التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

فالمراد من اليوم معناه اللغوي وهو مطلق الوقت.

وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أن تلك الأيام من أيام الآخرة التي يوم منها كألف سنة مما تعدون.

قال الآلوسى : «وقيل هي مقدار ستة أيام من أيام الدنيا وهو الأنسب بالمقام ، لما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة بخلق هذه الأجرام العظيمة في مثل تلك المدة اليسيرة ، ولأنه تعريف لنا بما نعرفه» (١).

وقال بعض العلماء : «ولا ندخل في تحديد هذه الأيام الستة ، فهي لم تذكر هنا لنتجه إلى تحديد مداها ونوعها ، وإنما ذكرت لبيان حكمة التدبير والتقدير في الخلق حسب مقتضيات الغاية من هذا الخلق ، وتهيئته لبلوغ هذه الغاية.

وعلى أية حال فالأيام الستة غيب من غيب الله ، الذي لا مصدر لإدراكه إلا هذا المصدر ، فعلينا أن نقف عنده ولا نتعداه ، والمقصود بذكرها هو الإشارة الى حكمة التقدير والتدبير والنظام الذي يسير مع الكون من بدئه إلى منتهاه» (٢).

وقال سعيد بن جبير : كان الله قادرا على أن يخلق السموات والأرض في لمحة ولحظة. ولكنه ـ سبحانه ـ خلقهن في ستة أيام ، لكي يعلم عباده التثبت والتأنى في الأمور.

وقوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) معطوف على ما قبله ، لتأكيد مزيد قدرته وعظمته ـ سبحانه ـ.

والاستواء من معانيه اللغوية الاستقرار ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ).

أى : استقرت ، ومن معانيه ـ أيضا ـ الاستيلاء والقهر والسلطان ، ومنه قول الشاعر :

قد استوى بشر على العراق أى : استولى عليه وعرش الله ـ كما قال الراغب ـ مما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم وليس كما تذهب إليه أوهام العامة ، فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له ـ تعالى الله عن ذلك ـ لا محمولا» (٣).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٦٤.

(٢) تفسير في ظلال القرآن ج ١١ ص ١٧٦٢ ـ طبعة دار الشروق.

(٣) المفردات في غريب القرآن ص ٣٢٩.

٢١

وقد ذكر العرش في القرآن الكريم في إحدى وعشرين آية ، وذكر الاستواء على العرش في سبع آيات.

أما الاستواء على العرش فذهب سلف الأمة الى أنه صفة الله ـ تعالى ـ بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل لاستحالة اتصافه ـ سبحانه ـ بصفات المحدثين ، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق به فيجب الإيمان بها كما وردت وتفويض العلم بحقيقتها إلى الله ـ تعالى ـ.

فعن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت في تفسير قوله ـ تعالى ـ (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) : الكيف غير معقول ، والاستواء مجهول ، والإقرار به من الإيمان ، والجحود به كفر.

وقال الإمام مالك : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة.

وقال محمد بن الحسن : اتفق الفقهاء جميعا على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه.

وقال الإمام الرازي : «إن هذا المذهب هو الذي نقول به ونختاره ونعتمد عليه».

وذهب بعض علماء الخلف إلى وجوب صرف هذه الصفة وأمثالها عن الظاهر لاستحالة حملها على ما يفيده ظاهر اللفظ ، لأنه ـ سبحانه ـ مخالف للحوادث ، ووجوب حملها على ما يليق به ـ سبحانه ـ.

وعليه فإن الاستواء هنا : كناية عن القهر والعظمة والغلبة والسلطان وقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) استئناف مسوق لتقرير عظمته ـ سبحانه ـ ولبيان حكمة استوائه على العرش.

والتدبير معناه : النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود.

والمراد به هنا : التقدير الجاري على وفق الحكمة التي اقتضتها إرادة الله ومشيئته.

والمراد بالأمر : ما يتعلق بأمور المخلوقات كلها من إنس وجن وغير ذلك من مخلوقاته التي لا تعد ولا تحصى.

أى أنه سبحانه يدبر أمر مخلوقاته تدبيرا حكيما ، حسبما تقتضيه إرادته وعبر بالمضارع في قوله : (يُدَبِّرُ) للإشارة الى تجدد التدبير واستمراره ، إذ أنه ـ سبحانه ـ لا يهمل شئون خلقه.

وقوله : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) استئناف آخر مسوق لبيان تفرده في تدبيره وأحكامه.

والشفيع مأخوذ من الشفع وهو ضم الشيء إلى مثله ، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو

٢٢

أعلى منزلة إلى من هو أدنى منه لإعانته على ما يريده.

والاستثناء هنا مفرغ من أعم الأوقات والأحوال. أى : ما من شفيع يستطيع أن يشفع لغيره في جميع الأوقات والأحوال إلا بعد إذنه ـ سبحانه ـ.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) (٢).

واسم الإشارة في قوله ـ سبحانه ـ (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) يعود إلى ذات الله ـ تعالى ـ الموصوفة بتلك الصفات الجليلة.

أى : ذلكم الموصوف بالخلق والتدبير والتصرف في شئون خلقه وفق مشيئته ، هو الله ربكم فأخلصوا له العبادة والطاعة ولا تشركوا معه أحدا في ذلك.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بالأمر بالتذكر فقال : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أى : أتعلمون أن الله ـ تعالى ـ هو خالقكم وهو القادر على كل شيء ، ومع ذلك تستبعدون أن يكون الرسول بشرا ، فهلا تذكرتم قدرة الله وحكمته حتى تثوبوا إلى رشدكم ، وتتبعوا الحق الذي جاءكم به نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وإيثار (تَذَكَّرُونَ) على تفكرون للإيذان بظهور الأمر وأنه كالمعلوم الذي لا يفتقر الى عمق في التفكير والبحث والتأمل. إذا أن مظاهر قدرة الله وعظمته نراها واضحة جلية في الأنفس والآفاق.

وبذلك نرى الآية الكريمة قد ساقت ألوانا من مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ وبالغ حكمته ، ونفاذ أحكامه حتى يخلص له الناس العبادة والطاعة.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن مرجع العباد جميعا إليه ، وأنه سيجازى كل إنسان بما يستحق. فقال ـ تعالى ـ (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا).

أى : إلى الله ـ تعالى ـ وحده مرجعكم جميعا بعد الموت ليحاسبكم على أعمالكم ، وقد وعد الله بذلك وعدا صدقا ، ولن يخلف الله وعده.

قال أبو حيان : وانتصب (وَعْدَ اللهِ) و (حَقًّا) على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة ، والتقدير وعد الله وعدا ، فلما حذف الناصب أضاف المصدر الى الفاعل ، وذلك كقوله

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٥٥.

(٢) سورة النجم الآية ٢٦.

٢٣

«صبغة الله» و «صنع الله» والتقدير في (حَقًّا) : حق ذلك حقا» (١).

وقوله : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) كالتعليل لما أفاده قوله ـ سبحانه ـ (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) فإن غاية البدء والإعادة هو الجزاء المناسب على الأعمال الدنيوية.

أى : إن شأنه ـ سبحانه ـ أن يبدأ الخلق عند تكوينه ثم يعيده الى الحياة مرة أخرى بعد موته وفنائه.

ثم بين ـ سبحانه ـ الحكمة من الإعادة بعد الموت فقال : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ).

والقسط ـ كما يقول الراغب ـ النصيب بالعدل. يقال : قسط الرجل إذا جار وظلم. ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) ويقال أقسط فلان إذا عدل ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

والحميم : الماء الذي بلغ أقصى درجات الحرارة ، قال ـ تعالى ـ (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) أى : فعل ما فعل سبحانه من بدء الخلق وإعادتهم ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بعدله الجزاء الطيب الذي أعده لهم ، وأما الذين كفروا فيجزيهم ـ أيضا ـ بعد له ما يستحقونه من شراب حميم يقطع أمعاءهم ، ومن عذاب مؤلم لأبدانهم ، وذلك بسبب كفرهم واستحبابهم العمى على الهدى.

وقوله : (بِالْقِسْطِ) حال من فاعل (لِيَجْزِيَ) ليجزيهم ملتبسا بالقسط.

ويصح أن يكون المعنى : فعل ما فعل ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجزاء الحسن بسبب عدلهم وتمسكهم بتكاليف دينهم ، وأما الذين كفروا فلهم شراب من حميم وعذاب أليم بسبب كفرهم.

قال الجمل ما ملخصه : وقال ـ سبحانه ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ ...) بتغيير في الأسلوب للمبالغة في استحقاقهم للعقاب. وللتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة ، والعذاب وقع بالعرض. وأنه ـ تعالى ـ يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه ، ولذلك لم يعينه ، وأما عقاب الكفرة فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وسوء أفعالهم (٢).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر قدرته في خلق السموات والأرض ، أتبع ذلك

__________________

(١) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٥ ص ١٢٤.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٣٤ طبعة حجازي بالقاهرة.

٢٤

بذكر مظاهر أخرى لقدرته ، تتمثل في خلق الشمس والقمر والليل والنهار فقال ـ تعالى ـ :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)(٦)

ففي هاتين الآيتين ـ كما يقول الآلوسى ـ تنبيه على الاستدلال على وجوده ـ تعالى ـ ووحدته وعلمه وقدرته وحكمته. بآثار صنيعه في النيرين بعد التنبيه على الاستدلال بما مر ، وبيان لبعض أفراد التدبير الذي أشير إليه إشارة إجمالية ، وإرشاد إلى أنه ـ سبحانه ـ حين دبر أمورهم المتعلقة بمعاشهم هذا التدبير البديع ، فلأن يدبر مصالحهم المتعلقة بمعادهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب أولى وأحرى (١)».

وقوله (جَعَلَ) يجوز أن يكون بمعنى أنشأ وأبدع ، فيكون لفظ (ضِياءً) حال من المفعول ، ويجوز أن يكون بمعنى صير فيكون اللفظ المذكور مفعولا ثانيا.

وقوله (ضِياءً) جمع ضوء كسوط وسياط ، وحوض وحياض ، وقيل هو مصدر ضاء يضوء ضياء كقام يقوم قياما ، وصام يصوم صياما ، وعلى كلا الوجهين فالكلام على حذف مضاف.

والمعنى : الله ـ تعالى ـ وحده هو الذي جعل لكم الشمس ذات ضياء ، وجعل لكم القمر ذا نور ، لكي تنتفعوا بهما في مختلف شئونكم.

قال الجمل : «وخص الشمس بالضياء لأنه أقوى وأكمل من النور ، وخص القمر بالنور لأنه أضعف من الضياء ولأنهما إذا تساويا لم يعرف الليل من النهار ، فدل ذلك على أن الضياء المختص بالشمس أكمل وأقوى من النور المختص بالقمر» (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٦٧.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٣٤.

٢٥

هذا دليل. ومما يدل على التفرقة بين الشمس والقمر في نورهما قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) (١) وقوله ـ سبحانه ـ : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) (٢).

وقوله : (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) معطوف على ما قبله.

والتقدير : جعل الشيء أو الأشياء على مقادير مخصوصة في الزمان أو المكان أو غيرهما قال ـ تعالى ـ : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ).

المنازل : جمع منزل ، وهي أماكن النزول ، وهي ـ كما يقول بعضهم ـ ثمانية وعشرون منزلا ، وتنقسم إلى اثنى عشر برجا وهي : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدى ، والدلو ، والحوت ، لكل برج منها منزلان وثلث منزل ، وينزل القمر في كل ليلة منزلا منها إلى انقضاء ثمانية وعشرين.

ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما ، ويستتر ليلة واحدة إن كان الشهر تسعة وعشرين يوما (٣).

والضمير في قوله : (قَدَّرْناهُ) يعود الى القمر ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ).

أى : الله ـ تعالى ـ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ، وقدر للقمر منازل ينزل فيها في كل ليلة على هيئة خاصة ، وطريقة بديعة تدل على قدرة الله وحكمته.

قالوا : وكانت عودة الضمير إلى القمر وحده ، لسرعة سيره بالنسبة إلى الشمس : ولأن منازله معلومة محسوسة ، ولأنه العمدة في تواريخ العرب ، ولأن أحكام الشرع منوطة به في الأغلب (٤).

وجوز بعضهم أن يكون الضمير للشمس والقمر معا ، أى : وقدر لهما منازل ، أو قدر لسيرهما منازل لا يجاوزانها في السير ، ولا يتعدى أحدهما على الآخر كما قال ـ تعالى ـ : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٥).

وإنما وحد الضمير للإيجاز كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (٦).

وقوله : (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) بيان للحكمة من الخلق والتقدير.

__________________

(١) سورة نوح الآية ١٦.

(٢) سورة الفرقان الآية ٦١.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٣٤.

(٤) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٦٩.

(٥) سورة يس الآية ٤٠.

(٦) سورة التوبة الآية ٦٢.

٢٦

أى : جعل ـ سبحانه ـ الشمس ضياء ، والقمر نورا ، وقدره منازل ، لتعلموا عدد السنين التي يفيدكم علمها في مصالحكم الدينية والدنيوية ولتعلموا الحساب بالأوقات من الأشهر والأيام لضبط عباداتكم ومعاملاتكم.

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : يخبر الله ـ تعالى ـ عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته ، وعظيم سلطانه ، أنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء ، وجعل شعاع القمر نورا ، هذا فن وهذا فن آخر ، ففاوت بينهما لئلا يشتبها ، وجعل سلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل ، وقدر القمر منازل ، فأول ما يبدو القمر يكون صغيرا ، ثم يتزايد نوره وجرمه حتى يستوسق ويكمل إبداره ، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حالته الأولى. فبالشمس تعرف الأيام ، وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام». (١)

واسم الإشارة في قوله (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) يعود إلى المذكور من جعل الشمس ضياء والقمر نورا وتقديره منازل.

أى : ما خلق الله ذلك الذي ذكره لكم إلا خلقا ملتبسا بالحق ، ومقترنا بالحكمة البالغة التي تقتضيها مصالحكم.

وقوله : (يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) استئناف مسوق لبيان المنتفعين بهذه الدلائل الدالة على قدرة الله ووحدانيته ورحمته بعباده.

أى : يفصل ـ سبحانه ـ ويوضح البراهين الدالة على قدرته لقوم يعلمون الحق ، فيستجيبون له ، ويكثرون من طاعة الله وشكره على ما خلق وأنعم.

ثم بين ـ سبحانه ـ لونا آخر من ألوان قدرته ورحمته فقال : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) طولا وقصرا ، وحرا وبردا ، وتعاقبا دقيقا لا يسبق أحدهما معه الآخر (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من أنواع الانس والجن والحيوان والنبات والنجوم وغير ذلك من المخلوقات التي لا تعد ولا تحصى ..

إن في كل ذلك الذي خلقه (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) أى : لدلائل عظيمة كثيرة دالة على قدرة الله ورحمته ووحدانيته ، لقوم يتقون الله ـ تعالى ـ فيحذرون عقابه ، ويرجون رحمته.

وخص ـ سبحانه ـ المتقين بالذكر ، لأنهم هم المنتفعون بنتائج التدبر في هذه الدلائل.

وبذلك نرى أن القرآن الكريم قد سلك أنجع الوسائل في مخاطبة الفطرة البشرية ، حيث

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤٠٨.

٢٧

لفت الأنظار إلى ما اشتمل عليه هذا الكون من مخلوقات شاهدة محسوسة ، تدل على وحدانية الله ، وقدرته النافذة ، ورحمته السابغة بعباده.

* * *

ثم بينت السورة الكريمة ما أعده الله من عذاب للكافرين ، وما أعده من ثواب للطائعين ، فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١٠)

قال الإمام الرازي : «اعلم أنه ـ تعالى ـ لما أقام الدلائل على صحة القول بإثبات الإله القادر الرحيم الحكيم ، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر ، شرع بعده في شرح أحوال من يكفر بها وفي شرح أحوال من يؤمن بها» (١).

والمراد بلقائه ـ سبحانه ـ الرجوع إليه يوم القيامة للحساب والجزاء. والمعنى : إن الذين لا يرجون ولا يتوقعون لقاءنا يوم القيامة لحسابهم على أعمالهم في الدنيا (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) رضاء جعلهم لا يفكرون إلا في التشبع من زينتها ومتعها ، واطمأنوا بها ، اطمئنانا صيرهم يفرحون بها ويسكنون إليها (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا) التنزيلية والكونية الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا (غافِلُونَ) بحيث لا يخطر على بالهم شيء مما يدل عليه هذه الآيات من عبر وعظات.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٣٨.

٢٨

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد وصف هؤلاء الأشقياء بأربع صفات ذميمة.

وصفهم ـ أولا ـ بعدم الرجاء في لقاء الله ـ تعالى ـ بأن صاروا لا يطمعون في ثواب ، ولا يخافون من عقاب ، لإنكار الدار الآخرة.

ووصفهم ـ ثانيا ـ بأنهم رضوا بالحياة الدنيا ، بأن أصبح همهم محصورا فيها ، وفي لذائذها وشهواتها.

قال الإمام الرازي : واعلم أن الصفة الأولى إشارة إلى خلو قلبه عن اللذات الروحانية ، وفراغه عن طلب السعادات الحاصلة بالمعارف الربانية ، وأما هذه الصفة الثانية فهي إشارة إلى من استغرقه الله في طلب اللذات الجسمانية واكتفائه بها ، واستغراقه في طلبها» (١).

ووصفهم ـ ثالثا ـ بأنهم اطمأنوا بهذه الحياة ، اطمئنان الشخص إلى الشيء الذي لا ملاذ له سواه ، فإذا كان السعداء يطمئنون إلى ذكر الله ، فإن هؤلاء الأشقياء ماتت قلوبهم عن كل خير ، وصارت لا تطمئن إلا إلى زينة الحياة الدنيا.

ووصفهم ـ رابعا ـ بالغفلة عن آيات الله التي توقظ القلب ، وتهدى العقل ، ونحفز النفس إلى التفكير والتدبير.

وبالجملة فهذه الصفات الأربع تدل دلالة واضحة على أن هؤلاء الأشقياء قد آثروا دنياهم على أخراهم ، واستحبوا الضلالة على الهدى ، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.

فماذا كان مصيرهم كما بينه ـ سبحانه ـ في قوله : (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

أى : أولئك المتصفون بتلك الصفات الخسيسة ، مقرهم وملجؤهم الذي يلجئون إليه النار وبئس القرار ، بسبب ما اجترحوه من سيئات وما اقترفوه من منكرات.

هذه هي صفات هؤلاء الأشقياء ، وذلك هو جزاؤهم العادل ، أما السعداء فقد بين الله ـ تعالى ـ بعد ذلك صفاتهم وثوابهم فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

أى : آمنوا بما يجب الإيمان به ، وعملوا في دنياهم الأعمال الصالحة التي ترفع درجاتهم عند ربهم.

(يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) أى يرشدهم ربهم ويوصلهم بسبب إيمانهم وعملهم الصالح إلى غايتهم وهي الجنة.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٣٩.

٢٩

وإنما لم تذكر تعويلا على ظهورها وانسياق النفس إليها ، بعد أن عرف أن مأوى الكافرين النار وبئس القرار ..

قال الإمام ابن كثير : يحتمل أن تكون الباء في قوله (بِإِيمانِهِمْ) للسببية ، فيكون التقدير بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة إلى الصراط المستقيم حتى يجوزوه ويخلصوا إلى الجنة ، ويحتمل أن تكون للاستعانة كما قال مجاهد : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) : أى : يكون إيمانهم لهم نورا يمشون به وقال ابن جريج في الآية : يمثل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة إذا قام من قبره يعارض صاحبه ويبشره بكل خير فيقول له من أنت؟ فيقول أنا عملك ، فيجعل له نوره من بين يديه حتى يدخله الجنة ، فذلك قوله ـ تعالى ـ (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ). والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة. وريح منتنة فيلزم صاحبه حتى يقذفه في النار ..» (١).

وقوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أى : تجرى من تحت منازلهم أو مقاعدهم الأنهار ، وهم آمنون مطمئنون في الجنات ، يتنعمون فيها بما لا عين رأت ولا أذن سمعت. ولا خطر على قلب بشر.

وقوله : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) أى : دعاؤهم في هذه الجنات يكون بقولهم : سبحانك اللهم. فالدعوى هاهنا بمعنى الدعاء. يقال : دعا يدعو دعاء ودعوى. كما يقال : شكا يشكو شكاية وشكوى.

ولفظ سبحان : اسم مصدر بمعنى التسبيح وهو منصوب بفعل مضمر لا يكاد يذكر معه.

ولفظ اللهم أصله يا الله ، فلما استعمل دون حرف النداء الذي هو «يا» جعلت هذه الميم المشددة في آخره عوضا عن حرف النداء.

قال الإمام الرازي : «ومما يقوى أن المراد من الدعوى هنا الدعاء ، أنهم قالوا : اللهم. وهذا نداء الله ـ تعالى ـ ومعنى قولهم : سبحانك اللهم. إنا نسبحك. كقول القانت في دعاء القنوت «اللهم إياك نعبد».

ثم قال : ويجوز أن يراد بالدعاء العبادة ، ونظيره قوله ـ تعالى ـ : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أى : وما تعبدون ، فيكون معنى الآية : أنه لا عبادة لأهل الجنة إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه ، ويكون اشتغالهم بذلك الذكر لا على سبيل التكليف ، بل على سبيل

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤٠٨.

٣٠

الابتهاج بذكر الله ـ تعالى ـ» (١).

وقوله (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) معطوف على ما قبله. والتحية : التكرمة بالحال الجليلة ، وأصلها أحياك الله حياة طيبة. والسلام : بمعنى السلامة من كل مكروه.

أى : دعاؤهم في الجنة أن يقولوا سبحانك اللهم. وتحيتهم التي يحيون بها هي السلامة من كل مكروه.

وهذه التحية تكون من الله ـ تعالى ـ لهم كما في قوله ـ سبحانه ـ (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) (٢).

وتكون من الملائكة كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (٣).

وتكون منهم فيما بينهم كما يتبادر من قوله ـ تعالى ـ (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً ..) (٤).

وقوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أى : وختام دعائهم يكون بقولهم: الحمد لله رب العالمين.

قال الإمام القرطبي ما ملخصه : «ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن التهليل والتسبيح والحمد قد يسمى دعاء».

روى الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول عند الكرب : «لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السموات والأرض ، ورب العرش الكريم». قال الطبري : كان السلف يدعون بهذا الدعاء ويسمونه دعاء الكرب.

والذي يقطع النزاع ويثبت أن هذا يسمى دعاء ، وإن لم يكن فيه من معنى الدعاء شيء ، وإنما هو تعظيم لله ـ تعالى ـ وثناء عليه ، ما رواه النسائي عن سعد بن أبى وقاص قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دعوة ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين ، فإنه لن يدعو بها مسلم في شيء إلا استجيب له».

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٤٣.

(٢) سورة الأحزاب الآية ٤٤.

(٣) سورة الرعد الآيتان ٢٤ ، ٢٥.

(٤) سورة مريم الآية ٦١.

٣١

ويستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه كما قال الله ـ تعالى ـ حكاية عن أهل الجنة : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١).

* * *

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر لطفه ورحمته بالناس ، وما جبلوا عليه من صفات وطبائع فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢)

قال صاحب المنار : «هاتان الآيتان في بيان شأن من شئون البشر وغرائزهم فيما يعرض لهم في حياتهم الدنيا من خير وشر ، ونفع وضر ، وشعورهم بالحاجة إلى الله ـ تعالى ـ واللجوء إلى دعائه لأنفسهم وعليها ، واستعجالهم الأمور قبل أوانها وهو تعريض بالمشركين ، وحجة على ما يأتون من شرك وما ينكرون من أمر البعث ، متمم لما قبله ، ولذلك عطف عليه (٢).

وقوله : (يُعَجِّلُ) من التعجيل بمعنى طلب الشيء قبل وقته المحدد له والاستعجال : طلب التعجيل بالشيء.

والأجل : الوقت المحدد لانقضاء المدة. وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانتهاء عمره.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣١٣.

(٢) تفسير المنار ج ١١ ص ٣١١.

٣٢

والمراد بالناس هنا ـ عند عدد من المفسرين ـ : المشركون الذي وصفهم الله ـ تعالى ـ قبل ذلك بأنهم لا يرجون لقاءه ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها.

ولقد حكى القرآن في كثير من آياته ، أن المشركين قد استعجلوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نزول العذاب ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ، وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ ، وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (١) ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢).

والمعنى : ولو يعجل الله ـ تعالى ـ لهؤلاء المشركين العقوبة التي طلبوها ، تعجيلا مثل استعجالهم الحصول على الخير (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أى : لأميتوا وأهلكوا جميعا ، ولكن الله ـ تعالى ـ الرحيم بخلقه ، الحكيم في أفعاله ، لا يعجل لهم العقوبة التي طلبوها كما يعجل لهم طلب الخير لحكمة هو يعلمها ؛ فقد يكون من بين هؤلاء المتعجلين للعقوبة من يدخل في الإسلام ، ويتبع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الإمام الرازي : «فقد بين ـ سبحانه ـ في هذه الآية : أنهم لا مصلحة لهم في تعجيل إيصال الشر إليهم ، لأنه ـ تعالى ـ لو أوصل ذلك العقاب إليهم لماتوا وهلكوا ، ولا صلاح في إماتتهم ، فربما آمنوا بعد ذلك ، وربما خرج من أصلابهم من كان مؤمنا ، وذلك يقتضى أن لا يعاجلهم بإيصال ذلك الشر» (٣).

ومن العلماء من يرى أن المراد بالناس هنا ما يشمل المشركين وغيرهم ، وأن الآية الكريمة تحكى لونا من ألوان لطف الله بعباده ورحمته بهم.

ومن المفسرين الذين اقتصروا على هذا الاتجاه في تفسيرهم الإمام ابن كثير ، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : يخبر ـ تعالى ـ عن حلمه ولطفه بعباده أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم ، أو أموالهم أو أولادهم بالشر في حال ضجرهم وغضبهم ، وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك ، فلهذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفا ورحمة ، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم أو لأولادهم بالخير والبركة والسخاء ، ولهذا قال : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ..) أى لو استجاب لهم جميع ما دعوه به في ذلك لأهلكهم.

__________________

(١) سورة العنكبوت الآيتان ٥٢ ، ٥٣.

(٢) سورة الأنفال الآية ٤٢.

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٤٨ طبعة عبد الرحمن محمد.

٣٣

ثم قال : ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك ، كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن جابر قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لا تدعوا على أنفسكم ، لا تدعوا على أولادكم ، لا تدعوا على أموالكم ، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم».

وقال مجاهد في تفسير هذه الآية : هو قول الإنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه : اللهم لا تبارك فيه والعنه ، فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم (١).

أما الإمام الآلوسى فقد حكى هذين الوجهين ، ورجح الأول منهما فقال : «قوله : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ ...) وهم الذين لا يرجون لقاء الله ـ تعالى ـ المذكورون في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ...) والمراد لو يعجل الله لهم الشر الذي كانوا يستعجلون به تكذيبا واستهزاء ...» ، وأخرج ابن جرير عن قتادة : أنه قال : «هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له ، وفيه حمل الناس على العموم ، والمختار الأول ، ويؤيده ما قيل : من أن الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال : «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم» (٢).

والذي يبدو لنا أن كون لفظ الناس للجنس أولى ، ويدخل فيه المشركون دخولا أوليا ، لأنه لا توجد قرينة تمنع من إرادة ذلك ، وحتى لو صح ما قيل من أن الآية نزلت في النضر بن الحارث ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وقوله (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) منصوب على المصدرية ، والأصل : ولو يعجل الله للناس الشر تعجيلا مثل استعجالهم بالخير ، فحذف تعجيلا وصفته المضافة ، وأقيم المضاف إليه مقامها.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يشير إلى الحكمة في عدم تعجيل العقوبة فقال : (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

والطغيان : مجاوزة الحد في كل شيء ، ومنه طغى الماء إذا ارتفع وتجاوز حده.

ويعمهون : من العمه ، يقال : عمه ـ كفرح ومنع ـ عمها ، إذا تحير وتردد فهو عمه وعامه.

أى : لا نعجل للناس ما طلبوه من عقوبات ، وإنما نترك الذين لا يرجون لقاءنا إلى يوم

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤٠٩.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٧٩.

٣٤

القيامة ، على سبيل الإمهال والاستدراج في الدنيا في طغيانهم يتحيرون ويترددون ، بحيث تلتبس عليهم الأمور فلا يعرفون الخير من الشر.

ثم صور ـ سبحانه ـ طبيعة الإنسان في حالتي العسر واليسر فقال : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً ، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ ..).

والمس : اتصال أحد الشيئين بآخر على وجه الإحساس والإصابة.

والضر : ما يصيب الإنسان من سوء الحال في نفسه أو بدنه أو غيرهما مما يحبه ويشتهيه.

والمعنى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ) عن طريق المرض أو الفقر أو غيرهما (دَعانا) بإلحاح وتضرع لكي نكشفه عنه ، فهو تارة يدعونا وهو مضطجع على جنبه ، وتارة يدعونا وهو قاعد ، وتارة يدعونا وهو قائم على قدميه.

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ) وما أصابه من سوء (مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) أى : مضى واستمر في غفلته الأولى حتى لكأنه لم تنزل به كروب ، ولم يسبق له أن دعانا بإلحاح لكشفها.

وخص ـ سبحانه ـ هذه الأحوال بالذكر ، لعدم خلو الإنسان عنها في العادة.

وقيل : يصح أن يراد بهذه الأحوال تعميم أصناف المضار ، لأنها قد تكون خفيفة فيدعو الله وهو قائم ، وقد تكون متوسطة فيدعوه وهو قاعد ، وقد تكون ثقيلة فيدعوه وهو نائم.

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : «فإن قلت : فما فائدة ذكر هذه الأحوال؟

قلت : معناه أن المضرور لا يزال داعيا لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضر ، فهو يدعونا في حالاته كلها ، سواء أكان منبطحا عاجزا عن النهوض ، أم كان قاعدا لا يقدر على القيام ، أم كان قائما لا يطيق المشي.

ويجوز أن يراد أن من المضرورين من هو أشد حالا وهو صاحب الفراش ، ومنهم من هو أخف ، وهو القادر على القعود ، ومنهم المستطيع للقيام ، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء ، لأن الإنسان للجنس ..» (١).

وفي التعبير بالمس إشارة إلى أن ما أصابه من ضر حتى ولو كان يسيرا فإنه لا يترك الدعاء والابتهال إلى الله بأن يكشفه عنه.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٨٢.

٣٥

وقوله (لِجَنْبِهِ) في موضع الحال من فاعل (دَعانا) و (أَوْ) لتنويع الأحوال ، أو لأصناف المضار.

والتعبير بقوله ـ سبحانه ـ (مَرَّ) يمثل أدق تصوير لطبيعة الإنسان الذي يدعو الله عند البلاء ، وينساه عند الرخاء ، فهو في حالة البلاء يدعو الله في كل الأحوال ، فإذا ما انكشف عنه البلاء مر واندفع في تيار الحياة. بدون كابح ، ولا زاجر ، ولا مبالاة ، وبدون توقف ليتدبر أو ليعتبر ...

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بقوله : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أى : كما زين لهذا الإنسان الدعاء عند البلاء والإعراض عند الرخاء ، زين لهؤلاء المسرفين المتجاوزين لحدود الله ، ما كانوا يعملونه من إعراض عن ذكره ، ومن غفلة عن حكمته وعن سننه في كونه.

قال الآلوسى : «وفي الآية ذم لمن يترك الدعاء في الرخاء ، ويهرع إليه في الشدة ، واللائق بحال العاقل التضرع إلى مولاه في السراء والضراء ، فإن ذلك أرجى للإجابة. ففي الحديث الشريف : «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة».

وأخرج أبو الشيخ عن أبى الدرداء قال : ادع الله يوم سرائك يستجب لك يوم ضرائك.

وفي حديث للترمذي عن أبى هريرة ورواه الحاكم عن سلمان وقال صحيح الإسناد «من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكروب ، فليكثر من الدعاء عند الرخاء» (١).

وقال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : «وقد ذم الله ـ تعالى ـ من هذه طريقته وصفته في الدعاء. أما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد فإنه مستثنى من ذلك ، ـ لأنه يدعو الله في الشدة والرخاء ـ ، وفي الحديث الشريف : «عجبا لأمر المؤمن لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا له : إن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له ، وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» (٢).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ جانبا من شأنه مع الناس ومن شأنهم معه. أتبع ذلك ببيان مصير الأمم الظالمة ليكون في ذلك عبرة وعظة فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٨٠.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤٠٩.

٣٦

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(١٤)

والخطاب في قوله : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ..) لأهل مكة الذين كانوا معاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومناوئين لدعوته ، ويدخل فيه غيرهم ممن يصلح للخطاب على سبيل التبع.

والقرون جمع قرن. والقرن ـ كما يقول القرطبي ـ الأمة من الناس ، قال الشاعر :

إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم

وخلفت في قرن فأنت غريب

فالقرن كل عالم في عصره ، مأخوذ من الاقتران ، أى : عالم مقترن بعضهم إلى بعض.

وفي الحديث الشريف : «خير القرون قرني ـ يعنى أصحابى ـ ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم».

فالقرن على هذا مدة من الزمان. قيل : ستون عاما ، وقيل سبعون ، وقيل ثمانون ، وقيل : مائة سنة ، وعليه أكثر أصحاب الحديث ، أن القرن مائة سنة ، واحتجوا بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعبد الله بن بسر : «تعيش قرنا» فعاش مائة سنة (١).

و (لَمَّا) ظرف بمعنى حين ، وهو متعلق بقوله (أَهْلَكْنَا).

والمعنى : ولقد أهلكنا أهل القرون السابقة عليكم يا أهل مكة. حين استمروا في ظلمهم وعنادهم ، وحين أصروا على كفرهم بعد أن جاءتهم رسلهم بالدلائل الدالة على وحدانية الله ، وعلى صدقهم فيها يبلغونه عن ربهم ، فعليكم ـ أيها الغافلون ـ أن تثوبوا إلى رشدكم ، وأن تتبعوا الحق الذي جاءكم به نبيكم كي لا يصيبكم ما أصاب الظالمين من قبلكم.

وقوله : (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) يدل على إفراط أولئك المهلكين في الظلم ،

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٢٩٤.

٣٧

وبلوغهم فيه أقصى الغايات ، لأنهم مع وضوح الشواهد على صدق الرسل ، استمروا في جحودهم وظلمهم.

وقوله : (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) معطوف على (ظَلَمُوا). أى : أهلكنا أهل القرون السابقين عليكم حين استمروا على ظلمهم ، وحين علم الله ـ تعالى ـ منهم الإصرار على الكفر ، فإهلاكهم كان بسبب مجموع هذين الأمرين.

وقوله : (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) تذييل قصد به التهديد والوعيد.

أى : مثل ذلك الجزاء الأليم وهو إهلاك الظالمين ، نجزى القوم المجرمين في كل زمان ومكان.

وقوله ـ سبحانه ـ : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) معطوف على قوله (أَهْلَكْنَا).

والخلائف جمع خليفة. وهو كل من يخلف غيره ويأتى من بعده.

أى : ثم جعلناكم أيها المكلفون باتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلفاء في الأرض من بعد أولئك الأقوام المهلكين لنرى ونشاهد ونعلم أى عمل تعملون في خلافتكم فنجازيكم على ذلك بالجزاء المناسب الذي تقتضيه حكمتنا وإرادتنا ، و (كَيْفَ) مفعول مطلق ل (تَعْمَلُونَ) لا (لِنَنْظُرَ) لأن الاستفهام له الصدارة ، فلا يعمل فيه ما قبله.

قال الآلوسى : واستعمال النظر بمعنى العلم مجاز ، حيث شبه بنظر الناظر. وعيان المعاين في تحققه. والمراد نعاملكم معاملة من يطلب العلم بأعمالكم ليجازيكم بحسبها ، كقوله ـ تعالى ـ (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (١).

قال قتادة : صدق الله ربنا ، ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا ، فأروا الله من أعمالكم خيرا ، بالليل والنهار.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعض المقترحات الفاسدة التي اقترحها المشركون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورد عليها بما يبطلها فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٨٣.

٣٨

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ)(١٧)

قال الآلوسى ما ملخصه : «عن مقاتل قال : إن الآية (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا ..) نزلت في جماعة من قريش قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن كنت تريد أن نؤمن لك ، فأت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى وليس فيه ما يعيبها. وإن لم ينزل الله ـ تعالى ـ عليك ذلك فقل أنت هذا من نفسك ، أو بدله فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة ، ومكان حرام حلالا ، ومكان حلال حراما ، (١).

والمعنى : وإذا تتلى على أولئك المشركين آياتنا الواضحة المنزلة عليك ـ يا محمد ـ قالوا على سبيل العناد والحسد : ائت بقرآن آخر سوى هذا القرآن الذي تتلوه علينا ، أو بدله بأن تجعل مكان الآية التي فيها سب لآلهتنا ، آية أخرى فيها مدح لها.

وفي الآية الكريمة التفات من الخطاب إلى الغيبة ، إظهارا للإعراض عنهم ، حتى لكأنهم غير حاضرين ، وغير أهل لتوجيه الخطاب إليهم.

والمراد بالآيات : الآيات القرآنية الدالة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلى صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وأضافها ـ سبحانه ـ إليه على سبيل التشريف

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٨٥.

٣٩

والتعظيم ، وأسند التلاوة إلى الآيات بصيغة المبنى للمفعول ، للإشارة إلى أن هذه الآيات لوضوحها ، ولمعرفتهم التامة لتاليها ، صارت بغير حاجة إلى تعيين تاليها صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال صاحب الكشاف : «فإن قلت : فماذا كان غرضهم ـ وهم أدهى الناس وأمكرهم ـ في هذا الاقتراح؟

قلت : الكيد والمكر. أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله ، فأبدل مكانه آخر ، وأما اقتراح التبديل والتغيير فللطمع ولاختبار الحال ، وأنه إذا وجد منه تبديل ، فإما أن يهلكه الله فينجوا هم منه أو لا يهلكه فيسخروا منه ، ويجعلوا التبديل حجة عليه ، وتصحيحا لافترائه على الله» (١).

وقوله : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هذا القول أمر من الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يرد عليهم بما يزهق باطلهم.

وكلمة (تِلْقاءِ) مصدر من اللقاء كتبيان من البيان ، وكسر التاء فيهما سماعي ، والقياس في هذا المصدر فتحها كالتكرار والتطواف والتجوال.

والمعنى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ على سبيل التوبيخ : لا يصح لي بحال من الأحوال ، أن أبدل هذا القرآن من عند نفسي ومن جهتها ؛ وإنما أنا أبلغكم ما أنزل الله على منه ، بدون زيادة أو نقصان ، أو تغيير أو تبديل.

وقوله : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) تعليل لمضمون ما قبله من امتناع الإتيان بغيره أو تبديله ، والاقتصار على اتباع الوحى.

أى : إنى أخاف إن عصيت ربي أية معصية ، عذاب يوم عظيم الهول ، وإذا كان شأنى أن أخشاه ـ سبحانه ـ من أية معصية ولو كانت صغيرة ، فكيف لا أخشاه إن عصيت بتبديل كلامه استجابة لأهوائكم؟

ثم لقن الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردا آخر عليهم ، زيادة في تسفيه أفكارهم فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ، وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) وقوله : (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) بمعنى ولا أعلمكم وأخبركم به ، أى : بهذا القرآن. يقال : دريت الشيء وأدرانى الله به ، أى أعلمنى وأخبرنى به.

وأدرى فعل ماض ، وفاعله مستتر يعود على الله ـ عزوجل ـ والكاف والميم مفعول به.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٢٩.

٤٠