التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

والمعنى : قل لهم ـ أيضا ـ أيها الرسول الكريم ـ لو شاء الله ـ تعالى ـ أن لا أتلوا عليكم هذا القرآن لفعل ، ولو شاء أن يجعلكم لا تدرون منه شيئا ، لفعل ـ أيضا ـ ، فإن مرد الأمور كلها إليه ، ولكنه ـ سبحانه ـ شاء وأراد أن أتلوه عليكم ، وأن يعلمكم به بواسطتى ، فأنا رسول مبلغ ما أمرنى الله بتبليغه.

قال القرطبي : «وقرأ ابن كثير : ولأدراكم به بغير ألف بين للام والهمزة. والمعنى : لو شاء الله لأعلمكم به من غير أن أتلوه عليكم فهي لام التأكيد دخلت على ألف أفعل» (١).

وجاءت الآية الكريمة بدون عطف على ما قبلها ، إظهارا لكمال شأن المأمور به. وإيذانا باستقلاله ، فإن ما سبق كان للرد على اقتراحهم تبديل القرآن. وهذه الآية للرد على اقتراحهم الإتيان بغيره.

ومفعول المشيئة محذوف. لأن جزاء الشرط ينبئ عنه ، أى : لو شاء الله عدم تلاوته ما تلوته عليكم :

وقوله : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) تعليل للملازمة المستلزمة لكون عدم التلاوة وعدم العلم منوط بمشيئة الله ـ تعالى ـ وقوله : (عُمُراً) منصوب على الظرفية وهو كناية عن المدة الطويلة. أى : فأنتم تعلمون أنى قد مكثت فيما بينكم ، مدة طويلة من الزمان ، قبل أن أبلغكم هذا القرآن ، حفظتم خلالها أحوالى ، وأحطتم خبرا بأقوالى وأفعالى ، وعرفتم أنى لم أقرأ عليكم من آية أو سورة مما يشهد أن هذا القرآن إنما هو من عند الله ـ تعالى ـ.

والهمزة في قوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) داخلة على محذوف. وهي للاستفهام التوبيخي. والتقدير : أجهلتم هذا الأمر الجلى الواضح ، فصرتم لا تعقلون أن أمثال هذه الاقتراحات المتعنتة التي اقترحتموها لا يملك تنفيذها أحد إلا الله ـ تعالى ـ.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : «أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد عليهم بما جاء في هذه الآية وتقريره : أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أول عمره إلى ذلك الوقت ، وكانوا عالمين بأحواله. وأنه ما طالع كتابا ولا تتلمذ على أستاذ ولا تعلم من أحد ، ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه ، جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول ودقائق علم الأحكام ، ولطائف علم الأخلاق ، وأسرار قصص الأولين ، وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء ، وكل من له عقل سليم فإنه يعرف أن مثل هذا

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٣٠.

٤١

لا يحصل إلا بالوحي والإلهام من الله ـ تعالى ـ (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الرد على هؤلاء الذين لا يرجون لقاءه ، بالحكم عليهم بعدم الفلاح فقال ـ تعالى ـ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) والاستفهام في قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ) للإنكار والنفي.

أى : لا أحد أشد ظلما عند الله ، وأجدر بعقابه وغضبه ، ممن افترى عليه الكذب ، بأن نسب إليه ـ سبحانه ـ ما هو برىء منه ، أو كذب بآياته وحججه التي أنزلها لتأييد رسله.

وقوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) تذييل قصد به التهديد والوعيد.

أى : إن حال وشأن هؤلاء المجرمين ، أنهم لا يفلحون. ولا يصلون إلى ما يبغون ويريدون.

هذا ، وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات بعض الشواهد الدالة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغه عن ربه فقال عند تفسيره لهذه الآية : «لا أحد أشد ظلما ممن افترى على الله كذبا ، وتقول على الله ، وزعم أن الله أرسله ولم يكن كذلك .. ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء. فإن من قال هذه المقالة صادقا أو كاذبا. فلا بد أن الله ينصب من الأدلة على بره أو فجوره ما هو أظهر من الشمس. فإن الفرق بين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى وبين نصف الليل في حندس الظلماء. فمن شيم كل منهما وأفعاله وكلامه يستدل من له بصيرة على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذب مسيلمة ..» (٢).

ثم حكى ـ سبحانه ـ أقبح رذائلهم ، وهي عبادتهم لغير الله ، ودعواهم أن أصنامهم ستشفع لهم فقال ـ تعالى ـ :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(١٨)

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٥٧.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤١.

٤٢

وهذه الآية الكريمة معطوفة على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا ..) عطف القصة على القصة.

والعبادة : الطاعة البالغة حد النهاية في الخضوع والتعظيم.

أى : وهؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا ، ويطلبون قرآنا غير هذا القرآن أو تبديله ، بلغ من جهلهم وسفههم أنهم يعبدون من دون الله أصناما لا تضرهم ولا تنفعهم ، لأنها جمادات لا قدرة لها على ذلك.

والمقصود بوصفها بأنها لا تضر ولا تنفع : بطلان عبادتها ، لأن من شأن المعبود أن يملك الضر والنفع ، وأن يكون مثيبا على الطاعة ومعاقبا على المعصية.

وقوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل (يَعْبُدُونَ) أى : يعبدونها متجاوزين الله وتاركين طاعته.

و (ما) موصولة أو نكرة موصوفة. والمراد بها الأصنام التي عبدوها من دون الله.

قال الجمل : «ونفى الضر والنفع هنا عن الأصنام باعتبار الذات ، وإثباتهما لها في سورة الحج في قوله (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) باعتبار السبب ، فلا يرد كيف نفى عن الأصنام الضر والنفع ، وأثبتهما لها في سورة الحج» (١).

وقوله : (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) حكاية لأقوالهم السخيفة عند ما يدعون إلى عبادة الله وحده.

والشفعاء : جمع شفيع ، وهو من يشفع لغيره في دفع ضرر أو جلب نفع.

أى : أنهم يدينون بالعبادة لأصنام لا تضرهم إن تركوا عبادتها ، ولا تنفعهم إن عبدوها ، فإذا ما طلب منهم أن يجعلوا عبادتهم لله وحده قالوا : إننا نعبد هذه الأصنام لتكون شفيعة لنا عند الله في دنيانا ، بأن نتوسل إليه بها في إصلاح معاشنا ، وفي آخرتنا إن كان هناك ثواب وعقاب يوم القيامة.

وهنا يأمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم فيقول : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ).

أى : قل يا محمد لهؤلاء الجاهلين : إن الله ـ تعالى ـ لا يخفى عليه شيء في هذا الكون ولا يعلم أن هناك من يشفع عنده مما تزعمون شفاعته. فهل تعلمون أنتم ما لا يعلمه ، وهل

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٣٧.

٤٣

تخبرونه بما لا يعلم له وجودا في السموات ولا في الأرض؟!!

فالمقصود بهذه الجملة الكريمة التهكم بهم ، والسخرية بعقولهم وأفكارهم ، ونفى أن تكون الأوثان شفعاء عند الله بأبلغ وجه.

والعائد في قوله (بِما لا يَعْلَمُ) محذوف. والتقدير بما لا يعلمه.

وقوله (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) حال من العائد المحذوف ، وهو مؤكد للنفي ، لأن مالا يوجد فيهما فهو منتف عادة.

قال صاحب الكشاف : «فإن قلت كيف : أنبأوا الله بذلك؟ قلت : هو تهكم بهم ، وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام ، وإعلام بأن الذي أنبأوا به باطل. فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق علمه به ، كما يخبر الرجل بما لا يعلمه.

وقوله (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) تأكيد لنفيه ، لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم» (١).

وقوله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى) عن كل شريك ، وعما قاله هؤلاء الجاهلون من أن الأصنام شفعاء عنده.

وبذلك تكون الآية الكريمة قد وبخت المشركين على عبادتهم لغير الله وعلى جهالاتهم وتقولهم على الله بغير علم.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن عبادة الناس لغيره ـ تعالى ـ إنما حدثت بعد أن اختلفوا واتبعوا الهوى. فقال :

(وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١٩)

والمراد بالناس : الجنس البشرى كله في جملته ، فإنهم كانوا أمة واحدة. ثم كثروا وتفرقوا وصاروا شعوبا وقبائل.

__________________

(١) راجع تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٣١.

٤٤

ويرى بعض المفسرين أن المراد بالناس هنا : العرب خاصة ، فإنهم كانوا حنفاء على ملة إبراهيم ، إلى أن ظهر فيهم عمرو بن لحى الذي ابتدع لهم عبادة الأصنام.

قال الآلوسى : «قوله (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) أى : وما كان الناس كافة من أول الأمر إلا متفقين على الحق والتوحيد من غير اختلاف ، وروى هذا عن ابن عباس والسدى ومجاهد .. وذلك من عهد آدم ـ عليه‌السلام ـ إلى أن قتل قابيل هابيل. وقيل إلى زمن إدريس ـ عليه‌السلام ـ وقيل إلى زمن نوح. وقيل كانوا كذلك في زمنه ـ عليه‌السلام ـ بعد أن لم يبق على الأرض من الكافرين ديار إلى أن ظهر بينهم الكفر.

وقيل : من لدن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ إلى أن أظهر عمرو بن لحي عبادة الأصنام ، وهو المروي عن عطاء. وعليه فالمراد من الناس العرب خاصة. وهو الأنسب بإيراد الآية الكريمة إثر حكاية ما حكى عنهم من رذائل ، وتنزيه ساحة الكبرياء عن ذلك» (١).

وقوله : (فَاخْتَلَفُوا) أى ما بين ضال ومهتد ، فبعث الله إليهم رسله ، ليبشروا المهتدين بجزيل الثواب ، ولينذروا الضالين بسوء العقاب.

والفاء للتعقيب ، وهي لا تنافى امتداد زمان اتفاقهم على الحق ، لأن المراد بيان أن وقوع الاختلاف بينهم إنما حدث عقيب انتهاء مدة الاتفاق ، لا عقيب حدوثه.

والمراد بالكلمة في قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ...) ما قضاه الله ـ تعالى ـ وأراده من تأخير الحكم بين المؤمنين وغيرهم إلى يوم القيامة.

أى : ولولا كلمة سبقت من ربك بتأخير القضاء بين الطائعين والعاصين إلى يوم القيامة ، لقضى بينهم ـ سبحانه ـ في هذه الدنيا. فيما كانوا يختلفون فيه وذلك بأن يعجل للكافرين والعصاة العقوبة في الدنيا قبل الآخرة ، ولكنه ـ سبحانه ـ اقتضت حكمته عدم تعجيل العقوبة في الدنيا ، وأن يجعل الدار الآخرة هي دار الجزاء والثواب والعقاب.

وقد تضمنت هذه الآية الكريمة الوعيد الشديد على الاختلاف المؤدى إلى التفرقة في الدين ، وإلى الشقاق والنزاع ، كما تضمنت تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من قومه : فكأنه ـ سبحانه ـ يقول إن الاختلاف من طبيعة البشر ، فلا تنتظر من الناس جميعا أن يكونوا مؤمنين. ثم حكى ـ سبحانه ـ لونا آخر من ألوان تعنت المشركين وجهالاتهم فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٩٠.

٤٥

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)(٢٠)

ومرادهم بالآية التي طلبوها : آية كونية سوى القرآن الكريم ، بأن تكون معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناقة كناقة صالح ـ عليه‌السلام ـ أو تكون معه عصا كعصا موسى ـ عليه‌السلام ـ وكأنهم لا يعتبرون القرآن آية كبرى ، ومعجزة عظمى على صدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومرادهم بإنزالها عليه : ظهورها على يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يروا ذلك بأعينهم.

أى : ويقول هؤلاء المشركون لنبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم هلا أنزل الله عليك آية أخرى سوى القرآن الكريم تكون شاهدة لك بالنبوة ، كأن تعيد إلى الحياة آباءنا ، وكأن تحول جبال مكة إلى بساتين».

ومطالبهم هذه إنما طلبوها على سبيل العناد والتعنت لا على سبيل الاسترشاد والثبت ، قال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ..) (١).

وقوله : (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أمر من الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يرد عليهم بما يفحمهم.

أى : قل لهم في الجواب على هذه المطالب المتعنتة : إن هذه المطالب التي طلبتموها هي من علم الغيب الذي استأثر الله به ، فقد يجيبكم إليها ـ سبحانه ـ وقد لا يجيبكم ، فانتظروا فيما يقضيه الله في أمر تعنتكم في مطالبكم ، إنى معكم من المنتظرين لقضائه وقدره ، ولما يفعله بي وبكم.

فالجملة الكريمة تهديد لهم على تعنتهم وجهلهم ، وتهوينهم من شأن القرآن الكريم ، مع أنه أصدق معجزة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعظمها.

ولقد حكى القرآن ـ في آيات أخرى كثيرة ـ المطالب المتعنتة التي طلبها المشركون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتي تدل على عنادهم وجحودهم ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ، أَوْ

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ١١١.

٤٦

يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ. قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (١).

كما حكى أيضا ـ سبحانه ـ أنه لو أجابهم إلى مطالبهم لما آمنوا ، لأنهم معاندون جاحدون فقال ـ تعالى ـ (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٢).

وقال ـ سبحانه ـ : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٣).

وبعد أن ساقت السورة الكريمة جانبا من أقوال الذين لا يرجون لقاء الله ومن مقترحاتهم الباطلة ومن معتقداتهم الفاسدة ، أتبعت ذلك بتصوير بعض الطبائع البشرية تصويرا صادقا يكشف عن أحوال النفوس في حالتي السراء والضراء فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٢٣)

__________________

(١) سورة الإسراء الآيات ٩٠ ـ ٩٣.

(٢) سورة يونس الآيتان ٩٥ ، ٩٦.

(٣) سورة الأنعام الآية ٧.

٤٧

وقوله (أَذَقْنَا) من الذوق وحقيقته إدراك الطعام ونحوه بالذوق باللسان واستعمل هنا على سبيل المجاز في إدراك ما يسر وما يؤلم من المعنويات كالرحمة والضراء.

قال الآلوسى «والمراد بالناس كفار مكة على ما قيل ، لما روى من أن الله ـ تعالى ـ سلط عليهم القحط سبع سنين ، حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه أن يدعو لهم بالخصب ، ووعدوه بالإيمان ، فلما دعا لهم ورحمهم‌الله ـ تعالى ـ بالمطر ، طفقوا يطعنون في آياته ـ تعالى ـ ويعاندون نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : إن الناس عام لجميع الكفار» (١).

والضراء من الضر ، وهو ما يصيب الإنسان في نفسه من أمراض وأسقام.

والمكر : هو التدبير الخفى الذي يفضى بالممكور به إلى ما لا يتوقعه من مضرة وكيد.

والمعنى : وإذا أذقنا الناس منا رحمة كأن منحناهم الصحة والسعادة والغنى من بعد ضراء أصابتهم في أنفسهم أو فيمن يحبون ، ما كان منهم إلا المبادرة إلى الطعن في آياتنا الدالة على قدرتنا ، والاستهزاء بها والتهوين من شأنها.

وأسند إذاقته الرحمة إلى ضمير الجلالة ، وأسند المساس إلى الضراء ، رعاية للأدب مع الله ـ تعالى ـ ، لأنه وإن كان كل شيء من عنده ، إلا أن الأدب معه ـ سبحانه ـ يقتضى إسناد الخير إليه والشر إلى غيره كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) وفي الحديث : «اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك».

وإذا الأولى شرطية ، والثانية فجائية والجملة بعدها جواب الشرط.

وجاء التعبير بإذا الفجائية في الجواب ، للإشارة إلى توغلهم في الجحود والكنود فهم بمجرد أن حلت النعمة بهم محل النقمة ، عادوا إلى عنادهم وجهلهم ، ونسبوا كل خير إلى غيره ـ تعالى ـ.

قال الرازي : «واعلم أنه ـ تعالى ـ ذكر هذا المعنى بعينه فيما تقدم من هذه السورة في قوله ـ تعالى ـ (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً ، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ ..) إلا أنه ـ تعالى ـ زاد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها دقيقة أخرى ما ذكرها في تلك الآية ، وتلك الدقيقة هي أنهم يمكرون عند وجدان الرحمة.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٩٣.

٤٨

وفي الآية المتقدمة ما كانت هذه الدقيقة مذكورة فثبت بما ذكرنا أن عادة هؤلاء الأقوام اللجاج والعناد والمكر (١).

وقوله : (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) أمر من الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يرد عليهم بما يبطل مكرهم.

أى : قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين الذين يسرعون بالمكر في مقام الشكر ، إن الله ـ تعالى ـ أسرع مكرا منكم ؛ لأنه لا يخفى عليه شيء من مكركم ، ولأن الحفظة من الملائكة يسجلون عليكم أقوالكم وأفعالكم ، التي تحاسبون عليها في يوم القيامة حسابا عسيرا ، وسترون أن مكركم السيئ لا يحيق إلا بكم.

وقوله : (أَسْرَعُ) أفعل تفضيل من الفعل الثلاثي سرع ـ كضخم وحسن ـ ، أو من الفعل الرباعي «أسرع» عند من يرى ذلك.

والجملة الكريمة تحقيق للانتقام منهم. وتنبيه على أن مكرهم الخفى غير خاف على الحفظة من الملائكة فضلا عن الخالق ـ عزوجل ـ الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

وسمى ـ سبحانه ـ إنكارهم لآياته واستهزاءهم بها مكرا ، لأنهم كانوا كثيرا ما يتجمعون سرا ، ليتشاوروا في المؤامرات التي يعرقلون بها سير الدعوة الإسلامية ، وفي الشبهات التي يوجهونها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم ساق ـ سبحانه ـ مشهدا حيا. تراه العيون ، وتهتز له القلوب ، ويجعل المشاعر تتجه إلى الله وحده بالدعاء فقال ـ تعالى ـ (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ..).

والسير معناه : الانتقال من مكان إلى آخر. والتسيير معناه : جعل الإنسان أو الحيوان أو غيرهما يسير بذاته ، أو بواسطة دابة أو سفينة أو غيرهما ، مما سخره الله ـ تعالى ـ له بقدرته ورحمته.

أى : هو ـ سبحانه ـ الذي يسيركم بقدرته ورحمته في البر والبحر ، بواسطة ما وهبكم من قدرة على السير ، أو ما سخر لكم من دواب وسفن وغيرهما مما تستعملونه في سفركم ، وكل ذلك من أجل مصلحتكم ومنفعتكم.

ثم قال ـ تعالى ـ (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها ...).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٦٥.

٤٩

والفلك : ما عظم من السفن. ويستعمل هذا اللفظ عند كثير من العلماء للواحد والجمع. والظاهر أن المراد به هنا الجمع ، بدليل قوله (وَجَرَيْنَ) أى : السفن.

والمراد بالريح الطيبة : الريح المناسبة لسير السفن ، والموافقة لا تجاهها.

أى : هو ـ سبحانه ـ وحده الذي ينقلكم من مكان إلى آخر في البر والبحر ، حتى إذا كنتم في إحدى مرات تسييركم راكبين في السفن التي سخرها لكم ، وجرت هذه السفن بمن فيها بسبب الريح الطيبة إلى المكان الذي تقصدونه ، وأنتم في حالة فرح غامر ، وسرور شامل .. (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ ، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ...).

والريح العاصف : هي الريح الشديدة القوية. يقال : عصفت الريح وأعصفت فهي عاصف إذا اشتدت في سرعتها وهيجانها.

والموج : ما ارتفع من مياه البحار ، والظن هنا بمعنى اليقين أو الاعتقاد الراجح ، وقوله : (أُحِيطَ بِهِمْ) ، أى : أحاط بهم البلاء من كل ناحية. يقال لمن وقع في بلية : قد أحيط به. وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بعدوه جعله على حافة الهلاك.

أى بعد أن جرت السفن بهؤلاء القوم في البحر وهم في فرح وحبور ، جاءت إليهم ريح عاصفة شديدة السرعة والتقلب ، وارتفع إليها الموج من كل مكان ، واعتقد ركابها ـ الذين كانوا منذ قليل فرحين مبتهجين ـ أنهم قد أحاط بهم الهلاك كما يحيط العدو بعدوه.

وقوله : (بِهِمْ) فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة ، لأنه كان الظاهر أن يقال : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم لكن جاء الكلام على أسلوب الالتفات للمبالغة في تقبيح أحوالهم ، وسوء صنيعهم.

قال صاحب الكشاف «فإن قلت : ما فائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة؟ قلت : المبالغة ، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ، ويستدعى منهم الإنكار والتقبيح» (١).

وقوله : (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) بيان لما قالوه بعد أن داهمتهم الرياح العاصفة ، والأمواج العالية وبعد أن أيقنوا أنهم على حافة الموت.

أى في تلك الساعات العصيبة ، واللحظات الحرجة ، توجهوا إلى الله وحده قائلين : نقسم لك يا ربنا ، ويا من لا يعجزك شيء ، لئن أنجيتنا من تلك الأهوال التي نحن فيها ، لنكونن

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٣١.

٥٠

من الشاكرين لك ، المطيعين لأمرك ، المتبعين لشرعك.

وهنا ، وبعد هذا الدعاء العريض ، هدأت العاصفة. وانخفضت الأمواج ، وسكنت النفوس بعض السكون ، ووصلت السفن إلى شاطئ الأمان فماذا كانت النتيجة؟

كانت النتيجة كما صورها القرآن الكريم : (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ..).

أى : فحين أنجاهم الله ـ تعالى ـ بفضله ورحمته من هذا الكرب العظيم الذي كانوا فيه ، إذا هم يسعون في الأرض فسادا. ويرتكبون البغي الفاضح الذي لا يخفى قبحه على أحد.

وقيد البغي بكونه بغير الحق ، لأنه لا يكون إلا كذلك ، إذا البغي معناه : تجاوز الحق ، يقال : بغى الجرح إذا تجاوز حده في الفساد.

فقوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) تأكيد لما يفيده البغي من التعدي والظلم ، فهو بغى ظاهر سافر لا يخفى قبحه على أحد.

وقيل قيده بذلك ليخرج البغي على الغير في مقابلة بغيه. فإنه يسمى بغيا في الجملة ، لكنه بحق. وهو قول ضعيف ، لأن دفع البغي لا يسمى بغيا وإنما يسمى إنصافا من الظالم ، ولذا قال القرآن الكريم : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) (١).

وجاء التعبير بالفاء وإذا الفجائية ، للإشعار بأنهم قوم بلغ بهم اللؤم والجحود ، أنهم بمجرد أن وطئت أقدامهم بر الأمان ، نسوا ما كانوا فيه من أهوال ، وسارعوا إلى الفساد في الأرض ، دون أن يردعهم رادع ، أو يصدهم ترغيب أو ترهيب.

والتعبير بقوله (فِي الْأَرْضِ) للإشارة إلى أن بغيهم قد شمل أقطارها ، ولم يقتصر على جانب من جوانبها.

وقوله ـ سبحانه ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) خطاب منه ـ سبحانه ـ لأولئك البغاة في كل زمان ومكان ، قصد به التهديد والوعيد.

أى : يا أيها الناس الذين تضرعوا إلينا في ساعات الشدة ، وهرولوا إلى البغي بعد زوال تلك الشدة ، اعلموا أن بغيكم هذا مرجعه إليكم لا إلى غيركم فأنتم وحدكم الذين تتحملون سوء عاقبته في الدنيا والآخرة.

__________________

(١) سورة الشورى الآية ٤١.

٥١

واعلموا أن هذا البغي إنما تتمتعون به متاع الحياة الدنيا التي لا بقاء لها ، وإنما هي إلى زوال وفناء.

واعلموا كذلك أن مردكم إلينا بعد هذا التمتع الفاني. فنخبركم يوم الدين بكل أعمالكم ، وسنجازيكم عليها بالجزاء الذي تستحقونه.

وقوله : (إِنَّما بَغْيُكُمْ) مبتدأ وخبره (عَلى أَنْفُسِكُمْ) أى هو عليكم في الحقيقة لا على الذين تبغون عليهم.

وقوله : (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) : قرأ حفص عن عاصم (مَتاعَ) بفتح العين على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر. أى : تتمتعون به متاع الحياة الدنيا الزائلة الفانية.

وقرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : هو متاع الحياة الدنيا. وقوله : (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تذييل قصد به تهديدهم على بغيهم ، ووعيدهم عليه بسوء المصير حتى يرتدعوا وينزجروا.

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :

١ ـ أن من الواجب على العاقل أن يكثر من ذكر الله في حالتي الشدة والرخاء ، وأن لا يكون ممن يدعون الله عند الضر وينسونه عند العافية ، ففي الحديث الشريف : «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة».

٢ ـ ان الناس جبلوا على الرجوع إل الله وحده عند المصائب والمحن ، وفي ذلك يقول الآلوسى : «روى أبو داود والنسائي وغيرهما عن سعد بن أبى وقاص قال : لما كان يوم الفتح فر عكرمة بن أبى جهل فركب البحر فأصابتهم ريح عاصف ، فقال أصحاب السفينة لركابها : أخلصوا فإن آلهتكم لا تغنى عنكم شيئا. فقال عكرمة : لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ، ما ينجيني في البر غيره. اللهم إن لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتى محمدا حتى أضع يدي في يده ، فلأجدنه عفوا كريما. قال : فجاء فأسلم.

وفي رواية ابن سعد عن أبى مليكه : أن عكرمة لما ركب السفينة وأخذتهم الريح فجعلوا يدعون الله ـ تعالى ـ ويوحدونه فقال : ما هذا؟ فقالوا : هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله ـ تعالى ـ. قال : «فهذا ما يدعونا إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فارجعوا بنا». فرجع وأسلم ...» (١).

وقال الفخر الرازي : «يحكى أن واحدا قال لجعفر الصادق : اذكر لي دليلا على إثبات

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٩٧.

٥٢

الصانع؟ فقال له : أخبرنى عن حرفتك : فقال : أنا رجل أتجر في البحر. فقال له : صف لي كيفية حالك. فقال : ركبت البحر فانكسرت السفينة وبقيت على لوح واحد من ألواحها ، وجاءت الرياح العاصفة. فقال جعفر : هل وجدت في قلبك تضرعا ودعاء. فقال : نعم. فقال جعفر : فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت» (١).

وقد ساق صاحب المنار قصة ملخصها «أن رجلا إنجليزيا قرأ ترجمة قوله ـ تعالى ـ (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.) فراعته بلاغة وصفها لطغيان البحر .. وكان يعمل قائدا لإحدى السفن .. فسأل بعض المسلمين : أتعلمون أن نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد سافر في البحار؟ فقالوا له : لا .. فأسلم الرجل لأنه اعتقد أن القرآن ليس من كلام البشر وإنما هو كلام الله ـ تعالى ...» (٢).

٣ ـ دل قوله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ...) على أن البغي يجازى أصحابه عليه في الدنيا والآخرة.

فأما في الآخرة فهو ما دل عليه إنذار أهله بأنه ـ سبحانه ـ سيجازيهم عليه أسوأ الجزاء.

وأما في الدنيا فبدليل قوله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) ويؤيده ما رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وابن ماجة والحاكم من حديث أبى بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما من ذنب يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة سوى البغي وقطيعة الرحم» (٣).

قال الآلوسى. وفي الآية من الزجر عن البغي ما لا يخفى «فقد أخرج أبو نعيم والخطيب والديلمي وغيرهم عن أنس قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث هن رواجع على أهلها : المكر والنكث والبغي» ثم تلا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ). وقوله ـ تعالى ـ (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) وقوله ـ تعالى ـ (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما».

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٢٧.

(٢) راجع تفسير المنار ج ١١ ص ٣٤٤.

(٣) راجع تفسير المنار ج ١١ ص ٣٤٣.

٥٣

وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين لأخيه :

يا صاحب البغي إن البغي مصرعه

فارجع فخير فعال المرء أعدله

فلو بغى جبل يوما على جبل

لاندك منه أعاليه وأسفله (١)

ثم ساق ـ سبحانه ـ مثلا لمتاع الحياة الدنيا الزائل ، ولزخرفها الفاني ، فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(٢٤)

وقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّما مَثَلُ ...) المثل بمعنى المثل ، والمثل : النظير والشبيه ، ثم اطلق على القول السائر المعروف لمماثلة مضربه ـ وهو الذي يضرب فيه ـ لمورده الذي ورد فيه أولا ، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة. ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شأن عجيب وفيها غرابة ، وعلى هذا المعنى يحمل المثل في هذه الآية وأشباهها.

والأمثال إنما تضرب لتوضيح المعنى الخفى ، وتقريب الشيء المعقول من الشيء المحسوس ، وعرض الأمر الغائب في صورة المشاهد ، فيكون المعنى الذي ضرب له المثل أوقع في القلوب ، وأثبت في النفوس.

والمعنى : إنما صفة الحياة الدنيا وحالها في سرعة زوالها ، وانصرام نعيمها بعد إقباله. كحال ماء (أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) أى : فكثر بسببه نبات الأرض حتى التف وتشابك بعضه ببعض لازدهاره وتجاوزه ونمائه.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٠٠.

٥٤

وشبه ـ سبحانه ـ الحياة الدنيا بماء السماء دون ماء الأرض ، لأن ماء السماء وهو المطر لا تأثير لكسب العبد فيه بزيادة أو نقص ـ بخلاف ماء الأرض ـ فكان تشبيه الحياة به أنسب.

وقوله : (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) معناه : وهذا النبات الذي نما وازدهر بسبب نزول المطر من السماء ، بعضه مما يأكله الناس كالبقول والفواكه. وبعضه مما تأكله الأنعام كالحشائش والأعشاب المختلفة.

وجملة (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) حال من النبات.

وقوله : (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ ..) تصوير بديع لما صارت عليه الأرض بعد نزول الماء عليها ، وبعد أن أنبتت من كل زوج بهيج.

ولفظ (حَتَّى) غاية لمحذوف : أى نزل المطر من السماء فاهتزت الأرض وربت وأنبتت النبات الذي ما زال ينمو ويزدهر حتى أخذت الأرض زخرفها.

والزخرف : الذهب وكمال حسن الشيء. ومن القول أحسنه ، ومن الأرض ألوان نباتها.

أى : حتى إذا استوفت الأرض حسنها وبهاءها وجمالها ، وازينت بمختلف أنواع النباتات ذات المناظر البديعة ، والألوان المتعددة.

قال صاحب الكشاف : «وهو كلام فصيح. جعلت الأرض آخذة زخرفها وزينتها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها ، وتزينت بغيرها من ألوان الزينة ، أصل ازينت تزينت» (١).

وقوله : (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) أى : وظن أهل تلك الأرض الزاخرة بالنباتات النافعة. أنهم قادرون على قطف ثمارها ، ومتمكنون من التمتع بخيراتها ، ومن الانتفاع بغلاتها.

وقوله : (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً ..) تصوير معجز لما أصاب زرعها من هلاك بعد نضرته واستوائه و (أَوْ) للتنويع أى : تارة يأتى ليلا وتارة يأتى نهارا.

والجملة الكريمة جواب إذا في قوله (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها ..).

أى : بعد أن بلغت الأرض الذروة في الجمال وفي تعلق الآمال بمنافع زروعها ، أتاها قضاؤنا

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٢٣.

٥٥

النافذ ، وأمرنا المقدر لإهلاكها بالليل وأصحابها نائمون ، أو بالنهار وهم لا هون ، فجعلناها بما عليها كالأرض المحصودة ، التي استؤصل زرعها.

وقوله : (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) تأكيد لهلاكها واستئصال ما عليها من نبات بصورة سريعة حاسمة.

أى : جعلناها كالأرض المحصودة التي قطع زرعها ، حتى لكأنها لم يكن بها منذ وقت قريب : الزرع النضير ، والنبات البهيج ، والنخل الباسق ، والطلع النضيد.

قال القرطبي قوله : (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أى : لم تكن عامرة. من غنى بالمكان إذا أقام فيه وعمره ، والمغانى في اللغة : المنازل التي يعمرها الناس» (١).

وقال ابن كثير : قوله : (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أى كأنها ما كانت حينا قبل ذلك ، وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن ، ولهذا جاء في الحديث الشريف : «يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال له : هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا. ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ثم يقال له : هل رأيت بؤسا قط فيقول لا» (٢).

والمراد بالأمس هنا : الوقت الماضي القريب : لا خصوص اليوم الذي قبل يومك.

وقوله : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) تذييل قصد به الحض على التفكير والاعتبار.

أى : كهذا المثل في وضوحه وبيانه لحال الحياة الدنيا ، وقصر مدة التمتع بها نفصل الآيات ونضرب الأمثال الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا لقوم يحسنون التفكير والتدبر في ملكوت السموات والأرض.

قال الجمل ما ملخصه : «وهذه الآية مثل ضربه الله ـ تعالى ـ للمتشبث في الدنيا الراغب في زهرتها وحسنها .. ووجه التمثيل أن غاية هذه الدنيا التي ينتفع بها المرء ، كناية عن هذا النبات الذي لما عظم الرجاء في الانتفاع به ، وقع اليأس منه ، ولأن المتمسك بالدنيا إذا نال منها بغيته أتاه الموت بغتة فسلبه ما هو فيه من نعيم الدنيا ولذتها» (٣).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٢٨.

(٢) تفسير أبن كثير ج ٢ ص ٤١٣.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٤٢.

٥٦

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ حال الحياة الدنيا ، وقصر مدة التمتع بها ، أتبع ذلك بدعوة الناس جميعا إلى العمل الصالح الذي يوصلهم إلى الجنة فقال ـ تعالى ـ :

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٧)

والمقصود بدار السلام : الجنة التي أعدها الله ـ تعالى ـ لعباده المؤمنين ، وسميت بذلك ، لأنها الدار التي سلم أهلها من كل ألم وآفة. أو لأن تحيتهم فيها سلام ، أو لأن السلام من أسماء الله ـ تعالى ـ فأضيفت إليه تعظيما لشأنها ، وتشريفا لقدرها ، كما يقال للكعبة : بيت الله.

وقوله : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ...) معطوف على محذوف يدل عليه السياق.

والتقدير : الشيطان يدعوكم إلى إيثار متاع الحياة الدنيا وزخرفها ، والله ـ تعالى ـ يدعو الناس جميعا إلى الإيمان الحق الذي يوصلهم إلى دار كرامته.

وقوله : (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو المؤدى بصاحبه إلى رضوان الله ومغفرته.

والمراد بالصراط المستقيم : الدين الحق الذي شرعه الله لعباده. وبلغه لهم عن طريق نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ...) بيان لحسن عاقبة الذين استجابوا لدعوته ، واتبعوا صراطه المستقيم.

٥٧

أى : للمؤمنين الصادقين الذين قدموا في دنياهم الأعمال الصالحة ، المنزلة الحسنى ، والمئوية الحسنى وهي الجنة ، ولهم زيادة على ذلك التفضل من الله ـ تعالى ـ عليهم بالنظر إلى وجهه الكريم.

وتفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم ، مأثور عن جمع من الصحابة منهم أبو بكر ، وعلى بن أبى طالب ، وابن مسعود ، وأبو موسى الأشعرى وغيرهم ـ رضى الله عنهم.

ومستندهم في ذلك الأحاديث النبوية التي وردت في هذا الشأن والتي منها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن صهيب ـ رضى الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تلا هذه الآية (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ..).

وقال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، نادى مناد : يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا. يريد أن ينجزكموه فيقولون : ما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟ ألم ببيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟ قال : فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه ، فو الله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ، ولا أقر لأعينهم» (١).

وذكر بعضهم أن المراد بالزيادة هنا : «مضاعفة الحسنات بعشر أمثالها أو أكثر أو مغفرته ـ سبحانه ـ ما فرط منهم في الدنيا ، ورضوانه عليهم في الآخرة».

والحق ان التفسير الوارد عن الصحابة. والمؤيد بما جاء في الأحاديث النبوية هو الواجب الاتباع ، ولا يصح العدول عنه. ولا مانع من أن يمن الله عليهم بما يمن من مضاعفة الحسنات ومن المغفرة والرضوان ، بعد نظرهم إلى وجهه الكريم ، أو قبل ذلك.

ولذا قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : قوله : (وَزِيادَةٌ) هي تضعيف ثواب الأعمال .. وأفضل من ذلك النظر إلى وجهه الكريم. فإنه زيادة أعظم من جميع ما يعطوه .. وقد روى تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم عن جمع من السلف والخلف ، وقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ، ومنها ما رواه ابن جرير عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادى يا أهل الجنة ـ بصوت يسمعه أولهم وآخرهم ـ إن الله وعدكم الحسنى وزيادة. فالحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن». عزوجل.

وعن أبى بن كعب أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله ـ تعالى ـ (لِلَّذِينَ

__________________

(١) صحيح مسلم ج ١ كتاب الإيمان ، حديث رقم ٢٩٧ طبعة محمد فؤاد عبد الباقي.

٥٨

أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) قال : «الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله ـ تعالى ـ» (١).

والمقصود بقوله : (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) الإخبار عن خلوص نعيمهم من كل ما يكدر الصفو ، إثر بيان ما أعطاهم من رضوان.

وقوله : (يَرْهَقُ) من الرهق بمعنى الغشيان والتغطية. يقال : رهقه يرهقه رهقا ـ من باب طرب ـ أى غشيه وغطاه بسرعة.

والقتر والقترة : الغبار والدخان الذي فيه سواد والذلة : الهوان والصغار. يقال : ذل فلان يذل ذلة وذلا ، إذا أصابه الصغار والحقارة.

أى : ولا يغطى وجوههم يوم القيامة شيء مما يغطى وجوه الكفار ، من السواد والهوان والصغار.

وهذه الجملة بما اشتملت عليه من المعاني ، توحى بأن في يوم القيامة من الزحام والأهوال والكروب. ما يجعل آثار الحزن أو الفرح ظاهرة على الوجوه والمشاعر ، فهناك وجوه (عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) وهناك وجوه (ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ).

وقوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) تذييل قصد به تأكيد مدحهم ومسرتهم.

أى : أولئك المتصفون بتلك الصفات الكريمة هم أصحاب دار السلام ، وهم خالدون فيها خلودا أبديا ، لا خوف معه ولا زوال.

ثم بين ـ سبحانه ـ مصير الظالمين ، بعد أن بين حسن عاقبة المحسنين ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حي عن بينة فقال ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ، وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ، ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً).

أى : إذا كان جزاء الذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، فإن جزاء الذين اجترحوا السيئات ، واقترفوا الموبقات ، سيئات مثل السيئات التي ارتكبوها كما قال ـ تعالى ـ (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها).

والمقصود أنهم كما كسبوا السيئات في الدنيا ، فإن الله ـ تعالى ـ يجازيهم عليها في الآخرة بما يستحقون من عذاب ومصير سيئ.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤١٤.

٥٩

وقوله : (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أى : وتغشاهم وتغطيهم ذلة عظيمة ومهانة شديدة ، وفي إسناد الرهق إلى أنفسهم دون وجوههم ، إيذان بأنها محيطة بهم من كل جانب.

وقوله : (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أى : ليس لهم أحد يعصمهم أو يجيرهم أو يشفع لهم ، بحيث ينجون من عذاب الله ـ تعالى ـ.

وقوله : (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) تصوير بديع للظلام الحسى والمعنوي الذي يبدو على وجوه هؤلاء الظالمين.

أى : كأنما ألبست وجوههم قطعا من الليل المظلم ، والسواد الحالك ، حتى صارت شديدة السواد واضحة الكدرة والظلمة.

وقوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) بيان لسوء عاقبتهم ، وتعاسة أحوالهم.

أى : أولئك المتصفون بتلك الصفات الذميمة ، أصحاب النار هم فيها خالدون خلودا أبديا لا نهاية له.

وهكذا نرى في هذه الآيات الكريمة تصويرا بديعا لما عليه المؤمنون الصادقون من صفات حسنة ، ومن جزاء كريم ، يتجلى في رفع درجاتهم ، وفي رضا الله ـ تعالى ـ عنهم : كما نرى فيها ـ أيضا ـ وصفا معجزا لأحوال الخارجين عن طاعته ؛ ووصفا للمصير المؤلم ، الذي ينتظرهم يوم القيامة ، (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ).

ثم حكى ـ سبحانه ـ جانبا من الأقوال التي تدور بين المشركين وبين شركائهم يوم القيامة ، فقال ـ تعالى :

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ(٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٣٠)

٦٠