التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ)(٦٠)

تلك هي قصة هود ـ عليه‌السلام ـ مع قومه كما حكتها هذه السورة ، وقد وردت قصته معهم في سور أخرى منها : سورة الأعراف ، والشعراء ، والأحقاف.

وينتهى نسب هود إلى نوح ـ عليهما‌السلام ـ فهو ـ كما قال بعض المؤرخين ـ : هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوض بن إرم بن سام بن نوح) (١).

وقومه هم قبيلة عاد ـ نسبة إلى أبيهم الذي كان يسمى بهذا الاسم ـ ، وكانت مساكنهم بالأحقاف ـ جمع حقف وهو الرمل الكثير المائل ـ ، وهذا المكان يسمى الآن بالربع الخالي جنوب الجزيرة العربية.

وكان قوم هود ـ عليه‌السلام ـ يعبدون الأصنام ، فأرسله الله إليهم لهدايتهم.

__________________

(١) قصص الأنبياء ص ٥٠ لفضيلة الشيخ عبد الوهاب النجار.

٢٢١

ويقال إن هودا ـ عليه‌السلام ـ قد أرسله الله إلى عاد الأولى ، أما عاد الثانية فهم قوم صالح ، وبينهما زهاء مائة سنة.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ...) معطوف على قصة نوح التي سبق الحديث عنها.

أى : وكما أرسلنا نوحا إلى قومه ليأمرهم بعبادة الله وحده ، أرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم هودا ، فقال لهم ما قاله كل نبي لقومه : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ).

ووصفه ـ سبحانه ـ بأنه (أَخاهُمْ) لأنه من قبيلتهم في النسب ، أو لأنه أخوهم في الإنسانية وناداهم بقوله : (يا قَوْمِ) زيادة في التلطف معهم ، استجلابا لقلوبهم ، وترضية لنفوسهم ، وجملة (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) في معنى العلة لما قبله.

أى : أنا آمركم بعبادة الله وحده ، لأنه ليس هناك إله آخر يستحق العبادة سواه ، فهو الذي خلقكم ورزقكم ، وهو الذي يحييكم ويميتكم.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بقوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ).

والافتراء : الكذب المتعمد الذي لا شبهة لصاحبه في النطق به.

أى : ما أنتم إلا متعمدون للكذب في جعلكم الألوهية لغير الله ـ تعالى ـ.

ثم بين لهم بعد ذلك أنه لا يريد منهم جزاء ولا شكورا في مقابل دعوته إياهم إلى الحق فقال : (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ...).

وفطرني : أى خلقني وأبدعنى على غير مثال سابق ، يقال : فطر الأمر. أى : ابتدأه وأنشأه. وفطر الله الخلق : أى خلقهم وأوجدهم. وأصل الفطر : الشق ، ثم استعمل في الخلق والإنشاء مجازا.

والمعنى : ويا قوم لا أريد منكم على ما أدعوكم إليه أجرا منكم ، وإنما أجرى تكفل به الله الذي خلقني بقدرته ، فهو وحده الذي أطلب منه الأجر والعطاء.

ومقصده من هذا القول ، إزالته ما عسى أن يكون قد حاك في نفوسهم ، من أنه ما دعاهم إلى ما دعاهم إليه ، إلا لأنه رجل يبتغى منهم الأجر الذي يجعله موسرا فيهم ..

والهمزة في قوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) للاستفهام الإنكارى ، وهي داخلة على محذوف.

أى : أتجهلون ما هو واضح من الأمور ، فلا تعقلون أن أجر الناصحين المخلصين ، إنما هو من الله ـ تعالى ـ رب العالمين ورازقهم.

ثم أرشدهم إلى ما يؤدى إلى زيادة غناهم وقوتهم ، وحذرهم من سوء عاقبة البطر والأشر

٢٢٢

فقال : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ).

والاستغفار : طلب المغفرة من الله ـ تعالى ـ وعدم المؤاخذة على الخطايا :

والتوبة : العزم على الإقلاع عن الذنب ، مع الندم على ما حصل منه في الماضي.

أى : ويا قوم استغفروا ربكم مما فرط منكم من شرك وعصيان ، ثم عودوا إليه بالتوبة الصادقة النصوح.

وثم هنا للترتيب الرتبى ، لأن الإقلاع عن الذنب مع المداومة على ذلك : مقدم على طلب المغفرة.

وجملة (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) جواب الأمر في قوله (اسْتَغْفِرُوا).

والمراد بالسماء هنا السحاب أو المطر ، تسمية للشيء باسم مصدره.

ومدرارا : مأخوذ من الدر أى : سيلان اللبن وكثرته. ثم استعير للمطر الغزير يقال : درت السماء بالمطر تدر وتدر درا .. إذا كثر نزول المطر منها.

وهو حال من السماء ، ولم يؤنث مع أنه حال من مؤنث ، باعتبار أن المراد بالسماء هنا المطر أو السحاب.

والمعنى : أن هودا ـ عليه‌السلام ـ قال لقومه يا قوم اعبدوا الله واستغفروه وتوبوا إليه .. فإنكم إن فعلتم ذلك أرسل الله ـ تعالى ـ عليكم المطر غزيرا متتابعا في أوقات حاجتكم إليه ؛ لتشربوا منه وتسقوا به دوابكم وزروعكم.

وجملة (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) معطوفة على ما قبلها.

أى : وأيضا إن فعلتم ذلك زادكم الله ـ تعالى ـ عزا إلى عزكم ، وشدة إلى شدتكم التي عرفتم بها ، ووهبكم الأموال الطائلة ، والذرية الكثيرة.

قال الآلوسى : «رغبهم ـ عليه‌السلام ـ بكثرة المطر ، وزيادة القوة ، لأنهم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات. وقيل : حبس الله عنهم المطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين ، فوعدهم هود على الاستغفار والتوبة كثرة الأمطار ، ومضاعفة القوة بالتناسل ...» (١).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ٧٣.

٢٢٣

ثم حذرهم من مقابلة نعم الله بالكفر والجحود فقال : (وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ.) والتولي : هو الإعراض عن الشيء بإصرار وعناد.

أى : ولا تتولوا عما دعوتكم إليه وأنتم مصرون على ما أنتم عليه من إجرام وجحود وعناد.

وإلى هنا يكون هود ـ عليه‌السلام ـ قد وضح لقومه دعوته ، ورغبهم في الاستجابة لها ، وحذرهم من الإعراض عنها ، وناداهم بلفظ ـ يا قوم ـ ثلاث مرات ، توددا إليهم ، وتذكيرا لهم بآصرة القرابة التي تجمعهم وإياه. لعل ذلك يستثير مشاعرهم ، ويحقق اطمئنانهم إليه ، فإن الرائد لا يكذب أهله.

ولكن قوم هود ـ عليه‌السلام ـ قابلوا كل ذلك بالتطاول عليه ، والسخرية منه فقالوا : (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ ..).

والبينة : ما يتبين به الحق من الباطل. أى : قالوا له يا هود إنك لم تجئنا بحجة تقنعنا بأنك على الحق فيما تدعو إليه ، وترضى نفوسنا وطباعنا وعاداتنا.

ثم أضافوا إلى ذلك قولهم : (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ).

أى : وما نحن بتاركي آلهتنا بسبب قولك لنا الخالي عن الدليل : اتركوا عبادتها واجعلوا عبادتكم لله وحده.

ثم أكدوا إصرارهم على كفرهم بقولهم (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أى : بمستجيبين لك ومصدقين.

ثم أضافوا إلى إصرارهم هذا استخفافا به وبما يدعو إليه فقالوا : «إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ...».

ومعنى اعتراك : أصابك ومسك. يقال عراه الأمر واعتراه أى أصابه ، وأصله من قولهم : عراه يعروه ، أى : غشيه وأصابه. ومنه قول الشاعر :

وإنى لتعرونى لذكراك هزة ... أى : تصيبني.

أى : ما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ، وما نحن لك بمتبعين ، بل عليك أن تيأس يأسا تاما من استجابتنا لك ، وحالتك التي نراها بأعيننا تجعلنا نقول لك : إن سبك لآلهتنا جعل بعضها ـ لا كلها ـ يتسلط عليك ، ويوجه قدرته نحوك ، فيصيبك بالجنون والهذيان والأمراض.

ولم يقولوا : «اعتراك آلهتنا بسوء» بل قالوا : (بَعْضُ آلِهَتِنا) تهديدا له وإشارة إلى

٢٢٤

أنه لو تصدت له جميع الآلهة لأهلكته إهلاكا.

وهكذا نراهم قد ردوا على نبيهم ومرشدهم بأربعة ردود ، تدرجوا فيها من السيئ إلى الأسوأ ، ومن القبيح إلى الأقبح .. مما يدل على توغلهم في الطغيان ، وبلوغهم النهاية في العناد والكفر والجحود.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : «إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ..».

أى : مسك بجنون لسبك إياها ، وصدك عنها ، وعداوتك لها ، مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء ، فمن ثم صرت تتكلم بكلام المجانين وتهذى بهذيان المبرسمين.

ثم قال. وقد دلت ردودهم المتقدمة على أن القوم كانوا جفاة غلاظ الأكباد ، لا يبالون بالبهت ، ولا يلتفتون إلى النصح ، ولا تلين شكيمتهم للرشد.

وهذا الأخير دال على جهل مفرط ، وبله متناه ، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم ...» (١).

والآن وبعد أن استمع هود ـ عليه‌السلام ـ إلى ردودهم القبيحة ماذا كان موقفه منهم؟

لقد كان موقفه منهم : موقف المتبرئ من شركهم ، والمتحدى لطغيانهم والمعتمد على الله ـ تعالى ـ وحده في الانتصار عليهم ، ولقد حكى القرآن رده عليهم فقال :

(قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ ، فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً ، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ).

أى : قال هود ـ عليه‌السلام ـ للطغاة من قومه بعزة وثقة (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ) الذي لا رب سواه على براءتي من عبادتكم لغيره.

(وَاشْهَدُوا) أنتم أيضا على (أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ).

أى : على براءتي من كل عبادة تعبدونها لغير الله ـ تعالى ـ لأنها عبادة باطلة. يحتقرها العقلاء ، ويتنزه عنها كل إنسان يحترم نفسه.

فأنت تراه في هذه الآية الكريمة يعلن احتقاره لآلهتهم ، وبراءته من شركهم ، واستخفافه

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٧٥.

٢٢٥

بأصنامهم التي زعموا أن بعضها قد أصابه بسوء ، ويوثق هذه البراءة بإشهاد الله ـ تعالى ـ وإشهادهم.

وذلك كما يقول الرجل لخصمه إذا لم يبال به : أشهد الله وأشهدك على أنى فعلت بك كذا وكذا ، وقلت في حقك كذا وكذا ... فافعل أنت ما بدا لك!!

ثم ينتقل من براءته من شركهم ، إلى تحديهم بثقة واطمئنان فيقول : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ).

أى : لقد أعلنت أمامكم بكل قوة ووضوح أنى برىء من شرككم ، وها أنذا في مواجهتكم ، فانضموا إلى آلهتكم ، وحاربونى بما شئتم من ألوان المحاربة والأذى بدون تريث أو إمهال ، فإنى لن أكف عن الجهر بدعوتي ، ولن أتراجع عن احتقار الباطل الذي أنتم عليه.

وهذا ـ كما يقول صاحب الكشاف ـ من أعظم الآيات ، أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمة عطاشا إلى إراقة دمه ، يرمونه عن قوس واحدة وذلك لثقته بربه ، وأنه يعصمه منهم ، فلا تنشب فيه مخالبهم .. (١).

ثم ينتقل بعد ذلك إلى بيان السبب الذي دعاه إلى البراءة من شركهم ، وإلى عدم المبالاة بهم فقال ـ كما حكى القرآن عنه ـ (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ...).

أى : إنى فوضت أمرى إلى الله الذي هو ربي وربكم ، ومالك أمرى وأمركم ، والذي لا يقع في هذا الكون شيء الا بإرادته ومشيئته.

وفي قوله : (رَبِّي وَرَبِّكُمْ) مواجهة لهم بالحقيقة التي ينكرونها ، لإفهامهم أن إنكارهم لا قيمة له ، وأنه إنكار عن جحود وعناد .. فهو ـ سبحانه ـ ربهم سواء أقبلوا ذلك أم رفضوه. وقوله (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) تصوير بديع لشمول قدرته ـ سبحانه ـ والأخذ : هو التناول للشيء عن طريق الغلبة والقهر.

والناصية : منبت الشعر في مقدم الرأس ، ويطلق على الشعر النابت نفسه.

قال الإمام الرازي : واعلم أن العرب إذا وصفوا إنسانا بالذلة والخضوع قالوا : ما ناصية فلان إلا بيد فلان. أى أنه مطيع له ، لأن كل من أخذت بناصيته فقد قهرته. وكانوا إذا أسروا أسيرا وأرادوا إطلاقه جزوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره فخوطبوا في القرآن بما يعرفون ... (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٧٦.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ١٣.

٢٢٦

والمعنى : إنى اعتمدت على الله ربي وربكم : ما من دابة تدب على وجه الأرض إلا والله ـ تعالى ـ مالكها وقاهر لها ، وقادر عليها ، ومتصرف فيها كما يتصرف المالك في ملكه.

وفي هذا التعبير الحكيم صورة حسية بديعة تناسب المقام ، كما تناسب غلظة قوم هود وشدتهم. وصلابة أجسامهم وبنيتهم ، وجفاف حسهم ومشاعرهم .. فكأنه ـ عليه‌السلام ـ يقول لهم : إنكم مهما بلغتم من القوة والبطش ، فما أنتم الا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربي بناصيتها. ويقهرها بقوته قهرا يهلكها ـ إذا شاء ذلك ـ فكيف أخشى دوابا مثلكم مع توكلي على الله ربي وربكم؟!

ثم يتبع هذا الوصف الدال على شمول قدرة الله ـ تعالى ـ بوصف آخر يدل على عدالته وتنزهه عن الظلم فيقول : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

أى : إن ربي قد اقتضت سنته أن يسلك في أحكامه طريق الحق والعدل وما دام الأمر كذلك فلن يسلطكم على لأنه ـ حاشاه ـ أن يسلط من كان متمسكا بالباطل ، على من كان متمسكا بالحق.

واكتفى هنا بإضافة الرب إلى نفسه ، للإشارة إلى أن لطفه ـ سبحانه ـ يشمل هودا وحده ولا يشملهم ، لأنهم أشركوا معه في العبادة آلهة أخرى.

ثم ختم هود ـ عليه‌السلام ـ رده على قومه ، بتحذيرهم من سوء عاقبة إصرارهم على كفرهم فقال : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ...).

أى : فإن تتولوا عن دعوتي ، وتعرضوا عن الحق الذي جئتكم به من عند ربي ، فتكون عاقبتكم خسرا ، وأمركم فرطا.

أما أنا فقد أديت واجبى ، وأبلغتكم ما أرسلت به إليكم من عند ربي بدون تكاسل أو تقصير. وقوله (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) وعيد لهم بإهلاكهم وإحلال غيرهم محلهم.

أى : وهو ـ سبحانه ـ سيهلككم بسبب إصراركم على كفركم في الوقت الذي يشاؤه ، ويستخلف من بعدكم قوما آخرين سواكم ، يرثون دياركم وأموالكم ، ولن تضروا الله شيئا من الضرر بسبب إصراركم على كفركم ، وإنما أنتم الذين تضرون أنفسكم بتعريضها للدمار في الدنيا ، وللعذاب الدائم في الآخرة.

وقوله : (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أى : إن ربي قائم على كل شيء بالحفظ والرقابة والهيمنة ، وقد اقتضت سنته ـ سبحانه ـ أن يحفظ رسله وأولياءه ، وأن يخذل أعداءه.

٢٢٧

وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد ساقت لنا بأسلوب بليغ حكيم ، جانبا من الحوار الذي دار بين هود وقومه وهو يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، فماذا كانت نتيجة هذا الحوار والجدال؟

لقد كانت نتيجته إنجاء هود والذين آمنوا معه ، وإهلاك أعدائهم.

قال ـ تعالى ـ (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ، وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ. وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ ، أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ).

والمراد بالأمر في قوله ـ سبحانه ـ (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) الأمر بنزول العذاب بهم.

أى : وحين جاء أمرنا بتحقيق وعيدنا في قوم هود ، وبتنفيذ ما أردناه من إهلاكهم وتدميرهم (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) تنجية مصحوبة (بِرَحْمَةٍ) عظيمة كائنة (مِنَّا) بسبب إيمانهم وعملهم الصالح.

(وَنَجَّيْناهُمْ) كذلك (مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) أى : من عذاب ضخم شديد مضاعف ترك هؤلاء الطغاة وراءه صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية.

ووصف العذاب بأنه غليظ ، بهذا التصوير المحسوس ، يتناسب كل التناسب مع جو هذه القصة ، ومع ما عرف عن قوم هود من ضخامة في الأجسام ، ومن تفاخر بالقوة.

قال ـ تعالى ـ (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ...) (١).

وكان عذابهم كما جاء في آيات أخرى بالريح العقيم ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ...).

واسم الإشارة في قوله ـ سبحانه ـ (وَتِلْكَ عادٌ ...) يعود إلى القبيلة أو إلى آثارهم التي خلفوها من بعدهم. أى : وتلك هي قصة قبيلة عاد مع نبيها هود ـ عليه‌السلام ـ وتلك هي عاقبتها وكانت الإشارة للبعيد تحقيرا لهم ، وتهوينا من شأنهم بعد أن انتهوا ، وبعدوا عن الأنظار والأفكار ، وقد كانوا يقولون : من أشد منا قوة.

وقوله : (جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ...) بيان لجرائمهم التي استحقوا بسببها العذاب الغليظ.

والجحد : الإنكار الشديد للحق الواضح.

__________________

(١) سورة فصلت الآية ١٥.

٢٢٨

وآيات ربهم : الحجج والبراهين التي جاء بها الأنبياء من ربهم للدلالة على صدقهم.

والجبار : هو الشخص المتعالي المتعاظم على الناس ، المترفع عن الاستجابة للحق.

والعنيد : المعاند الطاغي الذي يعرف الحق ولكنه لا يتبعه.

أى : وتلك هي قصة قبيلة عاد مع نبيها ، كفروا بآيات ربهم الدالة على صدق أنبيائه ، وعصوا رسله الذين جاءوا لهدايتهم ، واتبع سفلتهم وعوامهم أمر كل رئيس متجبر متكبر معاند منهم ، بدون تفكر أو تدبر.

وقال ـ سبحانه ـ (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) مع أنهم قد عصوا رسولا واحدا هو هود ـ عليه‌السلام ـ ، للإشارة إلى أى معصيتهم لهذا الرسول كأنها معصية للرسل جميعا ، لأنهم قد جاءوا برسالة واحدة في جوهرها وهي : عبادة الله ـ تعالى ـ وحده ، والتقيد بأوامره ونواهيه.

والإشارة أيضا إلى ضخامة جرائمهم ، وإبراز شناعتها حيث عصوا رسلا لا رسولا.

وقد وصفهم ـ سبحانه ـ في هذه الآية بثلاث صفات هي أعظم الصفات في القبح والشناعة : أولها : جحودهم لآيات ربهم. وثانيها : عصيانهم لرسله. وثالثها : اتباعهم أمر رؤسائهم الطغاة.

ثم ختم ـ سبحانه ـ قصتهم مع نبيهم في هذه السورة بقوله : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ).

والإتباع : اقتفاء أثر الشيء بحيث لا يفوته. يقال : أتبع فلان فلانا إذا اقتفى أثره لكي يدركه أو يسير على نهجه.

واللعنة : الطرد بإهانة وتحقير.

أى : أنهم هلكوا مشيعين ومتبوعين باللعن والطرد من رحمة الله في الدنيا والآخرة.

وقوله : (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ ، أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) تسجيل لحقيقة حالهم ، ودعاء عليهم بدوام الهلاك ، وتأكيد لسخط الله عليهم.

أى : ألا إن قوم عاد كفروا بنعم ربهم عليهم ، ألا سحقا وبعدا لهم عن رحمة الله ، جزاء جحودهم للحق ، وإصرارهم على الكفر ، واستحبابهم العمى على الهدى.

وتكرير حرف التنبيه «ألا» وإعادة لفظ «عاد» للمبالغة في تهويل حالهم وللحض على الاعتبار والاتعاظ بمآلهم.

هذا ، ومن العبر البارزة في هذه القصة :

٢٢٩

١ ـ أن الداعي إلى الله ، عليه أن يذكر المدعوين بما يستثير مشاعرهم ، ويحقق اطمئنانهم إليه ، ويرغبهم في اتباع الحق ، ببيان أن اتباعهم لهذا الحق سيؤدي إلى زيادة غناهم وقوتهم وأمنهم وسعادتهم.

وأن الانحراف عنه سيؤدي إلى فقرهم وضعفهم وهلاكهم.

انظر إلى قول هود ـ عليه‌السلام ـ : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ، وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ).

٢ ـ وأن الداعي إلى الله ـ تعالى ـ عند ما يخلص لله دعوته ، ويعتمد عليه ـ سبحانه ـ في تبليغ رسالته ، ويغار عليها كما يغار على عرضه أو أشد.

فإنه في هذه الحالة سيقف في وجه الطغاة المناوئين للحق ، كالطود الأشم ، دون مبالاة بتهديدهم ووعيدهم .. لأنه قد أوى إلى ركن شديد.

وهذه العبرة من أبرز العبر في قصة هود عليه‌السلام.

ألا تراه وهو رجل فرد يواجه قوما غلاظا شدادا طغاة ، إذا بطشوا بطشوا جبارين ، يدلون بقوتهم ويقولون في زهو وغرور : من أشد منا قوة.

ومع كل ذلك عند ما يتطاولون على عقيدته ؛ ويراهم قد أصروا على عصيانه.

يواجههم بقوله : (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ..).

أرأيت كيف واجه هود ـ عليه‌السلام ـ هؤلاء الغلاظ الشداد بالحق الذي يؤمن به دون مبالاة بوعيدهم أو تهديدهم ..؟

وهكذا الإيمان بالحق عند ما يختلط بالقلب ... يجعل الإنسان يجهر به دون أن يخشى أحدا إلا الله ـ تعالى ـ.

ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم فتحدثت عن قصة صالح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، فقال ـ تعالى ـ

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١)

٢٣٠

قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ)(٦٨)

هذه قصة صالح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه كما ذكرتها هذه السورة ، وقد وردت هذه القصة في سور أخرى منها سورة الأعراف ، والشعراء ، والنمل ، والقمر.

وصالح ـ عليه‌السلام ـ ينتهى نسبه إلى نوح ـ عليه‌السلام ـ فهو صالح بن عبيد بن آصف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود ... بن نوح.

وثمود : اسم للقبيلة التي منها صالح ، سميت باسم جدها ثمود ، وقيل سميت بذلك لقلة مائها ، لأن الثمد هو الماء القليل.

٢٣١

وكانت مساكنهم بالحجر ـ بكسر الحاء وسكون الجيم ـ وهو مكان يقع بين الحجاز والشام إلى وادي القرى ، وموقعه الآن ـ تقريبا ـ المنطقة التي بين الحجاز وشرق الأردن ، وما يزال المكان الذي كانوا يسكنونه يسمى بمدائن صالح حتى اليوم.

وقبيلة صالح من القبائل العربية ، وكانوا خلفاء لقوم هود ـ عليه‌السلام فقد قال ـ سبحانه ـ : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً ، وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً ..) (١).

وكانوا يعبدون الأصنام ، فأرسل الله ـ تعالى ـ إليهم صالحا ليأمرهم بعبادة الله وحده.

وقوله : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ..) معطوف على ما قبله من قصتي نوح وهود ـ عليهما‌السلام ـ أى : وأرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم في النسب والموطن صالحا ـ عليه‌السلام فقال لهم تلك الكلمة التي قالها كل نبي لقومه : يا قوم اعبدوا الله وحده ، فهو الإله الذي خلقكم ورزقكم ، وليس هناك من إله سواه يفعل ذلك.

ثم ذكرهم بقدرة الله ـ تعالى ـ وبنعمه عليهم فقال : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها).

والإنشاء : الإيجاد والإحداث للشيء على غير مثال سابق.

واستعمركم من الإعمار ضد الخراب فالسين والتاء للمبالغة. يقال : أعمر فلان فلانا في المكان واستعمره ، أى جعله يعمره بأنواع البناء والغرس والزرع.

أى : اعبدوا الله ـ تعالى ـ وحده ، لأنه ـ سبحانه ـ هو الذي ابتدأ خلقكم من هذه الأرض ، وأبوكم آدم ما خلق إلا منها وهو الذي جعلكم المعمرين لها ، والساكنين فيها (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً ، وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً ...).

قال ـ تعالى ـ في شأنهم .. (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ. وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ. فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ.) (٢).

فأنت ترى أن صالحا ـ عليه‌السلام ـ قد ذكرهم بجانب من مظاهر قدرة الله ومن أفضاله عليهم ، لكي يستميلهم إلى التفكر والتدبر ، وإلى تصديقه فيما يدعوهم إليه.

والفاء في قوله (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) للتفريع على ما تقدم.

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ٧٤.

(٢) سورة الشعراء الآيات من ١٤٦ ـ ١٥٠.

٢٣٢

أى : إذا كان الله ـ تعالى ـ هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فعليكم أن تخلصوا له العبادة ، وأن تطلبوا مغفرته عما سلف منكم من ذنوب.

ثم تتوبوا إليه توبة صادقة : تجعلكم تندمون على ما كان منكم في الماضي من شرك وكفر ، وتعزمون على التمسك بكل ما يرضى الله ـ تعالى ـ في المستقبل.

ثم فتح أمامهم باب الأمل في رحمة الله ـ تعالى ـ فقال : (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ).

أى : إن ربي قريب الرحمة من المحسنين ، مجيب لدعاء الداعين المخلصين ، فاقبلوا على عبادته وطاعته ، ولا تقنطوا من رحمة الله.

ثم حكى القرآن ما رد به قوم صالح عليه فقال : (قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا ...).

أى : قال قوم صالح له بعد أن دعاهم لما يسعدهم : يا صالح لقد كنت فينا رجلا فاضلا نرجوك لمهمات الأمور فينا لعلمك وعقلك وصدقك .. قبل أن تقول ما قلته ، أما الآن وبعد أن جئتنا بهذا الدين الجديد فقد خاب رجاؤنا فيك ، وصرت في رأينا رجلا مختل التفكير.

فالإشارة في قوله (قَبْلَ هذا) إلى الكلام الذي خاطبهم به حين بعثه الله إليهم.

والاستفهام في قولهم (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) للتعجيب والإنكار.

أى : أجئتنا بدعوتك الجديدة لتنهانا عن عبادة الآلهة التي كان يعبدها آباؤنا من قبلنا؟

لا ، إننا لن نستجيب لك ، وإنما نحن قد وجدنا آباءنا على دين وإننا على آثارهم نسير.

ثم ختموا ردهم عليه بقولهم : (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ).

ومريب : اسم فاعل من أراب. تقول : أربت فلانا فأنا أريبه ، إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة أى : القلق والاضطراب.

أى : لن نترك عبادة الأصنام التي كان يعبدها آباؤنا ، وإننا لفي شك كبير ، وريب عظيم من صحة ما تدعونا إليه.

فانظر كيف قابل هؤلاء السفهاء الدعوة إلى الحق بالتصميم على الباطل ، ولكن صالحا ـ عليه‌السلام ـ لم ييأس بل يرد عليهم بأسلوب حكيم فيقول :

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ، وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً ، فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ، فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ).

أى قال صالح ـ عليه‌السلام ـ لقومه : يا قوم أخبرونى إن كنت على حجة واضحة من ربي ومالك أمرى.

٢٣٣

(وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً) أى : وأعطانى من عنده لا من عند غيره رحمة عظيمة حيث اختارني لحمل رسالته. وتبليغ دعوته.

وجملة (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ) جواب الشرط وهو قوله (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ).

أى : إذا كان الله ـ تعالى ـ قد منحني كل هذه النعم ، وأمرنى بأن أبلغكم دعوته فمن ذا الذي يجيرني ويعصمني من غضبه ، إذا أنا خالفت أمره أو قصرت في تبليغ دعوته ، احتفاظا برجائكم في ، ومسايرة لكم في باطلكم؟

لا ، إننى سأستمر في تبليغ ما أرسلت به إليكم ، ولن يمنعني عن ذلك ترغيبكم أو ترهيبكم.

وقوله (فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) تصريح منه بأن ما عليه هو الحق الذي لا يقبل الشك أو الريب ، وأن مخالفته توصل إلى الهلاك والخسران.

والتخسير : مصدر خسر ، يقال خسر فلان فلانا إذا نسبه إلى الخسران. أى : فما تزيدونني بطاعتكم ومعصية ربي غير الوقوع في الخسران ، وغير التعرض لعذاب الله وسخطه وحاشاى أن أخالف أمر ربي إرضاء لكم.

فالآية الكريمة تصور تصويرا بليغا ما كان عليه صالح ـ عليه‌السلام ـ من إيمان عميق بالله ـ تعالى ـ ، ومن ثبات على دعوته ومن حرص على طاعته ـ سبحانه ـ ثم أرشد صالح ـ عليه‌السلام ـ إلى المعجزة الدالة على صدقه فيما يبلغه عن ربه فقال : (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً ..) أى : معجزة ، واضحة دالة على صدقى وفي إضافة الناقة إلى الله ـ تعالى ـ تعظيم لها وتشريف لحالها ، وتنبيه على أنها ناقة مخصوصة ليست كغيرها من النوق التي تستعمل في الركوب والنحر وغيرهما. لأن الله ـ تعالى ـ قد جعلها معجزة لنبيه صالح ـ عليه‌السلام ـ ولم يجعلها كغيرها.

وقد ذكر بعض المفسرين من صفات هذه الناقة وخصائصها. ما لا يؤيده نقل صحيح ، لذا أضربنا عن كل ذلك صفحا ، ونكتفي بأن نقول : بأنها كانت ناقة ذات صفات خاصة مميزة ، تجعل قوم صالح يعلمون عن طريق هذا التمييز لها عن غيرها أنها معجزة دالة على صدق نبيهم ـ عليه‌السلام ـ فيما يدعوهم إليه.

وقوله : (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ ، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) أمر لهم بعدم التعرض لها بسوء وتحذير لهم من نتائج مخالفة أمره.

٢٣٤

أى : اتركوا الناقة حرة طليقة تأكل في أرض الله الواسعة ؛ ومن رزقه الذي تكفل به لكل دابة ، واحذروا أن تمسوها بشيء من السوء مهما كان قليلا ، فإنكم لو فعلتم ذلك عرضتم أنفسكم لعذاب الله العاجل القريب.

والتعبير بقوله (فَيَأْخُذَكُمْ) بفاء التعقيب وبلفظ الأخذ ، يفيد سرعة الأخذ وشدته ، لأن أخذه ـ سبحانه ـ أليم شديد.

ولكن قوم صالح ـ عليه‌السلام ـ لم يستمعوا إلى تحذيره ، بل قابلوه بالطغيان والعصيان ، (فَعَقَرُوها) أى : فعقروا الناقة (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١).

والفاء معطوفة على محذوف : أى فخالفوا ما نهاهم عنه نبيهم فعقروها أى نحروها وأصل العقر : قطع عرقوب البعير ، ثم استعمل في النحر لأن ناحر البعير يعقله ثم ينحره فقال لهم صالح ـ عليه‌السلام ـ بعد عقرها (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ).

والتمتع : الانتفاع بالمتاع ، وهو اسم لما يحتاج إليه الإنسان في هذه الحياة من مأكل ومشرب وغيرهما.

والمراد بدارهم : أماكن سكناهم التي يعيشون فيها.

أى : قال لهم نبيهم بعد نحرهم للناقة : عيشوا في بلدكم هذا ، متمتعين بما فيه من نعم لمدة ثلاثة أيام : فقط ، فهي آخر ما بقي لكم من متاع هذه الدنيا ، ومن أيام حياتكم.

(ذلِكَ) الوعد بنزول العذاب بكم بعد هذه المدة القصيرة.

(وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) فيه لأنه صادر من الله ـ تعالى ـ الذي لا يخلف وعده.

وعبر عن قرب نزول العذاب بهم بالوعد على سبيل التهكم بهم.

قال الجمل : «مكذوب» يجوز أن يكون مصدرا على وزن مفعول ، وقد جاء منه ألفاظ نحو : المجلود والمعقول والمنشور والمغبون ، ويجوز أن يكون اسم مفعول على بابه وفيه تأويلان : أحدهما : غير مكذوب فيه ، ثم حذف حرف الجر فاتصل الضمير مرفوعا مستترا في الصفة ومثله : يوم مشهود. والثاني : أنه جعل هو نفسه غير مكذوب ، لأنه قد وفى به ، وإذا وفي به فقد صدق» (٢).

ولقد تحقق ما توعدهم به نبيهم ، فقد حل بهم العذاب في الوقت الذي حدده لهم ، قال

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ٧٧.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٤٠٨.

٢٣٥

ـ تعالى ـ (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أى : فلما جاء أمرنا بإنزال العذاب بهم في الوقت المحدد.

(نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أى برحمة عظيمة كائنة منا.

ونجيناهم أيضا (مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) أى : من خزي وذل ذلك اليوم الهائل الشديد الذي نزل فيه العذاب بالظالمين من قوم صالح ـ عليه‌السلام ـ فأبادهم.

فالتنوين في قوله (يَوْمِئِذٍ) عوض عن المضاف إليه المحذوف.

وقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين عما أصابهم من أذى.

أى : إن ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ هو القوى الذي لا يعجزه شيء ، العزيز الذي لا يهون من يتولاه ويرعاه ، فلا تبتئس عما أصابك من قومك ، فربك قادر على أن يفعل بهم ، ما فعله بالظالمين السابقين من أمثالهم.

ثم صور القرآن الكريم حال هؤلاء الظالمين تصويرا يدعو إلى الاعتبار والاتعاظ فقال : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها ، أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ).

والصيحة : الصوت المرتفع الشديد. يقال : صاح فلان إذا رفع صوته بقوة. وأصل ذلك تشقيق الصوت ، من قولهم : انصاح الخشب والثوب ، إذا انشق فسمع له صوت.

و (جاثِمِينَ) : من الجثوم وهو للناس وللطير بمنزلة البروك للإبل. يقال : جثم الطائر يجثم جثما وجثوما فهو جاثم ... إذا وقع على صدره ، ولزم مكانه فلم يبرحه.

ويغنوا فيها : أى يقيموا فيها. يقال : غنى فلان بالمكان يغنى إذا أقام به وعاش فيه في نعمة ورغد.

أى : وأخذ الذين ظلموا من قوم صالح ـ عليه‌السلام ـ عن طريق الصيحة الشديدة التي صيحت بهم بأمر الله ـ تعالى ـ (فَأَصْبَحُوا) بسببها (فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) أى : هلكى صرعى ، ساقطين على وجوههم ، بدون حركة ...

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) أى : كأن هؤلاء القوم الظالمين لم يقيموا في ديارهم عمرا طويلا وهم في رخاء من عيشهم.

(أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) أى : ألا إن هؤلاء الظالمين من قبيلة ثمود ، كفروا نعمة ربهم وجحودها ؛ ألا بعدا وسحقا وهلاكا لهؤلاء المجرمين من قبيلة ثمود.

وفي تكرار حرف التنبيه (أَلا) وتكرار لفظ (ثَمُودَ) تأكيد لطردهم من رحمة الله ،

٢٣٦

وتسجيل لما ارتكبوه من منكرات.

وبذلك انطوت صفحة أولئك الظالمين من قوم صالح ـ عليه‌السلام ـ كما انطوت من قبلهم صحائف قوم نوح وهود ـ عليهما‌السلام ـ.

ومن أبرز العبر والعظات التي نأخذها من قصة صالح مع قومه كما وردت في هذه السورة الكريمة : أن النفوس إذا انطمست ، والعقول إذا انتكست ، تعجب مما لا عجب فيه ؛ وتستنكر ما هو حق وصدق ، وتسيء ظنها بالشخص الذي كان بالأمس القريب موضع رجائها وثقتها ، لأنه أتاهم بما لم يألفوه ... حتى ولو كان ما أتاهم به فيه سعادتهم وهدايتهم ...

فصالح ـ عليه‌السلام ـ كان مرجوا في قومه قبل أن يكون نبيا ، فلما صار نبيا وبلغهم ما أرسله الله به ، خاب أملهم فيه ، وساء ظنهم به ، وجاهروه بالعداوة والعصيان ... مع أنه أتاهم بما يسعدهم ...

وصدق الله إذ يقول : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) (١).

هذا ، وقد وردت أحاديث تصرح بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد مر على ديار ثمود وهو في طريقه إلى غزوة تبوك.

ومن هذه الأحاديث ما رواه الشيخان عن ابن عمر قال : لما مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحجر قال : لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين ، فلا تدخلوا عليهم ، لئلا يصيبكم ما أصابهم. ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي.

ثم ساقت السورة الكريمة جانبا من قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ مع الملائكة ، الذين جاءوه بالبشارة ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية ١٤٦.

٢٣٧

قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)(٧٦)

هذه قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ مع الملائكة الذين جاءوا لبشارته بابنه إسحاق ، وبإخباره بإهلاك قوم لوط ـ عليه‌السلام ـ.

وقد وردت هذه القصة في سور أخرى منها سورة الحجر في قوله ـ تعالى ـ : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً ، قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ...) (١).

ومنها سورة الذاريات في قوله ـ تعالى ـ (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً ، قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ...) (٢).

والمراد بالرسل في قوله ـ سبحانه ـ (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) جماعة من الملائكة الذين أرسلهم الله ـ تعالى ـ لتبشير إبراهيم بابنه إسحاق.

وقد اختلفت الروايات في عددهم فعن ابن عباس أنهم ثلاثة وهم : جبريل وميكائيل وإسرافيل. وعن الضحاك أنهم كانوا تسعة ، وعن السدى أنهم كانوا أحد عشر ملكا ..

والحق أنه لم يرد في عددهم نقل صحيح يعتمد عليه ، فلنفوض معرفة عددهم إلى الله ـ تعالى ـ.

__________________

(١) الآيات من ٥١ إلى ٦٠.

(٢) الآيات من ٢٤ إلى ٣٧.

٢٣٨

والبشرى : اسم للتبشير والبشارة وهي الخبر السار ، فهي أخص من الخبر ، وسميت بذلك لأن آثارها تظهر على بشرة الوجه أى : جلده.

وجاءت هذه الجملة الكريمة بصيغة التأكيد للاهتمام بمضمونها ، وللرد على مشركي قريش وغيرهم ممن كان ينكر هذه القصة وأمثالها.

والباء في قوله ـ سبحانه ـ (بِالْبُشْرى) للمصاحبة والملابسة ، أى : جاءوه مصاحبين وملتبسين بالبشرى.

وقوله : (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) حكاية لتحيتهم له ولرده عليهم.

و (سَلاماً) منصوب بفعل محذوف. أى قالوا نسلم عليك سلاما.

و (سَلامٌ) مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. أى قال أمرى سلام.

وقرأ حمزة والكسائي : قال سلم وهو اسم للمسالمة.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما فعل إبراهيم مع هؤلاء الرسل من مظاهر الحفاوة والتكريم فقال : (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ).

و «ما» في قوله (فَما لَبِثَ) نافية ، والفاء للتعقيب ، واللبث في المكان معناه : عدم الانتقال عنه. والعجل : الصغير من البقر.

والحنيذ : السمين المشوى على الحجارة المحماة في حفرة من الأرض. يقال : حنذ الشاة يحنذها حنذا أى : شواها بهذه الطريقة.

أى : فما أبطأ وما تأخر إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ عن إكرامهم ، بل بمجرد أن انتهى من رد التحية عليهم ، أسرع إلى أهله فجاءهم بعجل حنيذ ...

وهذا الفعل منه ـ عليه‌السلام ـ يدل على سعة جوده ، وعظيم سخائه ، فإن من آداب الضيافة ، تعجيل القرى للضيف ..

قال أبو حيان : والأقرب في إعراب (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ ...) أن تكون ما نافية ، ولبث معناه تأخر وأبطأ و (أَنْ جاءَ) فاعل لبث والتقدير ؛ فما تأخر مجيئه ...

ويجوز أن يكون فاعل لبث ضمير إبراهيم ، وأن جاء على إسقاط حرف الجر ، أى فما تأخر في أن جاء بعجل حنيذ ...» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ حال إبراهيم عند ما رأى ضيوفه لا يأكلون من طعامه فقال : (فَلَمَّا

__________________

(١) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٥ ص ٢٤١ طبعة دار الفكر ببيروت.

٢٣٩

رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ...).

ومعنى (نَكِرَهُمْ) : نفر منهم ، وكره تصرفهم. نقول : فلان نكر حال فلان ـ كعلم ـ وأنكره نكرا ونكورا ... إذا وجده على غير ما يعهده فيه ، ويتوقعه منه.

(وَأَوْجَسَ) من الوجس وهو الصوت الخفى ، والمراد به هنا : الإحساس الخفى بالخوف والفزع الذي يقع في النفس عند رؤية ما يقلقها ويخيفها.

أى : فلما رأى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ضيوفه لا تمتد أيديهم إلى الطعام الذي قدمه لهم ، نفر منهم ، وأحس في نفسه من جهتهم خوفا ورعبا ؛ لأن امتناع الضيف عن الأكل من طعام مضيفه ـ بدون سبب مقنع ـ يشعر بأن هذا الضيف ينوى شرا به ... والتقاليد في كثير من البلاد إلى الآن تؤيد ذلك.

ولذا قالت الملائكة لإبراهيم عند ما لاحظوا ما يساور نفسه من الخوف : (لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ).

أى : لا تخف يا إبراهيم فإنا لسنا ضيوفا من البشر ، وإنما نحن رسل من الله ـ تعالى ـ أرسلنا إلى قوم لوط لإهلاكهم.

وقد جاء في بعض الآيات أنه صارحهم بالخوف منهم ، ففي سورة الحجر قال ـ تعالى ـ :

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً ، قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ. قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ...).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما حدث بعد ذلك فقال : (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ).

والمراد بامرأته ـ كما يقول القرطبي ـ «سارة بنت هاران بن ناحور ، بن شاروع ، بن أرغو ، بن فالغ ، وهي بنت عم إبراهيم» (١).

وقيامها كان لأجل قضاء مصالحها ، أو لأجل خدمة الضيوف ... أو لغير ذلك من الأمور التي تحتاجها المرأة في بيتها.

والمراد بالضحك هنا حقيقته. أى : فضحكت سرورا وابتهاجا بسبب زوال الخوف عن إبراهيم ، أو بسبب علمها بأن الضيوف قد أرسلهم الله لإهلاك قوم لوط ، أو بهما معا ...

قال الشوكانى : والضحك هنا هو الضحك المعروف الذي يكون للتعجب والسرور كما قاله الجمهور.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٧٠.

٢٤٠