التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

والآصال : جمع أصيل وهو ما بين العصر وغروب الشمس.

والمعنى : ولله ـ تعالى ـ وحده يخضع وينقاد جميع من في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن وغيرهم.

وقوله «طوعا وكرها» منصوبان على الحال من «من» ، أى : أن جميعهم يسجدون لله ، وينقادون لعظمته ، حال كونهم طائعين وراضين بهذا السجود والانقياد ، وحال كونهم كارهين وغير راضين به ، لأنهم لا يستطيعون الخروج على حكمه لا في الإيجاد ولا في الإعدام ولا في الصحة ولا في المرض ، ولا في الغنى ولا في الفقر ... فهم خاضعون لأمره شاءوا أم أبوا.

ويستوي في هذا الخضوع المؤمن والكافر ، إلا أن المؤمن خاضع عن طواعية بذاته وبظاهره وبباطنه لله ـ تعالى ـ.

أما الكافر فهو خاضع لله ـ تعالى ـ بذاته ، ومتمرد وجاحد وفاسق عن أمر ربه بظاهره ، والضمير في قوله ـ سبحانه ـ (وَظِلالُهُمْ) يعود على (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

أى : لله ـ تعالى ـ يخضع من في السموات والأرض طوعا وكرها ويخضع له ـ أيضا ـ بالغدو والآصال ظلال من له ظل منهم ، لأن هذه الظلال لازمة لأصحابها والكل تحت قهره ومشيئته في الامتداد والتقلص والحركة والسكون.

قال ـ تعالى ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) (١).

وقال تعالى : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ ، وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٢).

ثم وجه ـ سبحانه ـ عن طريق نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسئلة تهكمية إلى هؤلاء المشركين المجادلين في ذات الله ـ تعالى ـ وفي صفاته ، وساق لهم أمثلة للحق وللباطل ، وبين لهم حسن عاقبة المستجيبين لدعوة الحق ، وسوء عاقبة المعرضين عنها فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) سورة النحل الآية ٤٨.

(٢) سورة آل عمران الآية ٨٣.

٤٦١

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ)(١٨)

قال الفخر الرازي : «اعلم أنه ـ تعالى ـ لما بين أن كل من في السموات والأرض ساجد له ، عاد إلى الرد على عبدة الأصنام فقال : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ).

ولما كان هذا الجواب جوابا يقر به المسئول ويعترف به ولا ينكره ، أمر ـ سبحانه ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب تنبيها على أنهم لا ينكرونه ألبتة ...» (١).

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المشركين ، من رب هذه الأجرام العظيمة العلوية والسفلية؟

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ٣١ طبعة عبد الرحمن محمد.

٤٦٢

فإذا ما أبوا الرد عليك عنادا وصلفا ، فجابههم بالحقيقة التي لا يستطيعون إنكارها ، وهي أن الله وحده هو رب هذه الأجرام ، لأنه هو خالقها وموجدها على غير مثال سابق.

وقوله ـ سبحانه ـ (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) أمر ثالث منه ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإفحامهم وتبكيتهم.

فالهمزة للاستفهام التوبيخي ، والفاء للعطف على مقدر بعد الهمزة.

والمعنى : أعلمتم حق العلم أن الله ـ تعالى ـ هو الخالق للسموات والأرض ، فتركتم عبادته ـ سبحانه ـ واتخذتم من دونه «أولياء» أى نصراء عاجزين ، لا يملكون لأنفسهم ـ فضلا عن أن يملكوا لغيرهم ـ نفعا يجلبونه لها ، ولا ضرا يدفعونه عنها.

وجملة «لا يملكون» صفة لأولياء ، والمقصود بها تنبيه السامعين للنظر في تلك الصفة ، فإنهم إن أحسنوا التفكير في هؤلاء الأولياء ، أيقنوا أنهم أحقر من أن يلتفت إليهم ، فضلا عن أن يطلبوا منهم شيئا.

ثم أمره ـ سبحانه ـ للمرة الرابعة أن يبرهن لهم على بطلان معتقداتهم عن طريق ما هو مشاهد بالحواس فقال : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ).

أى : قل لهم ـ أيضا ـ أيها الرسول الكريم : كما أنه لا يستوي في عرف كل عاقل الأعمى والبصير ، والظلمات والنور ، فكذلك لا يستوي الكفر والإيمان ، فإن الكفر انطماس في البصيرة ، وظلمات في القلب ، أما الإيمان فهو نور في القلب وإشراق في النفس.

فالمراد بالأعمى الكافر وبالبصير المؤمن ، كما أن المراد بالظلمات الكفر وبالنور الإيمان.

وعبر القرآن الكريم في جانب الظلمات بصيغة الجمع ، وفي جانب النور بصيغة الإفراد ، لأن النور واحد ومن نتائجه الكشف والظهور. وتعدد أسبابه لا يغير حقيقته.

أما الظلمة فإنها متنوعة بتنوع أسبابها ، فهناك ظلمة الليل ، وهناك ظلمة السجون ، وهناك ظلمة القبور ، وهناك ظلمة العقول التي كان من نتائجها تعدد أنواع الكفر والضلال ، كما هو الحال في شأن اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الذين انحرفوا عن طريق الحق.

ثم انتقل ـ سبحانه ـ إلى التهكم بهم عن طريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عنهم ، وإهمالا لشأنهم فقال ـ تعالى ـ : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ...).

٤٦٣

وأم هنا بمعنى بل ، والاستفهام للإنكار.

أى : إنهم ما اتخذوا لله ـ تعالى ـ شركاء يخلقون مثل خلق الله ـ تعالى ـ حتى نقول إن ما خلقوه تشابه مع خلقه ـ تعالى ـ فنلتمس لهم شيئا من العذر ، ولكنهم اتخذوا معه ـ سبحانه آلهة أخرى «لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ...».

فالجملة الكريمة تنعى عليهم جهلهم. حيث عبدوا من دون الله مخلوقا مثلهم ، وتنفى أى عذر يعتذرون به يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم.

وقوله : «كخلقه» في معنى المفعول المطلق. أى : خلقوا خلقا شبيها بما خلقه الله ـ تعالى ـ. وجملة «فتشابه» معطوفة على جملة «خلقوا».

ثم أمر ـ سبحانه ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمرة الخامسة بأن يقذفهم بالحق الذي يدفع باطلهم فقال ـ تعالى ـ (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).

أى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ : الله ـ تعالى ـ هو الخالق لكل شيء في هذا الكون ، وهو ـ سبحانه ـ الواحد الأحد الفرد الصمد ، القهار لكل ما سواه ، والغالب لكل من غالبه.

ثم ضرب ـ سبحانه ـ مثلين للحق هما الماء الصافي والجوهر النقي اللذان ينتفع بهما ، ومثلين للباطل هما زبد الماء وزبد الجوهر اللذان لا نفع فيهما فقال ـ تعالى ـ (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً).

والأودية : جمع واد وهو الموضع المتسع الممتد من الأرض الذي يسيل فيه الماء بكثرة.

والسيل : الماء الجاري في تلك الأودية.

والزبد : هو الغثاء الذي يعلو على وجه الماء عند اشتداد حركته واضطرابه أو ما يعلو القدر عند الغليان ويسمى بالرغوة والوضر والخبث لعدم فائدته ، ورابيا : من الربو بمعنى العلو والارتفاع.

والمعنى : أنزل الله ـ تعالى ـ من السماء ماء كثيرا ، ومطرا مدرارا ، فسالت أودية بقدرها ، أى : فسالت المياه في الأودية بسبب هذا الإنزال ، بمقدارها الذي حدده الله ـ تعالى ـ واقتضته حكمته في نفع الناس.

أو بمقدارها قلة وكثرة ، بحسب صغر الأودية وكبرها ، واتساعها وضيقها «فاحتمل السيل زبدا رابيا» أى فحمل الماء السائل في الأودية بكثرة وقوة ، غثاء عاليا مرتفعا فوق الماء طافيا

٤٦٤

عليه ، لا نفع فيه ولا فائدة منه.

وإلى هنا يكون قد انتهى المثل الأول ، حيث شبه ـ سبحانه ـ الحق وأهله في الثبات والنفع بالماء الصافي الذي ينزل من السماء فتمتلئ به الأودية ويبقى محل انتفاع الناس به إلى الوقت المحدد في علم الله ـ تعالى ـ.

وشبه الباطل وشيعته في الاضمحلال وعدم النفع ، بزبد السيل المنتفخ المرتفع فوق سطح الماء ، فإنه مهما علا وارتفع فإنه سرعان ما يضمحل ويفنى وينسلخ عن المنفعة والفائدة.

ثم ابتدأ ـ سبحانه ـ في ضرب المثل الثاني فقال : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ).

و «من» في قوله «ومما يوقدون» لابتداء الغاية ، وما موصولة ، ويوقدون من الإيقاد وهو جعل الحطب وما يشبهه في النار ليزيد اشتعالها.

والجملة في محل رفع خبر مقدم ، وقوله «زبد» مبتدأ مؤخر.

والحلية : ما يتحلى به الإنسان من الذهب والفضة وغيرهما.

والمتاع : ما يتمتع به في حياته من الأوانى والآلات المتخذة من الحديد والرصاص وأشباههما.

والضمير في قوله «مثله» يعود إلى الزبد في قوله ـ تعالى ـ (زَبَداً رابِياً).

وقد قرأ حمزة والكسائي وحفص «يوقدون» وقرأ الباقون توقدون بالتاء.

والضمير للناس ، وأضمر مع عدم سبق ذكره لظهوره.

والمعنى : وشبيه بالمثل السابق في خروج الزبد والخبث وطرحه بعيدا عن الأشياء النافعة ، ما توقدون عليه النار من المعادن والجواهر ، لكي تستخرجوا منها ما ينفعكم من الحلي والأمتعة المتنوعة ، فإنكم في مثل هذه الحالة ، تبقون على النقي النافع منها ، وتطرحون الزبد والخبث الذي يلفظه الكير ، والذي هو مثل زبد السيل في عدم النفع.

فقد شبه ـ سبحانه ـ في هذا المثل الثاني الحق وأهله في البقاء والنفع بالمعادن النافعة الباقية ، وشبه الباطل وحزبه في الفناء وعدم النفع بخبث الحديد الذي يطرحه كير الحداد ، ويهمله الناس.

ثم بين ـ سبحانه ـ المقصود من ضرب هذه الأمثال فقال : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ).

أى : مثل ذلك البيان البديع ، يضرب الله الأمثلة للحق وللباطل إذا اجتمعا بأن يبين بأنه

٤٦٥

لا ثبات للباطل ـ مهما علا وانتفخ ـ مع وجود الحق ، كما أنه لا ثبات للزبد مع الماء الصافي ، ولا مع المعادن النقية.

والكلام على حذف مضاف والتقدير : يضرب الله مثل الحق ومثل الباطل.

وسر الحذف : الإنباء عن كمال التماثل بين الممثل والممثل به ، حتى لكأن المثل المضروب هو عين الحق وعين الباطل.

ثم شرع ـ سبحانه ـ في تقسيم المثل فقال : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).

أى : فأما الزبد الذي لفظه السيل والحديد فيذهب «جفاء» مرميا به ، مطروحا بعيدا ، لأنه لا نفع فيه.

يقال : جفأ الماء بالزبد ، إذا قذفه ورمى به ، وجفأت الريح الغيم ، إذا مزقته وفرقته ، والجفاء بمعنى الغثاء.

وأما ما ينفع الناس من الماء الصافي ، والمعدن النقي الخالي من الخبث «فيمكث في الأرض» أى فيبقى فيها لينتفع الناس به.

وبدأ ـ سبحانه ـ بالزبد في البيان فقال (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ) مع أنه متأخر في الكلام السابق لأن الزبد هو الظاهر المنظور أولا لأعين الناس ، أما الجوهر فهو مستتر خلفه لأنه هو الباقي النافع.

أو لأنه جرت العادة في التقسيم أن يبدأ بالمتأخر كما في قوله ـ تعالى ـ (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) (١).

وقوله (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) تفخيم لشأن هذا التمثيل الذي اشتملت عليه الآية الكريمة.

أى : مثل ذلك البيان البديع الذي اشتملت عليه الآية الكريمة يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون ، فيحملهم هذا التفكير على الإيمان الحق ، وحسن التمييز بين الخير والشر ، والمعروف والمنكر ، والحق والباطل.

قال الإمام الشوكانى : «هذان مثلان ضربهما الله ـ تعالى ـ في هذه الآية للحق وللباطل

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٠٦.

٤٦٦

يقول : إن الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه ، فإن الله ـ تعالى ـ سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله.

كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء ، وكخبث هذه الأجسام ، فإنه وإن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه ، فهذا مثل الباطل.

وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المراعى فيمكث في الأرض ، وكذلك الصافي من هذه الأجسام فإنه يبقى خالصا لا شوب فيه ، وهو مثل الحق.

وقال الزجاج : فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان كمثل هذا الماء المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شيء ، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر لأنها كلها تبقى منتفعا بها.

ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء ، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك عاقبة أهل الحق ، وعاقبة أهل الباطل فقال ـ تعالى ـ : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى ، وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ...).

أى : للمؤمنين الصادقين ، الذين أطاعوا ربهم في كل ما أمرهم به أو نهاهم عنه ، المثوبة الحسنى ، وهي الجنة.

فالحسنى يصح أن تكون صفة لموصوف محذوف ، ويصح أن تكون مبتدأ مؤخرا ، وخبره «للذين استجابوا لربهم».

«والذين لم يستجيبوا له» ـ سبحانه ـ ولم ينقادوا لأمره أو نهيه وهم الكفار «لو أن لهم ما في الأرض جميعا» من أصناف الأموال ، ولهم أيضا «مثله معه لافتدوا به» أى لهان عليهم ـ مع نفاسته وكثرته ـ أن يقدموه فداء لأنفسهم من عذاب يوم القيامة.

فالضمير في قوله «ومثله معه» يعود إلى ما في الأرض جميعا من أصناف الأموال وفي ذلك ما فيه من تهويل ما يلقونه من عذاب أليم جزاء كفرهم وجحودهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء مصيرهم فقال : «أولئك لهم سوء الحساب» أى : أولئك الذين لم يستجيبوا لربهم لهم الحساب السيئ الذي لا رحمة معه ، ولا تساهل فيه.

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ٨٥.

٤٦٧

«ومأواهم جهنم» ، أى : ومرجعهم الذي يرجعون إليه جهنم. «وبئس المهاد» أى : وبئس المستقر الذي يستقرون فيه.

والمخصوص بالذم محذوف أى : مهادهم أو جهنم.

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أقامت أوضح الأدلة وأحكمها على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، وبينت حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المكذبين ...

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أنه لا يستوي الأعمى والبصير ، ومدح أولى الألباب بما هم أهله من مدح ، وذم أضدادهم بما يستحقون من ذم ، فقال ـ تعالى ـ :

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ)(٢٦)

٤٦٨

قال الإمام الرازي : «قوله ـ تعالى ـ (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى ...) إشارة إلى المثل المتقدم ذكره ـ في قوله ـ تعالى ـ (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) ... وهو أن العالم بالشيء كالبصير ، والجاهل به كالأعمى ، وليس أحدهما كالآخر ، لأن الأعمى إذا أخذ يمشى من غير قائد ، فربما يقع في المهالك ... أما البصير فإنه يكون آمنا من الهلاك والإهلاك» (١).

والمراد بالأعمى هنا : الكافر الذي انطمست بصيرته ، فأصبح لا يفرق بين الحق والباطل.

والاستفهام للإنكار والاستبعاد.

المعنى : أفمن يعلم ان ما أنزل إليك ـ أيها الرسول الكريم ـ من وحى هو الحق الذي يهدى للتي هي أقوم ، كمن هو أعمى القلب : مطموس البصيرة؟؟

فالآية الكريمة تنفى بأبلغ أسلوب ، مساواة الذين علموا الحق فاتبعوه ، بمن جهلوه وأعرضوا عنه ، وصموا آذانهم عن سماعه.

وقوله (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) مدح لأصحاب العقول السليمة ، الذين ذكروا بالحق فتذكروه ، وآمنوا به ، وتعليل لإعراض الكافرين عنه ، ببيان أن سبب إعراضهم ، أنهم ليسوا أهلا للتذكر ، لأن التذكر إنما هو من شأن أولى الألباب.

والألباب : جمع لب وهو الخالص من كل شيء.

أى : إنما يتذكر وينتفع بالتذكير ، أصحاب العقول السليمة وهم المؤمنون الصادقون.

ثم مدح ـ سبحانه ـ أصحاب هذه العقول السليمة ، بجملة من الخصال الكريمة فقال : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ).

وعهد الله : فرائضه وأوامره ونواهيه. والوفاء بها : يتأتى باتباع ما أمر به ـ سبحانه ـ وباجتناب ما نهى عنه.

وينقضون : من النقض ، بمعنى الفسخ والحل لما كان مركبا أو موصولا.

والميثاق : العهد الموثق باليمين ، للتقوية والتأكيد.

أى : إنما يتذكر أولوا الألباب ، الذين من صفاتهم أنهم يوقنون بعهد الله ـ تعالى ـ ، بأن يؤدوا كل ما كلفهم بأدائه ، ويجتنبوا كل ما أمرهم باجتنابه ولا ينقضون شيئا من العهود

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ٣٩.

٤٦٩

والمواثيق التي التزموا بها. وصدر ـ سبحانه ـ صفات أولى الألباب ، بصفة الوفاء بعهد الله ، وعدم النقض للمواثيق ، لأن هذه الصفة تدل على كمال الإيمان ، وصدق العزيمة ، وصفاء النفس.

وأضاف ـ سبحانه ـ العهد إلى ذاته ، للتشريف وللتحريض على الوفاء به.

وجملة «ولا ينقضون الميثاق» تعميم بعد تخصيص ، لتشمل عهودهم مع الله ـ تعالى ـ ومع غيره من عباده.

ثم بين ـ سبحانه ـ صفات أخرى لهم فقال : (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ).

أى : أن من صفات أولى الألباب ـ أيضا ـ أنهم يصلون كل ما أمر الله ـ تعالى ـ بوصله كصلة الأرحام ، وإفشاء السلام ، وإعانة المحتاج ، والإحسان إلى الجار.

وقوله «ويخشون ربهم» خشية تحملهم على امتثال أمره واجتناب نهيه.

«ويخافون سوء الحساب» أى : ويخافون أهوال يوم القيامة ، وما فيه من حساب دقيق ، فيحملهم ذلك على أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا.

قال الآلوسى ما ملخصه : «وهذا من قبيل ذكر الخاص بعد العام للاهتمام ، والخشية والخوف قيل : بمعنى.

وفرق الراغب بينهما فقال : الخشية خوف يشوبه تعظيم ، وأكثر ما يكون ذلك عن علم.

وقال بعضهم : الخشية أشد الخوف ، لأنها مأخوذة من قولهم : شجرة خشية ، أى : يابسة.

ثم قال الآلوسى : والحق أن مثل هذه الفروق أغلبى لا كلى ...» (١).

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى الصفات السابقة لأولى الألباب صفات أخرى حميدة فقال : (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) أى : أن من صفاتهم أنهم صبروا على طاعة الله ، وصبروا عن معصيته ، وصبروا على المصائب وآلامها ، صبرا غايته رضا ربهم وخالقهم ، لا رضا أحد سواه.

أى : أن صبرهم في كل مجال يحمد فيه الصبر لم يكن من أجل الرياء أو المباهاة أو المجاملة أو غير ذلك ، وإنما كان صبرهم من أجل رضا الله ـ تعالى ـ وطلب ثوابه.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٢٩.

٤٧٠

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : «والذين صبروا» فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكليف «ابتغاء وجه ربهم» لا ليقال ما أصبره وأحمله للنوازل ، وأوقره عند الزلازل. ولا لئلا يعاب بالجزع ، ولئلا يشمت به الأعداء ، كقوله :

وتجلدي للشامتين أريهم

أنى لريب الدهر لا أتزعزع

ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ، ولا مرد فيه للفائت.

وكل عمل له وجوه يعمل عليها ، فعلى المؤمن أن ينوى منها ما به كان حسنا عند الله ـ تعالى ـ وإلا لم يستحق به ثوابا ؛ وكان فعلا كلا فعل ، (١).

«وأقاموا الصلاة» أى : أدوها في أوقاتها كاملة الأركان والسنن والأذكار ، بخشوع وإخلاص. «وأنفقوا» بسخاء وطيب نفس «مما رزقناهم» أى : مما أعطيناهم من عطائنا الواسع العميم. «سرا وعلانية» أى : ينفقون مما رزقناهم سرا. حيث يحسن السر ، كإعطاء من لم يتعود الأخذ من غيره ، وينفقون «علانية» حيث تحسن العلانية ، كأن ينفقوا بسخاء في مجال التنافس في الخير ، ليقتدى بهم غيرهم «ويدرءون بالحسنة السيئة» ، والدرء : الدفع والطرد. يقال : درأه درءا ، إذا دفعه.

أى : أن من صفات أولى الألباب ـ أيضا ـ أنهم يدفعون بالعمل الصالح العمل السيئ ، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» أو أنهم يدفعون سيئة من أساء إليهم بالإحسان إليه ، أو بالعفو عنه ، متى كان هذا الإحسان أو العفو لا يؤدى إلى مفسدة.

قال صاحب الظلال ما ملخصه : «وفي الآية إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة ، عند ما يكون في هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها ، فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع ، ويحتاج الشر إلى الدفع ، فلا مكان لمقابلتهما بالحسنة ، لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلى.

ودرء السيئة بالحسنة يكون غالبا في المعاملة الشخصية بين المتماثلين فأما في دين الله فلا.

إن المستعلى الغاشم لا يجدي معه إلا الدفع الصارم ، والمفسدون في الأرض لا يجدي معهم إلا الأخذ الحاسم ، والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف ، واستشارة الألباب ، والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب» (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٥٧ ـ بتصرف قليل.

(٢) في ظلال القرآن ج ١٣ ص ٢٠٥٨ للأستاذ سيد قطب.

٤٧١

وجملة (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) بيان الجزاء الحسن ، الذي أعده الله ـ تعالى ـ لهؤلاء الأخيار.

والعقبى : مصدر كالعاقبة ، وهي الشيء الذي يقع عقب شيء آخر.

والمراد بالدار : الدنيا. وعقباها الجنة. وقيل المراد بالدار : الدار الآخرة. وعقباها الجنة للطائعين ، والنار للعاصين.

أى : أولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة ، لهم العاقبة الحسنة وهي الجنة. والجملة الكريمة خبر عن «الذين يوفون بعهد الله ....» وما عطف عليها.

وقوله ـ سبحانه ـ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) تفصيل للمنزلة العالية التي أعدها ـ سبحانه ـ لهم.

أى : أولئك الذين قدموا ما قدموا في دنياهم من العمل الصالح ، لهم جنات دائمة باقية ، يدخلونها هم (وَمَنْ صَلَحَ) أى : ومن كان صالحا لدخولها (مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ).

أى ؛ من أصولهم وفروعهم وأزواجهم على سبيل التكريم والزيادة في فرحهم ومسيرتهم.

وفي قوله ـ سبحانه ـ (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ ....) دليل على أن هؤلاء الأقارب لا يستحقون دخول الجنة ، إلا إذا كانت أعمالهم صالحة ، أما إذا كانت غير ذلك فإن قرابتهم وحدها لا تنفعهم في هذا اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (١).

قال الإمام ابن كثير : وقوله (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أى : يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء ، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين ، لتقر أعينهم بهم ، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى ، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته ، بل امتنانا من الله وإحسانا ، كما قال ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ، كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ...) زيادة في تكريمهم ، وحكاية لما تحييهم به الملائكة.

__________________

(١) سورة الشعراء آية ٨٩.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٧٣ ، طبعة دار الشعب ـ القاهرة.

٤٧٢

أى : والملائكة يدخلون على هؤلاء الأوفياء الصابرين ... من كل باب من أبواب منازلهم في الجنة ، قائلين لهم : «سلام عليكم» أى : أمان دائم عليكم (بِما صَبَرْتُمْ) أى : بسبب صبركم على كل ما يرضى الله ـ تعالى ـ.

(فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) أى : فنعم العاقبة عاقبة دنياكم ، والمخصوص بالمدح محذوف لدلالة المقام عليه ، أى : الجنة.

وفي قوله ـ سبحانه ـ (يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) إشارة إلى كثرة قدوم الملائكة عليهم ، وإلى كثرة أبواب بيوتهم ، تكريما وتشريفا وتأنيسا لهم.

وجملة (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) مقول لقول محذوف ، وهو حال من فاعل يدخلون وهم الملائكة. وهي بشارة لهم بدوام السلامة.

وفي قوله (بِما صَبَرْتُمْ) إشارة إلى أن صبرهم على مشاق التكاليف ، وعلى الأذى ، وعلى كل ما يحمد فيه الصبر ، كان على رأس الأسباب التي أوصلتهم إلى تلك المنازل العالية.

هذا ومن الأحاديث التي ذكرها الإمام ابن كثير هنا ، ما رواه الإمام أحمد ـ بسنده ـ عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله؟ قالوا : الله ورسوله أعلم : قال : أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون ، الذين تسد بهم الثغور ، وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ، فيقول الله لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم. فتقول الملائكة : نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك ، أفتأمرنا أن نأتى هؤلاء فنسلم عليهم؟

قال : إنهم كانوا عبادا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ، وتسد بهم الثغور. وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره ، فلا يستطيع لها قضاء. قال : فتأتيهم الملائكة عند ذلك ، فيدخلون عليهم من كل باب (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) (١).

وبعد أن ذكر ـ سبحانه ـ صفات هؤلاء الأوفياء ، وما أعد لهم من ثواب جزيل ، أتبع ذلك ببيان سوء عاقبة الناقضين لعهودهم ، القاطعين لما أمر الله بوصله. المفسدين في الأرض فقال ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ).

ونقض العهد : إبطاله وعدم الوفاء به.

وقوله : (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) زيادة في تشنيع النقض. أى : ينقضون عهد الله تعالى ولا يوفون به. من بعد أن أكدوا التزامهم به وقبولهم له.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٧٣.

٤٧٣

وقوله : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) أى : ويقطعون كل ما أوجب الله ـ تعالى ـ وصله ، ويدخل فيه وصل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاتباع والموالاة ، ووصل المؤمنين بالمعاونة ، والمحبة ، ووصل أولى الأرحام بالمودة والتعاطف ، فالجملة الكريمة بيان لحال هؤلاء الأشقياء بأنهم كانوا على الضد من أولئك الأوفياء الأخيار الذين كانوا يصلون ما أمر الله به أن يوصل.

وقوله : (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بيان لصفة ثالثة من صفاتهم القبيحة.

أى : أنهم كانوا يفسدون في الأرض عن طريق حربهم لدعوة الحق ، واعتدائهم على المؤمنين ، وغير ذلك من الأمور التي كانوا يقترفونها مع أن الله ـ تعالى ـ قد حرمها ونهى عنها.

وقوله ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) إخبار عن العذاب الشديد الذي يلقونه في آخرتهم. أى : أولئك الموصوفون بتلك الصفات الذميمة (لَهُمُ) من الله ـ تعالى ـ «اللعنة» والطرد من رحمته.

(وَلَهُمْ) فوق ذلك ، الدار السيئة وهي جهنم التي ليس فيها إلا ما يسوء الصائر إليها.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أن الغنى والفقر بيده ، وأن العطاء والمنع بأمره فقال ـ تعالى ـ : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ...). وبسط الرزق كناية عن سعته ووفرته وكثرته. ومعنى : «يقدر» يضيق ويقلل.

قال الإمام الشوكانى : «لما ذكر ـ سبحانه ـ عاقبة المشركين بقوله (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) كان لقائل أن يقول : قد نرى كثيرا منهم قد وفر الله له في الرزق وبسط له فيه. فأجاب ـ سبحانه ـ عن ذلك : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) فقد يبسط الرزق لمن كان كافرا ، ويقتره على من كن مؤمنا ابتلاء وامتحانا ، ولا يدل البسط على الكرامة ، ولا القبض على الإهانة ...» (١).

أى : الله ـ تعالى ـ وحده هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من خلقه ، وهو وحده ـ أيضا ـ الذي يضيقه على من يشاء منهم لحكم هو يعلمها ، ولا تعلق لذلك بالكفر أو الإيمان ، فقد يوسع على الكافر استدراجا له ، وقد يضيق على المؤمن امتحانا له ، أو زيادة في أجره.

__________________

(١) تفسير (فتح القدير) للإمام الشوكانى ج ٣ ص ٨٠.

٤٧٤

والضمير في قوله : (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) يعود إلى مشركي مكة ، وإلى كل من كان على شاكلتهم في الكفر والطغيان. والمراد بالفرح هنا : الأشر والبطر وجحود النعم.

أى : وفرح هؤلاء الكافرون بربهم ، الناقضون لعهودهم ، بما أوتوا من بسطة في الرزق في دنياهم ، فرح بطر وأشر ونسيان للآخرة لا فرح سرور بنعم الله ، وشكر له ـ سبحانه ـ عليها ، وتذكر للآخرة وما فيها من ثواب وعقاب ...

وقوله ـ سبحانه ـ (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) بيان لقلة نعيم الدنيا بالنسبة لنعيم الآخرة.

والمتاع : ما يتمتع به الإنسان في دنياه من مال وغيره لمدة محددة ثم ينقضي.

أى : إن هؤلاء الفرحين بنعم الله عليهم في الدنيا ، فرح بطر وأشر وجحود ، لن يتمتعوا بها طويلا ، لأن نعيم الدنيا ليس إلا شيئا قليلا بالنسبة لنعيم الآخرة.

وتنكير «متاع» للتقليل ، كقوله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ، مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١).

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ) أى : كائنة في جنب نعيم الآخرة ، فالجار والمجرور في موضع الحال ، و «في» هذه معناها المقايسة وهي كثيرة في الكلام ، كما يقال : ذنوب العبد في رحمة الله ـ تعالى ـ كقطرة في بحر ، وهي الداخلة بين مفضول سابق ، وفاضل لاحق ...

والمراد بقوله : (إِلَّا مَتاعٌ) أى : إلا شيئا يسيرا يتمتع به كزاد الراعي.

والمعنى : أنهم رضوا بحظ الدنيا معرضين عن نعيم الآخرة ، والحال أن ما فرحوا به في جنب ما أعرضوا عنه قليل النفع ، سريع النفاد.

أخرج الترمذي وصححه عن عبد الله بن مسعود قال : نام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حصير ، فقام وقد أثر في جنبه ، فقلنا يا رسول الله : لو اتخذنا لك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مالي وللدنيا ، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل بشجرة ثم راح وتركها ...» (٢).

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد بينت صفات المؤمنين وحسن عاقبتهم ، وصفات الكافرين وسوء مصيرهم كما وضحت أن الأرزاق بيد الله ـ تعالى ـ يعطيها بسعة لمن يشاء من عباده ، ويعطيها بقلة لغيرهم ...

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٩٧.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ١٣١.

٤٧٥

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك بعض المطالب المتعنتة التي طلبها الكافرون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورد عليها بما يبطلها ، ومدح المؤمنين لاطمئنان قلوبهم إلى سلامة دينهم من كل نقص ، وأيأسهم من إيمان أعدائهم لاستيلاء العناد والجحود على قلوبهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ)(٣١)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) حكاية لما طلبه مشركو مكة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التعنت والطغيان. ومرادهم بالآية : آية كونية كإحياء الموتى ، وإزاحة الجبال من أماكنها ، و «لولا» هنا : حرف تحضيض بمعنى هلا.

٤٧٦

أى : ويقول الكافرون على سبيل العناد والجحود ، هلا أنزل على هذا الرسول آية كونية تدل على صدقه ، كأن يحيى لنا موتانا ، أو أن يحول لنا جبل الصفا ذهبا ...

وكأنهم يرون أن القرآن الذي نزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يكفى ـ في زعمهم ـ أن يكون آية ومعجزة شاهدة على صدقه.

وقد أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد عليهم بقوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ).

أى : قل لهم أيها الرسول الكريم على سبيل التعجيب من أحوالهم ومن شدة ضلالهم : إن الله ـ تعالى ـ يضل عن طريق الحق من يريد إضلاله ، لاستحباب هذا الضال العمى على الهدى ، ويهدى إلى صراطه المستقيم ، من أناب إليه ـ سبحانه ـ ورجع إلى الحق الذي جاء به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقلب سليم. وعقل متفتح لمعرفة الصواب والرشاد.

فالجملة الكريمة تعجيب من أقوالهم الباطلة ، ومن غفلتهم عن الآيات الباهرة التي أعطاها الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى رأسها القرآن الكريم الذي هو آية الآيات ، وحض لهم على الإقلاع عما هم عليه من العتو والعناد.

والإنابة : الرجوع إلى الشيء بعد تردد ، فقد جرت عادة كثير من النفوس البشرية أن يعرض عليها الحق فتتردد في قبوله في أول الأمر ، ثم تعود إلى قبوله واعتناقه بعد قيام الدلائل على صحته وسلامته من الفساد.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف طابق قولهم (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) قوله (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ...)؟

قلت : هو كلام يجرى مجرى التعجب من قولهم ، وذلك أن الآيات الباهرة والمتكاثرة التي أوتيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يؤتها نبي قبله ، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية. فإذا جحدوها ولم يهتدوا بها وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه قط ، كان موضعا للتعجب والاستنكار ، فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم ، إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم من التصميم وشدة الشكيمة في الكفر ، فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ) كان على خلاف صفتكم (أَنابَ) أقبل إلى الحق وحقيقته دخل في نوبة الخير» (١).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٥٩.

٤٧٧

ثم رسم القرآن صورة مشرقة للقلوب المؤمنة ، وللجزاء الحسن الذي أعده الله لها فقال ـ تعالى ـ (الَّذِينَ آمَنُوا) حق الإيمان ، (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) أى : تستقر قلوبهم وتسكن ، بسبب تدبرهم لكلامه المعجز وهو القرآن الكريم وما فيه من هدايات.

وإطلاق الذكر على القرآن الكريم ورد في آيات منها قوله ـ تعالى ـ (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (١) وقوله ـ تعالى ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٢).

وقوله : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) أى : ألا بذكره وحده دون غيره من شهوات الحياة تسكن القلوب أنسا به ، ومحبة له.

ويصح أن يراد بذكر الله هنا ما يشمل القرآن الكريم ، ويشمل ذكر الخالق ـ عزوجل ـ باللسان ، فإن إجراءه على اللسان ينبه القلوب إلى مراقبته ـ سبحانه ـ كما يصح أن يراد به خشيته ـ سبحانه ـ ومراقبته بالوقوف عند أمره ونهيه.

إلا أن الأظهر هنا أن يراد به القرآن الكريم ، لأنه الأنسب للرد على المشركين الذين لم يكتفوا به كمعجزة دالة على صدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه.

واختير الفعل المضارع في قوله ـ سبحانه ـ (تَطْمَئِنُ) مرتين في آية واحدة ، للإشارة إلى تجدد الاطمئنان واستمراره ، وأنه لا يتخلله شك ولا تردد.

وافتتحت جملة (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) بأداة الاستفتاح المفيدة للتنبيه ، للاهتمام بمضمونها ، وللإغراء بالإكثار من ذكره ـ عزوجل ـ ، ولإثارة الكافرين إلى الاتسام بسمة المؤمنين لتطمئن قلوبهم.

ولا تنافى بين قوله ـ تعالى ـ هنا (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وبين قوله في سورة الأنفال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ...) أى : خافت.

لأن وجلهم إنما هو عند ذكر الوعيد والعقاب والطمأنينة عند ذكر الوعد والثواب. أو وجلت من هيبته وخشيته ـ سبحانه ـ وهو لا ينافي اطمئنان الاعتماد والرجاء.

وقوله ـ تعالى ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) بيان للثواب الجزيل الذي أعده ـ سبحانه ـ للمؤمنين الصادقين.

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ٥٠.

(٢) سورة الحجر الآية ٩.

٤٧٨

وطوبى : مصدر كبشرى وزلفى من الطيب ، وأصله طيبي ، فقلبت الياء واوا لوقوعها ساكنة إثر ضمة ، كما قلبت في موقن وموسر وهو من اليقين واليسر.

وقيل : طوبى ، اسم شجرة في الجنة.

قال ابن كثير ما ملخصه : قوله (طُوبى لَهُمْ) قال ابن عباس : أى فرح وقرة عين لهم.

وقال الضحاك : أى غبطة لهم. وقال إبراهيم النخعي : أى خير لهم.

وقال قتادة : طوبى : كلمة عربية. يقول الرجل لغيره : طوبى لك أى : أصبت خيرا.

وقال سعيد جبير عن ابن عباس «طوبى لهم» قال : هي أرض الجنة بالحبشية.

وقال سعيد بن مشجوج «طوبى» اسم الجنة بالهندية.

وروى ابن جرير عن شهر بن حوشب قال : «طوبى» : شجرة في الجنة ، كل شجر الجنة منها ...

وهكذا روى عن ابن عباس وأبى هريرة وغير واحد من السلف ، أن طوبى شجرة في الجنة ، في كل دار في الجنة غصن منها» (١).

والمآب : المرجع والمنقلب من الأوب وهو الرجوع. يقال : آب يئوب أوبا وإيابا ومآبا إذا رجع.

والمعنى : الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات لهم في آخرتهم ، عيش طيب. وخير كامل ، ومرجع حسن يرجعون به إلى ربهم وخالقهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن إرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس ليس بدعا ، فقد سبقه رسل كثيرون إلى أقوامهم فقال ـ تعالى ـ : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ).

فالكاف في قوله (كَذلِكَ) للتشبيه حيث شبه ـ سبحانه ـ إرساله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس ، بإرسال الرسل السابقين إلى أقوامهم.

واسم الإشارة يعود إلى الإرسال المأخوذ من فعل «أرسلناك».

والمراد بالأمة هنا : أمة الدعوة التي أرسل إليها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآمن من آمن من أفرادها ، وكفر من كفر.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٧٦ طبعة دار الشعب.

٤٧٩

أى : كما أرسلنا رسلا سابقين إلى أقوامهم ، أرسلناك يا محمد إلى قومك الذين قد سبقهم أقوام ورسل كثيرون لكي تقرأ على مسامعهم هذا القرآن العظيم الذي أوحيناه إليك من لدنا ، ولتبين لهم ما اشتمل عليه من هدايات وتشريعات ، كما بين الرسل الذين سبقوك لأقوامهم ما أمرهم الله ـ تعالى ـ ببيانه.

وفي قوله ـ تعالى ـ : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) تعريض بمشركي مكة ، وأنهم إذا ما استمروا في طغيانهم ، فسيصيبهم ما أصاب الأمم الخالية.

وقوله (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) المقصود منه تفخيم شأن القرآن الكريم ، وأنه هو المعجزة الكبرى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن وظيفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قراءته عليهم قراءة تدبر واستجابة لما يدعوهم إليه.

وأن قول المشركين (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) إنما هو قول يدل على عنادهم وغبائهم وجحودهم للحق بعد أن تبين.

وجملة (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) حالية.

أى : أرسلناك أيها الرسول الكريم إلى هؤلاء الضالين ، لتتلو عليهم ما ينقذهم من الضلال ، ولكنهم عموا وصموا عن سماعه ، والحال أنهم يكفرون بالرحمن أى العظيم الرحمة ، الذي وسعت رحمته كل شيء.

وأوثر اختيار اسم الرحمن من بين أسمائه ـ تعالى ـ للإشارة إلى أن إرساله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعثه الرحمة كما قال ـ تعالى ـ : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (١).

وللرد عليهم في إنكارهم أن يكون الله ـ تعالى ـ رحمانا ، فقد حكى القرآن عنهم ذلك في قوله (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) (٢).

وقد ثبت في الحديث الصحيح أنهم لم يرضوا بكتابة هذا الاسم الكريم في صلح الحديبية ، فعند ما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلىّ : اكتب «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» قال أحد زعمائهم. ما ندري ما الرحمن الرحيم ...

وقد أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد عليهم بما يبطل كفرهم فقال : (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ).

أى : قل لهم أيها الرسول الكريم : الرحمن الذي تتجافون النطق باسمه الكريم هو وحده

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ١٠٧.

(٢) سورة الفرقان الآية ٦٠.

٤٨٠