التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

الله. إن ابن جدعان في الجاهلية كان يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، هل ذلك نافعه؟ قال : «لا ينفعه ؛ لأنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» (١).

وقال الإمام ابن كثير ما ملخصه : «هذا مثل ضربه الله ـ تعالى ـ لأعمال الكفار الذين عبدوا مع الله غيره ، وكذبوا رسله ، وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح ، فانهارت وعدموها وهم أحوج ما كانوا إليها ...

كما قال ـ تعالى ـ (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢).

وكما قال ـ تعالى ـ (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا ، كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) (٣).

واسم الإشارة في قوله (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) يعود إلى ما دل عليه التمثيل من بطلان أعمالهم ، وذهاب أثرها.

أى : ذلك الحبوط لأعمالهم ، وعدم انتفاعهم بشيء منها ، هو الضلال البعيد.

أى : البالغ أقصى نهايته ، والذي ينتهى بصاحبه إلى الهلاك والعذاب المهين.

ووصف ـ سبحانه ـ الضلال بالبعد ، لأنه يؤدى إلى خسران لا يمكن تداركه ، ولا يرجى الخلاص منه.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ، بعض مظاهر قدرته التي لا يعجزها شيء فقال ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ، وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (٤).

والخطاب في قوله (أَلَمْ تَرَ ...) لكل من يصلح له بدون تعيين. والاستفهام للتقرير.

والرؤية مستعملة في العلم الناشئ عن النظر والتفكير والتأمل في ملكوت السموات والأرض.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ (أَلَمْ تَرَ ...) هذا التعبير قد يذكر لمن تقدم علمه فيكون للتعجب ، وقد يذكر لمن لا يكون كذلك ، فيكون لتعريفه وتعجيبه ، وقد اشتهر في ذلك حتى أجرى مجرى المثل في هذا الباب ، بأن شبه من لم ير الشيء بحال من رآه في أنه

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٨٣.

(٢) سورة الفرقان الآية ٢٣.

(٣) سورة آل عمران الآية ١١٧.

(٤) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ١١٦.

٥٤١

لا ينبغي أن يخفى عليه ، وأنه ينبغي أن يتعجب منه ، ثم أجرى الكلام معه ، كما يجرى مع من رأى ، قصدا إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب ...» (١).

والمعنى ؛ ألم تعلم ـ أيها العاقل ـ أن الله ـ تعالى ـ (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ). أى : خلقهما بالحكمة البالغة المنزهة عن العبث ، وبالوجه الصحيح الذي تقتضيه إرادته ، وهو ـ سبحانه ـ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أى ـ يهلككم أيها الناس (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) سواكم ، لأن القادر على خلق السموات والأرض وما فيهما من أجرام عظيمة ، يكون على خلق غيرهما أقدر ، كما قال ـ تعالى ـ (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ...) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) معطوف على ما قبله ، ومؤكد لمضمونه. أى : إن يشأ ـ سبحانه ـ يهلككم ـ أيها الناس ـ ويأت بمخلوقين آخرين غيركم ، وما ذلك الإذهاب بكم ، والإتيان بغيركم بمتعذر على الله ، أو بمتعاص عليه ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يعجزه شيء ، ولا يحول دون نفاذ قدرته حائل.

وشبيه بهذا قوله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ* إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ* وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (٣).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٤).

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) (٥).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من الحوار الذي يدور يوم القيامة بين الضعفاء والمستكبرين ، بين الأتباع والمتبوعين ... فقال ـ تعالى ـ : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً ، فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ...).

وقوله (وَبَرَزُوا) من البروز بمعنى الظهور ، مأخوذ من البراز وهو الفضاء الواسع ، الذي يظهر فيه الناس بدون استتار. أى : وخرج الكافرون جميعا من قبورهم يوم القيامة ،

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٦٠.

(٢) سورة غافر الآية ٥٧.

(٣) سورة فاطر الآيات من ١٥ ـ ١٧.

(٤) سورة محمد الآية ٣٨.

(٥) سورة النساء الآية ١٣٣.

٥٤٢

وظهروا ظهورا لا خفاء معه ، لكي يحاسبهم ـ سبحانه ـ على أعمالهم في الدنيا.

وقال ـ سبحانه ـ (وَبَرَزُوا) بلفظ الفعل الماضي مع أن الحديث عن يوم القيامة ، للتنبيه على تحقق وقوع هذا الخروج ، وأنه كائن لا محالة.

وعبر ـ سبحانه ـ بهذا التعبير ، مع أنهم لا يخفون عليه سواء أبرزوا أم لم يبرزوا ، لأنهم كانوا في الدنيا يستترون عن العيون عند اجتراحهم السيئات ويظنون أن ذلك يخفى على الله ـ عزوجل ـ.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يقوله الضعفاء للمستكبرين في هذا الموقف العصيب فقال :

(فَقالَ الضُّعَفاءُ) وهم العوام والأتباع الذين فقدوا نعمة التفكير ، ونعمة حرية الإرادة ، فهانوا وذلوا ..

قال هؤلاء الضعفاء (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم السادة المتبوعون الذين كانوا يقودون أتباعهم إلى طريق الغي والضلال.

(إِنَّا كُنَّا لَكُمْ) ـ أيها السادة ـ (تَبَعاً) جمع تابع كخادم وخدم.

أى : إنا كنا في الدنيا تابعين لكم ، ومنقادين لأمركم ، في تكذيب الرسل ، وفي كل ما تريدونه منا.

والاستفهام في قوله ـ سبحانه ـ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) للتقريع والتفجع.

ومغنون من الإغناء بمعنى الدفاع والنصرة.

قال الشوكانى : «يقال : أغنى عنه إذا دفع عنه الأذى ، وأغناه إذا أوصل إليه النفع» (١).

أى : فهل أنتم ـ أيها المستكبرون ـ دافعون عنا شيئا من عذاب الله النازل بنا ، حتى ولو كان هذا الشيء المدفوع قليلا؟ إن كان في إمكانكم ذلك فأظهروه لنا ، فقد كنتم في الدنيا سادتنا وكبراءنا ، وكنتم تزعمون أنكم أصحاب الحظوة يوم القيامة.

قال صاحب الكشاف : «فإن قلت : أى فرق بين «من» في «من عذاب الله» وبينه في «من شيء»؟

قلت : الأولى للتبيين ، والثانية للتبعيض ، كأنه قيل : هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء

__________________

(١) تفسير الشوكانى ج ٣ ص ٣.

٥٤٣

الذي هو عذاب الله؟ ويجوز أن يكونا للتبعيض معا بمعنى : هل أنتم مغنون عنا بعض شيء ، هو بعض عذاب الله؟ أى : بعض بعض عذاب الله» (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ رد المستكبرين على المستضعفين فقال : (قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ ..).

أى : قال المستكبرون ـ بضيق وتحسر ـ في ردهم على المستضعفين : لو هدانا الله ـ تعالى ـ إلى الإيمان الموصل إلى النجاة من هذا العذاب الأليم «لهديناكم» إليه ، ولكن ضللنا عنه وأضللناكم معنا ، واخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا ، ولو كنا نستطيع النفع لنفعنا أنفسنا.

ثم أضافوا إلى ذلك قولهم : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ).

والجزع : حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده لشدة اضطرابه وذهوله.

يقال : جزع فلان يجزع جزعا وجزوعا ، إذا ضعف عن حمل ما نزل به ولم يجد صبرا.

والمحيص : المهرب والمنجى من العذاب. يقال : حاص فلان عن الشيء يحيص حيصا ومحيصا ، إذا عدل عنه على جهة الهرب والفرار.

أى : مستو عندنا الجزع مما نحن فيه من عذاب ، والصبر على ذلك ، وليس لنا من مهرب أو منجى من هذا المصير الأليم.

فالآية الكريمة تحكى أقوال الضعفاء يوم القيامة ، وهي أقوال يبدو فيها طابع الذلة والمهانة كما هو شأنهم في الدنيا ، كما تحكى رد المستكبرين عليهم ، وهو رد يبدو فيه التبرم والتفجع والتأنيب من طرف خفى لهؤلاء الضعفاء ، والتسليم بالواقع الأليم الذي لا محيص لهم عنه.

قال الإمام ابن كثير : «قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إن أهل النار قال بعضهم لبعض : تعالوا ، فإنما أدرك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم إلى الله ـ تعالى ـ ، تعالوا نبك ونتضرع إلى الله ، فبكوا وتضرعوا ، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا : تعالوا ، فإنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر ، تعالوا حتى نصبر ، فصبروا صبرا لم ير مثله ، فلم ينفعهم ذلك. فعند ذلك قالوا : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (٢).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يقوله الشيطان لأتباعه يوم القيامة ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٧٣.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٠٨.

٥٤٤

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ ، إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ...) والمراد بالشيطان هنا : إبليس ـ لعنه الله ـ.

قال الفخر الرازي : «وأما الشيطان فالمراد به إبليس لأن لفظ الشيطان مفرد فيتناول الواحد ، وإبليس رأس الشياطين ورئيسهم ، فحمل اللفظ عليه أولى. ولا سيما وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا جمع الله الخلق وقضى بينهم ، يقول الكافر : قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ، ما هو إلا إبليس ، فهو الذي أضلنا ، فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول ..» (١).

والمراد بقوله ـ سبحانه ـ (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) أى : حين تم الحساب ، وعرف أهل الجنة ثوابهم ، وعرف أهل النار مصيرهم ، كل فريق في المكان الذي أعده الله تعالى له.

والمقصود من حكاية ما يقوله الشيطان للكافرين في هذا اليوم. تحذير المؤمنين من وسوسته وإغوائه ، حتى ينجوا من العذاب الذي يحل بأتباعه يوم القيامة.

والمراد بالحق في قوله (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) : الصدق والوفاء بما وعدكم به على ألسنة رسله.

والمراد بالإخلاف في قوله (وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) الكذب والغدر وعدم الوفاء بما مناهم به ، من أمانى باطلة.

قال ـ تعالى ـ : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) (٢). وإضافة الوعد إلى الحق من إضافة الموصوف إلى الصفة أى إن الله ـ تعالى ـ وعدكم الوعد الحق الذي لا نقض له ، وهو أن الجزاء حق ، والبعث حق ، والجنة حق ، والنار حق ، ووعدتكم وعدا باطلا بأنه لا بعث ولا حساب .. فأخلفتكم ما وعدتكم به ، وظهر كذبى فيما قلته لكم. ثم أضاف إلى ذلك قوله ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) ...

والسلطان : اسم مصدر بمعنى التسلط والقهر والغلبة.

أى : وما كان لي فيما وعدتكم به من تسلط عليكم ، أو إجبار لكم ، لكني دعوتكم إلى ما دعوتكم إليه من باطل وغواية ، فانقدتم لدعوتى واستجبتم لوسوستى عن طواعية واختيار.

فالاستثناء في قوله «إلا أن دعوتكم» استثناء منقطع ، لأن ما بعد حرف الاستثناء ليس من جنس ما قبله ، وبعضهم يرى أن الاستثناء متصل.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ١١٠

(٢) سورة النساء الآية ١٢٠.

٥٤٥

قال الجمل : «وفي هذا الاستثناء وجهان : أظهرهما : أنه استثناء منقطع ، لأن دعاءه ليس من جنس السلطان وهو الحجة البينة ، والثاني : أنه متصل لأن القدرة على حمل الإنسان على الشيء تارة تكون بالقهر ، وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه. فهو نوع من التسلط» (١).

وقوله (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) زيادة في تأنيبهم وفي حسراتهم على انقيادهم له.

أى : فلا تلوموني بسبب وعودي إياكم. ولوموا أنفسكم ، لأنكم تقبلتم هذه الوعود الكاذبة بدون تفكر أو تأمل ، وأعرضتم عن الحق الواضح الذي جاءكم من عند ربكم ، ومالك أمركم.

ثم ينفض يده منهم ، ويخلى بينهم وبين مصيرهم السيئ فيقول : (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ). أى : ما أنا بمغيثكم ومنقذكم مما أنتم فيه من عذاب ، وما أنتم بمغيثي مما أنا فيه من عذاب ـ أيضا ـ فقد انقطعت بيننا الأواصر والصلات ..

قال القرطبي ما ملخصه : «والصارخ والمستصرخ هو الذي يطلب النصرة والمعاونة ، والمصرخ هو المغيث لغيره ... قال أمية بن أبى الصلت :

ولا تجزعا إنى لكم غير مصرخ

وليس لكم عندي غناء ولا نصر

ويقال : صرخ فلان أى استغاث يصرخ صرخا وصراخا وصرخة ..

ومنه : استصرخني فلان فأصرخته ، أى استغاث بي فأغثته .. (٢).

وجملة «إنى كفرت بما أشركتمون من قبل ..» مستأنفة ، لإظهار المزيد من التنصل والتبري من كل علاقة بينه وبينهم.

و «ما» في قوله «بما أشركتمون» الظاهر أنها مصدرية ..

قال الآلوسى ما ملخصه : «وأراد بقوله (إِنِّي كَفَرْتُ) أى : إنى كفرت اليوم «بما أشركتمون من قبل».

أى : من قبل هذا اليوم ، يعنى في الدنيا و «ما» مصدرية و «من قبل» متعلق بأشركتمون.

والمعنى : إنى كفرت بإشراككم إياى لله ـ تعالى ـ في الطاعة ، لأنهم كانوا يطيعون

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٢٢.

(٢) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٣٥٧.

٥٤٦

الشيطان فيما يزينه لهم من عبادة غير الله ـ تعالى ـ ، ومن أفعال الشر ..

ومراد اللعين : أنه إن كان إشراككم لي مع الله ـ تعالى ـ ، هو الذي أطمعكم في نصرتي لكم ... فإنى متبرئ من هذا الشرك ، فلم يبق بيني وبينكم علاقة ... فالكلام محمول على إنشاء التبري منهم يوم القيامة ..

ثم قال : وجوز غير واحد أن تكون «ما» موصولة بمعنى من ، والعائد محذوف ، و «من قبل» متعلق بكفرت. أى : إنى كفرت من قبل ـ حين أبيت السجود لآدم ـ بالذي أشركتمونيه. أى : جعلتموني شريكا له في الطاعة وهو الله ـ عزوجل ـ ...

والكلام على هذا إقرار من اللعين بقدم كفره ، وبسبق خطيئته فلا يمكنه أن يقدم لهم عونا أو نصرا ... (١).

وجملة «إن الظالمين لهم عذاب أليم» في موقع التعليل لما تقدم ، والظاهر أنها ابتداء كلام من جهته ـ تعالى ـ : لبيان سوء عاقبة الظالمين.

ويجوز أن تكون من تتمة كلام إبليس ـ الذي حكاه القرآن عنه ـ ، ويكون الغرض منها قطع أطماعهم في الإغاثة أو النصر ، وتنبيه المؤمنين في كل زمان ومكان إلى عداوة الشيطان لهم وتحذيرهم من اتباع خطواته.

قال الشيخ الشوكانى ـ رحمه‌الله ـ ما ملخصه : «لقد قام الشيطان للكافرين في هذا اليوم مقاما يقصم ظهورهم ، ويقطع قلوبهم ، فأوضح لهم أولا : أن مواعيده التي كان يعدهم بها في الدنيا باطلة معارضة لوعد الحق من الله ـ تعالى ـ وأنه أخلفهم ما وعدهم به ...

ثم أوضح لهم ثانيا : بأنهم قبلوا قوله بما لا يتفق مع العقل ، لعدم الحجة التي لا بد للعاقل منها في قبول قول غيره.

ثم أوضح لهم ثالثا : بأنه لم يكن منه إلا مجرد الدعوة العاطلة عن البرهان ، الخالية عن أيسر شيء مما يتمسك به العقلاء.

ثم نعى عليهم رابعا : ما وقعوا فيه ، ودفع لومهم له ، وأمرهم بأن يلوموا أنفسهم ، لأنهم هم الذين قبلوا الباطل البحت الذي لا يلتبس بطلانه على من له أدنى عقل.

ثم أوضح لهم خامسا : بأنه لا نصر عنده ولا إغاثة ... بل هو مثلهم في الوقوع في البلية ..

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٨٩.

٥٤٧

ثم صرح لهم سادسا : بأنه قد كفر بما اعتقدوه فيه وأثبتوه له ، وهو إشراكه مع الله ـ تعالى ـ فتضاعفت عليهم الحسرات ، وتوالت عليهم المصائب.

وإذا كانت جملة «إن الظالمين لهم عذاب أليم» من تتمة كلامه ـ كما ذهب إليه البعض ـ فهو نوع سابع من كلامه الذي خاطبهم به ، فيكون قد أثبت لهم الظلم ، وذكر لهم جزاءه» (١).

وبعد هذا الحديث عن سوء عاقبة الكافرين .. بين ـ سبحانه ـ ما أعده للمؤمنين من ثواب جزيل ، وأجر عظيم فقال ـ تعالى ـ :

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ).

أى : وأدخل الله ـ تعالى ـ في هذا اليوم ، وهو يوم القيامة ، الذين آمنوا بكل ما يجب الإيمان به ، وعملوا الأعمال الصالحة ، أدخلهم ـ سبحانه ـ جنات تجرى من تحت ثمارها وأشجارها الأنهار ، حالة كونهم خالدين فيها خلودا أبديا لا موت معه ولا تعب.

وجاء التعبير بصيغة الماضي لتحقيق الوقوع ، وتعجيل البشارة ، وقوله ، (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أى : بإرادته ـ سبحانه ـ وتوفيقه وهدايته لهم.

وقوله (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أى : تحيتهم في الجنة سلام لهم من خالقهم ـ عزوجل ـ ومن الملائكة ، ومن بعضهم لبعض.

كما قال ـ تعالى ـ : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) (٢).

وكما قال ـ تعالى ـ : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ ..) (٣).

وكما قال ـ سبحانه ـ : (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) (٤).

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد بينت بأبلغ أسلوب بوار أعمال الذين كفروا ، وسوء أحوالهم يوم القيامة ، كما بينت حسن عاقبة المؤمنين ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.

__________________

(١) تفسير الشوكانى ج ٣ ص ١٠٤.

(٢) سورة الأحزاب الآية ٤٤.

(٣) سورة الرعد الآية ٢٣ ، ٢٤.

(٤) سورة الفرقان الآية ٧٥.

٥٤٨

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ حال السعداء والأشقياء يوم القيامة ، أتبع ذلك بضرب مثل لهما زيادة في التوضيح والتقرير فقال ـ تعالى ـ :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ)(٢٧)

والخطاب في قوله (أَلَمْ تَرَ ...) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من يصلح للخطاب ، والاستفهام للتقرير ، والرؤية مستعملة في العلم الناشئ عن التأمل والتفكر في ملكوت السموات والأرض.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ ...) هذا التعبير قد يذكر لمن تقدم علمه فيكون للتعجب ، وقد يذكر لمن ليس كذلك ، فيكون لتعريفه وتعجيبه ، وقد اشتهر في ذلك حتى أجرى مجرى المثل في ذلك ، بأن شبه من لم ير الشيء بحال من رآه في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه ، ثم أجرى الكلام معه كما يجرى مع من رأى ، قصدا إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب» (١).

والمثل : يطلق على القول السائر المعروف للماثلة مضربه لمورده.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٦٠.

٥٤٩

وقوله (مَثَلاً) انتصب على أنه مفعول به لضرب ، وقوله (كَلِمَةً) بدل منه أو عطف بيان.

والمراد بالكلمة الطيبة : كلمة الإسلام ، وما يترتب عليها من عمل صالح ، وقول طيب.

قال الآلوسى ما ملخصه : «والمراد بالشجرة الطيبة ـ المشبه بها ـ النخلة عند الأكثرين وروى ذلك عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة والضحاك وابن زيد ..

وأخرج عبد الرزاق والترمذي وغيرهما عن شعيب بن الحجاب قال : كنا عند أنس ، فأتينا بطبق عليه رطب ، فقال أنس لأبى العالية : كل يا أبا العالية ، فإن هذا من الشجرة التي ذكرها الله ـ تعالى ـ في كتابه (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ...).

وأخرج الترمذي ـ أيضا ـ والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه عن أنس قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقناع من بسر ـ أى بطبق من تمر لم ينضج بعد فقال : «مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة ... قال : هي النخلة».

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنها شجرة جوز الهند.

وأخرج ابن حرير وابن ابى حاتم أنها شجرة في الجنة ، وقيل كل شجرة مثمرة كالنخلة ، وكشجرة التين والعنب والرمان وغير ذلك ثم قال :

وأنت تعلم أنه إذا صح الحديث ولم يتأت حمل ما فيه على التمثيل لا ينبغي العدول عنه» (١).

وكأن الإمام الآلوسى بهذا القول يريد أن يرجح أن المراد بالشجرة الطيبة النخلة ، لتصريح الآثار بذلك.

وقد رجح ابن جرير ـ أيضا ـ أن المراد بها النخلة فقال ما ملخصه : «واختلفوا في المراد بالشجرة الطيبة ، فقال بعضهم : هي النخلة ... وقال آخرون : هي شجرة في الجنة ...

وأولى القولين بالصواب في ذلك قول من قال هي النخلة ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ..» (٢).

والمعنى : ألم تر ـ أيها المخاطب ـ كيف اختار الله ـ تعالى ـ مثلا ، ووضعه في موضعه اللائق به ، والمناسب له ، وهذا المثل لكلمتى الإيمان والكفر ، حيث شبه ـ سبحانه ـ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٩١.

(٢) تفسير ابن جرير ج ١٣ ص ١٣٧.

٥٥٠

الكلمة الطيبة وهي كلمة الإسلام ، بالشجرة الطيبة ، أى النافعة في جميع أحوالها ، وهي النخلة.

ثم وصف ـ سبحانه ـ هذه الشجرة بصفات حسنة فقال : (أَصْلُها ثابِتٌ).

أى : ضارب بعروقه في باطن الأرض فصارت بذلك راسخة الأركان ثابتة البنيان.

(وَفَرْعُها) أى : أعلاها وما امتد منها من أغصان ، مشتق من الافتراع بمعنى الاعتلاء (فِي السَّماءِ) أى : في جهة السماء من حيث العلو والارتفاع ، وهذا مما يزيد الشجرة جمالا وحسن منظر.

والمراد بالأكل في قوله ـ تعالى ـ (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ..) المأكول ، وهو الثمر الناتج عنها.

والمراد بالحين : الوقت الذي حدده الله ـ تعالى ـ للانتفاع بثمارها من غير تعيين بزمن معين من صباح أو مساء ..

قال الشوكانى ما ملخصه : «قوله (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) كل وقت (بِإِذْنِ رَبِّها) بإرادته ومشيئته».

وقيل : المراد بكونها تؤتى أكلها كل حين : أى كل ساعة من الساعات من ليل أو نهار في جميع الأوقات من غير فرق بين شتاء وصيف. وقيل المراد في أوقات مختلفة من غير تعيين.

وقيل : كل غدوة وعشية ، وقيل : كل شهر ..

وهذه الأقوال متقاربة. لأن الحين عند جمهور أهل اللغة بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان وكثيره (١).

وبهذا نرى أن الله ـ تعالى ـ قد وصف هذه الشجرة بأربع صفات ، أولها : أنها طيبة ، وثانيها : أن أصلها ثابت ، وثالثها : أن فرعها في السماء ، ورابعها : أنها تؤتى ثمارها كل حين بإذن ربها.

وهذه الأوصاف تدل على فخامة شأنها ، وجمال منظرها ، وطيب ثمرها ، ودوام نفعها كما تدل على أن المشبه وهو الكلمة الطيبة ، مطابق في هذه الأوصاف للمشبه به وهو الشجرة الطيبة.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) بيان للحكمة التي

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ١٠٦.

٥٥١

من أجلها سيقت الأمثال ، وهي التذكر والتفكير والاعتبار. أى : ويضرب الله ـ تعالى ـ الأمثال للناس رجاء أن يعتبروا ويتعظوا ويتذكروا ما أمرهم ـ سبحانه ـ بتذكره إذ ضرب الأمثال تقريب للبعيد ، وتقرير للقريب ، وتصوير للمعاني المعقولة بالصور المحسوسة.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ مثال كلمة الإيمان ، أتبعه بمثال كلمة الكفر فقال : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) وهي كلمة الكفر.

(كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) أى قبيحة لا نفع فيها ، ولا خير يرجى منها.

(اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) أى : اقتلعت جثتها وهيئتها من فوق الأرض ، لقرب عروقها وجذورها من سطحها.

يقال : اجتثثت الشيء اجتثاثا ، إذا اقتلعته واستأصلته ، وهو افتعال من لفظ الجثة وهي ذات الشيء.

وقوله : (ما لَها مِنْ قَرارٍ) تأكيد لمعنى الاجتثاث لأن اجتثاث الشيء بسهولة ، سببه عدم وجود أصل له.

أى : ليس لها استقرار وثبات على الأرض ، وكذلك الكفر لا أصل له ولا فرع ، ولا يصعد للكافر عمل ، ولا يتقبل منه شيء.

والمراد بهذه الشجرة الخبيثة : شجرة الحنظل فعن أنس بن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة هي الحنظلة ...» (١).

وقيل : شجرة الثوم ، وقيل : شجرة الشوك ... وقيل كل شجر لا يطيب له ثمر ، وفي رواية عن ابن عباس أنها شجرة لم تخلق على الأرض ...

وقال : ابن عطية : الظاهر أن التشبيه وقع بشجرة غير معينة جامعة لتلك الأوصاف التي وصفها الله بها.

وقوله سبحانه ـ : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) بيان لفضل الله ـ تعالى ـ على هؤلاء المؤمنين ، ولحسن عاقبتهم ..

والمراد بالحياة الدنيا : مدة حياتهم في هذه الدنيا.

والمراد بالآخرة : ما يشمل سؤالهم في القبر وسؤالهم في مواقف القيامة.

والمعنى : يثبت الله ـ تعالى ـ الذين آمنوا بالقول الثابت أى : الصادق الذي لا شك فيه،

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤١٣.

٥٥٢

في الحياة الدنيا ، بأن يجعلهم متمسكين بالحق ، ثابتين عليه دون أن يصرفهم عن ذلك ترغيب أو ترهيب.

ويثبتهم أيضا بعد مماتهم ، بأن يوفقهم إلى الجواب السديد عند سؤالهم في القبر وعند سؤالهم في مواقف يوم القيامة.

قال الآلوسى ما ملخصه : «قوله ـ تعالى ـ (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) أى : الذي ثبت عندهم وتمكن في قلوبهم ، وهو الكلمة الطيبة التي ذكرت صفتها العجيبة .. «في الحياة الدنيا» أى يثبتهم بالبقاء على ذلك مدة حياتهم ، فلا يزالون عند الفتنة ... «وفي الآخرة» أى بعد الموت وذلك في القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة ، وفي مواقف القيامة ، فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم هناك ، ولا تدهشهم الأهوال ..» (١).

هذا ، وقد ساق الإمام ابن كثير هنا جملة من الأحاديث التي وردت في سؤال القبر ، منها قوله : قال البخاري : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، أخبرنى علقمة بن مرثد قال : سمعت سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله : «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة» (٢).

وقوله : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) بيان لسوء عاقبة أصحاب المثل الثاني وهم الكافرون.

أى : ويخلق فيهم الضلال عن الحق بسبب إيثارهم الكفر على الإيمان.

(وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) فعله ، عن تثبيت من يريد تثبيته ، وإضلال من يريد إضلاله ، حسبما تقتضيه إرادته وحكمته ، لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك مصير الجاحدين الذين قابلوا نعم الله بالكنود والجحود ، وأمر المؤمنين بأداء ما كلفهم به ـ سبحانه ـ من عبادات وقربات ، وساق لهم ألوانا من الآلاء التي تفضل بها على عباده ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٩٤.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ من ص ٤١٣ إلى ص ٤٢٦ طبعة دار الشعب.

٥٥٣

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(٣٤)

وقوله ـ سبحانه ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً ..) الخطاب فيه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من يصلح للخطاب.

والاستفهام للتعجيب من أحوالهم الذميمة.

وبدلوا من التبديل بمعنى التغيير والتحويل ، والمراد به : وضع الشيء في غير وضعه ومقابلة نعم الله بالجحود وعدم الشكر.

ونعمة الله التي بدلوها ، تشمل كفرهم بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أرسله الله ـ تعالى ـ لإخراجهم من الظلمات إلى النور ، كما تشمل إكرام الله لهم ـ أى أهل مكة ـ بأن جعلهم في

٥٥٤

حرم آمن ، وجعلهم سدنة بيته .. ولكنهم لم يشكروا الله على هذه النعم ، بل أشركوا معه في العبادة آلهة أخرى.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : «قوله : (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ) لأن شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفرا ، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلا.

وهم أهل مكة أسكنهم الله حرمه ، وجعلهم قوام بيته ، وأكرمهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر العظيم ، أو أصابهم الله بالنعمة في الرخاء والسعة لإيلافهم الرحلتين ، فكفروا نعمته ، فضربهم بالقحط سبع سنين ، فحصل لهم الكفر بدل النعمة ، وكذلك حين أسروا وقتلوا يوم بدر ، قد ذهبت النعمة عنهم ، وبقي الكفر طوقا في أعناقهم ..» (١).

وقال الإمام ابن كثير ما ملخصه : «قال البخاري قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً ..) حدثنا على بن عبد الله حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عطاء ، سمع ابن عباس قال : هم كفار أهل مكة.

ثم قال ابن كثير : وهذا هو الصحيح ، وإن كان المعنى يعم جميع الكفار ، فإن الله ـ تعالى ـ بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحمة للعالمين ، ونعمة للناس ؛ فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة ، ومن ردها وكفرها دخل النار ...» (٢).

وما ذهب إليه صاحب الكشاف وابن كثير ـ رحمهما‌الله ـ هو الذي تطمئن إليه النفس ، لأن مشركي مكة ومن سار على شاكلتهم تنطبق عليهم هذه الآية الكريمة.

وقد أورد بعض المفسرين هنا روايات في أن المراد بهؤلاء الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، بنو أمية وبنو مخزوم .. ولكن هذه الروايات بعيدة عن الصواب ، ولا سند لها من النقل الصحيح» (٣).

وقوله (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) معطوف على «بدلوا» لبيان رذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة والمراد بقومهم : أتباعهم وشركاؤهم في الكفر والعناد حتى ماتوا على ذلك.

والبوار : الهلاك والخسران ، ويطلق أيضا على الكساد. يقال : بار المتاع بوارا ، إذا كسد ، إذ الكاسد في حكم الهالك.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٧٦.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ١٢٦.

(٣) راجع تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ١٤٦.

٥٥٥

والمعنى : ألم تر ـ أيها العاقل ـ إلى حال هؤلاء المشركين ، الذين قابلوا نعم الله عليهم بالكفر والجحود ، وكانوا سببا في إنزال قومهم دار الهلاك والخسران.

وقوله ـ سبحانه ـ (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) بيان لدار بوارهم وهلاكهم أى : جهنم يصلون حرها وسعيرها ، وبئس القرار قرارهم فيها.

فقوله «جهنم» عطف بيان لدار البوار ، وقوله «يصلونها» في محل نصب حال من «جهنم» يقال : صلى فلان النار ـ من باب تعب ـ إذا ذاق حرها ، وتقول : صليت اللحم أصليه ـ من باب رمى ـ إذا شويته.

والمخصوص بالذم محذوف. أى : بئس القرار هي أى : جهنم.

وفيه إشارة إلى أن حلولهم فيها كائن على وجه الدوام والاستمرار.

ثم بين ـ سبحانه ـ لونا ثالثا من ألوان أعمالهم القبيحة ، وعقائدهم الباطلة فقال (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ..).

والأنداد : جمع ند وهو مثل الشيء الذي يضاده وينافره ويتباعد عنه.

وأصله من ند البعير يند ـ بكسر النون ـ ندا ـ بالفتح ـ إذا نفر وذهب على وجهه شاردا.

وقوله «ليضلوا» قرأ الجمهور ـ بضم الياء ـ من أضل غيره إذا جعله ضالا.

أى : أن هؤلاء الخاسرين لم يكتفوا بمقابلة نعمة الله بالجحود ، وإحلال قومهم دار البوار ، بل أضافوا إلى ذلك أنهم جعلوا لله ـ تعالى ـ أمثالا ونظراء ، ليصرفوا غيرهم عن الطريق الحق ، والصراط المستقيم ، الذي هو إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وحده.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ليضلوا» ـ بفتح الياء ـ أى : ليستمروا في ضلالهم ، فإنهم حين جعلهم الأنداد لله ـ تعالى ـ كانوا ضالين ، وجهلوا ذلك فاستمروا في ضلالهم توهما منهم أنهم على صواب.

قال صاحب الكشاف : قرئ «ليضلوا» بفتح الياء وضمها. فإن قلت : الضلال لم يكن غرضهم في اتخاذ الأنداد فما معنى اللام؟

قلت : لما كان الضلال والإضلال نتيجة اتخاذ الأنداد ، كما كان الإكرام في قولك ، جئتك لتكرمنى نتيجة المجيء ، دخلته اللام ، وإن لم يكن غرضا ، على طريق التشبيه والتقريب» (١).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٧٨.

٥٥٦

وقوله ـ سبحانه ـ (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) أمر منه ـ عزوجل ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يهددهم بهذا المصير الأليم.

والتمتع بالشيء : الانتفاع به مع التلذذ والميل إليه.

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الخاسرين ، تمتعوا بما شئتم التمتع به من شهوات ولذائذ ، فإن مصيركم إلى النار لا محالة.

قال صاحب فتح القدير ما ملخصه : قوله «قل تمتعوا» بما أنتم فيه من الشهوات ، وبما زينته لكم أنفسكم من كفران للنعم «فإن مصيركم إلى النار» أى : مرجعكم إليها ليس إلا.

ولما كان هذا حالهم ، وقد صاروا لفرط تهالكهم عليه لا يقلعون عنه. جعل ـ سبحانه ـ الأمر بمباشرته مكان النهى عن قربانه ، إيضاحا لما تكون عليه عاقبتهم ، وأنهم لا محالة صائرون إلى النار.

فجملة «فإن مصيركم إلى النار» تعليل للأمر بالتمتع ، وفيه من التهديد ما لا يقادر قدره.

ويجوز أن تكون هذه الجملة جوابا لمحذوف دل عليه السياق كأنه قيل : قل تمتعوا فإن دمتم على ذلك فإن مصيركم إلى النار.

والأول أولى والنظم القرآنى عليه أدل ، وذلك كما يقال لمن يسعى في مخالفة السلطان : اصنع ما شئت من المخالفة فإن مصيرك إلى السيف» (١).

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) (٣).

وقوله ـ تعالى ـ (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ* مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (٤).

وبعد هذا الأمر من الله ـ تعالى ـ لنبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بتهديد الكافرين ، وجه ـ سبحانه ـ أمرا آخر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلب منه فيه ، مواصلة دعوة المؤمنين إلى الاستمرار في التزود من العمل الصالح فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ).

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ١٠٩.

(٢) سورة الزمر الآية ٨.

(٣) سورة لقمان الآية ٢٤.

(٤) سورة آل عمران الآيتان ١٩٦ ، ١٩٧.

٥٥٧

قال الجمل : «قوله «قل لعبادي ... إلخ» مفعول قل محذوف يدل عليه جوابه ، أى : قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا ـ وقوله : يقيموا وينفقوا مجزومان في جواب الأمر ، أى : إن قلت لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا ... يقيموا وينفقوا.

ويجوز أن يكون قوله «يقيموا وينفقوا» مجزومين بلام الأمر المقدرة.

أى : ليقيموا الصلاة ولينفقوا ...» (١).

والمراد بإقامة الصلاة : المواظبة على أدائها في أوقاتها المحددة لها ، مع استيفائها لأركانها وسننها وآدابها وخشوعها ، ومع إخلاص النية عند أدائها لله ـ تعالى ـ.

والمراد بالإنفاق : ما يشمل جميع وجوه الإنفاق الواجبة والمستحبة.

والمراد بقوله «سرا وعلانية» ما يتناول عموم الأحوال في الحرص على بذل المال في وجوهه المشروعة.

والمعنى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لعبادي المخلصين ، الذين آمنوا إيمانا حقا ، قل لهم : ليستزيدوا من المواظبة على أداء الصلاة ، وعلى الإنفاق مما رزقناهم في جميع الأحوال ، بأن يجعلوا نفقتهم في السر إذا كانت آداب الدين وتعاليمه تقتضي ذلك ، وأن يجعلوها في العلن إذا كانت المنفعة في ذلك.

والإضافة في قوله «لعبادي» للتشريف والتكريم لهؤلاء العباد المخلصين.

ولم تعطف هذه الآية الكريمة على ما قبلها وهو قوله (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) للإيذان بتباين حال الفريقين ، واختلاف شأنهما.

ومفعول «ينفقوا» محذوف والتقدير ينفقوا شيئا مما رزقناهم.

وعبر ـ سبحانه ـ بمن المفيدة للتبعيض في قوله (مِمَّا رَزَقْناهُمْ) للاشعار بأنهم قوم عقلاء يبتعدون في إنفاقهم عن الإسراف والتبذير ، عملا بقوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٢).

وهذا التعبير ـ أيضا ـ يشعر بأن هذا المال الذي بين أيدى عباده ـ سبحانه ـ ما هو إلا رزق رزقهم الله إياه ، ونعمة أنعم بها عليهم ، فعليهم أن يقابلوا هذه النعمة بالشكر ، بأن ينفقوا جزءا منها في وجوه الخير.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٢٥.

(٢) سورة الفرقان الآية ٦٧.

٥٥٨

وقوله (سِرًّا وَعَلانِيَةً) منصوبان على الحال أى : مسرين ومعلنين ، أو على المصدر أى : إنفاق سر وإنفاق علانية.

وقدم ـ سبحانه ـ إنفاق السر على العلانية للتنبيه على أنه أولى الأمرين في معظم الأحوال لبعده عن خواطر الرياء ، ولأنه أستر للمتصدق عليه.

وقوله ـ سبحانه ـ (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) مؤكد لمضمون ما قبله من الأمر بإقامة الصلاة وبالإنفاق في وجوه الخير بدون تردد أو إبطاء.

ولفظ «خلال» مصدر خاللت بمعنى صاحبت وصادقت ، أو جمع خليل بمعنى صديق ، أو جمع خلة بمعنى الصداقة كقلة وقلال.

أى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ بأن من الواجب عليهم أن يكثروا ويداوموا على إقامة الصلاة وعلى الإنفاق مما رزقهم ـ سبحانه ـ ، من قبل أن يفاجئهم يوم القيامة ، ذلك اليوم الذي لا تقبل فيه المعاوضات ، ولا تنفع فيه شفاعة الصديق لصديقه ، وإنما الذي يقبل وينفع في هذا اليوم هو العمل الصالح الذي قدمه المسلم في دنياه.

فالجملة الكريمة تفيد حضا آخر على إقام الصلاة وعلى الإنفاق عن طريق التذكير للناس بهذا اليوم الذي تنتهي فيه الأعمال ، ولا يمكن فيه استدراك ما فاتهم ، ولا تعويض ما فقدوه من طاعات.

كما تفيد أن المواظبة على أداء هاتين الشعيرتين ، من أعظم القربات التي يتقرب بها المسلم إلى خالقه ـ سبحانه ـ والتي تكون سببا في رفع الدرجات يوم القيامة.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١).

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ألوانا من نعمه التي تستوجب شكره وطاعته وإخلاص العبادة له والتي تدل على كمال قدرته وعلمه ووحدانيته فقال ـ تعالى ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...).

أى : الله ـ تعالى ـ وحده هو الذي أوجد السموات والأرض وما فيهما من أجرام علوية وسفلية بدون مثال سابق.

وافتتحت الآية الكريمة بلفظ الجلالة ، لما في ذلك من تربية المهابة ، ومن لفت أنظار

__________________

(١) سورة البقرة آية ٢٥٤.

٥٥٩

المشركين إلى ما هم فيه من ضلال حتى يقلعوا عنه.

وجاء الخبر بصيغة الموصول ، لأن الصلة معلومة الثبوت له ـ سبحانه ـ والمشركون لا ينازعون في ذلك ، كما قال ـ تعالى ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ).

وقوله (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ..) بيان للون آخر من ألوان نعمه على خلقه.

والمراد بالسماء هنا : السحاب ، أو جهة العلو.

أى : وأنزل ـ سبحانه ـ من المزن أو السحاب «ماء» كثيرا هو المطر ، «فأخرج به» أى بذلك الماء «من الثمرات» المتعددة الأنواع والأصناف «رزقا لكم» تنتفعون به ، وتتمتعون بجمال منظره وطيب مطعمه.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ألوانا أخرى من نعمه فقال : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ).

وقوله «سخر» من التسخير بمعنى التذليل والتطويع والقدرة على التصرف في الشيء والانتفاع به.

والفلك : ما عظم من السفن. ويستعمل لفظه في الواحد والجمع ، والظاهر أن المراد به هنا الجمع لقوله ـ سبحانه ـ «لتجرى» بتاء التأنيث.

أى : «وسخر لكم» ـ سبحانه ـ السفن الضخمة العظيمة ، بأن ألهمكم صنعها ، وأقدركم على استعمالها «لتجرى في البحر» إلى حيث تريدون «بأمره» وإذنه ومشيئته ، لا بإذنكم ومشيئتكم ، إذ لو شاء ـ سبحانه ـ لقلبها بكم.

«وسخر لكم الأنهار» بأن جعلها معدة لانتفاعكم ، إذ منها تشربون ، ومنها تسقون دوابكم وزروعكم ، وعليها تسيرون بسفنكم إلى حيث تريدون.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) أى : دائمين في إصلاح ما يصلحان من الأبدان والنبات وغيرهما أو دائمين في مدارهما المقدر لهما بدون اضطراب أو اختلال. ولا يفتران عن ذلك ما دامت الدنيا.

وأصل الدأب : الدوام والعادة المستمرة على حالة واحدة. يقال : دأب فلان على كذا يدأب دأبا ، إذا داوم عليه وجد فيه.

٥٦٠