التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

لأصنامهم إنما هي تقليد لما كان يعبده آباؤهم من قبل ، وهذه العبادة لغير الله ـ تعالى ـ ستؤدى بالجميع إلى سوء العاقبة وإلى العذاب الأليم.

والخطاب وإن كان للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التسلية والتثبيت ، إلا أن التحذير فيه يندرج تحته كل من يصلح للخطاب.

وهذا الأسلوب كثيرا ما يكون أوقع في النفس ، وأشد تأثيرا في القلب ، لأنه يشعر المخاطب بأن ما بينه الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما هو من قبيل القضايا الموضوعية التي لا تحتاج إلى جدال مع أحد ، ومن جادل فيها فإنما يجادل في الحق الواضح بدافع الحسد والعناد ، لأن الواقع يشهد بصحة ما بينه الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وجملة (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) مستأنفة ، لبيان أن الخلف قد ساروا في الجهالة والجحود على طريقة السلف.

وعبر عن عبادة الآباء بالمضارع ، مع أنها كانت في الماضي بقرينة (مِنْ قَبْلُ). للدلالة على استمرارهم على هذه العبادة الباطلة حتى موتهم ، وأن أبناءهم لم ينقطعوا عنها ، بل واصلوا السير على طريق آبائهم الضالين بدون تفكر أو تدبر.

والمضاف إليه في قوله (مِنْ قَبْلُ) محذوف ، والتقدير : من قبلهم.

وقوله (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) تذييل قصد به تأكيد العقاب الذي ينزل بهم في الآخرة بسبب عبادتهم لغير الله.

وموفوهم من التوفية ، وهي إعطاء الشيء كاملا بدون نقص.

والمراد بالنصيب هنا : المقدار المعد لهم من العذاب ، وسماه نصيبا على سبيل التهكم بهم.

أى : وإنا لمعطو هؤلاء الذين نهجوا منهج آبائهم في عبادة غير الله ، نصيبهم وحظهم من عذاب الآخرة كاملا بدون إنقاص شيء منه ، كما ساروا هم على طريقة سلفهم في الضلال دون أن يغيروا شيئا منها ...

ومنهم من جعل المراد بالنصيب هنا : ما يشمل الجزاء على الأعمال الدنيوية والأخروية.

قال صاحب المنار : أى ، وإنا لمعطوهم نصيبهم من جزاء أعمالهم في الدنيا والآخرة وافيا تاما لا ينقص منه شيء ، كما وفينا آباءهم الأولين من قبل ، فإنه ما من خير يعمله أحد منهم كبرّ الوالدين وصلة الأرحام ... إلا ويوفيهم الله جزاءهم عليه في الدنيا بسعة الرزق ، وكشف الضر جزاء تاما ، لا ينقصه شيء يجزون عليه في الآخرة ...» (١).

__________________

(١) تفسير المنار ج ١٢ ص ١٦٢.

٢٨١

ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ، لأن سياق الآية الكريمة يؤيده إذ الكلام فيها في شأن جزاء الذين ساروا على نهج آبائهم في الضلال ، وليس في بيان الجزاء العام في الدنيا والآخرة.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن اختلاف الناس في الحق موجود قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ..).

أى : كما اختلف قومك ـ أيها الرسول الكريم ـ في شأن القرآن الكريم فمنهم من وصفه بأنه أساطير الأولين ، فقد اختلف قوم موسى من قبلك في شأن التوراة التي أنزلها الله على نبيهم موسى لهدايتهم ، إذ منهم من آمن بها ومنهم من كفر ...

ومادام الأمر كذلك ، فلا تحزن ـ أيها الرسول الكريم ـ لاختلاف قومك في شأن القرآن الكريم ، فإن هذا الاختلاف شأن الناس في كل زمان ومكان والمصيبة إذا عمت خفت.

فالجملة الكريمة تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من مشركي قومه.

وجاء الفعل (فَاخْتُلِفَ) بصيغة المبنى للمجهول ، لأن ذكر فاعل الاختلاف لا يتعلق به غرض ، وإنما الذي يتعلق به الغرض هو ما نجم عن هذا الاختلاف من كفر وضلال.

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر فضله ورحمته بخلقه فقال : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ...).

والمراد بالكلمة التي سبقت : تأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة ، وعدم إهلاكهم بعذاب الاستئصال في الدنيا.

قال الشوكانى : قوله ـ سبحانه ـ (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ...) أى : لولا أن الله ـ تعالى ـ قد حكم بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة لما علم في ذلك من الصلاح ، لقضى بينهم ، أى : بين قومك ، أو بين قوم موسى ، فيما كانوا فيه مختلفين ، فأثيب المحق وعذب المبطل ، أو الكلمة ؛ هي أن رحمته سبحانه سبقت غضبه ، فأمهلهم ولم يعاجلهم لذلك.

وقيل إن الكلمة هي أنهم لا يعذبون بعذاب الاستئصال ، وهذا من جملة التسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ).

والمريب اسم فاعل من أراب. يقال أربته فأنا أريبه إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة والحيرة.

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٢ ص ٥٢٩.

٢٨٢

أى : وإن هؤلاء المختلفين في شأن الكتاب لفي شك منه ، وهذا الشك قد أوقعهم في الريبة والتخبط والاضطراب.

وهذا شأن المعرضين عن الحق ، لا يجدون مجالا لنقده وإنكاره ، فيحملهم عنادهم وجحودهم على التشكيك فيه ، وتأويله تأويلا سقيما يدعو إلى الريبة والقلق.

وبعض المفسرين يرى عودة الضمير في قوله (وَإِنَّهُمْ) إلى قوم موسى ، وفي قوله (مِنْهُ) إلى كتابهم التوراة.

وبعضهم يرى عودة الضمير الأول إلى قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والثاني إلى القرآن الكريم.

والذي يبدو لنا أن الرأى الأول أظهر في معنى الآية ، لأن الكلام في موسى ـ عليه‌السلام وقومه الذين اختلفوا في شأن كتابهم التوراة اختلافا كبيرا ، وعود الضمير إلى المتكلم عنه أولى بالقبول.

وهذا لا يمنع أن بعض المكذبين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا في شك من القرآن ، أوقعهم هذا الشك في الريبة والحيرة.

فتكون الجملة الكريمة من باب التسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما قاله بعض المشركين في شأن القرآن الكريم.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هؤلاء المختلفين في شأن الكتاب ، الشاكين في صدقه ، سوف يجمعهم الله ـ تعالى ـ مع غيرهم يوم القيامة للجزاء والحساب على أعمالهم فقال ـ تعالى ـ (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

وقد وردت في هذه الآية الكريمة عدة قراءات متواترة (١) منها : قراءة ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم بتشديد ، إن ولما ، وقد قيل في تخريجها :

إن لفظ ، (كُلًّا) ، اسم (إِنَ) ، والتنوين فيه عوض عن المضاف إليه ، واللام في ، (لَمَّا) ، هي الداخلة في خبر (إِنَ) وما بعد اللام هو حرف «من» الذي هو من حروف الجر ، و «ما» موصولة أو نكره موصوفة والمراد بها من يعقل ، فيكون تقدير الكلام : وإن كلا «لمن ما» ، فقلبت النون ميما للإدعام فاجتمع ثلاث ميمات ، فحذفت واحدة منها للتخفيف ، فصارت «لما» والجار والمجرور خبر (إِنَ) ، واللام في (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) ، جواب قسم مضمر ، والجملة صلة أو صفة (لَمَّا).

والتقدير : وإن كلا من أولئك المختلفين وغيرهم لمن خلق الله الذين هم بحق ربك

__________________

(١) لمعرفة هذه القراءات راجع حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٤٢٦ وتفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٣٣.

٢٨٣

ليوفينهم ـ سبحانه ـ جزاء أعمالهم دون أن يفلت منهم أحد ، إنه ـ سبحانه ـ لا يخفى عليه شيء منها.

وفي الآية الكريمة توكيدات متنوعة ، حتى لا يشك في نزول العذاب بالظالمين مهما تأجل ، وحتى لا يشك أحد ـ أيضا ـ في أن ما عليه المشركون هو الباطل الذي لا يعرفه الحق ، وأنه الكفر الذي تلقاه الخلف عن السلف.

وكان مقتضى حال الدعوة الإسلامية في تلك الفترة التي نزلت فيها هذه السورة ـ وهي فترة ما بعد حادث الإسراء والمعراج وقبل الهجرة ـ يستلزم هذه التأكيدات تثبيتا لقلوب المؤمنين ، وتوهينا للشرك والمشركين.

قال الإمام الفخر الرازي عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : سمعت بعض الأفاضل قال : إنه ـ تعالى ـ لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ، ذكر فيها سبعة أنواع من التأكيدات :

أولها : كلمة «إن» وهي للتأكيد ، وثانيها كلمة «كل» وهي أيضا للتأكيد ، وثالثها : اللام الداخلة على خبر «إن» وهي تفيد التأكيد ـ أيضا ـ ، ورابعها حرف «ما» إذا جعلناه على قول الفراء موصولا ، وخامسها : القسم المضمر فإن تقدير الكلام : وإن جميعهم والله ليوفينهم : وسادسها : اللام الثانية الداخلة على جواب القسم ، وسابعها : النون المؤكدة في قوله «ليوفينهم».

فجميع هذه المؤكدات السبعة تدل على أن أمر القيامة والحساب والجزاء حق ...» (١).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه بالتزام الصراط المستقيم فقال ـ سبحانه ـ : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

والفاء للتفريع على ما تقدم من الأوامر والنواهي.

والاستقامة ـ كما يقول القرطبي ـ هي الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال ...» (٢).

والطغيان : مجاوزة الحد. ومنه طغى الماء ، أى ارتفع وتجاوز الحدود المناسبة.

والمعنى : لقد علمت ـ أيها الرسول الكريم ـ حال السعداء وحال الأشقياء ، وعرفت أن كل مكلف سيوفى جزاء أعماله.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٨ ص ٧٠.

(٢) تفسير القرطبي ج ٩ ص ١٣٦.

٢٨٤

وما دام الأمر كذلك فالزم أنت ومن معك من المؤمنين طريق الاستقامة على الحق ، وداوموا على ذلك كما أمركم الله ، بدون إفراط أو تفريط ، واحذروا ان تتجاوزوا حدود الاعتدال في كل أقوالكم وأعمالكم.

ووجه ـ سبحانه ـ الأمر بالاستقامة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنويها بشأنه ، وليبنى عليه قوله ـ (كَما أُمِرْتَ) ، فيشير بذلك إلى أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ هو وحده المتلقى للأوامر الشرعية من الله ـ تعالى ـ.

وقد جمع قوله ـ تعالى ـ (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أصول الإصلاح الديني وفروعه ، كما جمع قوله ـ تعالى ـ «ولا تطغوا» أصول النهى عن المفاسد وفروعه ، فكانت الآية الكريمة بذلك جامعة لإقامة المصالح ولدرء المفاسد.

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : يأمر الله ـ تعالى ـ رسوله وعباده المؤمنين في هذه الآية بالثبات والدوام على الاستقامة ، لأن ذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء ، وينهاهم عن الطغيان وهو البغي ، لأنه مصرعة حتى ولو كان على مشرك».

وقال الآلوسى : والاستقامة كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق.

أخرج ابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال ، لما نزلت هذه الآية قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم شمروا شمروا ، وما رؤي بعد ضاحكا».

وعن ابن عباس قال : ما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية أشد من هذه الآية ولا أشق» (١).

وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال : «قل آمنت بالله ثم استقم» (٢).

وجملة (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تعليل للأمر بالاستقامة وللنهى عن الطغيان.

أى : الزموا المنهج القويم ، وابتعدوا عن الطغيان ، لأنه ـ سبحانه ـ مطلع على أعمالكم اطلاع المبصر ، العليم بظواهرها وبواطنها ، وسيجازيكم يوم القيامة عليها بما تستحقون من ثواب أو عقاب.

ثم نهى ـ سبحانه ـ بعد ذلك عن الميل إلى الظالمين فقال : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٣٦.

(٢) تفسير القرطبي ج ٩ ص ١٠٧.

٢٨٥

والركون إلى الشيء : الميل إليه. يقال ركن فلان إلى فلان ، إذا مال إليه بقلبه ، واعتمد عليه في قضاء مصالحه.

والمراد بالذين ظلموا هنا : ما يتناول المشركين وغيرهم من الظالمين الذين يعتدون على حقوق الغير ، ويستحلون من محارم الله.

والمعنى : واحذروا ـ أيها المؤمنون ـ أن تميلوا إلى الظالمين ، أو تسكنوا إليهم ؛ لأن ذلك يؤدى إلى تقوية جانبهم. وإضعاف جانب الحق والعدل.

قال بعض العلماء : ويستثنى من ذلك للضرورة صحبة الظالم على التقية مع حرمة الميل القلبي إليه.

وقوله (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) أى فتصيبكم النار بسبب ميلكم إليهم ، والاعتماد عليهم ، والرضا بأفعالهم.

وقوله (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) في موضع الحال من ضمير (فَتَمَسَّكُمُ).

أى : والحال أنه ليس لكم من غير الله من نصراء ينصرونكم من العذاب النازل بكم ، بسبب ركونكم إلى الذين ظلموا ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم.

وثم في قوله (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) للتراخي الرتبى. أى ثم لا تجدون بعد ذلك من ينصركم بأى حال من الأحوال ، لأن الظالمين ما لهم من أنصار.

قال بعض العلماء : الآية أبلغ ما يتصور في النهى عن الظلم ، والتهديد عليه ، لأن هذا الوعيد الشديد إذا كان فيمن يركن إلى الذين ظلموا فكيف يكون حال من ينغمس في حمأته؟!!

ثم قال : وقد وسع العلماء في ذلك وشددوا ، والحق أن الحالات تختلف ، والأعمال بالنيات. والتفصيل أولى.

فإن كانت المخالطة لدفع منكر ، أو للاستعانة على إحقاق الحق ، أو الخير. فلا حرج في ذلك. وإن كانت لإيناسهم وإقرارهم على ظلمهم فلا ..» (١).

ثم أرشد ـ سبحانه ـ عباده المؤمنين إلى ما يعينهم على الاستقامة وعلى عدم الركون إلى الظالمين ، فقال : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ).

__________________

(١) تفسير القاسمى ـ بتصرف يسير ـ ج ٩ ص ٣٤٩١.

٢٨٦

والمراد بإقامتها الإتيان بها في أوقاتها كاملة الأركان والخشوع والإخلاص لله رب العالمين.

والمراد بالصلاة هنا : الصلاة المفروضة.

قال القرطبي : لم يختلف أحد من أهل التأويل في أن الصلاة في هذه الآية ، المراد بها الصلوات المفروضة. وخصها بالذكر لأنها ثانية أركان الإسلام ، وإليها يفزع في النوائب ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» (١).

وطرفي النهار : أى أول النهار وآخره ، لأن طرف الشيء منتهاه من أوله أو من آخره.

والنهار : يتناول ما بين مطلع الفجر إلى غروب الشمس. سمى بذلك لأن الضياء ينهر فيه أى يبرز كما يبرز النهر.

والصلاة التي تكون في هذين الوقتين ، تشمل صلاة الغداة وهي صلاة الصبح ، وصلاة العشى وهي صلاة الظهر والعصر ، لأن لفظ العشى يكون من الزوال إلى الغروب.

وقيل الصلاة التي تكون في هذين الوقتين هي صلاة الصبح والمغرب.

وقوله (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) معطوف على طرفي النهار.

والزلف جمع زلفة كغرف وغرفة ـ والمراد بها الساعات القريبة من آخر النهار ، إذ الإزلاف معناه القرب ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ...) أى : قربت منهم. وتقول أزلفنى فلان منه : أى قربني.

فمعنى (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) طائفة من أوله. وصلاة الزلف تطلق على صلاتي المغرب والعشاء قال ابن كثير ما ملخصه : وقوله (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) يعنى صلاة المغرب والعشاء. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هما زلفتا الليل : المغرب والعشاء».

ويحتمل أن تكون هذه الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء ، فإنه إنما كان يجب من الصلاة صلاتان : صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها ، وفي أثناء الليل قيام عليه وعلى الأمة ، ثم نسخ في حق الأمة ، وثبت وجوبه عليه ، ثم نسخ عنه أيضا في قول» (٢).

وجملة (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) مسوقة مساق التعليل للأمر بإقامة الصلاة ،

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ١٠٩.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٨٤.

٢٨٧

وأكدت بحرف (إِنَ) للاهتمام وتحقيق الخبر ، والحسنات صفة لموصوف محذوف ، وكذلك السيئات.

والمعنى : إن الأعمال الحسنة ـ كالصلاة والزكاة والصيام والحج ، والاستغفار ... يذهبن الأعمال السيئات ، أى يذهبن المؤاخذة عليها ، ويذهبن الاتجاه إليها ببركة المواظبة على الأعمال الحسنة.

والمراد بالسيئات هنا صغار الذنوب ، لقوله ـ تعالى ـ (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (١). ولقوله ـ تعالى ـ (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ ...) (٢) ، ولأن كبائر الذنوب لا تكفرها إلا التوبة الصادقة.

وقوله (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) أى : ذلك الذي أمرناك به من وجوب إقامة الصلاة ، ومن الاستقامة على أمر الله ... فيه التذكرة النافعة ، لمن كان شأنه التذكر والاعتبار ، لا الإعراض والعناد.

وهذه الآية الكريمة من الآيات التي قال عنها بعض المفسرين بأنها مدنية ، وقد ذكرنا في التمهيد بين بدى السورة ، أن سورة هود ترجح أنها كلها مكية ، وليس فيها آيات مدنية.

ومما يؤيد أن هذه الآية مكية أنها مسوقة مع ما سبقها من آيات لتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولإرشاده وأتباعه إلى ما يعينهم على الاستقامة ، وعدم الركون إلى الظالمين.

ولأن بعض الروايات التي وردت في شأنها لم تذكر أنها نزلت في المدينة ، بل ذكرت أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلاها على السائل ، ومن هذه الروايات ما رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير ـ وهذا لفظه ـ عن ابن مسعود قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إنى وجدت امرأة في بستان ، ففعلت بها كل شيء ، غير أنى لم أجامعها ، فافعل بي ما شئت ، فلم يقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ، فذهب الرجل ، فقال عمر : لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه ، فأتبعه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصره ثم قال : ردوه على فردوه عليه فقرأ عليه : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ...) الآية ، فقال معاذ ـ وفي رواية عمر ـ يا رسول الله ، أله وحده أم للناس كافة؟ فقال : بل للناس كافة» (٣).

__________________

(١) سورة النساء الآية ٣١.

(٢) سورة النجم الآية ٣٢.

(٣) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٨٦.

٢٨٨

والروايات التي ورد فيها فأنزل عليه هذه الآية ، في الإمكان أن تؤول أن المراد أنزل عليه شمول عموم الحسنات والسيئات لقضية السائل ، ولجميع ما يماثلها من إصابة الذنوب سوى الكبائر.

هذا ، ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه التوجيهات الحكيمة بقوله (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

أى : واصبر أيها الرسول الكريم أنت ومن معك من المؤمنين على مشاق التكاليف التي كلفكم الله ـ تعالى ـ بها ، فإنه ـ سبحانه ـ لا يضيع أجر من أحسن عملا ، بل موفى الصابرين أجرهم بغير حساب.

قال الآلوسى : ومن البلاغة القرآنية أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كانت عامة في المعنى ، والمناهي جمعت للأمة ، للدلالة على عظم منزلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ربه (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بهذه الآيات الدالة على سنن الله ـ تعالى ـ في خلقه ، وعلى الحكم التي من أجلها ساق الله ـ تعالى ـ تلك القصص في كتابه فقال ـ تعالى ـ :

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٤٣.

٢٨٩

لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١٢٣)

وقوله ـ تعالى ـ (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ ...) إرشاد إلى أن الأمم إذا خلت من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، حلت بها المصائب والنكبات ..

ولو لا : حرف تحضيض بمعنى هلا. والمقصود بالتحضيض هنا تحذير المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن يأتى بعدهم من الوقوع فيما وقع فيه أهل القرون الماضية من ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، حتى لا يصيب اللاحقين ما أصاب السابقين.

والقرون : جمع قرن ، والمراد به الأمة من الناس الذين يجمعهم زمان واحد ، والراجح أن القرن مائة عام.

و (أُولُوا بَقِيَّةٍ) أى : أصحاب مناقب حميدة ، وخصال كريمة ، وعقول راجحة ...

وأصل البقية : ما يصطفيه الإنسان لنفسه من أشياء نفيسة يدخرها لينتفع بها ، ومنه قولهم : فلان من بقية القوم ، أى : من خيارهم وأهل الفضل فيهم ، قال الشاعر :

إن تذنبوا ثم تأتينى بقيتكم

فما على بذنب منكم فوت

وفي الأمثال : في الزوايا خبايا ، وفي الرجال بقايا.

والفساد في الأرض : يشمل ما يكون فيها من المعاصي واختلال الأحوال وارتكاب المنكرات والبعد عن الصراط المستقيم.

والمعنى : فهلا وجد من أولئك الأقوام الذين كانوا من قبلكم ، رجال أصحاب خصال كريمة ، وعقول سليمة ، تجعلهم هذه الخصال وتلك العقول ينهون أنفسهم وغيرهم عن الإفساد

٢٩٠

في الأرض ، وعن انتهاك الحرمات؟.

كلا إنهم لم يكن فيهم هؤلاء الرجال الذين ينهون عن الفساد في الأرض ، إلا عددا قليلا منهم أنجيناهم بسبب إيمانهم ونهيهم عن الفساد في الأرض.

وفي هذا من التوبيخ لأهل مكة ولكل من تقاعس عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ما فيه ، لأن الله ـ تعالى ـ بين أن عذاب الاستئصال الذي حل بالظالمين السابقين ، كان من أسبابه عدم نهيهم عن الفساد في الأرض.

قال الشوكانى : والاستثناء في قوله (إِلَّا قَلِيلاً ...) منقطع ، أى : لكن قليلا ممن أنجينا منهم كانوا ينهون عن الفساد في الأرض ، وقيل : هو متصل ، لأن في حرف التحضيض معنى النفي ، فكأنه قال : ما كان في القرون أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض ، إلا قليلا ممن أنجينا منهم ، ومن في قوله (مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) بيانية ، لأنه لم ينج إلا الناهون» (١).

وقال ابن كثير : ولهذا أمر الله ـ تعالى ـ هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأولئك هم المفلحون ، وفي الحديث : «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه ، أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده» ولهذا قال : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ ...) (٢).

وقوله : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ ...) إشارة إلى أن هؤلاء القاعدين عن النهى عن الإفساد في الأرض ، قد استمروا على فجورهم وفسقهم دون أن يلتفتوا إلى خصال الخير ، وإلى سبيل الصلاح.

وأترفوا من الترف ومعناه التقلب في نعم الله ـ تعالى ـ مع ترك شكره ـ سبحانه ـ عليها.

والمترف : هو الشخص الذي أبطرته النعمة ، فانغمس في الشهوات والمعاصي ، وأعرض عن الأعمال الصالحة ...

والجملة الكريمة معطوفة على كلام مقدر يقتضيه الكلام ، والمعنى : أن هؤلاء الذين لم يكن فيهم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا من استثنى ، قد استمروا في طغيانهم ، واتبعوا ما أنعموا فيه من الثروة والعيش الهنيء والشهوات العاجلة ، فكفروا النعمة ، واستكبروا وفسقوا عن أمر ربهم ، وكانوا قوما مجرمين ، أى مصرين على ارتكاب الجرائم

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٢ ص ٥٣٤.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٩٠.

٢٩١

والمنكرات ، فحق عليهم العقاب الذي يستحقونه بسبب هذه السيئات.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن رحمته بعباده تقتضي عدم ظلمه لهم فقال : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ).

والمراد بالظلم هنا ما يشمل الإشراك بالله ـ تعالى ـ وغيره من الوقوع في المعاصي والمنكرات.

والباء في (بِظُلْمٍ) للملابسة ، والتنوين فيه للإشعار بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم يتنزه الله ـ تعالى ـ عنه على أبلغ وجه ، وإن كانت أفعاله ـ عزوجل ـ لا ظلم فيها أيا كانت هذه الأفعال.

والمعنى : وما كان من شأن ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ أن يهلك أهل قرية من القرى إهلاكا متلبسا بظلم منه لها ، والحال أن أهلها قوم مصلحون ، لأن ذلك الإهلاك مع تلك الحال يتنافى مع ما كتبه على نفسه من الرحمة والعدل.

قال ـ تعالى ـ (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ...) وقال ـ تعالى ـ (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).

وقال ـ تعالى ـ (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ).

ومنهم من فسر الظلم هنا بالشرك ، وجعل الباء للسببية ، فيكون المعنى : ليس من شأن ربك أن يهلك أهل قرية من القرى بسبب كفرهم وحده ، مع صلاحهم في تعاطى الحقوق فيما بينهم ، وإنما يهلكهم عند ما يضمون إلى الكفر الإفساد في الأرض كما أهلك قوم شعيب لشركهم وإنقاصهم المكيال والميزان.

وقد ساق ابن جرير ـ رحمه‌الله ـ القولين دون أن يرجح بينهما فقال : القول في تأويل قوله ـ تعالى ـ (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ).

يقول ـ تعالى ـ ذكره : وما كان ربك يا محمد ليهلك القرى التي أهلكها والتي قص عليك نبأها ظلما وأهلها مصلحون في أعمالهم غير مسيئين ، فيكون إهلاكه إياهم مع إصلاحهم في أعمالهم وطاعتهم ربهم ظلما ، ولكنه أهلكها بكفر أهلها بالله ؛ وتماديهم في غيهم ..

وقد قيل معنى ذلك : لم يكن ليهلكهم بشركهم بالله : وذلك قوله بظلم يعنى بشرك ، وأهلها مصلحون فيما بينهم لا يتظالمون ، ولكنهم يتعاطون الحق بينهم وإن كانوا مشركين ، وإنما يهلكهم إذا تظالموا» (١).

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٢ ص ٨٤.

٢٩٢

والذي نراه أن القول الأول أقرب إلى الصواب ، لأن حمل الظلم هنا على الشرك تخصيص بدون مخصص ، حيث لم يرد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث صحيح يخصصه بذلك ، فوجب حمل الظلم على معناه الحقيقي الذي يتناول الشرك وغيره.

ثم أخبر ـ سبحانه ـ بأن قدرته لا يعجزها شيء فقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً).

والأمة : القوم المجتمعون على أمر واحد ؛ يقتدى فيه بعضهم ببعض ، وهذا اللفظ مأخوذ من «أم» بمعنى قصد ، لأن كل واحد من أفراد القوم يؤم المجموع ويقصده في مختلف شئونه.

ولو شرطية امتناعية ، ومفعول فعل المشيئة محذوف والتقدير :

ولو شاء ربك ـ أيها الرسول الكريم الحريص على إيمان قومه ـ أن يجعل الناس جميعا أمة واحدة مجتمعة على الدين الحق لجعلهم ، ولكنه ـ سبحانه ـ لم يشأ ذلك ، ليتميز الخبيث من الطيب ، وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ...).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ...).

وقوله (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) تأكيد لما اقتضته سنته من اختلاف الناس.

أى : ولا يزالون ما بقيت الدنيا مختلفين في شأن الدين الحق ، فمنهم من دخل فيه وآمن به ، ومنهم من أعرض عنه ، إلا الذين رحمهم ربك منهم بهدايتهم إلى الصراط المستقيم من أول الأمر ، فإنهم لم يختلفوا ، بل اتفقوا على الإيمان بالدين الحق فعصمهم الله ـ تعالى ـ من الاختلاف المذموم.

قال الإمام ابن كثير : وقوله (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أى : إلا المرحومين من أتباع الرسل ، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين الذي أخبرتهم به رسل الله إليهم ، ولم يزل ذلك دأبهم ، حتى كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأمى خاتم الرسل والأنبياء ، فاتبعوه وصدقوه ونصروه ، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة ؛ لأنهم الفرقة الناجية ، كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن ، من طرق يشد بعضها بعضا : إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة ، وإن النصارى افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة. وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا فرقة واحدة. قالوا : ومن هم يا رسول الله ، قال : ما أنا عليه وأصحابى» (١).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٩١.

٢٩٣

واسم الإشارة في قوله (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) يعود على المصدر المفهوم من مختلفين قال الآلوسى : فكأنه قيل : وللاختلاف خلق الناس ، على معنى لثمرة الاختلاف من كون فريق في الجنة وفريق في السعير خلقهم.

واللام لام العاقبة والصيرورة ، لأن حكمة خلقهم ليس هذا ، لقوله ـ سبحانه ـ (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ولأنهم لو خلقهم له ـ أى للاختلاف ـ لم يعذبهم على ارتكاب الباطل ...» (١).

ومنهم من جعل الإشارة إلى الرحمة لأنها أقرب مذكور ، فيكون التقدير : إلا من رحم ربك ولرحمته ـ سبحانه ـ خلق الناس.

وصح تذكير اسم الإشارة مع عودته إلى الرحمة لكون تأنيثها غير حقيقى.

ومنهم من جعل الإشارة إلى مجموع الاختلاف والرحمة ، لأنه لا مانع من الإشارة بها إلى شيئين كما في قوله (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) أى بين الفارض والبكر.

فيكون المعنى : «وللاختلاف والرحمة خلقهم» أى أنه ـ سبحانه ـ خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف.

وقد رجح الإمام القرطبي هذا الوجه فقال : قوله «ولذلك خلقهم» قال الحسن ومقاتل وعطاء :

الإشارة إلى الاختلاف ، أى : وللاختلاف خلقهم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك :

الإشارة إلى الرحمة : أى : ولرحمته خلقهم.

وقيل : الإشارة إلى الاختلاف والرحمة ، وقد يشار بذلك إلى شيئين متضادين ، كما في قوله ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً).

وهذا أحسن الأقوال ـ إن شاء الله ـ لأنه يعم. أى : ولما ذكر خلقهم .. أى : خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير. أى خلق أهل الاختلاف للاختلاف وأهل الرحمة للرحمة ...» (٢).

والمراد بكلمة ربك في قوله ـ سبحانه ـ (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) قضاؤه النافذ ، وإرادته التي لا تتخلف ، وحكمه الأزلى.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١١٤٧.

(٢) تفسير القرطبي ج ٩ ص ١١٥.

٢٩٤

أى : وتمت كلمة ربك ، ونفذ قضاؤه ، وثبت حكمه الذي أكده وأقسم عليه بقوله : لأملأن جهنم من عصاة الجن ، ومن عصاة الإنس أجمعين ، لأنه من المعروف أن الوعيد إنما هو للعصاة والمذنبين وليس للمؤمنين الصادقين.

قال الآلوسى : وفي معنى ذلك ما قيل من أن المراد بالجنة والناس أتباع إبليس لقوله ـ تعالى ـ في سورة الأعراف وفي سورة ص (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) فاللازم دخول جميع تابعيه في جهنم ، والقرآن يفسر بعضه بعضا ...» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أهم الفوائد التي تعود على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء إخباره بأحوال الأنبياء السابقين مع أقوامهم فقال : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ...).

والتنوين في قوله (وَكُلًّا) للعوض عن المضاف إليه. والأنباء جمع نبأ وهو الخبر الهام :

أى : وكل نبأ من أنباء الرسل الكرام السابقين نقصه عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ ونخبرك عنه. فالمقصود به تثبيت قلبك ، وتقوية يقينك ، وتسلية نفسك ونفوس أصحابك عما لحقكم من أذى في سبيل تبليغ دعوة الحق إلى الناس.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) بيان لما اشتملت هذه السورة الكريمة من أخبار صادقة ، وعظات بليغة.

أى وجاءك ـ أيها الرسول الكريم ـ في هذه السورة الكريمة وغيرها من سور القرآن الكريم : الحق الثابت المطابق للواقع ، والعظات الحكيمة ، والذكرى النافعة للمؤمنين بما جئت به.

وأما الذين في قلوبهم مرض فقد زادتهم هذه السورة وأمثالها رجسا إلى رجسهم ، وماتوا وهم كافرون.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسير في طريق الحق بدون مبالاة بتهديد أعدائه فقال : (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) والأمر في هذه الآية الكريمة للتهديد.

ومكانتكم : مصدر مكن ـ بزنة كرم ـ مكانة ، إذا تمكن من الأمر أبلغ التمكن.

أى : وقل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المشركين الذين يضعون العقبات في طريق

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٤٨.

٢٩٥

دعوتك ، قل لهم اعملوا ما تستطيعون عمله من الكيد لي ولدعوتى ، فإنى وأصحابى مستمرون على السير في طريق الحق الذي هدانا الله إليه ، بدون التفات إلى كيدكم وقل لهم ـ أيضا ـ : انتظروا ما يأتى به الله من عقاب ، فإنا منتظرون معكم ذلك.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بهذه الآية الجامعة فقال : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

أى : ولله ـ تعالى ـ وحده علم جميع ما غاب عن الحواس في السموات والأرض ، وإليه وحده يرجع الأمر كله من إحياء وإماتة ، وهداية وضلال ، وصحة ومرض ، ونصر وهزيمة.

وما دام الأمر كذلك (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) أى : فأخلص له العبادة ، واجعل توكلك عليه وحده.

(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بل هو مطلع وبصير بأعمال عباده جميعا ، لا يعزب عنه مثقال ذرة منها ، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.

أما بعد : فهذا تفسير لسورة هود ـ عليه‌السلام ـ أسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المدينة المنورة ـ صباح الخميس ٥ من جمادى الآخرة سنة ١٤٠١ ه‍ الموافق ٩ من أبريل سنة ١٩٨١ م.

محمد سيد طنطاوى

٢٩٦

تفسير

سورة يوسف

٢٩٧
٢٩٨

تعريف بسورة يوسف ـ عليه‌السلام ـ

١ ـ سورة يوسف ـ عليه‌السلام ـ هي السورة الثانية عشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقها في الترتيب سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس وهود ..

أما ترتيبها في النزول ، فكانت السورة الثالثة والخمسين ، وكان نزولها بعد سورة هود ـ عليه‌السلام ـ.

وعدد آياتها إحدى عشرة ومائة آية.

وجه تسميتها بهذا الاسم ظاهر ، لأنها مشتملة على قصته ـ عليه‌السلام ـ مع إخوته ، ومع امرأة العزيز ، ومع ملك مصر في ذلك الوقت ..

ولم يذكر اسم يوسف ـ عليه‌السلام ـ في غير هذه السورة سوى مرتين : إحداهما في سورة الأنعام في قوله ـ تعالى ـ (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا ، وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ ...) الآية ٨٤.

والثانية في سورة غافر في قوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ ...) الآية ٣٤.

والقول الصحيح أن سورة يوسف جميعها مكية ، ولا التفات إلى قول من قال بأن فيها آيات مدنية ، لأن هذا القول لا دليل عليه.

قال الآلوسى : سورة يوسف مكية كلها على المعتمد ، وروى عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا : هي مكية إلا ثلاث آيات من أولها. واستثنى بعضهم رابعة وهي قوله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ).

٢ ـ وكل ذلك واه جدا لا يلتفت إليه ، وما اعتمدناه ـ كغيرنا ـ من أنها كلها مكية ـ هو الثابت عن الحبر أى عن ابن عباس» (١).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٧٠ طبعة منير الدمشقي.

٢٩٩

٣ ـ وقد ورد في سبب نزولها روايات متعددة ، منها ما روى عن سعد بن أبى وقاص أنه قال : أنزل القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتلاه على أصحابه زمانا ، فقالوا : يا رسول الله ، لو قصصت علينا فنزلت سورة يوسف ...» (١).

٤ ـ طبيعة الفترة التي نزلت فيها هذه السورة : قلنا إن سورة يوسف كان نزولها بعد سورة هود ، وسبق أن بينا عند تفسيرنا لسورة هود ، أن هذه السورة الكريمة كان نزولها ـ على الراجح ـ في الفترة التي أعقبت حادث الإسراء والمعراج ..

ويبدو أن سورة يوسف ـ أيضا ـ كان نزولها في هذه الفترة ، التي تعتبر من أشق الفترات في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ تعرض خلالها للكثير من أذى المشركين ، بعد أن فقد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الفترة عمه أبا طالب ، وزوجه السيدة خديجة ـ رضى الله عنها.

ونزول سورة يوسف في هذه الفترة ، كان من أعظم المسليات التي واسى الله ـ تعالى ـ بها نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أخبره عما دار بين يوسف وإخوته ، وعما تعرض له هذا النبي الكريم من مصائب وأذى ...

ولا شك أن في قصة يوسف وما يشبهها ، تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من قومه.

٥ ـ والذي يطالع هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، يراها قد اشتملت على أوضح الدلائل ، وأنصع البراهين ، التي تشهد بأن هذا القرآن من عند الله ...

فقد قصت علينا قصة يوسف ـ عليه‌السلام ـ مع إخوته ومع غيرهم بأسلوب مشوق حكيم ، يهدى النفوس ، ويشرح الصدور ، ويكشف عن الخفايا التي لا يعلمها أحد إلا الله ـ تعالى ـ ، ويصور أحوال النفس الإنسانية تصويرا بديعا معجزا ...

كما يراها قد ساقت ما ساقت من حكم وأحكام ، وعبر وعظات ، بأسلوب يمتاز بحسن التقسيم ، وجمال العرض ، حتى إننا لنستطيع أن نقسم أهم الموضوعات التي تحدثت عنها إلى عشرة أقسام.

(أ) أما القسم الأول (٢) منها ، فنراها تتحدث فيه عن جانب من فضائل القرآن الكريم ، وعن رؤيا يوسف ـ عليه‌السلام ـ وعن نصيحة أبيه له بعد أن قصها عليه ...

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٧٠.

(٢) الآيات من ١ ـ ٦.

٣٠٠