التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

قال ـ تعالى ـ (الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ* إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ* قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

(ب) وفي القسم الثاني (١) منها نراها تحدثنا عن مكر إخوة يوسف به ، وحسدهم له ، وتآمرهم على الانتقام منه وإجماعهم على أن يلقوا به في الجب ، وتنفيذهم لذلك بعد خداعهم لأبيهم ، وزعمهم له بأنهم سيحافظون على أخيهم يوسف ...

استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى كل ذلك بأسلوبه البديع المعجز فيقول : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ* إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ، إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ* قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ. يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ).

إلى أن يقول ـ سبحانه ـ : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ، قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ، وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ).

(ج) ثم نراها في القسم الثالث (٢) منها تحدثنا عن انتشال السيارة ليوسف من الجب ، وعن بيعهم له بثمن بخس دراهم معدودة ، وعن وصية من اشتراه لامرأته بإكرام مثواه ، وعن محنته مع تلك المرأة التي راودته عن نفسه (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) وعن خروجه من هذه المحنة بريئا ، نقى العرض ، طاهر الذيل ... بعد أن شهد ببراءته شاهد من أهلها.

قال ـ تعالى ـ : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ ، قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ ، وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ* وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ* وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ...).

إلى أن يقول ـ سبحانه ـ : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ ، قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ...).

__________________

(١) الآيات من ٧ ـ ١٨.

(٢) الآيات من ١٩ ـ ٢٩.

٣٠١

ثم يختم ـ سبحانه ـ هذا القسم من السورة بحكاية ما قاله الزوج لامرأته وليوسف ، بعد أن تبين له صدق يوسف وكذب امرأته فيقول : (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ* يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ).

(د) ثم تحدثنا السورة بعد ذلك في القسم الرابع (١) منها عن شيوع خبر امرأة العزيز مع فتاها ، وعما فعلته تلك المرأة مع من أشاع هذا الخبر ، وعن لجوء يوسف ـ عليه‌السلام ـ الى ربه يستجير به من كيد هؤلاء النسوة ...

قال ـ تعالى ـ حاكيا هذا المشهد بأسلوب معجز : (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ ، قَدْ شَغَفَها حُبًّا ، إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ* فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ. فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ، وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ* قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ، وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ، وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ* قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ* فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ).

(ه) ثم تحدثنا السورة الكريمة بعد ذلك في القسم (٢) الخامس منها ، عن يوسف السجين المظلوم ، وكيف أنه لم يمنعه السجن من دعوة رفاقه فيه إلى وحدانية الله ، وإلى إخلاص العبادة له ـ سبحانه ـ ...

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ* ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

(و) ثم تحدثنا السورة الكريمة في القسم (٣) السادس منها عن الرؤيا المفزعة التي رآها ملك مصر في ذلك الوقت ، وكيف أن حاشيته عجزت عن تفسيرها ، ولكن يوسف الصديق فسرها تفسيرا صحيحا أعجب الملك ، وحمله على دعوته للالتقاء به ، إلا أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ

__________________

(١) الآيات من ٣٠ ـ ٣٥.

(٢) الآيات من ٣٦ ـ ٤٢.

(٣) الآيات من ٤٣ ـ ٥٧.

٣٠٢

أبى الالتقاء به إلا بعد أن يحقق الملك في قضيته بنفسه ، ويعلن براءته على رءوس الأشهاد ...

وبعد أن استجاب الملك لطلب يوسف ، وثبتت براءته ـ عليه‌السلام ـ حضر معززا مكرما وقال للملك بعزة وإباء : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).

استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى هذا المشهد بأسلوبها الزاخر بالمحاورات والمفاجآت ، فتقول : (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ ، وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ ، يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ* قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ* وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ* يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ* قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ...).

وينتهى هذا المشهد ببيان سنة من سنن الله ـ تعالى ـ التي لا تتخلف ، والتي تتمثل في حسن عاقبة المؤمنين حيث يقول ـ سبحانه ـ : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ ، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ).

(ز) ثم تنتقل السورة الكريمة في القسم السابع (١) منها إلى الحديث عن اللقاء الأول الذي تم بين يوسف وإخوته ، بعد أن حضروا من بلادهم بفلسطين إلى مصر يلتمسون الزاد والطعام ... وكيف أنه عرفهم دون أن يعرفوه .. وكيف أنه ـ عليه‌السلام ـ طلب منهم بعد أن أكرمهم أن يحضروا إليه من بلادهم ومعهم أخوهم من أبيهم ـ وهو شقيقه «بنيامين».

وكيف أن أباهم وافق على إرسال «بنيامين» معهم بعد أن أخذ عليهم العهود والمواثيق لكي يحافظوا عليه ..

استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى كل ذلك فتقول : (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ* وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ، أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ* فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ* قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ* وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ

__________________

(١) الآيات من ٥٨ ـ ٦٨.

٣٠٣

لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ* فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ* قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ، فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ...).

(ح) ثم حدثتنا السورة الكريمة في القسم الثامن (١) منها عن اللقاء الثاني الذي تم بين يوسف وإخوته ، بعد أن حضروا إليه في هذه المرة ومعهم «بنيامين» شقيق يوسف ، وكيف قام يوسف بالتعرف عليه ، ثم كيف احتجزه عنده بحيلة دبرها بإلهام من الله ـ تعالى ـ وكيف رد على إخوته الذين طلبوا منه أن يأخذ أحدهم مكان «بنيامين» ...

وماذا قال «يعقوب» ـ عليه‌السلام ـ بعد أن عاد إليه أبناؤه ، وليس معهم «بنيامين».

استمع الى السورة الكريمة وهي تحكى كل هذه المشاهد والأحداث فتقول :

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ، ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ* قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ* قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ* قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ* قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ* قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ* فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ ، كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ، ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ...).

وينتهى هذا القسم بقول يعقوب ـ عليه‌السلام ـ لأبنائه بعد أن عادوا إليه وليس معهم أخوهم بنيامين : (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ* قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ. قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ. يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ).

(ط) ثم حدثتنا السورة الكريمة بعد ذلك في القسم التاسع (٢) منها عن اللقاء الثالث والأخير بين يوسف وإخوته ، فحكت لنا أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ كشف لإخوته عن نفسه في هذا اللقاء. وأمرهم بأن يذهبوا بقميصه ليلقوا به على وجه أبيه ... كما أمرهم أن يعودوا إليه ومعهم جميع أهلهم.

__________________

(١) الآيات من ٦٩ ـ ٨٧.

(٢) الآيات من ٨٨ ـ ١٠١.

٣٠٤

كما حكت لنا لقاء يوسف بأبويه ، وإكرامه لهما ، وشكره لله ـ تعالى ـ على ما وهبه من نعم ..

قال ـ تعالى ـ حاكيا ما دار بين يوسف وإخوته ، وبين يوسف وأبيه في هذا اللقاء : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ، فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ* قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ* قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً. وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ..).

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ).

ثم ختم ـ سبحانه ـ قصة يوسف بهذا الدعاء الذي حكاه ـ سبحانه ـ عنه في قوله : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).

(ى) أما القسم العاشر (١) والأخير من السورة الكريمة ، فقد كان تعقيبا على ما جاء في تلك القصة من حكم وأحكام ، ومن عبر وعظات ، ومن آداب وهدايات ...

وقد بين ـ سبحانه ـ في هذا القسم ما يدل على أن القرآن من عند الله ، وما يشهد بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه ..

كما بين ـ سبحانه ـ وظيفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وموقف المشركين من دعوته وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بدعا من الرسل وأن العاقبة ستكون له ولأتباعه المؤمنين.

قال تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ* وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ* وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ* وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ* وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ...).

ثم يختتم ـ سبحانه ـ هذه السورة الكريمة بقوله : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

__________________

(١) الآيات من ١٠٢ ـ ١١١.

٣٠٥

٦ ـ هذا عرض مجمل لأهم الموضوعات التي اشتملت عليها سورة يوسف ـ عليه‌السلام ـ ومن هذا العرض نرى أن السورة الكريمة قد اهتمت بأمور من أهمها ما يأتى :

(أ) إبراز الحقائق والهدايات ، بأسلوب المحاورات والمجادلات والمناقشات ... ومن مظاهر ذلك :

المحاورات التي دارت حول إخوة يوسف في شأن الانتقام منه ، والتي منها قوله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ* إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ، وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ* قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ).

والمحاورات التي دارت بينهم وبين أبيهم في شأن اصطحابهم ليوسف ، والتي منها قوله ـ تعالى ـ : (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ* أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ* قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ* قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ).

والمحاورات التي دارت بين يوسف وإخوته ، بعد أن عرفهم وهم له منكرون ، وبعد أن ترددوا عليه ثلاث مرات للحصول على حاجتهم من الزاد ... والتي منها قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ، فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ. قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ* قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ، قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا ، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ* قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

وهكذا نجد السورة الكريمة زاخرة بأسلوب المحاورات والمناقشات والمجادلات. تارة بين يوسف وإخوته ، وتارة بين إخوته فيما بينهم ، وتارة بينهم وبين أبيهم ، وتارة بين يوسف وامرأة العزيز ، وتارة بينه وبين ملك مصر في ذلك الوقت.

وهذه المحاورات التي حفلت بها السورة الكريمة ، قد أكسبتها لونا من العرض المشوق ، الذي يجعل القارئ لها يتعجل حفظ كل موضوع من موضوعاتها ، ليصل الى الموضوع الذي يليه.

وهذا الأسلوب في عرض الحقائق من أسمى الأساليب التي تعين القارئ على حفظ القرآن الكريم ، وعلى تدبر معانيه ، وعلى الانتفاع بهداياته ..

٣٠٦

(ب) إبرازها لجوهر الأحداث ولبابها .. أما تفاصيل هذه الأحداث. فتركت معرفتها لفهم القارئ وفطنته ، وسلامة تفكيره ، وحسن تدبره لكلام الله ـ تعالى ـ ..

وهذا اللون من العرض للأحداث ، يسمى في عرف البلغاء ، بأسلوب الإيجاز بالحذف والقارئ لهذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، يراها على رأس السور القرآنية التي كثر فيها هذا الأسلوب البليغ.

فمثلا قوله ـ تعالى ـ : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ، قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ...) معطوف على كلام محذوف يفهم من السياق.

والتقدير : وبعد أن ألقى إخوة يوسف به في الجب وانصرفوا لشئونهم «جاءوا على قميصه بدم كذب» لكي يخدعوا أباهم ، فلما أخبروه بأن الذئب قد أكله قال : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ...).

وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ...) مترتب على كلام محذوف يفهم من سياق الآيات.

والتقدير : وبعد أن سمع ما قالته النسوة بشأنه عند ما دخل عليهن بأمر من امرأة العزيز ، وسمع تهديد هذه المرأة له بقولها : (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ).

بعد أن سمع يوسف كل ذلك ، وتيقن من مكرهن به ، لجأ إلى ربه مستجيرا به من كيدهن فقال : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ...).

وأيضا قوله ـ تعالى ـ : (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ* يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ ...). يعتبر من بديع أسلوب الإيجاز بالحذف ، إذ تقدير الكلام :

وبعد أن عجز الملأ عن تفسير رؤيا الملك ، وقالوا له : إن رؤياك أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ، قال الذي نجا منهما ، أى : من صاحبي يوسف في السجن وهو الساقي (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أى وتذكر بعد نسيان طويل (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) إلى من عنده تفسير هذه الرؤيا تفسيرا صحيحا ـ وهو يوسف ـ فاستجابوا له وأرسلوه إلى يوسف ، فذهب إليه في السجن ، فلما دخل عليه قال له : يا يوسف يا أيها الصديق ، أفتنا في سبع بقرات سمان ... إلخ.

وهذا الأسلوب الذي زخرت به السورة الكريمة ، وهو أسلوب الإيجاز بالحذف ، من شأنه

٣٠٧

أنه ينشط العقول ، ويبعثها على التأمل والتدبر فيما تقرؤه ، ويعينها على الاتعاظ والاعتبار ..

وهو أسلوب أيضا تقتضيه هذه السورة الكريمة ، لأنها تتحدث عن قصة نبي من أنبياء الله ـ تعالى ـ. والحديث عن ذلك يستلزم إبراز جوهر الأحداث ولبابها ، لا إبراز تفاصيلها وما لا فائدة من ذكره.

فاشتمال السورة الكريمة على هذا الأسلوب البليغ ، هو من باب رعاية الكلام لمقتضى الحال ، وهو أصل البلاغة وركنها الركين.

(ج) السورة الكريمة اهتمت اهتماما واضحا بشرح أحوال النفس البشرية وتحليل ما يصدر عنها في حال رضاها وغضبها ، وفي حال صلاحها وانحرافها ، وفي حال غناها وفقرها ، وفي حال عسرها ويسرها ، وفي حال صفائها وحقدها ..

وقد حدثتنا عن الشخصيات التي وردت فيها حديثا صادقا أمينا ، كشفت لنا فيه عن جوانب متعددة من أخلاقهم ، وسلوكهم ، وميولهم ، وأفكارهم ... وأعطت كل واحد منهم حقه في الحديث عنه.

(ا) فيوسف ـ عليه‌السلام ـ وهو الشخصية الرئيسية في القصة ـ حدثتنا عنه حديثا مستفيضا نستطيع من خلاله ، أن نرى له ـ عليه‌السلام ـ مناقب ومزايا متنوعة من أهمها ما يأتى :

١ ـ امتلاكه لنفسه ولشهوته مهما كانت المغريات ، بسبب خوفه لمقام ربه ، ونهيه لنفسه عن الهوى ...

ولا أدل على ذلك من قوله ـ تعالى ـ : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ ، قالَ مَعاذَ اللهِ ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ..).

قال الشيخ القاسمى : قال الإمام ابن القيم ما ملخصه : «لقد كانت دواعي متعددة تدعو يوسف إلى الاستجابة لطلب امرأة العزيز منها : ما ركبه الله في طبع الرجل من ميله إلى المرأة ...

ومنها : أنه كان شابا غير متزوج .. ومنها : أنها كانت ذات منصب وجمال .. وأنها كانت غير آبية ولا ممتنعة ... بل هي التي طلبت وأرادت وبذلت الجهد ..

ومنها : أنه كان في دارها وتحت سلطانها .. فلا يخشى أن تنم عليه ..

ومنها : أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال فأرته إياهن ، وشكت حالها إليهن ...

ومنها : أنها توعدته بالسجن والصغار إن لم يفعل ما تأمره به ..

ومنها : أن الزوج لم يظهر من الغيرة والقوة ما يجعله يفرق بينه وبينها ...

٣٠٨

ومع كل هذه الدواعي ، فقد آثر يوسف مرضاة الله ومراقبته ، وحمله خوفه من خالقه على أن يختار السجن على ارتكاب ما يغضبه ...» (١).

٢ ـ صبره الجميل على المحن والبلايا ، ولجوؤه إلى ربه ليستجير به من كيد امرأة العزيز وصواحبها : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ..).

٣ ـ نشره للدين الحق ، ودعوته لعبادة الله وحده ، حتى وهو بين جدران السجن ، فهو القائل لمن معه في السجن : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ ، أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ* ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ...).

٤ ـ حسن تدبيره للأمور ، وتوصله إلى ما يريده بأحكم الأساليب ، وحرصه الشديد على إنقاذ الأمة مما يضرها ويعرضها للهلاك ، (قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ..).

٥ ـ عزة نفسه ، وسمو خلقه ، فقد أبى أن يذهب لمقابلة الملك إلا بعد إعلان براءته (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ، فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ..).

٦ ـ تحدثه بنعمة الله ، ومعرفته لنفسه قدرها ، وطلبه المنصب الذي يناسبه ، ويثق بقدرته على القيام بحقوقه (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).

٧ ـ ذكاؤه وفطنته ، فقد تعرف على إخوته مع طول فراقه لهم : (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ...).

٨ ـ عفوه وصفحه عمن أساء إليه (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ..).

٩ ـ وفاؤه لأسرته ولعشيرته (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ).

١٠ ـ شكر الله ـ تعالى ـ على نعمه ومننه (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ٩ ص ٣٥٥٥.

٣٠٩

هذا جانب من حديث السورة الكريمة عن يوسف ـ عليه‌السلام ـ ، وهو حديث يدل على أنه كان في الذروة العليا من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ..

(د) وتحدثت السورة الكريمة عن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ فذكرت من بين ما ذكرت عنه ، صفات الصبر الجميل ، والأمل في رحمة الله مهما اشتدت الخطوب ، والحرص على سلامة أبنائه من كل ما يؤذيهم حتى ولو أساءوا إليه ، والنظر إلى الأمور بعين تختلف عن عيون أبنائه ، والحكم عليها بحكم يختلف عن أحكامهم ...

يدل على ذلك قوله ـ تعالى ـ (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ).

وقوله ـ تعالى ـ : (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ...).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ...).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ. قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ. فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

(ه) وتحدثت عن إخوة يوسف حديثا مستفيضا ، تبدو فيه غيرتهم من يوسف ، وحسدهم له ، وتآمرهم على حياته ، وحقدهم عليه حتى وهو بعيد عنهم ... ثم ندمهم في النهاية على ما فرط منهم في حقه بعد أن مكن الله له في الأرض ...

نرى ذلك في مثل قوله ـ تعالى ـ : (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ..).

وفي قوله : (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ).

وفي قوله ـ سبحانه ـ : (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ...).

وفي قوله ـ تعالى ـ : (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ).

(و) وتحدثت عن امرأة العزيز حديثا يكشف عن حال المرأة عند ما تحب .. وكيف أنها في سبيل الحصول على رغبتها تحطم كل الموانع النفسية والاجتماعية ... وتستخدم كل الوسائل التي تظن أنها ستوصلها إلى مرادها. حتى ولو كانت هذه الوسائل تخالف ما عرف عن المرأة من أنها حريصة على أن تكون مطلوبة من الرجل لا طالبة له ..

٣١٠

(ز) وتحدثت عن العزيز حديثا قصيرا يناسب حجمه وسلوكه وتبلد شعوره ، فهو مع إيقانه بخطإ امرأته لم يزد على أن قال ليوسف ولها (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ).

(ح) وتحدثت عن ملك مصر في ذلك الوقت ... وعن البيئة التي وصل الحال بها أن تزج بيوسف البريء في السجن ، إرضاء لشهوات النفوس الجامحة ...

قال ـ تعالى ـ : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ).

وهكذا نجد السورة الكريمة تحدثنا عن نماذج من البشر ، فتصف كل نموذج بما يناسبه من صفات ، بصدق وأمانة ، وتحكم عليه بالحكم الذي يناسبه.

قال صاحب الظلال ما ملخصه : والسورة كلها لحمة واحدة عليها الطابع المكي واضحا في موضوعها وفي جوها وفي ظلالها وإيحاءاتها ، بل إن عليها طابع هذه الفترة الحرجة الموحشة بصفة خاصة ...

ففي الوقت الذي كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعانى من الوحشة والغربة والانقطاع في جاهلية قريش ـ منذ عام الحزن ـ كان الله ـ تعالى ـ يقص عليه قصة أخ له كريم هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وهو يعانى صنوفا من المحن والابتلاءات ..

محنة كيد الإخوة ، ومحنة الجب ، ومحنة الرق ، ومحنة كيد امرأة العزيز ، ومحنة السجن ، ثم محنة الرخاء والجاه والسلطان ..

فلا عجب أن تكون هذه السورة بما احتوته من قصة ذلك النبي الكريم ، ومن التعقيبات عليها بعد ذلك ... تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه عما أصابهم من أعدائهم ، وتسرية لقلوبهم وتطمينا لنفوسهم.

ولكأن الله ـ تعالى ـ يقول لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كما أخرج يوسف من حضن أبيه ليواجه هذه الابتلاءات كلها ، ثم لينتهى بعد ذلك إلى النصر والتمكين ..

كذلك أنت يا محمد ستخرج من بلدك مكة مهاجرا ... ثم تعود إليها في الوقت الذي يشاؤه الله ظافرا منتصرا (١).

__________________

(١) تفسير «في ظلال القرآن» ج ١٢ ص ١٩٥٠.

٣١١

وبعد : فهذا تعريف لسورة يوسف ، رأينا أن نسوقه قبل البدء في تفسيرها ، لعله يعين على فهم ما اشتملت عليه من حكم وأحكام. ومن عبر وعظات ..

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

د. محمد سيد طنطاوى

٣١٢

«التفسير»

قال الله تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٦)

افتتحت سورة يوسف ـ عليه‌السلام ـ ببعض الحروف المقطعة. وقد سبق أن تكلمنا عن آراء العلماء في هذه الحروف في سورة البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس ، وهود.

وقلنا ما ملخصه : لعل أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت في افتتاح بعض السور على سبيل الإيقاظ والتنبيه إلى إعجاز القرآن الكريم.

فكأن الله ـ تعالى ـ يقول لأولئك المعارضين في أن القرآن من عند الله ـ تعالى ـ : هاكم

٣١٣

القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم .. فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكي يعاونكم في ذلك.

ومما يشهد لصحة هذا الرأى : أن الآيات التي تلى هذه الحروف المقطعة تراها تتحدث ـ صراحة أو ضمنا ـ عن القرآن الكريم وعن كونه من عند الله ـ تعالى ـ وعن كونه معجزة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففي مطلع سورة البقرة : (الم ، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ...).

وفي مطلع سورة آل عمران : (الم ، اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ..).

وفي أول سورة الأعراف : (المص. كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ..).

وفي أول سورة يونس : (الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ...).

وفي أول سورة هود : (الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ...).

وهكذا نجد أن معظم الآيات التي تلى الحروف المقطعة ، منها ما يتحدث عن أن هذا الكتاب من عند الله ـ سبحانه ـ ومنها ما يتحدث عن وحدانية الله ـ تعالى ـ ، ومنها ما يتحدث عن صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوته ..

وهذا كله لتنبيه الغافلين إلى أن هذا القرآن من عند الله ، وأنه المعجزة الخالدة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم قال ـ تعالى ـ : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ).

و «تلك» اسم إشارة ، المشار إليه الآيات ، والمراد بها آيات القرآن الكريم ويندرج فيها آيات السورة التي معنا.

والكتاب : مصدر كتب كالكتب. وأصل الكتب ضم أديم الى آخر بالخياطة. واستعمل عرفا في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط ، والمراد به القرآن الكريم.

والمبين : أى الواضح الظاهر من أبان بمعنى بان أى ظهر.

٣١٤

والمعنى : تلك الآيات التي نتلوها عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ في هذه السورة وفي غيرها ، هي آيات الكتاب الظاهر أمره ، الواضح إعجازه ، بحيث لا تشتبه على العقلاء حقائقه ، ولا تلتبس عليهم هداياته.

وصحت الإشارة إلى آيات الكتاب الكريم ، مع أنها لم تكن قد نزلت جميعها ، لأن الإشارة إلى بعضها كالإشارة إلى جميعها ، حيث كانت بصدد الإنزال ، ولأن الله ـ تعالى ـ قد وعد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنزول القرآن عليه ، كما في قوله (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) ووعد الله ـ تعالى ـ لا يتخلف.

ثم بين ـ سبحانه ـ الحكمة من إنزاله بلسان عربي مبين فقال : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

أى : إنا أنزلنا هذا الكتاب الكريم على نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلسان عربي مبين ، لعلكم أيها المكلفون بالإيمان به ، تعقلون معانيه ، وتفهمون ألفاظه ، وتنتفعون بهداياته ، وتدركون أنه ليس من كلام البشر ، وإنما هو كلام خالق القوى والقدر وهو الله ـ عزوجل ـ.

فالضمير في «أنزلناه» يعود إلى الكتاب ، وقرآنا حال من هذا الضمير أو بدلا منه.

والتأكيد بحرف إن متوجه إلى خبرها وهو أنزلناه ، للرد على أولئك المشركين الذين أنكروا أن يكون هذا القرآن من عند الله.

وجملة (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) بيان لحكمة إنزاله بلغة العرب وحذف مفعول «تعقلون» للإشارة إلى أن نزوله بهذه الطريقة ، يترتب عليه حصول تعقل أشياء كثيرة لا يحصيها العد.

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات ، وأبينها وأوسعها ، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس ، فلهذا أنزل أشرف الكتب ، بأشرف اللغات ، على أشرف الرسل ، بسفارة أشرف الملائكة ، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض ، وفي أشرف شهور السنة ، فكمل له الشرف من كل الوجوه» (١).

وقال الجمل : «واختلف العلماء هل يمكن أن يقال : في القرآن شيء غير عربي.

قال أبو عبيدة : من قال بأن في القرآن شيء غير عربي فقد أعظم على الله القول. واحتج بهذه الآية.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٩٣. طبعة دار الشعب.

٣١٥

وروى عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة بأن فيه من غير العربي مثل : سجيل ، والمشكاة ، واليم ، وإستبرق ونحو ذلك.

وهذا هو الصحيح المختار ، لأن هؤلاء أعلم من أبى عبيدة بلسان العرب ، وكلا القولين صواب ـ إن شاء الله ـ.

ووجه الجمع بينهما أن هذه الألفاظ لما تكلمت بها العرب ، ودارت على ألسنتهم صارت عربية فصيحة ، وإن كانت غير عربية في الأصل ، لكنهم لما تكلموا بها نسبت إليهم ، وصارت لهم لغة ، فظهر بهذا البيان صحة القولين ، وأمكن الجمع بينهما» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هذا القرآن مشتمل على أحسن القصص وأحكمها وأصدقها فقال ـ تعالى ـ : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ، بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ).

قال الفخر الرازي ما ملخصه : «القصص : اتباع الخبر بعضه بعضا ، وأصله في اللغة المتابعة قال ـ تعالى ـ (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ..) أى اتبعى أثره. وقال ـ تعالى ـ : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) أى : اتباعا. وإنما سميت الحكاية قصصا ، لأن الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئا فشيئا ، كما يقال : «تلا فلان القرآن ، أى قرأه آية فآية» (٢).

والمعنى : نحن نقص عليك ـ أيها الرسول الكريم «أحسن القصص» أى : أحسن أنواع البيان ، وأوفاه بالغرض الذي سيق من أجله.

وإنما كان قصص القرآن أحسن القصص ، لاشتماله على أصدق الأخبار ، وأبلغ الأساليب ، وأجمعها للحكم والعبر والعظات.

والباء في قوله (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) للسببية متعلقة بنقص ، وما مصدرية.

أى : نقص عليك أحسن القصص ، بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والذي هو في الذروة العليا في بلاغته وتأثيره في النفوس.

وجملة (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) في موضع الحال من كاف الخطاب في (إِلَيْكَ) و «وإن» مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٤٣٢.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٨ ص ٨٥.

٣١٦

والضمير في قوله (مِنْ قَبْلِهِ) يعود إلى الإيحاء المفهوم من قوله (أَوْحَيْنا).

والمعنى : نحن نقص عليك أحسن القصص بسبب ما أوحيناه إليك من هذا القرآن. والحال أنك كنت قبل إيحائنا إليك بهذا القرآن ، من الغافلين عن تفاصيل هذا القصص ، وعن دقائق أخباره وأحداثه ، شأنك في ذلك شأن قومك الأميين.

قال تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ).

ثم حكى ـ سبحانه ـ قصة يوسف ـ عليه‌السلام ـ كمثال لأحسن القصص فقال ـ تعالى ـ (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ).

و (إِذْ) ظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر.

ويوسف : اسم أعجمى ، مشتق ـ كما يقول الآلوسى ـ من الأسف ، وسمى به لأسف أبيه عليه. وأبوه : هو يعقب بن إسحاق بن إبراهيم. وفي الحديث الصحيح عن ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

وقوله : (يا أَبَتِ) أصله يا أبى ، فحذفت الياء وعوض عنها تاء التأنيث ، ونقلت إليها كسرة الباء ، ثم فتحت الباء لمناسبة تاء التأنيث.

والمعنى : اذكر ـ أيها الرسول الكريم أو أيها المخاطب ـ وقت أن قال يوسف لأبيه ، يا أبت إنى رأيت في منامي (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) تسجد لي ، ورأيت كذلك (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لي (ساجِدِينَ).

ولم يدرج الشمس والقمر في الكواكب مع أنهما منها ، لإظهار مزيتهما ورفعا لشأنهما ، وجملة (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) مستأنفة لبيان الحالة التي رآهم عليها.

وأجريت هذه الكواكب مجرى العقلاء في الضمير المختص بها ، لوصفها بوصفهم حيث إن السجود من صفات العقلاء ، والعرب تجمع مالا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته.

قال ابن كثير : «وقد تكلم المفسرون على تعبير هذا المنام : أن الأحد عشر كوكبا عبارة عن إخوته ، وكانوا أحد عشر رجلا ، والشمس والقمر عبارة عن أبيه وأمه.

روى هذا عن ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة وسفيان الثوري ، وعبد الرحمن بن زيد ، وقد وقع تفسيرها بعد أربعين سنة ، وقيل بعد ثمانين سنة ، وذلك حين رفع أبويه على العرش ،

٣١٧

وهو سريره. وإخوته بين يديه ... وخروا له سجدا وقال : يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل ، قد جعلها ربي حقا ...» (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما قاله يعقوب لابنه يوسف بعد أن قص عليه رؤياه فقال : (قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً ، إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

وقوله (يا بُنَيَ) تصغير ابن. والتصغير هنا سببه صغر سنه مع الشفقة عليه ، والتلطيف معه.

وقوله (رُؤْياكَ) من الرؤيا التي هي مصدر رأى العلمية الدالة على ما وقع للإنسان في نومه ، أما رأى البصرية فيقال في مصدرها الرؤية.

وقوله «فيكيدوا لك ..» من الكيد وهو الاحتيال الخفى بقصد الإضرار والفعل كاد يتعدى بنفسه ، فيقال : كاده يكيده كيدا ، إذا احتال لإهلاكه. ولتضمنه معنى احتال عدى باللام.

والمعنى : قال يعقوب لابنه يوسف ـ عليهما‌السلام ـ بشفقة ورحمة ، بعد أن سمع منه ما رآه في منامه : «يا بنى» لا تخبر إخوتك بما رأيته في منامك فإنك إن أخبرتهم بذلك احتالوا لإهلاكك احتيالا خفيا ، لا قدرة لك على مقاومته أو دفعه ..

وإنما قال له ذلك ، لأن هذه الرؤيا تدل على أن الله ـ تعالى ـ سيعطى يوسف من فضله عطاء عظيما. ويهبه منصبا جليلا ، ومن شأن صاحب النعمة أن يكون محسودا من كثير من الناس ، فخاف يعقوب من حسد إخوة يوسف له ، إذا ما قص عليهم رؤياه ، ومن عدوانهم عليه.

والتنوين في قوله «كيدا» للتعظيم والتهويل ، زيادة في تحذيره من قص الرؤيا عليهم.

وجملة «إن الشيطان للإنسان عدو مبين» واقعة موقع التعليل للنهى عن قص الرؤيا على إخوته ، وفيها إشارة إلى أن الشيطان هو الذي يغريهم بالكيد له إذا ما قص عليهم ما رآه ، وهو بذلك لا يثير في نفسه الكراهة لإخوته.

أى : لا تخبر إخوتك بما رأيته في منامك ، فيحتالوا للإضرار بك حسدا منهم لك ، وهذا الحسد يغرسه الشيطان في نفوس الناس ، لتتولد بينهم العداوة والبغضاء ، فيفرح هو بذلك ، إذ كل قبيح يقوله أو يفعله الناس يفرح له الشيطان.

هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية أحكاما منها :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٩٨.

٣١٨

أنه يجوز للإنسان في بعض الأوقات أن يخفى بعض النعم التي أنعم الله بها عليه ، خشية حسد الحاسدين ، أو عدوان المعتدين.

وأن الرؤيا الصادقة حالة يكرم الله بها بعض عباده الذين زكت نفوسهم فيكشف لهم عما يريد أن يطلعهم عليه قبل وقوعه. ومن الأحاديث التي وردت في فضل الرؤيا الصالحة ما رواه البخاري عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ أنها قالت : «أول ما بدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحى الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ..».

وفي حديث آخر : «الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح ، جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة».

وفي حديث ثالث : «لم يبق من النبوة إلا المبشرات ، وهي الرؤيا الصالحة للرجل الصالح ، يراها أو ترى له» (١).

كذلك أخذ جمهور العلماء من هذه الآية أن إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء.

قال الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : «والظاهر أن القوم ـ أى إخوة يوسف ـ كانوا بحيث يمكن أن يكون للشيطان عليهم سبيل ، ويؤيد هذا أنهم لم يكونوا أنبياء (٢).

وهذا ما عليه الأكثرون سلفا وخلفا. أما السلف فإنه لم ينقل عن أحد من الصحابة أو التابعين أنه قال بنبوتهم.

وأما الخلف فكثير منهم نفى عنهم أن يكونوا أنبياء ، وعلى رأى من قال بذلك الإمام ابن تيمية ، في مؤلف له خاص بهذه المسألة ، وقد قال فيه :

الذي يدل عليه القرآن واللغة والاعتبار ، أن إخوة يوسف ليسوا بأنبياء ، وليس في القرآن ولا في السنة ما يشير إلى أنهم كانوا أنبياء ...».

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما توقعه يعقوب لابنه يوسف من خير وبركة فقال :

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ ، كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ ، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

والكاف في قوله (وَكَذلِكَ) حرف تشبيه بمعنى مثل ، وهي داخلة على كلام محذوف.

__________________

(١) لمعرفة المزيد عن الرؤيا المنامية راجع تفسير القاسمى ج ٩ ص ٣٥٠٨.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٦٤.

٣١٩

وقوله (يَجْتَبِيكَ) من الاجتباء بمعنى الاصطفاء والاختيار ، مأخوذ من جبيت الشيء إذا اخترته لما فيه من النفع والخير.

و (تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) معناه تفسيرها تفسيرا صحيحا ، إذ التأويل مأخوذ من الأول بمعنى الرجوع ، وهو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه.

والأحاديث جمع تكسير مفردة حديث ، وسميت الرؤى أحاديث باعتبار حكايتها والتحدث بها.

والمعنى : وكما اجتباك ربك واختارك لهذه الرؤيا الحسنة ، فإنه ـ سبحانه ـ يجتبيك ويختارك لأمور عظام في مستقبل الأيام ، حيث يهبك من صدق الحسّ ، ونفاذ البصيرة ، ما يجعلك تدرك الأحاديث إدراكا سليما ، وتعبر الرؤى تعبيرا صحيحا صادقا.

«ويتم نعمته عليك» بالنبوة والرسالة والملك والرياسة «وعلى آل يعقوب» وهم إخوته وذريتهم ، بأن يسبغ عليهم الكثير من نعمه.

(كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أى : من قبل هذه الرؤيا أو من قبل هذا الوقت.

وقوله «إبراهيم وإسحاق» بيان لأبويه.

أى : يتم نعمته عليك إتماما كائنا كإتمام نعمته على أبويك من قبل ، وهما إبراهيم وإسحاق بأن وهبهما ـ سبحانه ـ النبوة والرسالة.

وعبر عنهما بأنهما أبوان ليوسف ، مع أن إبراهيم جد أبيه ، وإسحاق جده ، للإشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء عليهم‌السلام ـ ، وللمبالغة في إدخال السرور على قلبه ، ولأن هذا الاستعمال مألوف في لغة العرب ، فقد كان أهل مكة يقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا ابن عبد المطلب ، وأثر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : أنا النبي لا كذب ـ أنا ابن عبد المطلب. وجملة «إن ربك عليم حكيم» مستأنفة لتأكيد ما سبقها من كلام.

أى : إن ربك عليم بمن يصطفيه لحمل رسالته ، وبمن هو أهل لنعمه وكرامته ، حكيم في صنعه وتصرفاته.

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد نوهت بشأن القرآن الكريم ، وساقت بأسلوب حكيم ما قاله يعقوب لابنه يوسف ـ عليهما‌السلام ـ بعد أن قص ما رآه في المنام.

* * *

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك حالة إخوة يوسف وهم يتآمرون عليه ، وحالتهم وهم يجادلون أباهم في شأنه. وحالتهم وهم ينفذون مؤامراتهم المنكرة وحالتهم بعد أن نفذوها وعادوا

٣٢٠