التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٧

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0657-4
الصفحات: ٦٠٢

وقوله : (نَحْشُرُهُمْ) أى نجمعهم يوم القيامة للحساب ، يقال : حشر القائد جنده ، إذا جمعهم للحرب أو لأمر من الأمور.

ويوم ظرف زمان منصوب بفعل مقدر.

والمعنى : واذكر أيها الرسول الكريم أو أيها الإنسان العاقل ، يوم نجمع الناس كافة ، لنحاسبهم على أعمالهم في الدنيا.

(ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) أى : ثم نقول للمشركين منهم في هذا اليوم العصيب ، الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم فلا تبرحوه حتى يقضى الله قضاءه فيكم ، فقوله : (مَكانَكُمْ) ظرف مكان منصوب بفعل مقدر ، وقوله (وَشُرَكاؤُكُمْ) معطوف على ضمير الفعل المقدر ، وقوله (أَنْتُمْ) تأكيد له. أى قفوا مكانكم أنتم وشركاؤكم.

وجاء العطف بثم ، للإشارة إلى أن بين حشرهم وبين ما يقال لهم ، مواقف أخرى فيها من الأهوال ما فيها ، فثم هنا للتراخي النسبي.

وقال ـ سبحانه ـ (مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) مع أن المشركين كانوا يعتبرون معبوداتهم شركاء الله ـ من باب التهكم بهم. وللإشارة إلى أن ما عبدوهم لم يكونوا في يوم من الأيام شركاء لله ، وإنما المشركون هم الذين وصفوهم بذلك افتراء وكذبا.

وجاء وصفهم بالشرك في حيز الصلة ، للإيذان بأنه أكبر جناياتهم ؛ وأن شركهم بالله ـ تعالى ـ هو الذي أدى بهم إلى هذا المصير المؤلم.

وقوله : (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) أى : ففرقنا بينهم ، وقطعنا ما بينهم من صلات ، وميزنا بعضهم عن بعض كما يميز بين الخصوم عند التقاضي والمساءلة.

وزيلنا : من التزييل بمعنى التمييز والتفريق ، يقال : زيلت الشيء أزيله إذا نحيته وأبعدته ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١) أى : لو تميزوا وتفرقوا.

وعبر بالفاء للدلالة على أن هذا التفريق والتمييز ؛ قد حدث عقب الخطاب من غير مهلة وجاء الأسلوب بصيغة الماضي مع أن هذا التذييل سيكون في الآخرة ، للإيذان بتحقيق الوقوع ، وإلى زيادة التوبيخ والتحسير لهم.

وقوله : (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) معطوف على ما قبله.

__________________

(١) سورة الفتح الآية ٢٥.

٦١

والمراد بالشركاء ؛ كل ما عبد من دون الله من إنس وجن وأوثان وغير ذلك.

أى : وقال شركاؤهم الذين أشركوهم في العبادة مع الله ـ تعالى ـ : إنكم أيها المشركون لم تكونوا لنا عابدين في الدنيا ، وإنما كنتم تعبدون أشياء أخرى زينها الشيطان لكم ؛ فانقدتم له بدون تدبر أو تعقل.

والمقصود بقولهم هذا ـ التبري من المشركين ، وتوبيخهم على أفكارهم الفاسدة.

وقوله : (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) تأكيد لهذا التبري والإنكار ، ورجوع إلى الشهادة الحق في ذلك.

و (إِنْ) في قوله (إِنْ كُنَّا) مخففة من الثقيلة .. أى : فكفى أن يكون الله ـ تعالى ـ شهيدا وحكما بيننا وبينكم ، فهو ـ سبحانه ـ يعلم حالنا وحالكم ، ويعلم أننا كنا في غفلة عن عبادتكم لنا ، بحيث إننا ما فكرنا فيها ولا رضينا بها.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات الكريمة ببيان أحوال الناس في هذا اليوم العظيم فقال : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ ، وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ).

أى : هنالك في ذلك الموقف الهائل الشديد ، تختبر كل نفس مؤمنة أو كافرة : ما سلف منها من أعمال ، فترى ما كان نافعا أو ضارا من هذه الأعمال ، وترى الجزاء المناسب عن كل عمل بعد أن عاد الجميع إلى الله مولاهم الحق ، ليقضى بينهم بقضائه العادل ، وقد غاب عن المشركين في هذا الموقف ما كانوا يفترونه من أن هناك آلهة أخرى ستشفع لهم يوم القيامة.

وهكذا ترى الآيات الكريمة تصور أحوال الناس يوم الدين تصويرا بليغا مؤثرا ، يتجلى فيه موقف الشركاء من عابديهم ، وموقف كل إنسان من عمله الذي أسلفه في الدنيا.

وبعد هذا الحديث المعجز عن يوم الحشر وأهواله ، ساقت السورة الكريمة بضع آيات فيها الأدلة المقنعة على وحدانية الله وقدرته ، ولكن بأسلوب السؤال والجواب ، فقال ـ تعالى :

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ

٦٢

فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٣٣)

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : من الذي يرزقكم من السماء بالأمطار وما يتولد عنها ، ومن الأرض وما يخرج منها من نباتات وأشجار ، وغير ذلك مما تخرجه الأرض.

وقوله : (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) أى : بل قل لهم ـ أيضا ـ من الذي يملك ما تتمتعون به من سمع وبصر ، ومن الذي يستطيع خلقهما وتسويتهما بالطريقة التي أوجدها ـ سبحانه.

وخص هاتين الحاستين بالذكر ، لأن لهما أعظم الأثر في حياة الإنسان ، ولأنهما قد اشتملتا في تركيبهما على ما بهر العقول ، ويشهد بقدرته ـ تعالى ـ وعجيب صنعه في خلقه.

وأم هنا منقطعة بمعنى بل ، وهي هنا للإضراب الانتقالى لا الإبطالى ، وفيه تنبيه على كفاية هذا الاستفهام في الدلالة على المقصود ، وهو إثبات قدرة الله ـ تعالى ـ ووجوب إخلاص العبادة له.

وقوله : (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) دليل ثالث على قدرة الله ووحدانيته.

أى : وقل لهم كذلك من سوى الله ـ تعالى ـ يملك إخراج النبات وهو كائن حي من الأرض الميتة ، وإخراج الإنسان وهو كائن حي من النطفة وبالعكس ، وإخراج الطير من البيضة وبالعكس.

وقوله : (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) دليل رابع على قدرة الله ووحدانيته أى : وقل لهم ـ أيضا ـ من الذي يتولى تدبير أمر هذا الكون من إحياء وإماتة ، وصحة ومرض ، وغنى وفقر ، وليل ونهار ، وشمس وقمر ونجوم ...

هذه الجملة الكريمة من باب التعميم بعد التخصيص ، لأن كل ما سبق من نعم يندرج فيها.

وقوله : (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) حكاية للجواب الذي لا يستطيعون إنكاره ، لأنهم مقرون معترفون بأن الله ـ تعالى ـ هو الذي خلقهم ، وهو الذي يدبر أمرهم ، وإنما كانوا يتخذون

٦٣

الشركاء للزلفى ، كما حكى القرآن عنهم في قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ..) وفي قوله ـ سبحانه ـ حكاية عنهم (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ..).

ولفظ الجلالة مبتدأ ، والخبر محذوف والتقدير : فسيقولون الله وحده هو الذي فعل كل ذلك.

وقوله : (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أمر من الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يرد عليهم بهذا الرد.

والهمزة لإنكار واقعهم الذميم ، وهي داخلة على كلام مقدر ، ومفعول تتقون محذوف.

أى : أتعلمون وتعترفون بأن الله ـ تعالى ـ هو الخالق لكل ما سبق ، ومع ذلك تشركون معه آلهة في العبادة ، دون أن تتقوا عذابه يوم القيامة؟.

إن مسلكك هذا إنما يدل على ضعف في التفكير ، وانطماس في العقول ، وجهالة ليس بعدها جهالة.

ثم أرشدهم ـ سبحانه ـ إلى الطريق القويم لو كانوا يعقلون فقال : (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ...).

أى : فذلكم الذي فعل ما فعل من رزقكم ومن تدبير أمركم ، هو الله المربى لكم بنعمه ، وهو الذي لا تحق العبودية والألوهية إلا له وحده.

إذا كان الأمر كذلك (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) أى لا يوجد غير الحق شيء يتبع سوى الضلال ، فمن ترك الحق وهو عبادة الله وحده ، فقد وقع في الباطل والضلال وهو عبادة غيره من الآلهة الأخرى.

قال القرطبي : «ثبت عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل قال : «اللهم لك الحمد» الحديث ، وفيه : أنت الحق ، ووعدك الحق ، وقولك الحق ، ولقاؤك الحق ، والجنة حق والنار حق ، والنبيون حق ، ومحمد حق ...».

فقوله : أنت الحق ، أى الواجب الوجود ، وأصله من حق الشيء إذا ثبت ووجب ـ وهذا الوصف لله ـ تعالى ـ بالحقيقة ، إذ وجوده بنفسه لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم ، وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم ، ويجوز عليه لحاق العدم ، ووجوده من موجده لا من نفسه.

ومقابلة الحق بالضلال عرف لغة وشرعا كما في هذه الآية .. والضلال حقيقته الذهاب عن

٦٤

الحق مأخوذ من ضلال الطريق ، وهو العدول عن سمته ، يقال : ضل الطريق وأضل الشيء إذا أضاعه ..» (١).

وقوله : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أى : فكيف تصرفون وتتحولون عن الحق إلى الضلال ، بعد اعترافكم وإقراركم بأن خالقكم ورازقكم ومدبر أمركم هو الله ـ تعالى ـ وحده.

فأنى هنا بمعنى كيف ، والاستفهام لإنكار واقعهم المخزى واستبعاده والتعجب منه.

ومن الأحكام التي تؤخذ من هذه الآية الكريمة : أن الحق والباطل ، والهدى والضلال ، نقيضان لا يجتمعان ، لأن النقيضين يمتنع أن يكونا حقين وأن يكونا باطلين في وقت واحد بل متى ثبت أن أحدهما هو الحق ، وجب أن يكون الآخر هو الباطل.

ثم بين ـ سبحانه ـ سنة من سننه التي لا تتخلف ولا تتبدل ، فقال ـ تعالى ـ :

(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

والكاف للتشبيه بمعنى مثل. وحقت بمعنى وجبت وثبتت.

والمراد بالكلمة هنا : حكمه وقضاؤه ـ سبحانه ـ.

والمعنى : مثل ما ثبت أن الله ـ تعالى ـ هو الرب الحق ، وأنه ليس بعد الحق إلا الضلال ، ثبت ـ أيضا ـ الحكم والقضاء منه ـ سبحانه ـ على الذين فسقوا عن أمره ، وعموا وصموا عن الحق ، أنهم لا يؤمنون به ، لأنهم إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا ، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا.

فالمراد بالفسق هنا : التمرد في الكفر ، والسير فيه إلى أقصى حدوده.

ثم ساق ـ سبحانه ـ أنواعا أخرى من الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته.

فقال :

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٣٦.

٦٥

يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ)(٣٦)

أى : قل يا محمد لهؤلاء الغافلين عن الحق : هل من شركائكم الذين عبدتموهم من دون الله ، أو أشركتموهم مع الله ، من له القدرة على أن يبدأ خلق الإنسان من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ... ثم ينشئه خلقا آخر ، ثم يعيده إلى الحياة مرة أخرى بعد موته؟

قل لهم يا محمد : الله وحده هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ، أما شركاؤكم فهم أعجز من أن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ...

وإذا كان الأمر كذلك من الوضوح والظهور (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) والإفك الصرف والقلب عن الشيء. يقال : أفكه عن الشيء يأفكه أفكا ، إذا قلبه عنه وصرفه.

أى فكيف ساغ لكم أن تصرفوا عقولكم عن عبادة الإله الحق ، إلى عبادة أصنام لا تنفع ولا تضر؟!.

وجاءت جملة (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ ..) بدون حرف العطف على ما قبلها للإيذان باستقلالها في حصول المطلوب ، وإثبات المقصود.

وساق ـ سبحانه ـ الأدلة بأسلوب السؤال والاستفهام ، لأن الكلام إذا كان واضحا جليا ثم ذكر على سبيل الاستفهام ، وتفويض الجواب إلى المسئول كان ذلك أبلغ وأوقع في القلب.

وجعل ـ سبحانه ـ إعادة المخلوقات بعد موتها حجة عليهم في التدليل على قدرته مع عدم اعترافهم بها ، للإيذان بسطوع أدلتها ، لأن القادر على البدء يكون أقدر على الإعادة كما قال ـ تعالى ـ (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ..) (١).

فلما كان إنكارهم لهذه الحقيقة الواضحة من باب العناد أو المكابرة ، نزل إنكارهم لها منزلة العدم.

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : «فإن قلت : كيف قيل لهم هل من

__________________

(١) سورة الروم الآية ٢٧.

٦٦

شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ، وهم غير معترفين بالإعادة؟.

قلت : قد وضعت إعادة الخلق لظهور برهانها موضع ما إن دفعه دافع كان مكابرا رادا الظاهر البين الذي لا مدخل للشبهة فيه ، ودلالة على أنهم في إنكارهم لها منكرون أمرا مسلما معترفا بصحته عند العقلاء. وقال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) فأمره بأن ينوب عنهم في الجواب. يعنى أنه لا يدعهم لجاجهم ومكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق فتكلم أنت عنهم ..» (١).

وقوله : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ). حجة أخرى تدمغ جهلهم ، جيء بها لتكون دليلا على قدرة الله على الهداية والإضلال ، عقب إقامة الأدلة على قدرته ـ سبحانه ـ على بدء الخلق وإعادتهم.

أى : قل لهم يا محمد ـ أيضا ـ على سبيل التهكم من أفكارهم : هل من شركائكم من يستطيع أن يهدى غيره إلى الدين الحق ، فينزل كتابا ، أو يرسل رسولا ، أو يشرع شريعة ، أو يضع نظاما دقيقا لهذا الكون. أو يحث العقول على التدبر والتفكر في ملكوت السموات والأرض ...؟

قل لهم يا محمد : الله وحده هو الذي يفعل كل ذلك ، أما شركاؤكم فلا يستطيعون أن يفعلوا شيئا من ذلك أو من غيره.

وقوله : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى ..) توبيخ آخر لهم على جهالاتهم وغفلتهم عن إدراك الأمور الواضحة.

أى : قل لهم يا محمد : أفمن يهدى غيره إلى الحق وهو الله ـ تعالى ـ. أحق أن يتبع فيما يأمر به وينهى عنه ، أم من لا يستطيع أن يهتدى بنفسه إلا أن يهديه غيره أحق بالاتباع؟ لا شك أن الذي يهدى غيره إلى الحق أحق بالاتباع من الذي هو في حاجة إلى أن يهديه غيره.

وقوله : (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) استفهام قصد به التعجيب من أحوالهم التي تدعو إلى الدهشة والغرابة.

أى : ما الذي وقع لكم ، وما الذي أصابكم في عقولكم حتى صرتم تشركون في العبادة مع الله الخالق الهادي ، مخلوقات لا تهدى بنفسها وإنما هي في حاجة إلى من يخلقها ويهديها.

قال الإمام الرازي : «واعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولا ثم بالهداية

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٣٦.

٦٧

ثانيا ، عادة مطردة في القرآن ، فقد حكى ـ سبحانه ـ عن إبراهيم أنه ذكر ذلك فقال : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) وعن موسى أنه قال : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) وأمر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فقال : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى). وهو في الحقيقة دليل شريف ، لأن الإنسان له جسد وله روح ، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق ، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية ، فهاهنا أيضا لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى وهو قوله : (مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية (١).

وقوله : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) ورد فيه ست قراءات ، منها قراءة يعقوب وحفص بكسر الهاء وتشديد الدال ، ومنها قراءة حمزة والكسائي بالتخفيف كيرمى ، ومنها قراءة ابن كثير وابن عامر وورش عن نافع «يهدى» فتح الياء والهاء وتشديد الدال .. (٢).

والاستثناء في قوله : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) مفرغ من أعم الأحوال.

والتقدير : أفمن يهدى إلى الحق أحق بالاتباع ، أم من لا يستطيع الهداية إلا أن يهديه إليها غيره أحق بالاتباع؟

وجاء قوله ـ سبحانه ـ (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) باستفهامين متواليين ، زيادة في توبيخهم وتقريعهم ، ولفت أنظارهم إلى الحق الواضح الذي لا يخفى على كل ذي عقل سليم.

وقوله : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ...) توبيخ آخر لهم على انقيادهم للأوهام والظنون ، وتسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه منهم من إساءات.

أى : إن هؤلاء الذين أعرضوا عن دعوتك يا محمد ، لا يتبعون في عقائدهم وعبادتهم لغير خالقهم سوى الظنون والأوهام التي ورثها الأبناء عن الآباء.

وخص أكثرهم بالذكر ، لأن هناك قلة منهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم ، ولكنهم لا يتبعونه عنادا وجحودا وحسدا ، كما قال ـ تعالى ـ (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٣).

ويجوز أن يكون ـ سبحانه ـ خص أكثرهم بالذكر ، للإشارة إلى أن هناك قلة منهم تعرف الحق ، وستتبعه في الوقت الذي يريده الله ـ تعالى.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٩٠.

(٢) راجع تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٤١.

(٣) سورة الأنعام الآية ٣٣.

٦٨

والتنكير في قوله (ظَنًّا) للتنويع. أى لا يتبع أكثرهم إلا نوعا من الظن الواهي الذي لا يستند إلى دليل أو برهان.

وقوله : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) استئناف مسوق لبيان شأن الظن وبطلانه.

والمراد بالظن هنا : ما يخالف العلم واليقين ، والمراد بالحق : العلم والاعتقاد الصحيح المطابق للواقع.

أى : إن الظن الفاسد المبنى على الأوهام لا يغنى صاحبه شيئا من الإغناء ، عن الحق الثابت الذي لا ريب في ثبوته وصحته.

وقوله (شَيْئاً) مفعول مطلق أى : لا يغنى شيئا من الإغناء ، ويجوز أن يكون مفعولا به على جعل يغنى بمعنى يدفع.

وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) تذييل قصد به التهديد والوعيد.

أى : إن الله ـ تعالى ـ عليم بأقوالهم وأفعالهم ، وسيحاسبهم عليها يوم القيامة ، وسينالون ما يستحقونه من عقاب بسبب أقوالهم الباطلة. وأفعالهم الفاسدة.

قال صاحب المنار ما ملخصه : «استدل العلماء بهذه الآية على أن العلم اليقيني واجب في الاعتقاديات ، ويدخل في الاعتقاديات الإيمان بأركان الإسلام وغيرها من الفرائض والواجبات القطعية ، والإيمان بتحريم المحظورات القطعية كذلك ...

أما ما دون العلم اليقيني مما لا يفيد إلا الظن فلا يؤخذ به في الاعتقاد وهو متروك للاجتهاد في الأعمال ، كاجتهاد الأفراد في الأعمال الشخصية ، واجتهاد أولى الأمر في الإدارة والسياسة ، مع التقيد بالشورى وتحرى العدل ..» (١).

وبعد أن ساقت السورة الكريمة ألوانا من البراهين الدالة على وحدانية الله ـ تعالى ـ ، وعلى صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن من عند الله تعالى ، عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن القرآن الكريم ، فتحدت أعداءه أن يأتوا بسورة مثله ، ووصفتهم بالجهالة وسفاهة الرأى ، وصورت أحوالهم ومواقفهم من دعوة الحق تصويرا بليغا. استمع إلى السورة الكريمة وهي تتحدث عن كل ذلك فتقول :

__________________

(١) تفسير المنار ج ١١ ص ٣٦٤.

٦٩

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٤٤)

قال الإمام ابن كثير «هذا بيان لإعجاز القرآن ، وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله ، ولا بعشر سور ولا بسورة من مثله ؛ لأنه بفصاحته وبلاغته ووجازته وحلاوته واشتماله على المعاني الغزيرة النافعة في الدنيا والآخرة ، لا يكون إلا من عند الله ـ تعالى ـ الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ولا في أقواله ، فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين ، ولهذا قال ـ تعالى ـ : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) (١).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤١٧.

٧٠

والنفي هنا للشأن الذي هو أبلغ في النفي ، وأعمق في الدلالة على أن هذا القرآن من عند الله ، من نفى الشيء في ذاته مباشرة.

أى : وليس من شأن هذا القرآن المعجز ، أن يخترعه أو يختلقه أحد من الإنس أو الجن أو غيرهما ؛ لأن ما اشتمل عليه من إعجاز وبلاغة وتشريعات حكيمة ، وآداب قويمة ، وهدايات جامعة ... يشهد بأنه من كلام خالق القوى والقدر.

وقوله : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) بيان لكمال هداية القرآن الكريم ، وهيمنته على الكتب السماوية السابقة.

والمراد بالذي بين يديه : الكتب السابقة على القرآن كالتوراة والإنجيل والزبور.

وقوله (بَيْنَ يَدَيْهِ) فيه نوع مجاز ؛ لأن ما بين يدي الشيء يكون أمامه ، فوصف ـ سبحانه ـ ما مضى من الكتب بأنها بين يدي القرآن لشدة ظهورها واشتهارها ، ومعنى تصديق القرآن للكتب السابقة : تأييده لما اشتملت عليه من دعوة إلى وحدانية الله ـ تعالى ـ ، ومن أمر باتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ظهوره.

وأل في (الْكِتابِ) للجنس ، فالمراد به جنس الكتب السماوية التي أنزلها ـ سبحانه ـ على بعض أنبيائه.

والمعنى : ليس من شأن هذا الكتاب في إعجازه وهدايته أن يكون من عند غير الله ، لأن غيره ـ سبحانه ـ لا يقدر على ذلك ، ولكن من شأنه أن يكون مؤيدا للكتب السماوية السابقة فيما دعت إليه من إخلاص العبودية لله ـ تعالى ـ ومن اتباع لرسله ، وأن يكون مفصلا وموضحا لما اشتملت عليه هذه الكتب من تشريعات وآداب وأحكام.

وقوله (تَصْدِيقَ) منصوب على أنه معطوف على خبر كان ، أو على أنه خبر لكان المقدرة أى : ولكن كان تصديق.

وقوله (لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) بيان لمصدره.

أى : هذا الكتاب لا ريب ولا شك في كونه منزلا على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الله ـ تعالى ـ رب العالمين.

وفصلت جملة (لا رَيْبَ فِيهِ) عما قبلها لأنها مؤكدة له ، ومقررة لمضمونه.

ونفى ـ سبحانه ـ عن القرآن الريب على سبيل الاستغراق : مع وقوع الريب فيه من المشركين ، حيث وصفوه بأنه أساطير الأولين ، لأنه لروعة بيانه ، وسطوع حجته ، ووضوح دلائله ، لا يرتاب ذو عقل متدبر في كونه وحيا سماويا ، ومصدر هداية وإصلاح.

٧١

فجملة (لا رَيْبَ فِيهِ) تنفى الريب في القرآن عمن شأنهم أن يتدبروه ، ويقبلوا على النظر فيه بروية ومن ارتاب فيه فلأنه لم يقبل عليه بأذن واعية ، أو بصيرة نافذة أو قلب سليم.

وقوله ـ سبحانه (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) انتقال من بيان كون القرآن من عند الله ، إلى بيان مزاعمهم فيه.

وأم هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة للاستفهام ، أى : بل أيقولون إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي أتى بهذا القرآن من عند نفسه لا من عند الله.

وقوله (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ). أمر من الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يرد عليهم بما يكبتهم ويخرس ألسنتهم.

أى : قل لهم : يا محمد على سبيل التبكيت والتحدي : إن كان الأمر كما زعمتم من أنى أنا الذي اختلقت هذا القرآن ، فأتوا أنتم يا فصحاء العرب بسورة مثل سوره في البلاغة والهداية وقوة التأثير ، وقد أبحت لكم مع ذلك أن تدعوا لمعاونتكم ومساعدتكم في بلوغ غايتكم كل من تستطيعون دعوته سوى الله ـ تعالى ـ وجاءت كلمة «سورة» منكرة ، للإشارة إلى أنه لا يطالبهم بسورة معينة ، وإنما أباح لهم أن يأتوا بأية سورة من مثل سور القرآن ، حتى ولو كانت كأصغر سورة منه.

والضمير في (مِثْلِهِ) يعود إلى القرآن الكريم ، والمراد بمثله هنا : ما يشابهه في حسن النظم ، وجمال الأسلوب ، وسداد المعنى ، وقوة التأثير.

وقوله : (وَادْعُوا) من الدعاء ، والمراد به هنا : طلب حضور المدعو أى نادوهم.

وكلمة (مَنِ) في قوله : (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) تشمل آلهتهم وبلغاءهم وشعراءهم وكل من يتوسمون فيه العون والمساعدة.

وكلمة (دُونِ) هنا بمعنى غير أى : ادعوا لمساعدتكم كل من تستطيعون دعوته غير الله ـ تعالى ـ فإنه وحده القادر على أن يأتى بمثله.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) جملة شرطية ، وجوابها محذوف لدلالة الكلام السابق عليه ، أى : إن كنتم صادقين في دعواكم أنى افتريت هذا القرآن ، فهاتوا سورة مثله مفتراة ، فإنكم مثلي في العربية والفصاحة.

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد تحدتهم وأثارت حماستهم ، وأرخت لهم الحبل ، وعرضت بعدم صدقهم ، حتى تتوافر دواعيهم على المعارضة التي زعموا أنهم أهل لها.

٧٢

قال الآلوسى : «هذه الآية دلالة على إعجاز القرآن ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحدى مصاقع العرب بسورة ما منه ، فلم يأتوا بذلك ، وإلا فلو أتوا بذلك لنقل إلينا ، لتوفر الدواعي على نقله» (١).

هذا وقد عقد صاحب الظلال فصلا طويلا للحديث عن إعجاز القرآن فقال : «وقد ثبت هذا التحدي ، وثبت العجز عنه ، وما يزال ثابتا ولن يزال ، والذين يدركون بلاغة هذه اللغة ، ويتذوقون الجمال الفنى والتناسق فيها ، يدركون أن هذا النسق من القول لا يستطيعه إنسان ، وكذلك الذين يدرسون النظم الاجتماعية ، والأصول التشريعية ، ويدرسون النظام الذي جاء به هذا القرآن ، يدركون أن النظرة فيه إلى تنظيم الحاجة الإنسانية ومقتضيات حياتها من جميع جوانبها ، والفرص المدخرة فيه لمواجهة الأطوار والتقلبات في يسر ومرونة كل أولئك أكبر من أن يحيط به عقل بشرى واحد ، أو مجموعة من العقول في جيل واحد أو في جميع الأجيال ، ومثلهم الذين يدرسون النفس الإنسانية ووسائل الوصول إلى التأثير فيها وتوجيهها ، ثم يدرسون وسائل القرآن وأساليبه.

فليس هو إعجاز اللفظ والتعبير وأسلوب الأداء وحده ، ولكنه الإعجاز المطلق الذي يلمسه الخبراء في هذا وفي النظم والتشريعات والتقسيمات وما إليها ...» (٢).

ثم انتقلت السورة الكريمة من توبيخهم على كذبهم وجحودهم ، إلى توبيخهم على جهلهم وغباوتهم فقال ـ تعالى ـ : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ...).

أى : أن هؤلاء الأشقياء لم يكتفوا بما قالوه في شأن القرآن الكريم من أقاويل فاسدة ، بل هرولوا إلى تكذيب ما فيه من هدايات سامية ، وآداب عالية ، وأخبار صادقة ، بدون فهم أو تدبر ، وبدون انتظار لتفسير معانيه وأخباره التي لم يهتدوا إلى معرفتها بعد.

قال صاحب الكشاف قوله (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أى : بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره ، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه ، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم ، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم كالناشئ على التقليد من الحشوية ، إذا أحس بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه ، وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة أنكرها في أول وهلة ، واشمأز منها قبل أن يحسن إدراكها بحاسة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد ، لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه ، وفساد ما عداه من المذاهب ..

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١١٩.

(٢) راجع تفسير في ظلال القرآن ج ١١ ص ١٧٨٥ وما بعدها طبعة دار الشروق.

٧٣

فإن قلت : فما معنى التوقع في قوله : (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)؟ قلت : معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل ، تقليدا للآباء ، وكذبوه بعد التدبر تمردا ، وعنادا فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم.

ويجوز أن يكون معنى (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب ، يعنى أنه كتاب معجز من جهتين : من جهة إعجاز نظمه ، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب ، فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز ، وقبل أن يخبروا إخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه» (١).

وقال الآلوسى : وعبر ـ سبحانه ـ بقوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) دون أن يقال. بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه أو نحوه للإيذان بكمال جهلهم به ، وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدم العلم به ، وبأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم إحاطتهم بعلمه ، لما أن تعليق الحكم بالموصول مشعر بعلية ما في حيز الصلة له ، وأصل الكلام بما لم يحيطوا به علما ، إلا أنه عدل منه إلى ما في النظم الكريم لأنه أبلغ.

ونفى إتيان التأويل بكلمة (لَمَّا) الدالة على توقع منفيها بعد نفى الإحاطة بعلمه بكلمة «لم» ؛ لتأكيد الذم ، وتشديد التشنيع ، فإن الشناعة في تكذيب الشيء ، قبل علمه المتوقع إتيانه أفحش منها في تكذيبه قبل علمه مطلقا» (٢).

وقوله (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) تهديد لهم ووعيد على التمادي في العناد.

أى : كما كذب المشركون نبيهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جهل وجحود : كذب الذين من قبلهم أنبياءهم ، كقوم نوح وعاد وثمود ، فكانت نتيجة هذا التكذيب أن أخذهم الله ـ تعالى ـ أخذ عزيز مقتدر.

قال ـ تعالى ـ : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٣).

ثم فصل ـ سبحانه ـ أحوالهم ومواقفهم من القرآن الكريم فقال : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٣٨.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٢٠.

(٣) سورة العنكبوت الآية ٤٠.

٧٤

أى : ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن ، ويتبعك وينتفع بما أرسلت به ، ومنهم من لا يؤمن به أبدا لاستحبابه العمى على الهدى.

وعليه يكون المراد بمن يؤمن به ، أولئك الذين وفقهم الله لا تباع الحق عن يقين وإذعان.

وقيل إن المعنى : ومن قومك يا محمد أناس يؤمنون في قرارة نفوسهم بأن هذا القرآن من عند الله ، ولكنهم يكذبونك جحودا وعنادا ومنهم من لا يؤمن به أصلا لانطماس بصيرته ، وإيثاره الغي على الرشد.

وعلى هذا التفسير يكون المراد بمن يؤمن به : أولئك الذين يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم ، ولكن الغرور والجهل والحسد حال بينهم وبين اتباعه.

وقوله : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) أى : وربك أعلم بالمفسدين في الأرض بالشرك والظلم والفجور ، وسيحاسبهم على ذلك يوم الدين حسابا عسيرا ، ويذيقهم العذاب الذي يستحقونه ، فالمراد بالعلم هنا لازمه وهو الحساب والعقاب.

وقوله : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) إرشاد من الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ما لج أعداؤه في طغيانهم. أى : وإن تمادى هؤلاء الأشرار في طغيانهم وفي تكذيبهم لك يا محمد ، فقل لهم : أنا مسئول عن عملي أمام الله ، وأنتم مسئولون عن أعمالكم أمامه ـ سبحانه ـ وأنتم بريئون مما أعمله فلا تؤاخذونى عليه ، وأنا برىء كذلك من أعمالكم فلا يؤاخذنى الله عليها.

فالآية الكريمة تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من قومه. وإعلام له بأن وظيفته البلاغ ، أما حسابهم على أعمالهم فعلى الله ـ تعالى ـ.

ثم صور ـ سبحانه ـ ما عليه أولئك الجاحدون من جهالات مطبقة ، وغباء مستحكم فقال ـ تعالى ـ : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ).

أى : ومن هؤلاء المشركين ـ يا محمد ـ من يستمعون إليك وأنت تقرأ عليهم القرآن وترشدهم إلى ما ينفعهم ، ولكنهم يستمعون بلا تدبر أو فهم ، فهل أنت ـ يا محمد ـ في إمكانك أن تسمع الصم ، ولو انضم إلى صممهم عدم تعقلهم ، لأن الأصم العاقل ـ كما يقول صاحب الكشاف ـ ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دوى الصوت ، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعا فقد تم الأمر.

ومنهم ـ أيضا ـ من ينظر إليك ، ويشاهد البراهين الدالة على صدقك ، فإن وجهك ليس بوجه كذاب ، ولكنه لا يتبع دعوتك جحودا وعنادا ، فهل أنت في إمكانك أن تهدى العمى ولو

٧٥

انضم إلى فقدان بصرهم فقدان بصيرتهم فأنت ترى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد نعتا على المشركين جهالاتهم ، وانطماس بصيرتهم ، بحيث صاروا لا ينتفعون بنعم الله التي أنعم بها عليهم.

فقد وصمهم ـ سبحانه ـ يفقدان السمع والبصر والعقل ، مع أنهم يسمعون ويبصرون ويعقلون ، لأنهم لما لم يستعملوا نعم الله فيما خلقت له ، صارت هي والعدم سواء.

والاستفهام في الآيتين للإنكار والاستبعاد.

وجواب لو في الآيتين محذوف لدلالة ما قبله عليه ، والجملة معطوفة على جملة مقدرة مقابلة لها. أى : أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون ، على معنى أفأنت تستطيع إسماعهم في الحالتين؟ كلا لا تستطيع ذلك وإنما القادر على ذلك هو الله وحده.

ثم بين ـ سبحانه ـ سنة من سننه التي لا تتخلف فقال : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

أى : إن الله ـ تعالى ـ قد اقتضت سننه في خلقه ، أن لا يظلمهم شيئا ، كأن يعذبهم ـ مثلا ـ مع إيمانهم وطاعتهم له ، أو كأن ينقصهم شيئا من الأسباب التي يهتدون باستعمالها إلى ما فيه خيرهم .. ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم ، بإيرادها موارد المهالك عن طريق اجتراح السيئات ، واقتراف الموبقات ، الموجبة للعقوبات في الدنيا والآخرة.

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة ، قد نفت تصور أن يكون هذا القرآن من عند غير الله ، وتحدت المشركين أن يأتوا بسورة مثله ، ووصمتهم بالتسرع في الحكم على شيء لم يحيطوا بعلمه ، وأمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يثبت على دعوة الحق ، سواء استجاب له الناس أم لم يستجيبوا ، وأن الله ـ تعالى ـ قد اقتضت حكمته ألا يعذب الناس إلا إذا فعلوا ما يوجب العقوبة ، وصدق الله إذ يقول : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً).

وبعد أن بينت السورة الكريمة أحوال أولئك المشركين في الدنيا ، ومواقفهم من الدعوة الإسلامية ، أتبعت ذلك بالحديث عن أحوالهم يوم الحشر ، ومن استعجالهم للعذاب ، وعن رد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ

٧٦

وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(٤٩)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) بيان لأحوالهم السيئة عند جمعهم لحساب يوم القيامة.

إذ الحشر ـ كما يقول الراغب ـ إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها» (١).

والمراد به هنا : إخراج الناس من قبورهم وجمعهم في الموقف لحسابهم على أعمالهم الدنيوية.

والمقصود بالساعة هنا : المدة القليلة من الزمان ، فقد جرت العادة أن يضرب بها المثل في الوقت القصير.

والمعنى : واذكر أيها الرسول الكريم ، وذكر هؤلاء المشركين الذين عموا وصموا عن الحق ، يوم يجمعهم الله ـ في الآخرة للحساب والعقاب ، فيشتد كربهم ، وينسون تلك الملذات والشهوات .. التي استمتعوا بها في الدنيا ، حتى لكأنهم لم يلبثوا فيها وفي قبورهم ، إلا ساعة من النهار أى : إلا مدة قصيرة من النهار ، يتعارفون بينهم ، أى : لا تتسع تلك المدة إلا للتعارف فيما بينهم.

وقوله : (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) جملة حالية من ضمير الجمع في يحشرهم.

وخصت الساعة بكونها من النهار ، لأنها أعرف لهم من ساعات الليل.

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص ١١٩.

٧٧

والمقصود بالتشبيه : بيان أن هذه السنوات الطويلة التي قضاها هؤلاء المشركون في الدنيا يتمتعون بلهوها ولعبها ، ويستبعدون معها أن هناك بعثا وحسابا .. قد زالت عن ذاكرتهم في يوم القيامة ، حتى لكأنهم لم يمكثوا فيها سوى وقت قصير لا يتسع لأكثر من التعارف القليل مع الأقارب والجيران والأصدقاء ، حتى لكأن ذلك النعيم الذي تقلبوا فيه دهرا طويلا لم يروه من قبل ...

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ في سورة الأحقاف : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) (١) وقوله ـ سبحانه ، في سورة الروم (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) (٢).

فإن قيل : إن هناك بعض الآيات ذكرت أنهم عند ما يسألون يحسبون بأنهم لبثوا في الدنيا يوما أو بعض يوم ، أو عشية أو ضحاها كما في قوله ـ تعالى ـ : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ، قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) (٣). وكما في قوله ـ تعالى ـ (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) (٤) فكيف نجمع بين هذه الآيات التي اختلفت إجابتهم فيها؟.

فالجواب : أن أهل الموقف يختلفون في تقدير الزمن الذي لبثوه في الدنيا على حسب اختلاف أحوالهم ، وعلى حسب أهوال كل موقف ، فإن في يوم القيامة مواقف متعددة بعضها أشد من بعض.

وقوله (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) جملة حالية أيضا من ضمير الجمع في يحشرهم.

قال القرطبي : «وهذا التعارف توبيخ وافتضاح ، يقول بعضهم لبعض : أنت أضللتنى وأغويتنى وحملتني على الكفر ، وليس تعارف شفقة ورحمة وعطف ... والصحيح أنه لا ينقطع هذا التعارف التوبيخي عند مشاهدة أهوال القيامة ، لقوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) ...

فأما قوله : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) وأشباهه فمعناه : لا يسأله سؤال رحمة وشفقة ..» (٥).

وقوله : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان

__________________

(١) الآية ٣٥.

(٢) الآية ٥٥.

(٣) سورة المؤمنون الآية ١١٢ ، ١١٣.

(٤) سورة المنازعات الآية الأخيرة.

(٥) تفسير القرطبي ـ يتصرف وتلخيص ـ ج ٨ ص ٣٤٨.

٧٨

حكم الله عليهم في آخرتهم بعد أن ضيعوا دنياهم.

والمراد بلقاء الله : مطلق الحساب والجزاء الكائن في يوم القيامة.

أى : أن هؤلاء الأشقياء الذين أعرضوا عن الحق وأنكروا الحشر ، قد خسروا سعادتهم الأبدية ، وحق عليهم العذاب المهين ، بسبب كفرهم وطغيانهم ، وعدم اهتدائهم إلى طريق النجاة.

وقوله : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) تأكيد لخسرانهم ، ولوقوع العذاب بهم ، وتسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه منهم و «إن» شرطية. و «ما» مزيدة لتأكيد معنى الشرط ، وجملة (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) جواب للشرط وما عطف عليه.

والمعنى : إن هؤلاء المشركين الذين ناصبوك العداوة أيها الرسول الكريم لا يخفى علينا أمرهم ونحن إما نرينك ببصرك بعض الذي نعدهم به من العذاب الدنيوي ، وإما نتوفينك ، قبل ذلك ، وفي كلتا الحالتين فإن مرجعهم إلينا وحدنا في الآخرة ، فنعاقبهم العقوبة التي يستحقونها.

وقال ـ سبحانه ـ (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) للإشارة إلى أن ما ينزل بهم من عذاب دنيوى ، هو جزء من العذاب المدخر لهم في الآخرة.

وقد أنجز الله ـ تعالى ـ وعده لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلط عليهم القحط والمجاعة ، حتى كانوا لشدة جوعهم يرون كأن بينهم وبين السماء دخانا. ونصر المسلمين عليهم في غزوتى بدر والفتح ، وكل ذلك حدث في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال ـ سبحانه ـ (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) ولم يقل بعض الذي وعدناهم ، لاستحضار صورة العذاب ، والدلالة على تجدده واستمراره.

أى : نعدهم وعدا متجددا على حسب ما تقتضيه حكمتنا ومشيئتنا ، من إنذار عقب إنذار ، ومن وعيد بعد وعيد.

والمراد من الشهادة في قول (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) لازمها وهو المعاقبة والمجازاة ، فكأنه ـ سبحانه ـ يقول : ثم الله ـ تعالى ـ بعد ذلك معاقب لهم على ما فعلوه من سيئات ، وما يرتكبونه من منكرات.

قال صاحب الكشاف : «فإن قلت : الله شهيد على ما يفعلون في الدارين فما معنى ثم؟

قلت : ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب ، فكأنه قال : ثم الله معاقبهم على ما يفعلون. ويجوز أن يراد أن الله مؤد شهادته على أفعالهم يوم القيامة حين ينطق

٧٩

جلودهم وألسنتهم وأيديهم فتكون شاهدة عليهم» (١).

هذا ، وفي معنى هذه الآية وردت آيات أخرى منها قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) (٢) وقوله ـ تعالى ـ (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ، فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٣) ثم بين ـ سبحانه ـ أن من مظاهر رحمته بعباده ، أن جعل لكل أمة رسولا يهديها إلى الحق وإلى الطريق المستقيم فقال ـ تعالى ـ : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

أى : أنه ـ سبحانه ـ اقتضت حكمته ورحمته أن يجعل لكل جماعة من الناس ، رسولا يبلغهم ما أمره الله بتبليغه ، ويشهد عليهم بذلك يوم القيامة ، فإذا جاء رسولهم وشهد بأنه قد بلغهم ما أمره الله به ، قضى ـ سبحانه ـ بينه وبينهم بالعدل ، فحكم بنجاة المؤمن وبعقوبة الكافر ، ولا يظلم ربك أحدا.

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية «فكل أمة تعرض على الله ـ تعالى ـ بحضرة رسولها ، وكتاب أعمالها من خير أو شر شاهد عليهم ، وحفظتهم من الملائكة شهود أيضا أمة بعد أمة ، وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق ، إلا أنها أول الأمم يوم القيامة ، يفصل بينهم ويقضى لهم كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، المقضى لهم قبل الخلائق ، فأمته إنما حازت قصب السبق بشرف رسولها ـ صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين» (٤).

وقوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) حكاية لأقوالهم الدالة على طغيانهم وفجورهم.

أى : أن هؤلاء لم يكتفوا بالإعراض عن دعوة الحق ، بل قالوا لرسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي حذرهم من عذاب الله إذا ما استمروا في كفرهم : متى يقع علينا هذا العذاب الأليم الذي تهددنا؟ إننا نتعجله فأت به إن كنت أنت وأصحابك من الصادقين في دعواكم أن هناك عذابا ينتظرنا.

وهذا القول منهم يدل على توغلهم في الكفر والجحود ، وعدم اكتراثهم بما يخبرهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٣٩.

(٢) سورة الرعد الآية ٤٠.

(٣) سورة غافر الآية ٧٧.

(٤) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤١٩.

٨٠