التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (١).

وقوله : (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) تجهيل لهم ورد عليهم. و (إِنْ) هنا نافية ، و (مِنْ) مؤكدة لهذا النفي ، ومفيدة للعموم. والسلطان : الحجة والبرهان.

أى : ما عندكم دليل ولا شبهة دليل على ما زعمتموه من أن لله ولدا ، وإنما قلتم ما قلتم لانطماس بصيرتكم ، واستحواذ الشيطان على نفوسكم.

وقوله ـ سبحانه ـ (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) توبيخ آخر لهم على جهلهم وكذبهم.

أى : أتقولون على الله ـ تعالى ـ قولا ، لا علم لكم به ، ولا معرفة لكم بحقيقته؟ إن قولكم هذا لهو دليل على جهلكم وعلى تعمدكم الكذب والبهتان.

قال الآلوسى : «وفي الآية دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة. وأن العقائد لا بد لها من قاطع ، وأن التقليد بمعزل من الاهتداء» (٢).

وقوله : (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) إنذار لهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا على شركهم.

أى : قل لهؤلاء المشركين على سبيل الإنذار والتهديد : إن الذين يفترون على الله الكذب بنسبة الولد إليه ، والشريك له ، لا يفلحون ولا يفوزون بمطلوب أصلا.

وقوله ـ سبحانه ـ (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) بيان لتفاهة ما يحرصون عليه من شهوات الحياة الدنيا. وهو خبر لمبتدأ محذوف.

أى : أن ما يتمتعون به في الدنيا من شهوات وملذات ، هو متاع قليل مهما كثر ، لأنه إلى فناء واندثار.

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء مصيرهم بعد أن غرتهم الدنيا بشهواتها فقال : (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ، ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ).

أى : ثم إلينا لا إلى غيرنا مرجعهم يوم القيامة ، ثم نحاسبهم حسابا عسيرا على أقوالهم الذميمة ، وأفعالهم القبيحة ، ثم نذيقهم العذاب الشديد بسبب كفرهم بآياتنا ، وتكذيبهم لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) سورة مريم الآيات ٨٨ ـ ٩٥.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٥٦.

١٠١

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة ، قد مدحت أولياء الله الصالحين ، وبشرتهم بالسعادة الدنيوية والأخروية ، وأقامت الأدلة على قدرة الله النافذة ورحمته الواسعة ، وردت على افتراءات المشركين بما يبطل أقوالهم ، ويفضح مزاعمهم.

وبعد أن ساقت السورة الكريمة ما ساقت من الأدلة على وحدانية الله وعلى صدق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة المكذبين .. بعد كل ذلك تحدثت عن بعض قصص الأنبياء مع أقوامهم ، فبدأت بجانب من قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، وكيف أن الله ـ تعالى ـ أغرقهم بعد أن تمادوا في ضلالهم ، فقال ـ سبحانه ـ :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ(٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ)(٧٣)

قال الإمام الرازي : «اعلم أنه ـ سبحانه ـ لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات وفي الجواب عن الشبه والسؤالات ، شرع بعد ذلك في بيان بعض قصص الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ لوجوه :

أحدها : أن الكلام إذا طال في تقرير نوع من أنواع العلوم ، فربما حصل نوع من أنواع الملالة ، فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفن من العلم إلى فن آخر ، انشرح صدره. ووجد في نفسه رغبة جديدة.

وثانيها : ليكون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه ، أسوة بمن سلف من الأنبياء ، فإن

١٠٢

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سمع أن معاملة الكفار لأنبيائهم سيئة .. خف ذلك على قلبه ، لأن المصيبة إذا عمت خفت.

وثالثها : أن الكفار إذا سمعوا هذه القصص ، وعلموا أن العاقبة للمتقين كان ذلك سببا في انكسار قلوبهم ، ووقوع الخوف والوجل في نفوسهم. وحينئذ يقلعون عن أنواع الإيذاء والسفاهة ...» (١).

ونوح ـ عليه‌السلام ـ : واحد من أولى العزم من الرسل ، وينتهى نسبه إلى شيث بن آدم ـ عليه‌السلام ـ وقد ذكر في القرآن في ثلاثة وأربعين موضعا.

وكان قومه يعبدون الأصنام ، فأرسل الله إليهم نوحا ليدلهم على طريق الرشاد.

وقد تكررت قصته مع قومه في سورة الأعراف ، وهود ، والمؤمنون ، ونوح ... بصورة أكثر تفصيلا.

أما هنا في سورة يونس فقد جاءت بصورة مجملة ، لأن الغرض منها هنا ، إبراز جانب التحدي من نوح لقومه ، بعد أن مكث فيهم زمانا طويلا ، يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، وترك عبادة غيره.

والمعنى : واتل ـ يا محمد ـ على مسامع هؤلاء المشركين الذين مردوا على افتراء الكذب ، نبأ نوح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه المغترين بأموالهم وكثرتهم ليتدبروا ما في هذا النبأ من عظات وعبر. وليعلموا أن سنة الله ـ تعالى ـ قد اقتضت أن يجعل العاقبة للمتقين.

والمقصود من هذه التلاوة ، دعوة مشركي مكة وأمثالهم ، إلى التدبر فيما جرى للظالمين من قبلهم ، لعلهم بسبب هذا التدبر والتأمل يثوبون إلى رشدهم ويتبعون الدين الحق الذي جاءهم به نبيهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ ..) بيان لما قاله لهم بعد أن مكث فيهم زمنا طويلا ، ، وسمع منهم ما سمع من استهزاء بدعوته ، ، وتطاول على أتباعه.

أى : قال نوح لقومه بعد أن دعاهم ليلا ونهارا : يا قوم إن كان (كَبُرَ عَلَيْكُمْ).

أى : شق وعظم عليكم (مَقامِي) فيكم ووجودى بين أظهركم عمرا طويلا (وَتَذْكِيرِي) إياكم بآيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته ، ، والتي تستلزم منكم إخلاص العبادة له والشكر لنعمه.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ١٣٥.

١٠٣

إن كان كبر عليكم ذلك فعلى الله وحده توكلت ، وإليه وحده فوضت أمرى ولن يصرفني عن الاستمرار في تبليغ ما أمرنى بتبليغه وعد أو وعيد منكم.

وخاطبهم ـ عليه‌السلام ـ بقوله : (يا قَوْمِ) استمالة لقلوبهم وإشعارا لهم بأنهم أهله وأقرباؤه الذين يحب لهم الخير ، ويكره لهم الشر.

وجملة (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) جواب الشرط. وقيل جواب الشرط محذوف والتقدير : إن كان كبر عليكم ذلك فافعلوا ما شئتم فإنى على الله وحده توكلت في تبليغ دعوته لكم.

وقوله : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) معطوف على ما قبله.

والفعل (فَأَجْمِعُوا) بقطع الهمزة مأخوذ من أجمعت على الأمر إذا عزمت عليه عزما مؤكدا ووطنت نفسك على المضي فيه بدون تردد أو تقاعس.

والمراد بالأمر هنا : المكر والكيد والعداوة وما يشبه ذلك.

والمراد بشركائهم : أصنامهم التي عبدوها من دون الله وظنوا فيها النفع والضرر والتمسوا فيها العون والنصرة.

والمعنى : أن نوحا ـ عليه‌السلام ـ قد قال لقومه بصراحة ووضوح : يا قوم إن كان قد شق عليكم مقامي فيكم ، وتذكيري بآيات الله الدالة على وحدانيته فاجمعوا ما تريدون جمعه من مكر وكيد بي ، ثم ادعوا شركاءكم ليساعدوكم في ذلك فإنى ماض في طريقي الذي أمرنى الله به ، بدون مبالاة بمكركم وبدون اهتمام بكيدكم.

قال الآلوسى : «وقوله (وَشُرَكاءَكُمْ) منصوب على أنه مفعول معه لأن الشركاء عازمون لا معزوم عليهم. وقيل إنه منصوب العطف على قوله (أَمْرَكُمْ) بحذف المضاف. أى فأجمعوا أمركم وأمر شركائكم.

وقرأ نافع : فاجمعوا بوصل الهمزة وفتح الميم من جمع وعطف الشركاء على الأمر في هذه القراءة ظاهر بناء على أنه يقال : جمعت شركائى ، كما يقال جمعت أمرى ...» (١).

وقوله : (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) معطوف على ما قبله ، ومؤكد لمضمونه.

وكلمة (غُمَّةً) بمعنى الستر والخفاء. يقال : غم على فلان الأمر أى : خفى عليه واستتر.

ومنه الحديث الشريف : «صوموا لرؤيته ـ أى الهلال ـ وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٤٠.

١٠٤

فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما» أى فإن استتر وخفى عليكم الهلال وحال دون رؤيتكم له حائل من عغيم أو ضباب فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما.

أى : اجمعوا ما تريدون جمعه لي من مكر وكيد واستعينوا على ذلك بشركائكم ثم لا يكن أمركم ، الذي أجمعتم على تنفيذه فيه شيء من الستر أو الخفاء أو الالتباس الذي يجعلكم مترددين في المضي فيه أو متقاعسين عن مجاهرتى بما تريدون فعله معى.

ومنهم من يرى أن كلمة (غُمَّةً) هنا بمعنى الغم كالكربة بمعنى الكرب أى : ثم لا يكن حالكم غما كائنا عليكم بسبب مقامي فيكم وتذكيري إياكم بآيات الله.

وقد أشار صاحب الكشاف الى هذين الوجهين فقال : «فإن قلت : ما معنى الأمرين : أمرهم الذي يجمعونه وأمرهم الذي لا يكون عليهم غمة؟

قلت : أما الأمر الأول فالقصد إلى إهلاكه يعنى : فأجمعوا ما تريدون من إهلاكى واحتشدوا فيه ، وابذلوا وسعكم في كيدي. وإنما قال ذلك إظهارا لقلة مبالاته بهم وثقته بما وعده به ربه من كلاءته وعصمته إياه ، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلا.

وأما الثاني ففيه وجهان : أحدهما أن يراد مصاحبتهم له وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم ، المكروهة عندهم. يعنى : ثم أهلكونى لئلا يكون عيشكم بسببي غصة عليكم. وحالكم عليكم غمة. أى : غما وهما. والغم والغمة كالكرب والكربة.

وثانيهما : أن يراد به ما أريد بالأمر الأول. والغمة السترة من غمه إذا ستره ، وفي الحديث «لا غمة في فرائض الله» أى لا تستر ولكن يجاهر بها.

يعنى : ولا يكن قصدكم إلى إهلاكى مستورا عليكم. ولكن مكشوفا مشهورا تجاهروننى به» (١).

وقوله : (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) زيادة في تحديهم وإثارتهم.

والقضاء هنا بمعنى الأداء ، من قولهم : قضى المدين للدائن دينه ، إذا أداه إليه ، وقضى فلان الصلاة. أى أداها بعد مضى وقتها.

أى : ثم أدوا إلى ذلك الأمر الذي تريدون أداءه من إيذائى أو إهلاكى بدون إنظار أو إمهال.

ويصح أن يكون القضاء هنا بمعنى الحكم ، أى : ثم احكموا على بما تريدون من أحكام ،

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٤٥ طبعة مصطفى الحلبي سنة ١٩٦٦.

١٠٥

ولا تتركوا لي مهلة في تنفيذها ، بل نفذوها علىّ في الحال.

فأنت ترى في هذه الآية الكريمة كيف أن نوحا ـ عليه‌السلام ـ كان في نهاية الشجاعة في مخاطبته لقومه ، بعد أن مكث فيهم ما مكث وهو يدعوهم إلى عبادة الله ـ تعالى ـ وحده.

فهو ـ أولا ـ يصارحهم بأنه ماض في طريقه الذي أمره الله بالمضي فيه ، وهو تذكيرهم بالدلائل الدالة على وحدانية الله ، وعلى وجوب إخلاص العبادة له سواء أشق عليهم هذا التذكير أم لم يشق ، وأنه لا اعتماد له على أحد إلا على الله وحده.

وهو ـ ثانيا ـ يتحداهم بأن يجمعوا أمرهم وأمر شركائهم وأن يأخذوا أهبتهم لكيده وحربه.

وهو ـ ثالثا ـ يطالبهم بأن يتخذوا قراراتهم بدون تستر أو خفاء ، فإن الأمر لا يحتاج إلى غموض أو تردد ، لأن حاله معهم قد أصبح واضحا وصريحا.

وهو ـ رابعا ـ يأمرهم بأن يبلغوه ما توصلوا إليه من قرارات وأحكام وأن ينفذوها عليه بدون تريث أو انتظار ، حتى لا يتركوا له فرصة للاستعداد للنجاة من مكرهم.

وهكذا نرى نوحا ـ عليه‌السلام ـ يتحدى قومه تحديا صريحا مثيرا. حتى إنه ليغريهم بنفسه ، ويفتح لهم الطريق لإيذائه وإهلاكه ـ إن استطاعوا ذلك ـ.

وما لجأ ـ عليه‌السلام ـ إلى هذا التحدي الواضح المثير إلا لأنه كان معتمدا على الله ـ تعالى ـ الذي تتضاءل أمام قوته كل قوة وتتهاوى إزاء سطوته كل سطوة ويتصاغر كل تدبير وتقدير أمام تدبيره وتقديره.

وهكذا نرى القرآن الكريم يسوق للدعاة في كل زمان ومكان تلك المواقف المشرفة لرسل الله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لكي يقتدوا بهم في شجاعتهم ، وفي اعتمادهم على الله وحده ، وفي ثباتهم أمام الباطل مهما بلغت قوته ، واشتد جبروته.

ومتى فعلوا ذلك ، كانت العاقبة لهم لأنه ـ سبحانه ـ تعهد أن ينصر من ينصره.

ولنمض مع القصة حتى النهاية لنرى الدليل على ذلك فقد حكى ـ سبحانه ـ ما دار بين نوح وبين قومه بعد هذا التحدي السافر لهم فقال :

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أى : فإن أعرضتم ـ أيها الناس ـ عن قولي ، وعن تذكيري إياكم بآيات الله بعد وقوفكم على أمرى وعلى حقيقة حالي. فما سألتكم من أجر ، أى : فإنى ما سألتكم في مقابل تذكيري لكم ، أو دعوتي إياكم الى الحق ، من أجر تؤدونه لي ـ (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) وحده ، فهو الذي يثيبني على قولي وعملي وهو الذي يعطيني من الخير

١٠٦

ما يغنيني عن أجركم وعطائكم وهو ـ سبحانه ـ الذي أمرنى (أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أى : المنقادين لأمره. المتبعين لهديه ، المستسلمين لقضائه وقدره.

ثم بين ـ سبحانه ـ العاقبة الطيبة التي آل إليها أمر نوح عليه‌السلام والعاقبة السيئة التي انتهى إليها حال قومه فقال : (فَكَذَّبُوهُ) أى : فكذب قوم نوح نبيهم نوحا بعد أن دعاهم إلى الحق ليلا ونهارا وسرا وعلانية.

فماذا كانت نتيجة هذا التكذيب؟ كانت نتيجته كما حكته السورة الكريمة (فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أى : فنجينا نوحا ومن معه من المؤمنين ، بأن أمرناهم أن يركبوا في السفينة التي صنعوها بأمر الله ، حتى لا يغرقهم الطوفان الذي أغرق المكذبين.

وقوله : (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) أى : وجعلنا هؤلاء الناجين خلفاء في الأرض لأولئك المغرقين الذين كذبوا نبيهم نوحا ـ عليه‌السلام ـ وعموا وصموا عن الحق الذي جاءهم به ودعاهم اليه.

هذه هي عاقبة نوح والمؤمنين معه أما عاقبة من كذبوه فقد بينها ـ سبحانه ـ في قوله : (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أى : وأغرقنا بالطوفان الذين كذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أى : فانظر وتأمل ـ أيها العاقل ـ كيف كانت نتيجة تكذيب هؤلاء المنذرين الذين لم تنفع معهم النذر والآيات التي جاءهم بها نبيهم نوح ـ عليه‌السلام ـ.

فالمراد بالأمر بالنظر هنا : التأمل والاتعاظ والاعتبار لا مجرد النظر الخالي عن ذلك.

وهكذا نجد أن من العبر والعظات التي من أجلها ساق الله ـ تعالى ـ قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ بهذه الصورة الموجزة هنا : إبراز ما كان عليه نوح ـ عليه‌السلام ـ من شجاعة وقوة وهو يبلغ رسالة الله إلى الناس واعتماده التام على خالقه وتوكله عليه وحده وتحديه السافر للمكذبين الذين وضعوا العراقيل والعقبات في طريق دعوته ، وتحريضه لهم بمثيرات القول على مهاجمته إن كان في إمكانهم ذلك ومصارحته لهم بأنه في غنى عن أموالهم لأن خالقه ـ سبحانه ـ قد أغناه عنهم ، وبيان أن سنة الله لا تتخلف ولا تتبدل وهذه السنة تتمثل في أنه ـ سبحانه ـ قد جعل حسن العاقبة للمؤمنين وسوء العاقبة للمكذبين.

ثم حكت السورة الكريمة أن الله ـ تعالى ـ قد أرسل رسلا كثيرين بعد نوح ـ عليه‌السلام ـ فكان موقف أقوامهم منهم مشابها لموقف قوم نوح منه ، فقال ـ تعالى ـ :

١٠٧

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ)(٧٤)

أى : ثم بعثنا من بعد نوح ـ عليه‌السلام ـ رسلا كثيرين ذوى قدر عظيم إلى أقوامهم ، ليخرجوهم من ظلمات الكفر إلى نور الايمان فهود ـ عليه‌السلام ـ أرسلناه إلى قوم عاد ، وصالح ـ عليه‌السلام ـ أرسلناه إلى ثمود ، وهكذا أرسلنا رسلا كثيرين إلى أقوامهم.

وقوله : (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أى : فأتى كل رسول قومه بالمعجزات الواضحات ، وبالحجج الساطعات الدالة على صدقه فيما يبلغه عن ربه.

وقوله ـ (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) بيان لموقف هؤلاء الأقوام الجاحدين من رسلهم الذين جاءوا لهدايتهم وسعادتهم.

وللمفسرين في معنى هذه الجملة الكريمة أقوال :

فمنهم من يرى أن الضمائر في «كانوا ، ويؤمنوا ، وكذبوا» تعود على أقوام الرسل الذين جاءوا من بعد نوح ـ عليه‌السلام ـ وأن المراد بقوله : (مِنْ قَبْلُ) أى : من قبل مجيء الرسل إليهم.

والمعنى على هذا الرأى : ثم بعثنا من بعد نوح ـ عليه‌السلام ـ رسلا كثيرين إلى أقوامهم فجاءوهم بالمعجزات الدالة على صدقهم ، إلا أن هؤلاء الأقوام الأشقياء. استمروا على كفرهم وعنادهم ، وامتنعوا عن الإيمان بما كذبوا به من قبل مجيء الرسل إليهم وهو إفراد الله ـ تعالى ـ بالعبادة والطاعة فكان حالهم في الإصرار على الكفر والجحود قبل مجيء الرسل إليهم ، كحالهم بعد أن جاءوهم بالهدى ودين الحق ، حتى لكأنهم لم يأتهم من بشير ولا نذير.

ومن المفسرين الذين قالوا بهذا الرأى الإمام البيضاوي فقد قال : «قوله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أى : فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم في الكفر ، وخذلان الله إياهم .. بما كذبوا به من قبل ، أى بسبب تعودهم تكذيب الحق ، وتمرنهم عليه قبل بعثة الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ» (١).

__________________

(١) تفسير البيضاوي ج ١ ص ٤٥٤ طبعة مصطفى الحلبي ـ الطبعة الثانية سنة ١٣٨٨ ه‍.

١٠٨

ومنهم من يرى ـ أيضا ـ أن الضمائر تعود على أقوام الرسل الذين جاءوا من بعد نوح ـ عليه‌السلام ـ إلا أن المراد بقوله (مِنْ قَبْلُ) : أى : من قبل ابتداء دعوة الرسل لهؤلاء الأقوام.

وعليه يكون المعنى : ثم بعثنا من بعد نوح ـ عليه‌السلام ـ رسلا كثيرين إلى أقوامهم ، فجاءوهم بالأدلة الواضحة الدالة على صدقهم ، إلا أن هؤلاء الأقوام قابلوا رسلهم بالتكذيب من أول يوم ، واستمروا على ذلك حتى آخر أحوالهم معهم ، فكان تكذيبهم لهم في آخر أحوالهم معهم ، يشبه تكذيبهم لهم من قبل. أى : في أول مجيئهم إليهم.

ومن المفسرين الذين قالوا بهذا الرأى : الإمام ابن كثير فقد قال : «قوله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أى : فما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم ، بسبب تكذيبهم إياهم أول من أرسلوا إليهم ، كما قال ـ تعالى ـ (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (١).

ومنهم من يرى أن الضمير في قوله «كانوا ويؤمنوا» يعود على أقوام الرسل الذين جاءوا من بعد نوح ـ عليه‌السلام ـ وأن الضمير في قوله «كذبوا» يعود إلى قوم نوح ، وعلى هذا الرأى يكون المعنى :

ثم بعثنا من بعد نوح ـ عليه‌السلام ـ رسلا إلى أقوامهم. فجاءوهم بالآيات البينات الدالة على صدقهم ، ولكن هؤلاء الأقوام استمروا في كفرهم وعنادهم ، وأبوا أن يؤمنوا بوحدانية الله التي كذب بها قوم نوح من قبل.

ومن المفسرين الذين قالوا بهذا الرأى الإمام ابن جرير فقد قال «قوله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) يقول : «فما كانوا ليصدقوا بما جاءتهم به رسلهم وبما كذب به قوم نوح ومن قبلهم من الأمم الخالية ..» (٢).

وعلى أية حال فهذه الأقوال الثلاثة ، تدل على أن هؤلاء الأقوام عموا وصموا عن الحق ، واستمروا على ذلك دون أن تحولهم الآيات البينات التي جاءهم بها الرسل عن عنادهم وضلالهم.

وقوله : (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) بيان لسنة الله ـ تعالى ـ في خلقه التي لا تتخلف ولا تتبدل. والطبع : الختم والاستيثاق بحيث لا يخرج من الشيء ما دخل فيه ، ولا يدخل فيه ما خرج منه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ١ طبعة دار الشعب ص ٢٣٠ المجلد الرابع.

(٢) تفسير ابن جرير ج ٧ ص ١٠٠ طبعة دار المعرفة ـ بيروت.

١٠٩

أى : مثل ذلك الطبع المحكم نطبع على قلوب المعتدين المتجاوزين للحدود في الكفر والجحود ، وذلك بخذلانهم ، وتخليتهم وشأنهم ، لانهماكهم في الغواية والضلال.

ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك ، جانبا من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون وملئه ، فبدأت بحكاية بعض المحاورات التي دارت بينه وبينهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ)(٧٨)

وقوله ـ سبحانه ـ (ثُمَّ بَعَثْنا ..) معطوف على ما قبله وهو قوله : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ ...) من باب عطف القصة على القصة ، وهو من قبيل عطف الخاص على العام ، لما في هذا الخاص من عبر وعظات.

والمعنى : ثم بعثنا من بعد هؤلاء الرسل الكرام الذين جاءوا لأقوامهم بالأدلة والبينات. (مُوسى وَهارُونَ) عليهما‌السلام .. (إِلى فِرْعَوْنَ) الذي قال لقومه «أنا ربكم الأعلى» وإلى (مَلَأَهُ) أى : خاصته وأشراف مملكته وأركان دولته ، ولذلك اقتصر عليهم ، لأن غيرهم كالتابع لهم.

(بِآياتِنا) أى : بعثناهما إليهم مؤيدين بآياتنا ، الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا وعلى صدقهما فيما يبلغانه عنا من هدايات وتوجيهات.

ويرى كثير من المفسرين أن المراد بقوله (بِآياتِنا) الآيات التسع التي جاء ذكرها في قوله تعالى في سورة الإسراء (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ..) (١).

__________________

(١) الآية ١٠١.

١١٠

قال الجمل : «وتقدم في الأعراف منها ثمانية ، ثنتان في قوله ـ تعالى ـ (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (١) وقوله : (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) (٢).

وواحدة في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٣) وخمسة في قوله ـ تعالى ـ : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ ....) (٤). والتاسعة في هذه السورة ـ سورة يونس ـ في قوله ـ تعالى ـ : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) (٥).

ثم بين ـ سبحانه ـ موقف فرعون وملئه من دعوة موسى لهم فقال : (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ).

والاستكبار : ادعاء الكبر من غير استحقاق ، والفاء فصيحة ، والتقدير : ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى وهارون إلى فرعون وملئه ، فأتياهم ليبلغاهم دعوة الله ، ويأمراهم بإخلاص العبادة له ، فاستكبروا عن طاعتهما ، وأعجبوا بأنفسهم ، وكانوا قوما شأنهم وديدنهم الإجرام ، وهو ارتكاب ما عظم من الذنوب ، وقبح من الأفعال.

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة : فاستكبروا عن قبولها ، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها ، ويتعظموا عن تقبلها» (٦).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما تفوهوا به من أباطيل عند ما جاءهم موسى بدعوته فقال : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ).

أى : فلما وصل إليهم الحق الذي جاءهم به موسى ـ عليه‌السلام ـ من عندنا لا من غيرنا (قالُوا) على سبيل العناد والحقد والغرور (إِنَّ هذا) الذي جئت به يا موسى (لَسِحْرٌ مُبِينٌ) أى : لسحر واضح ظاهر لا يحتاج إلى تأمل أو تفكير.

والتعبير بقوله (جاءَهُمُ) يفيد أن الحق قد وصل إليهم بدون تعب منهم ، فكان من الواجب عليهم ـ لو كانوا يعقلون ـ أن يتقبلوه بسرور واقتناع.

وفي قوله (مِنْ عِنْدِنا) تصوير لشناعة الجريمة التي ارتكبوها في جانب الحق ، الذي جاءهم من عند الله ـ تعالى ـ لا من عند غيره.

__________________

(١) الآية ١٠٧

(٢) الآية ١٠٨

(٣) الآية ١٣٠

(٤) الآية ١٣٣

(٥) الآية ٨٨ ـ حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣١٥

(٦) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٦٤.

١١١

والمراد بالحق هنا : الآيات والمعجزات التي جاءهم بها موسى ـ عليه‌السلام ـ لتكون دليلا على صدقه فيما يبلغه عن ربه.

وقولهم ـ كما حكى القرآن عنهم ـ (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) بالقسم المؤكد : يدل على تبجحهم الذميم ، وكذبهم الأثيم ، حيث وصفوا الحق الذي لا باطل معه بأنه سحر واضح ، وهكذا عند ما تقسو القلوب وتفسق النفوس ، تتحول الحقائق في زعمها إلى أكاذيب وأباطيل.

ثم حكى القرآن الكريم رد موسى ـ عليه‌السلام ـ على مفترياتهم فقال : (قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ).

وفي الآية الكريمة كلام محذوف دل عليه المقام ، والتقدير :

قال موسى لفرعون وملئه منكرا عليهم غرورهم وكذبهم ، (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِ) الذي هو أبعد ما يكون عن السحر ، حين مشاهدتكم له.

أتقولون عنه (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ).

يا سبحان الله!! أفلا عقل لكم يحجزكم عن هذا القول الذي يدل على الجهالة والغباء ، انظروا وتأملوا (أَسِحْرٌ هذا) الذي ترون حقيقته بأعينكم ، وترتجف من عظمته قلوبكم ، والحال أنه (لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) في أى عمل من شأنه أن يهدى إلى الخير والحق.

فقد حذفت جملة (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) لدلالة قوله (أَسِحْرٌ هذا) عليه.

قال صاحب الكشاف : «فإن قلت : هم قطعوا بقولهم : إن هذا لسحر مبين ، على أنه سحر فكيف قيل لهم أتقولون : أسحر هذا؟

قلت : فيه أوجه : أن يكون معنى قوله : (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِ) : أتعيبونه وتطعنون فيه ، وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه ، من قولهم : فلان يخاف القالة ، وبين الناس تقاول ، إذا قال بعضهم لبعض ما يسوءه.

وأن يحذف مفعول أتقولون وهو ما دل عليه قولهم : (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) كأنه قيل : أتقولون ما تقولون : يعنى قولهم : إن هذا لسحر مبين ، ثم قيل : أسحر هذا؟

وأن يكون جملة قوله «أسحر هذا ولا يفلح الساحرون» حكاية لكلامهم ، كأنهم قالوا أجئتما إلينا بالسحر تطلبان به الفلاح (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ..) (١).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٤٧.

١١٢

وقال الجمل : «قوله ـ تعالى ـ (قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ ..) أى : قال جملا ثلاثة : الأولى : (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) والثانية (أَسِحْرٌ هذا) والثالثة (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ).

وقوله (لِلْحَقِ) أى في شأنه ولأجله ، وقوله (لَمَّا جاءَكُمْ) أى : حين مجيئه إياكم من أول الأمر من غير تأمل وتدبر ، وهذا مما ينافي القول المذكور.

وقوله : (قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) هنا مقول القول محذوف لدلالة ما قبله عليه ، وإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتفوه به.

وقوله ـ سبحانه ـ حكاية عن موسى (أَسِحْرٌ هذا) مبتدأ وخبر ، وهو استفهام إنكارى مستأنف من جهته ـ عليه‌السلام ـ تكذيبا لقولهم ، وتوبيخا إثر توبيخ ، وتجهيلا بعد تجهيل» (١).

وقوله : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) جملة حالية من ضمير المخاطبين ، وقد جيء بها تأكيدا للإنكار السابق ، وما فيه من معنى التوبيخ والتجهيل.

أى : أتقولون للحق إنه سحر ، والحال أنه لا يفلح فاعله ، أى : لا يظفر بمطلوب ، ولا ينجو من مكروه ، وأنا قد أفلحت ، وفزت بالحجة ، ونجوت من الهلكة.

ثم كشف القرآن الكريم عن حقيقة الدوافع التي جعلتهم يصفون الحق بأنه سحر مبين فقال ـ تعالى ـ : (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ ، وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ).

واللفت : الصرف واللى يقال : لفته يلفته لفتا ، أى : صرفه عن وجهته إلى ذات اليمين أو الشمال.

أى : قال فرعون وملؤه لموسى ـ عليه‌السلام ـ بعد أن جاءهم بالحق المبين : أجئتنا يا موسى بما جئتنا به (لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أى : لتصرفنا عن الدين الذي وجدنا عليه آباءنا ، وتكون لك ولأخيك هارون (الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) أى السيادة والرياسة والزعامة الدينية والدنيوية في الأرض بصفة عامة ، وفي أرض مصر بصفة خاصة.

ثم أكدوا إنكارهم لما جاءهم به موسى ـ عليه‌السلام ـ من الدين الحق فقالوا ـ كما حكى القرآن عنهم ـ (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) أى وما نحن لكما بمصدقين فيما جئتما به ،

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٦٥.

١١٣

لأن تصديقنا لكما يخرجنا عن الدين الذي وجدنا عليه آباءنا ، وينزع منا ملكنا الذي تتمتع بكبريائه خاصتنا ، وتعيش تحت سلطانه وقهره عامتنا.

وأفردوا موسى ـ عليه‌السلام ـ بالخطاب في قولهم (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا ..) لأنه هو الذي كان يجابههم بالحجج التي تقطع دابر باطلهم ، ويرد على أكاذيبهم بما يفضحهم ويكشف عن غرورهم وغبائهم.

وجمعوا بين موسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ في قولهم (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ ، وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) باعتبار شمول الكبرياء والرياسة والملك لهما ، وباعتبار أن الإيمان بأحدهما يستلزم الإيمان بالآخر.

هذا ، والذي يتدبر هذه الآية الكريمة ، يرى أن التهمة التي وجهها فرعون وملؤه إلى موسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ ، هي تهمة قديمة جديدة فقوم نوح ـ مثلا ـ يمتنعون عن قبول دعوته ، لأنه في نظرهم جاء بما جاء به بقصد التفضل عليهم ، وفي هذا يقول القرآن الكريم : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، أَفَلا تَتَّقُونَ. فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ، ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) (١). أى : يريد أن تكون له السيادة والفضل عليكم ، فيكون زعيما وأنتم له تابعون.

ولقد أفاض في شرح هذا المعنى صاحب الظلال ـ رحمه‌الله ـ عند تفسيره لهذه الآية الكريمة فقال ما ملخصه :

وإذن فهو الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة ، التي يقوم عليها نظامهم السياسى والاقتصادى ، وهو الخوف على السلطان في الأرض ، هذا السلطان الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة.

إنها العلة القديمة الجديدة التي تدفع بالطغاة إلى مقاومة دعوات الإصلاح ورمى الدعاة بأشنع التهم ؛ والفجور في مقاومة الدعوات والدعاة .. إنها هي «الكبرياء في الأرض» وما تقوم عليه من معتقدات باطلة ، يحرص المتجبرون على بقائها متحجرة في قلوب الجماهير ، بكل ما فيها من زيف وفساد ، وأوهام وخرافات ، لأن تفتح القلوب على العقيدة الصحيحة ، خطر على القيم الجاهلية الموروثة.

وما كان رجال من أذكياء قريش ـ مثلا ـ ليخطئوا إدراك ما في رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صدق وسمو ، وما في عقيدة الشرك من تهافت وفساد ، ولكنهم كانوا يخشون على مكانتهم

__________________

(١) سورة المؤمنون الآيتان ٢٣ ، ٢٤.

١١٤

الموروثة ، القائمة على ما في تلك العقيدة من خرافات وتقاليد ، كما خشي الملأ من قوم فرعون على سلطانهم في الأرض ، فقالوا متبجحين (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) (١).

ثم حكت الآيات الكريمة بعد ذلك ما طلبه فرعون من ملئه ، وما دار بين موسى ـ عليه‌السلام ـ وبين السحرة من محاورات فقال ـ تعالى ـ :

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)(٨٢)

أى : وقال فرعون لخاصته بعد أن رأى من موسى الإصرار على دعوته ودعوة قومه إلى عبادة الله وحده ، وبعد أن شاهد عصاه وقد تحولت إلى ثعبان مبين.

قال فرعون لخاصته بعد أن رأى كل ذلك من موسى ـ عليه‌السلام ـ (ائْتُونِي) أيها الملأ (بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) أى : بكل ساحر من أفراد مملكتي تكون عنده المهارة التامة في فن السحر ، والخبرة الواسعة بطرقه وأساليبه.

وقوله : (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ ...) معطوف على كلام محذوف يستدعيه المقام والتقدير ، فامتثل القوم أمر فرعون وأسرعوا في إحضار السحرة ، فلما جاءوا والتقوا بموسى ـ عليه‌السلام ـ وخيروه بقوله (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى).

(قالَ لَهُمْ مُوسى) على سبيل التحدي (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) من ألوان سحركم ، ليرى الناس حقيقة فعلكم ، وليميزوا بين حقي وباطلكم.

(فَلَمَّا أَلْقَوْا) أى : فلما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم.

(قالَ) لهم (مُوسى) على سبيل السخرية مما صنعوه.

__________________

(١) تفسير (في ظلال القرآن) للأستاذ سيد قطب ج ١١ ص ٤٦٦.

١١٥

(ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ ، إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) أى : قال لهم موسى : أيها السحرة ، إن الذي جئتم به هو السحر بعينه ، وليس الذي جئت به أنا مما وصفه فرعون وملؤه بأنه سحر مبين.

وإن الذي جئتم به سيمحقه الله ويزيل أثره من النفوس ، عن طريق ما أمرنى الله به ـ سبحانه ـ من إلقاء عصاي ، فقد جرت سنته ـ سبحانه ـ أنه لا يصلح عمل الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون وصنيعكم هذا هو من نوع الإفساد وليس من نوع الإصلاح.

وقوله : (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) تأكيد لسنة الله ـ تعالى ـ في تنازع الحق والباطل ، والصلاح والفساد.

أى : أنه جرت سنة الله تعالى ـ أن لا يصلح عمل المفسدين ، بل يمحقه ويبطله ، وأنه ـ سبحانه ـ يحق الحق أى يثبته ويقويه ويؤيده (بِكَلِماتِهِ) النافذة ، وقضائه الذي لا يرد ، ووعده الذي لا يتخلف (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) ذلك لأن كراهيتهم لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، لا تعطل مشيئة الله ، ولا تحول بين تنفيذ آياته وكلماته وقد كان الأمر كذلك فقد أوحى الله إلى موسى (أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ. فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١).

ثم انتقلت السورة الكريمة للحديث عن جانب مما دار بين موسى ـ عليه‌السلام ـ وبين قومه بنى إسرائيل ، إثر الحديث عن جانب مما دار بينه وبين فرعون وملئه وسحرته فقال ـ تعالى ـ :

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا

__________________

(١) سورة الأعراف الآيتان ١١٧ ، ١١٨.

١١٦

بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(٨٧)

قال الجمل : «قوله ـ سبحانه ـ (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ..). لما ذكر الله ـ تعالى ـ ما أتى به موسى ـ عليه‌السلام ـ من المعجزات العظيمة الباهرة ، أخبر ـ سبحانه ـ أنه مع مشاهدة هذه المعجزات ، ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه. وإنما ذكر الله هذا تسلية لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كان كثير الاهتمام بإيمان قومه ، وكان يغتم بسبب إعراضهم عن الإيمان به ، واستمرارهم على الكفر والتكذيب ، فبين الله له أن له أسوة بالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ. لأن ما جاء به موسى من المعجزات ، كان أمرا عظيما. ومع ذلك فما آمن له إلا ذرية من قومه» (١).

والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف يدل عليه السياق ، والتقدير : لقد أتى موسى ـ عليه‌السلام ـ بالمعجزات التي تشهد بصدقه ، والتي على رأسها ، أن ألقى عصاه فإذا هي تبتلع ما فعله السحرة ، ومع كل تلك البراهين الدالة على صدقه ، فما آمن به إلا ذرية من قومه.

والمراد بالذرية هنا : العدد القليل من الشباب ، الذين آمنوا بموسى ، بعد أن تخلف عن الإيمان آباؤهم وأغنياؤهم.

قال الآلوسى : قوله (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) أى : إلا أولاد بعض بنى إسرائيل حيث دعا ـ عليه‌السلام ـ الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون ، وأجابته طائفة من شبابهم فالمراد من الذرية : الشبان لا الأطفال (٢).

والضمير في قوله (مِنْ قَوْمِهِ) يعود لموسى ـ عليه‌السلام ـ ، وعليه يكون المعنى : فما آمن لموسى ـ عليه‌السلام ـ في دعوته إلى وحدانية الله ، إلا عدد قليل من شباب قومه بنى إسرائيل ، الذين كانوا يعيشون في مصر ، والذين كان فرعون يسومهم سوء

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٦٧.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٤٨.

١١٧

العذاب ، أما آباؤهم وأصحاب الجاه فيهم ، فقد انحازوا إلى فرعون طمعا في عطائه ، وخوفا من بطشه بهم.

ويرى بعض المفسرين أن الضمير في قوله (مِنْ قَوْمِهِ) يعود إلى فرعون لا إلى موسى.

فيكون المعنى : فما آمن لموسى إلا عدد قليل من شباب قوم فرعون.

قال ابن كثير ما ملخصه مرجحا هذا الرأى : «يخبر الله ـ تعالى ـ أنه لم يؤمن بموسى ـ عليه‌السلام ـ مع ما جاء به من الآيات والحجج ، إلا قليل من قوم فرعون ، من الذرية ـ وهم الشباب ـ ، على وجل وخوف منه ومن ملئه.

قال العوفى عن ابن عباس : «إن الذرية التي آمنت لموسى من قوم فرعون منهم : امرأته ، ومؤمن آل فرعون ، وخازنه ، وامرأة خازنه».

ثم قال : واختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية ، أنها من بنى إسرائيل ، لا من قوم فرعون. لعود الضمير على أقرب مذكور.

وفي هذا نظر ، لأن من المعروف أن بنى إسرائيل كلهم آمنوا بموسى. واستبشروا به ، فقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به.

وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى وهم بنو إسرائيل؟» (١).

والذي نراه أن ما اختاره ابن جرير من عودة الضمير إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ أرجح ، لأن هناك نوع خفاء في إطلاق كلمة الذرية على من آمن من قوم فرعون ، ومنهم زوجته ، وامرأة خازنه.

ولأنه لا دليل على أن بنى إسرائيل كلهم قد آمنوا بموسى ، بل الحق أن منهم من آمن به ومنهم من كفر به ، كقارون والسامري وغيرهما.

ولأن رجوع الضمير إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ هو الظاهر المتبادر من الآية ، لأنه أقرب مذكور ، وليس هناك ما يدعو إلى صرف الآية الكريمة عن هذا الظاهر.

ورحم الله ابن جرير فقد قال في ترجيحه لما ذهب إليه من عودة الضمير إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ ما ملخصه :

وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية ، القول الذي ذكرته عن مجاهد وهو أن الذرية في

__________________

(١) تفسير أبن كثير ج ٤ ص ٣٢٣.

١١٨

هذا الموضع ، أريد بها ذرية من أرسل إليه موسى من بنى إسرائيل ، وإنما قلت هذا القول أولى بالصواب ، لأنه لم يجر في هذه الآية ذكر لغير موسى ، فلأن تكون الهاء في قوله (مِنْ قَوْمِهِ) من ذكر موسى لقربها من ذكره أولى من أن تكون من ذكر فرعون ، لبعد ذكره منها.

ولأن في قوله (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) الدليل الواضح على أن الهاء في قوله (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) من ذكر موسى لا من ذكر فرعون ، لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام على خوف منه ، ولم يكن على خوف من فرعون ..» (١).

وقوله : (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ...) حال من كلمة (ذُرِّيَّةٌ) ، و (عَلى) هنا بمعنى مع. والضمير في قوله (مَلَائِهِمْ) يعود إلى ملأ الذرية ، وهم كبار بنى إسرائيل الذين لاذوا بفرعون طمعا في عطائه أو خوفا من عقابه ولم يتبعوا موسى ـ عليه‌السلام ـ.

والمعنى : فما آمن لموسى الا عدد قليل من شباب قومه ، والحال أن إيمانهم كان مع خوف من فرعون ومن أشراف قومهم أن يفتنوهم عن دينهم ، أى : أن يعذبوهم ليحملوهم على ترك اتباع موسى ـ عليه‌السلام.

والضمير في (يَفْتِنَهُمْ) يعود إلى فرعون خاصة ، لأنه هو الآمر بالتعذيب ولأن الملأ إنما كانوا يأتمرون بأمره ، وينتهون عن نهيه ، فهم كالآلة في يده يصرفها كيف يشاء.

وجملة (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) في تأويل مصدر ، بدل اشتمال من فرعون ، أى : على خوف من فرعون فتنته.

وقوله : (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) اعتراض تذييلى مؤكد لمضمون ما قبله ، ومقرر لطغيان فرعون وعتوه.

أى : وإن فرعون المتكبر متجبر في أرض مصر كلها ، وإنه لمن المسرفين المتجاوزين لكل حد في الظلم والبغي وادعاء ما ليس له.

والمتجبرون والمسرفون يحتاجون في مقاومتهم إلى إيمان عميق ، واعتماد على الله وثيق ، وثبات يزيل المخاوف ويطمئن القلوب إلى حسن العاقبة ، ولذا قال موسى لأتباعه المؤمنين : (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ).

أى : قال موسى لقومه تطمينا لقلوبهم ، وقد رأى الخوف من فرعون يعلو وجوه بعضهم : يا قوم (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) حق الإيمان ، وأسلمتم وجوهكم له حق الإسلام فعليه وحده

__________________

(١) تفسير أبن جرير ج ٧ ص ١٠٤ طبعة دار المعرفة ـ بيروت.

١١٩

اعتمدوا ، وبجنابه وحده تمسكوا ، فإن من توكل على الله واتجه إليه ، كان الله معه بنصره وتأييده.

ثم حكى القرآن جوابهم الذي يدل على صدق يقينهم فقال : (فَقالُوا) أى مجيبين لنصيحة نبيهم (عَلَى اللهِ) وحده لا على غيره (تَوَكَّلْنا) واعتمدنا وفوضنا أمورنا إليه.

(رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أى يا ربنا لا تجعلنا موضوع فتنة وعذاب للقوم الظالمين. بأن تمكنهم منا فيسوموننا سوء العذاب ، وعندئذ يعتقدون أنهم على الحق ونحن على الباطل ، لأننا لو كنا على الحق ـ في زعمهم ـ لما تمكنوا منا ، ولما انتصروا علينا.

ثم أضافوا إلى هذا الدعاء دعاء آخر ، أكثر صراحة من سابقه في المباعدة بينهم وبين الظالمين فقالوا (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

أى : نحن لا نلتمس منك يا مولانا ألا تجعلنا فتنة لهم فقط ، بل نلتمس منك ـ أيضا ـ أن تنجينا من شرور القوم الكافرين ، وأن تخلصنا من سوء جوارهم ، وأن تفرق بيننا وبينهم كما فرقت بين أهل المشرق وأهل المغرب.

قال الإمام الشوكانى : «وفي هذا الدعاء الذي تضرعوا به إلى الله ـ دليل على أنه كان لهم اهتمام بأمر الدين فوق اهتمامهم بسلامة أنفسهم» (١).

وبعد هذا الدعاء المخلص ، وجه الله ـ تعالى ـ نبيه موسى وأخاه هارون ـ عليهما‌السلام ـ إلى ما يوصل إلى نصرهما ونصر أتباعهما فقال ـ تعالى ـ (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ..).

وقوله (تَبَوَّءا) من التبوء وهو اتخاذ المباءة أى المنزل ، كالتوطن بمعنى اتخاذ الوطن.

يقال بوأته وبوأت له منزلا إذا أنزلته فيه ، وهيأته له.

والمعنى : وأوحينا إلى موسى وأخيه هارون بعد أن لج فرعون في طغيانه وفي إنزال العذاب بالمؤمنين ـ أن اتخذا لقومكما المؤمنين بيوتا خاصة بهم في مصر ، ينزلون بها ، ويستقرون فيها ، ويعتزلون فرعون وجنده ، إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا.

وقوله (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أى : واجعلوا هذه البيوت التي حللتم بها مكانا لصلاتكم وعبادتكم ، بعد أن حال فرعون وجنده بينكم وبين أداء عباداتكم في الأماكن المخصصة لذلك.

__________________

(١) تفسير (فتح القدير) للإمام الشوكانى ج ٢ ص ٤٦٦.

١٢٠