشب أو الحطب بعد احتراقهما.

والعاصف : من العصف وهو اشتداد الريح ، وقوة هبوبها.

قال الجمل : وقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) فيه أوجه للإعراب : أحدها وهو مذهب سيبويه : أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره : فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا ، وتكون الجملة من قوله (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ ...) مستأنفة جواب لسؤال مقدر ، كأنه قيل : كيف مثلهم ..؟ فقيل : كيت وكيت.

والثاني : أن يكون «مثل» مبتدأ و «أعمالهم» مبتدأ ثان ، و «كرماد» خبر المبتدأ الثاني ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول ...» (١).

والمعنى : حال أعمال الذين كفروا في حبوطها وذهابها وعدم انتفاعهم بشيء منها في الآخرة ، كحال الرماد المكدس الذي أتت عليه الرياح العاصفة ، فمحقته وبددته ، ومزقته تمزيقا لا يرجى معه اجتماع.

فالآية الكريمة تشبيه بليغ لما يعمله الكافرون في الدنيا من أعمال البر والخير.

ووجه الشبه : الضياع والتفرق وعدم الانتفاع في كل ، فكما أن الريح العاصف تجعل الرماد هباء منثورا ، فكذلك أعمال الكافرين في الآخرة تصير هباء منثورا ، لأنها أعمال بنيت على غير أساس من الإيمان وإخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ.

ووصف ـ سبحانه ـ اليوم بأنه عاصف ـ مع أن العصف شدة الريح ـ للمبالغة في وصف زمانها ـ وهو اليوم ـ بذلك ، كما يقال : يوم حار ويوم بارد ، مع أن الحر والبرد فيهما وليس منهما.

وقوله ـ سبحانه ـ (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ) بيان للمقصود من التشبيه ، وهو أن هؤلاء الكافرين ، لا يقدرون يوم القيامة ، على الانتفاع بشيء مما فعلوه في الدنيا من أفعال البر والخير ، لأن كفرهم أحبطها فذهب سدى دون أن يستفيدوا منها ثوابا ، أو تخفف عنهم عذابا.

قال الآلوسى : «وفي الصحيح عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ أنها قالت : يا رسول

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٢٠.

٥٤٠